الفصل الخامس والثلاثون

ذهب محمد إلى نادي القاهرة في الساعة التاسعة، وكان مجدي هناك، وتناولا العشاء معًا، وقاما ينتظران اللاعبين في حجرة اللعب، وجاء أحد اللاعبين وقال لمحمد: يظهر أنه لا يمكن عمل برتيتة الليلة.

– لماذا؟

– يسري وحمدي سافرا يعزيان زميلًا لهما في المنصورة.

قال مجدي لمحمد: تأخذ إجازةً ليلة.

وقال محمد في ضيق: وماذا نفعل؟

وقال مجدي فجأة: عندي فكرة، ألا تحب أن ترى بعض الذكريات؟

– الحقيقة يا مجدي أن لا شيء عندي يسليني مثل اللعب.

– بل عندي أنا ما يسليك أكثر من اللعب.

– يا شيخ!

– اسمع كلامي.

– ماذا؟

– أتعرف عزيزة؟

– الله يرحم أيامها.

– إنها الآن في عزها.

– ماذا؟!

– لها بيت تجتمع فيه السيدات من الطبقة الراقية ليلتقين بآخرين، الليلة هناك ليلة من ألف ليلة؛ مرح وضحك وسرور، لو ذهبت مرةً نسيت القمار إلى الأبد.

– يا عم أنا متزوج، وليس لي في النسوان.

– وأنا أيضًا متزوج. إننا سنجلس فقط نضحك ونلهو ثم نروح.

– وماذا تستفيد منا إذا كنا لن ندفع شيئًا؟

– ليس من الضروري أن يدفع جميع من يذهب إليها؛ فإن القلة التي تدفع تعوضها عن جميع الآخرين. هيه ماذا قلت؟

– ما ترى.

وفي غير حماسة رافق محمد صديقه مجدي إلى بيت عزيزة، وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة بقليل حين دق مجدي جرس البيت، وفُتح الباب عن ضجيج صاخب، ودخل مجدي وهو يجر محمد جرًّا.

وحين بلغا أول الردهة رأيا مصادر الضجيج نساء عاريات الصدر يطلقن الضحكات المعربدة، وقد التفت حول صدورهن أيدي رجال تراوحت أعمارهم بين الشباب والكهولة والشيخوخة. وقال مجدي لصديقه: انتظر لحظةً حتى أنادي عزيزة.

وتركه وحيدًا، ودلف داخل الشقة، ولم يجد محمد ما يفعله إلا أن يطالع الوجوه فراح يمر بها، وفجأةً تسمرت عيناه على زوجته آمال بين يدي رجل من هؤلاء. لم يصدق، وتفرس؛ إنها هي، وقد رأته وانتفضت من بين ذراع رفيقها، وأرادت أن تفعل شيئًا، لم تكن تدري ما تريد أن تفعل، ولا يدري هو، وإنما في لحظة حَزَم أمره على شيء واندفع نحو باب الخروج لاهثًا، وخرج إلى الطريق. أيقتلها؟ زوجة داعرة وزوج قاتل، وتحل الجناية على سوسن وأحمد. حبيبي أحمد، ماذا يفعل؟ وجد نفسه يركب سيارة أجرة، ويأمر السائق أن ينطلق إلى المنيرة. ماذا يفعل في البيت؟ نزل من السيارة، وطرق باب البواب، وخرج إليه البواب نصف نائم، وسأله محمد: أتعرف مكان المأذون هنا؟

وقال البواب: نعم.

وقال محمد في حزم: تعالَ معي.

وطرق باب المأذون طرقًا ملحًّا حتى فتح، ودخل محمد والبواب وسائق السيارة الأجرة. وبعد دقائق كانت آمال طالقًا.

وعاد محمد إلى البيت، وفتح الباب ووجد آمال بالبهو، وقامت تجري إليه: محمد.

– أنت طالق، وهذه ورقتك.

ورمى الورقة على الأرض، وأمسكت آمال يده: أرجوك … أبوس يدك.

ونتر محمد يدها، وجرى إلى السلم، ووجد سائق السيارة الأجرة ما زال واقفًا فسأله: أتذهب إلى الزقازيق؟

– الآن؟!

– نعم.

– أذهب.

وفي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي كان محمد يطرق باب أبيه، وفتحت الحاجة بمبة الباب، وارتاعت حين رأت محمدًا زائغ النظرات حائرًا مُلتاعًا ودخل محمد: أين أبي؟

وقال الحاج والي وهو يقف على باب حجرته: أهلًا محمد. خير يا ابني.

– أبا … أبا.

واقترب الحاج والي من ابنه واحتضنه بذراعه اليمين، وسار به إلى الأريكة وجلسا.

– ما لك يا محمد؟

وانفجر محمد: طلقتها يابا … طلقتها … طلقتها.

وأطرق الحاج والي قليلًا، وراح الضباب يتصاعد أمام عينيه ولم يجد شيئًا يقوله إلا: خير إن شاء الله … خير إن شاء الله.

لم ينَم محمد ليلته، وإنما راح يتقلب في فراشه، حتى آذن الفجر بشروق، فقام إلى البهو، وجلس به وحيدًا، فلم تطل وحدته، فقد قام أبوه إلى صلاة الفجر. وانتظر محمد حتى ختم أبوه الصلاة فقال له: أبا … أريد أحمد معي.

– أنت تسهر في الخارج وأحمد سيكون وحده، ولن تراقبه.

– أريد أحمد معي يابا ولن أسهر. سأعيش له يابا.

– ما شئت يا بني، ما شئت.

وصحب الحاج والي ابنه وحفيده إلى القطار فركباه، وحين عاد وحيدًا إلى طريق القرية لم يتصاعد الضباب أمام عينيه؛ أحس كأن الضباب قد ركب القطار مع ولده وحفيده. لقد آن لمحمد أن يحمل العبء الذي حملت. وتدور الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤