موقف أوروبا إزاء سقوط القسطنطينية

لقد استولى الذعر على أوروبا حين علمت بسقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين، هذه المدينة التي أسسها قسطنطين والتي قامت بحماية المسيحية.

قد يفترض بعض المؤرخين الأوروبيين أنه لو اتفقت أوروبا المسيحية فيما بينها وبعثت بالنجدة في الموقف المناسب لربما تأخَّر سقوط القسطنطينية، بل ربما لم يستطع الأتراك الاستيلاء عليها كلية ولا تهديد وسط أوروبا وفيِنا.

وهذا افتراض لا يقوم على أساس صحيح، فلقد كان للأتراك كما رأينا كل وسائل الانتصار في ذلك الوقت: القيادة الممتازة، والقوة الساحقة، والعزم الصادق، والمركز الاستراتيجي، فكانت ممتلكاتهم تحيط بالعاصمة الإغريقية من كل مكان.

ثم إن الأتراك استطاعوا أن يقضوا قضاءً عزيزًا مقتدرًا على كل الدول القريبة من بيزنطة والتي ربما وقفت حجر عثرة في سبيلهم، لقد قَضَوْا تمامًا على قوة الصرب التي كانت تبشر بمستقبل كبير في البلقان، وقضوا على قوة البلغار، وسيطروا على البلقان سيطرة لا ينافسهم فيها أحد، ولم تستطع المجر القيام بأي خطة هجومية بعد موقعتي ورنه وقوصوة، هاتين الموقعتين اللتين انهزمت فيهما المجر انهزامًا ساحقًا.

وبعد ذلك ما كانت دول أوروبا تستطيع أن توحِّد صفوفها، وما كانت تستطيع أيضًا أن تبعث بنجدة قويَّة في الوقت المناسب لبعد المسافة وسوء وسائل المواصلات في ذلك الوقت، لا سيما وأنه قد ظهر لها أن ذلك الاتفاق وتوحيد الصفوف لو تم ما هو بمستطيع قهر الأتراك أو التغلب عليهم، فقد سبق أن دمَّر الأتراك قوة هذه الاتفاقات تدميرًا ذريعًا في أكثر من موقف، وما ذكريات نيقوبوليس الحزينة ببعيدة عن أذهان الأوروبيين، لقد دافع الأتراك عن مركزهم بنجاح أذهل ملوك أوروبا وشعوبها، وكانت نتيجة هذه الموقِعة مُحزِنة للمسيحيين بدرجة لم يَعُدْ معها من السهل استثارة الأوروبيين من جديد لحرب مع المسيحيين.

ثم إن مثل هذه الحملات كانت تستلزم جمع المال الوفير للاستعداد للحرب ولتحرير أسراها بعد الحرب، ولم يعُد الأوروبيون يطمئنُّون بسهولة إلى إنفاق أموالهم في حملات غير مضمونة النتائج ولا مأمونة العواقب.

كانت موقعة نيقوبوليس — كما يقول مؤرخها الدكتور عزيز سوريال عطية — انتهاء الحملات الصليبية كحركات مسيحية منظَّمة ضد الأتراك العثمانيين؛ ولذا تعتبر هذه الموقعة فاصلة في مصير الدولة البيزنطية وفي مصير عاصمتها مدينة القسطنطينية.

ولكنه بالرغم من ذلك لم تكُن البابوية زعيمة المسيحية لتنصرِفَ إلى البأس أو تخلد إلى السكون؛ فهي ما كانت تسمح بقضاء المسلمين على الإمبراطورية البيزنطية مهما كانت كارهة لأرثوذكسيتها، فهي تخشى اعتداء العثمانيين على البلاد المجاورة لهم والتي تخضع للنفوذ البابوي الديني فتحوَّلت الفكرة الصليبية إذن من محاولة انتزاع الأراضي المقدسة من المسلمين إلى صراع دفاعي، الغرض منه إنقاذ أوروبا الكاثوليكية من الأتراك. لقد كان القيام بالحروب الصليبية سياسة البابوية الخارجية.

ولذا حاول البابا بيوس الثاني بكل ما أُوتِيَ من مقدرة خطابية ومهارة سياسية تأييد الفكرة الصليبية الجديدة، وحاول توحيد أوروبا ضد الأتراك، وتركَّزَت مجهوداته في ناحيتين: حاول أولًا أن يقنع الأتراك باعتناق الدين المسيحي، ولم يقُم بإرسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وإنما اقتصر على إرسال خطاب إلى السلطان الفاتح يطلب منه أن يعضد المسيحية كما عضدها من قبله قسطنطين وكلوفيس، وأن يكفر عن خطاياه باعتناق المسيح له مخلِّصًا. ولم يكن معقولًا نجاح مثل هذه المحاولة.

ولما فشِل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية؛ خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وذلك عن طريق إقناع الدول المسيحية بتكوين حملة صليبية جديدة ضد الأتراك، حملة برية وبحرية تُبَيِّنُ للأتراك تماسك أوروبا وتضافرها على الأخذ بناصر المسيحية.

ولكن الدول الأوروبية والجمهوريات الإيطالية ما كانت لتقوم بتنفيذ مثل هذا المشروع بالرغم من الخطر الذي يهدِّد معظمها، وبالرغم من أن فكرة القيام بحرب صليبية لا زالت مَثَلًا من المُثُل العليا الأوروبية. لقد وعدت بعض الدول فعلًا بالاستعداد لتحقيق فكرة البابا، ولكن لما جاء وقت الجد اعتذرت دول أوروبا بمتاعبها الداخلية ومشاغلها. لقد أنهكت حرب المائة سنة إنجلترا وفرنسا، وفوق ذلك فإنجلترا منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، ولم تكُن حالة فرنسا الداخلية تسمح لها بإشعال نار حرب مع الأتراك، فلقد أضعفتها المنازعات الداخلية. وأما إسبانيا فهي لا تزال تناضل في سبيل وَحدتها القومية ضد المسلمين. وعلى أي حال كانت الفكرة العالمية المسيحية آخذة في الزوال، فكرة إمبراطورية مسيحية عامة، وأخذت تحل محلها بالتدريج فكرة القومية.

وأما الجمهوريات الإيطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها مع الأتراك أكثر من اهتمامها بالدخول معهم في حرب صليبية، وأخذت صحة البابا في الاضمحلال، وسرعان ما مات وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت صاحبها، وتُرِكَ للمجر وللبندقية منفردين مهمة وقف الأتراك والدفاع عن حدود المسيحية.

وكيف تستطيع أوروبا إنقاذ القسطنطينية والحربُ فيها مستعرة بين شعب وشعب، بين بابا رومة وبابا أفينيون، وبين مجمع ديني ومجمع ديني آخر. لقد اتفقت الملكيات الأوروبية والجمهوريات الإيطالية في لودي على الاتحاد ضد الأتراك في سنة ١٤٥٤م، ولكن ذلك الاتفاق لم يقف أمام تجارب الزمن؛ فلقد انفصلت البندقية عن الاتحاد وعقدت معاهدة صداقة مع الأتراك وحسن جوار رعايةً لمصالحها في الشرق الأدنى، وقامت الحرب على قدم وساق في شبه جزيرة إيطاليا، واهتم الكاثوليك باضطهاد أتباع يوحنا هوس أكثر من اهتمامهم بمحاربة الأتراك المسلمين.

•••

كان سقوط القسطنطينية يُمَثِّلُ انتهاء حقبة من الدهر؛ فلقد قضى على الدولة البيزنطية التي عاشت حول أحد عشر قرنًا من الزمان، وأزال منافسًا خطيرًا للدولة الرومانية المقدسة في الغرب، وقضى على حضارة بيزنطة المسيحية وعلى المُثُل والمبادئ التي كانت رمزًا لها.

وتمثل كنيسة أيا صوفيا العظيمة التطور الديني الذي حدث؛ فلقد أصبحت مسجدًا جامعًا للمسلمين، وحَلَّ هلال بيزنطة القديم محل الصليب، واستطاع الأتراك أن يمدوا سلطانهم بعد ذلك إلى بلغراد والدانوب وما يسمى حاليًّا رومانيا، أصبح إذن غربي آسيا في قبضة الأتراك، وكذا جنوب شرقي أوروبا، فكانت الدولة العثمانية خطرًا دائمًا على أوروبا مهدِّدًا لكيانها وحياتها، فلقد كانت قوة الأتراك الحربية لا نظير لها، وما كانت أوروبا التي ذهبت وحدتها لتستطيع الوقوف أمامهم.

في القسطنطينية وفي البوسفور والدردنيل وضع الأتراك أقدامَهُم في مركز استراتيجي مهم سيجعل تقدُّم روسيا أو نُمُوَّ النمسا من ناحية الشرق أمرًا مستحيلًا لمدة تقرب من الخمسة قرون، امتلكوا أجزاء من العالم تسيطر على أوروبا وآسيا وأفريقية، كما سيطروا على معظم طرق المواصلات البرية والبحرية المهمة بين الشرق والغرب.

وتعتبر أوروبا تثبيت أقدامهم في ذلك الجزء من العالم كارثة لا تماثلها كارثة؛ ففي سنة ١٤٥٣م وُلِدَتِ المسألة الشرقية التي شغلت أوروبا إلى الوقت الحاضر ولا تزال تشغلها. كيف تستطيع أوروبا وقف تقدُّم الإسلام في أوروبا؟ ثم لما عاد الإسلام يتراجع من هذه الديار كيف تعمل أوروبا على توزيع ممتلكاته؟ ما كانت أوروبا تحير لهذه الأسئلة جوابًا نهائيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤