مقدمة

تضعضعت قوى الإسلام في الشرقين الأدنى والأوسط منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأصبح الخليفة العباسي في بغداد — سليل المنصور وهارون الرشيد — لا حول له ولا طَول، وتفككت الدولة الإسلامية وانحلَّت أمورها وتوالت عليها الكوارث من كل جانب.

ولكن بقي اسم العباسيين في بغداد رمزًا لمجدٍ قديم، وعز لا يُبارَى، ومُلك وارف الظلال، إلى أن زال ذلك الرمز وامَّحى ذلك العز نهائيًّا من على ضفاف دجلة والفرات حين قدِم التتار إلى بغداد مدمِّرين مخربين، وجعلوا من دار السلام ومدينة المنصور وحاضرة العباسيين خرابًا بلقعًا، في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.

زالت أعظم دولة إسلامية تنتسب إلى أصل عربي صميم، ودكَّت معالم حضارة ازدهرت فأفادت العالم أجمع، وضاع مجد لم تعرف له العراق مثيلًا إلا في عهد الأكاسرة الساسانيين.

•••

وفي الوقت الذي كانت فيه قوى الإسلام تنحل من الناحيتين السياسية والحربية وتوشك على الانهيار في الشرقين الأدنى والأوسط، كانت قوى الإسلام في الغرب في الأندلس تتلاشى رويدًا رويدًا أمام قوات المسيحية، فكان الإسلام وكانت دار الإسلام مهددين بخطرين عظيمين لا يُبقيان من ناحيتين شرقية وغربية، من ناحية التتار ومن ناحية المسيحية، ولو اتفق الاثنان ووحَّدا قواتهما لقُضِي على الإسلام.

ولكن لحسن حَظِّ الإسلام والعالم أن خَصميه العتيدين في ذلك الوقت لم يتَّفِقا، وإن كانا قد حاولا الاتفاق، ولم يحظَ واحد منهما بنجاح حقيقي دائم، وإن كان قد ظهر للبشر جميعًا في حين من الدهر أن قوة الإسلام ووحدته الدينية ستُصبحان كأمسِ الدابر، لا سيما وأنه في ذلك الوقت الذي تحقق فيه العالم من ضَعف الإسلام، هاجمت أوروبا ديار الإسلام بقوتها وزهرة شبانها وأقوى محاربيها ونوابغ فرسانها وكبار صليبييها.

•••

كاد الإسلام يسقط أمام هذه القوات الثلاث التي هدَّدته من كل جانب، ولكن ظهرت في الإسلام قوات فتية ذات حيوية فائقة ستنقذه، وتُشيد مجده من جديد وترفع ذكره. هذه القوات الجديدة هي قوات الأتراك السلاجقة، وقوة مصر الإسلامية الأيوبية والمملوكية، وقوة المغرب الأقصى.

وكانت أقوى هذه القوات جميعًا وأبقاها قوة الأتراك.

لقد أجَّلت قوةُ المغرب الأقصى زوالَ الإسلام من الأندلس (إسبانيا) مدةً من الزمن، وأنقذت قوة الأتراك وقوة مصر الإسلامَ من الصليبيين ومن التتار، وإلى هاتين القوتين يرجع الفضل في إحياء الإسلام.

وقضت قوة الأتراك العثمانيين على آخر دولة مسيحية في الشرق الأدنى، وهي قوة الدولة البيزنطية على يد السلطان محمد الثاني باستيلائه على مدينة القسطنطينية، ولئن كان الإسلام قد خسِر عاصمة عظيمة بسقوط بغداد على يد التتار، فلقد أقام السلطان محمد الفاتح عاصمة جديدة للإسلام في أعظم مدن المسيحية.

•••

جدَّد الأتراك قوى الإسلام وأكسبوها حيويةً جديدة من حدود الصين ووسط الهند إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وبحر الأرخبيل. لقد استطاع الأتراك فتح آسيا الصغرى لسلطان الإسلام السياسي والديني، وإن هجراتهم التي لم تكُن تنقطع لمدة أربعة قرون من أواسط آسيا إلى غربيها هي التي صبغت هذه الأجزاء صبغة تركية وأكسبت الإسلام عناصر قوية نشيطة.

عرفت آسيا الصغرى غزوات للعرب وفتوحات من عهد الخلفاء الراشدين إلى قُرب أواخر العصر العباسي، هذه الغزوات ما كانت تفتُر، وكانت تتجدد كل عام تقريبًا في كثير من الظروف. ولكن هذه الفتوحات كانت أشبهَ بمَدٍّ وجزر من ناحية العرب ومن ناحية البيزنطيين، فطَوْرًا يتوغل العرب في آسيا الصغرى، وطَوْرًا يرتدون إلى حدود الجزيرة والعراق.

ولكن الأتراك السلاجقة وحدهم هم الذين استطاعوا تثبيت قدم الإسلام في آسيا الصغرى بعد أن ضربوا البيزنطيين ضربة حاسمة في موقعة منذكرت في القرن الحادي عشر الميلادي.

ومن ذلك الوقت بدأ الإسلام يتغلغل حقيقة في آسيا الصغرى على يد هؤلاء الأتراك السلاجقة ومن تبعهم من القبائل التركية، ولم تستطع كَرَّات البيزنطيين المتكررة ولا هجمات الصليبيين العنيفة أن تزحزح الإسلام من قواعده في آسيا الصغرى بصفة دائمة، بل بالعكس انتشر الإسلام، ودخل عددٌ كبير من السكان في الدين الجديد أفواجًا، بحيث لم يأتِ القرن الثالث عشر إلا وقد عَمَّ الإسلام وأصبح القوة المتفوِّقة في آسيا الصغرى، وعبر التجار والجنود المرتزِقة من الأتراك إلى أوروبا، وإلى القسطنطينية ذاتها حيث شاهدوا أعظم مدينة على سواحل البحر الأبيض، وأجمل مدينة اختطها يد الإنسان تُشرِف على قارتين وبحرين، وبهرهم غناها وفخامتها وموقعها الممتاز، ووَدُّوا لو أصبحت المدينة الخالدة على ضِفَّة البوسفور معقلًا من معاقل الإسلام، عاصمة لملكه وملاذًا لأهله.

•••

ولكن السلجوقيين ما كانوا مستطيعين القيام بمثل هذه المهمة، وهي أعظم مهمة يستطيع الفاتحون بعد سقوط بغداد القيام بها. فالاستيلاء عليها معناه أكبر انتصار تستطيعه دولة، وسقوطها معناه القضاء على أمة وتحويل مجرى التاريخ العالمي وإحداث انقلاب بعيد الأثر في الحضارة.

وهم لا يستطيعون القيام بمهمة عجز العرب عنها في أقوى عهودهم وأعز أوقاتهم، وإن كانت قد أُتِيحَتْ للسلجوقيين فرصة لم تُتَحْ للعرب من قبل، فالسلجوقيون كانوا مالكين لآسيا الصغرى مقيمين فيها قريبين من القسطنطينية، ولكن قُربهم لم يُفِدهم شيئًا، فانقسام دولتهم وتفرُّق كلمتهم وعدم توحيد جهودهم أضعف من نفوذهم، وجعل من بينهم في آخر الأمر دويلات وشيعًا وأحزابًا حلفاءً للبيزنطيين أنفسهم تعمل في كثير من الأحيان على منافسة زميلاتها، بل والقضاء عليها.

ولكنه بالرغم من ذلك عاش الفرع السلجوقي الذي حكم آسيا الصغرى مدة ثلاثة قرون، استطاع فيها بشجاعته ومهارته السياسية الاستفادةَ من المنافسة التي قامت بشكل حادٍّ بين البيزنطيين والصليبيين. لقد هزم الأتراك السلاجقة البيزنطيين والصليبيين مرارًا، وأقاموا في آسيا الصغرى إلى أن هبطتها قبيلة تركيَّة فارَّة أمام قوات التتار. كانت هذه القبيلة فِئة قليلة تفرعت منها في فترة قصيرة من الزمن الدولة العثمانية.

ومبدأ ظهور الأتراك العثمانيين مَحُوطٌ بالخرافة وتتجمع حوله الأساطير، ويظهر فيه الغموض حتى كأنما هبطوا من السماء أو انشقَّت عنهم الأرض أو هَوَت بهم الريح من مكان سحيق.

•••

لقد نشأ السلطان محمد الثاني الفاتح في دولة نهضت بسرعة، دولة قامت على أشلاء الدولة السلجوقية، وتفوَّقت لاختلاف الإمارات السلجوقية وتنازعها فيما بينها، دولة ساعدها موقعها الجغرافي وقربها من الحدود البيزنطية على القيام بالحرب المقدسة؛ فهوى إليها الأتراك من كل جانب، قامت الدولة في عهد عثمان وجعل الإسلام من أهلها ومن بقية الترك أمة موحَّدة، بل إن الإسلام هو الذي جعل من الترك والإغريق والمجريين والبلغار والألبانيين والصقالبة أمة واحدة، وجعل من كل هذه العناصر المختلفة قوةً أصبح اسم آل عثمان لها رمزًا وعقيدة.

أنشأ عثمانُ الشعب العثماني، وجعل أُرخان من ذلك الشعب دولة تقوم على أسس إدارية وحربية وطيدة الأركان، وانتقل الجيش العثماني من نظام قَبَلي إلى نظام حربي ممتاز، والفضل في ذلك يرجع إلى أُرخان وأخيه ووزيره علاء الدين، وفي عهد أرخان وضع العثمانيون أقدامهم في أوروبا، وثبَّتوا مراكزهم فيها حين افتتحوا أدرنة فأصبحت عاصمتهم إلى أن تَمَّ لهم الاستيلاء على القسطنطينية.

ولقد قام الأتراك العثمانيون بالفتح في آسيا الصغرى والبلقان معًا، وكما أصبحوا أكبر قوة في آسيا الصغرى، صاروا أعظم دولة في البلقان بعد أن تمكَّن السلطان مراد الأول من كسر قوة الصرب والبلغار في موقعتي ماريتزا وقوصوه في أواخر القرن الرابع عشر، فوقع البلقان تحت أقدام العثمانيين، ولم تعُد توجد فيه غير عناصر منحلَّة، هذا في الوقت الذي كانت تزداد فيه قوة الأتراك باستمرار الهجرة التركية من آسيا تدفعها حركات المغول. وبينَا كانت الحالة مضطربة في دول البلقان المسيحية كانت توجد بين الأتراك روابط متينة: دين واحد، ونظام واحد، وغاية واحدة.

ولربما استطاع السلطان بايزيد الأول القضاء على الإمبراطورية لو امتاز بالتبصُّر وحُسن السياسة، ولو لم يواته سوء الحظ بغزو التتار، فلقد لُقِّبَ بالصاعقة يلدرم، لقد قضى بايزيد على بلغاريا نهائيًّا وفتح بلدانها الواحد بعد الآخر، كما تمكَّن من القضاء على قوة الصرب وإخضاع أجزاء من ألبانيا. ثم أعطى أوروبا درسًا قاسيًا إذا أرادت تحدي قوة العثمانيين، فلقد قضى على قُوَّةِ التحالُف الأوروبي الصليبي في موقعة نيكوبوليس، في أواخر القرن الرابع عشر.

وربما كان بايزيد مستطيعًا فتح المدينة الخالدة لولا تردُّده وضعف أسطوله وعدم استكمال استعداداته ومجيء خطر التتار الداهم. لقد أرسل تيمور رسالته الشهيرة إلى بايزيد وهو يحاصر القسطنطينية؛ الأمر الذي دعاه إلى رفع الحصار عنها، وانهزم العثمانيون أمام التتار في موقعة أنقرة لتفريط بايزيد وسوء سياسته، واستقلت بعض الإمارات التركية مثل قرمان وأيدين وكرميان، وبدأت الدولة البيزنطية تنهض من محنتها.

ولكن حسن الحظ واتى العثمانيين، فلقد مَلَّ تيمورلنك الفتوح في آسيا الصغرى، ورجع إلى سمرقند، وفكر في فتح الصين ومات ولم يأسف عليه الإسلام، ولحسن حظ العثمانيين أيضًا بالرغم من الحرب الأهلية التي قامت بين أبناء بايزيد استطاع أحدهم أخيرًا وهو السلطان محمد الأول أن يوحِّد قوى العثمانيين، وأن يتبع سياسة السلام لتثبيت دعائم الدولة من جديد. ومن حسن حظ العثمانيين أن زاد عدد الأتراك الهاربين أمام جحافل المغول، فامتلأت بهم آسيا الصغرى وأملاك الدولة العثمانية في أوروبا، وانْضَمَّ إليهم عدد كبير من أبناء المسيحيين البلقانيين، فازدادت قوة الدولة من الناحية الحربية بهذه العناصر الجديدة.

السلطان مراد الثاني وهو أَبو الفاتح سيطر العثمانيون على آسيا الصغرى والبلقان، وانتصروا على البنادقة، واكتسحوا شبه جزيرة اليونان، وهزموا المجريين والألبانيين، وأصبح للعثمانيين التفوُّق في البلقان، وذهب نهائيًّا الخطر الأوروبي بعد موقعتي ورنه وقوصوه؛ فأصبح الأتراك في مأمن من ناحية الدانوب، وألزم الإمبراطور البيزنطي بدفع الجزية. ولم يبقَ من ممتلكات الدولة البيزنطية إلا القسطنطينية وضواحيها. فكان الاستيلاء على هذه المدينة مهمة أعظم سلاطين هذه الدولة، وهو السلطان محمد الثاني الذي سيُلَقَّبُ بالفاتح لفتحه هذه المدينة، وبالقانوني لتنظيمه القوانين العثمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤