مقدمة

علاقة السلطة بالجنس علاقة قديمة منذ انقسام البشر إلى حكام ومحكومين ونساء ورجال، منذ ما سُمِّي في التاريخ بالنظام العبودي، أو النظام الطبقي الأبوي، أصبح الأب هو صاحب السلطة والنسب والشرف والأملاك، كانت أملاك الأب تشمل النساء والأطفال والماشية والأرض، ويطلَق عليها اسم «الفاميليا»، ومنها تطورت أشكال الأسرة أو العائلة في عالمنا الحديث وما بعد الحديث.

انعكست السلطة الأبوية الطبقية على الأديان التي نشأت في هذه العصور العبودية، ويمكن لمن يدرس الكتب الدينية — ومنها الكتب السماوية — أن يدرك الصراع على السلطة أو الحكم بين الإلهة الأم القديمة والإله الأب الجديد.

في مصر القديمة كانت «نوت» هي الإلهة الأم، إلهة السماء، زوجها «جيب» كان إله الأرض، وكانت الأم هي التي تعطي اسمها للأطفال، كان النسب والشرف يرتبطان باسم الأم لأسباب ترتبط بالطبيعة والفطرة؛ فالأم هي التي تلد الأطفال، وهي التي تحافظ عليهم وتحميهم من الحيوانات الجائعة المفترسة، بل كانت تحميهم أيضًا من الرجل، الذي كان حين يأكل أطفاله — دون أن يعرف أنهم أطفاله — يأكل الذكور منهم، ويغتصب الإناث ثم يأكلهن.

لم تكن الأبوة في المجتمع البشري القديم معروفة؛ فالنساء والرجال يعيشون حياة جنسية حرة، سواء كانوا من الشعب العادي أو الآلهة الذكور أو الإناث، لم يكن علم البيولوجي معروفًا، ولا المعلومات عن الإخصاب وتكوين الجنين أو ما يُسمى في الطب علم الأجنة أو الإمبريولوجي. كان الرجال يتصورون أن الجنين يتكوَّن في بطن الأم بقدرة خارقة للطبيعة، قوة روحية في السماء، هي الإلهة «نوت» إلهة السماء، قبلها كانت الإلهة «نون» التي كانت ترمز إلى الأم الكبرى المعبودة قبل انقسام السماء والأرض.

كيف فقدت الأم مكانتها في السماء والأرض؟

كيف فقدت السلطة والنسب والشرف؟ هناك نظريات متعددة في التاريخ (تعرضتُ لها في كتب سابقة)، إلا أن الصراع بين الإلهة الأم القديمة والإله الأب الجديد لم يكن سهلًا، لقد امتد في التاريخ البشري آلاف السنين، حتى تختفي الإلهة الأنثى تمامًا وتختفي معها سلطتها في الدين والدولة معًا.

لكن الإله الأب الجديد لم يكن يعرف علم الإمبريولوجي بعد، لم يكن يعرف أن الجنين يتكوَّن في بطن الأم عن طريق اتحاد الحيوان المنوي الذكري مع بويضة الأنثى. لم تعد المرأة إلهة معبودة لكن بطنها ظل يرتفع بالحمل، وانتشرت النظريات البدائية غير العلمية عن الجنس أو تكوين الجنين، إحدى هذه النظريات أن الإله الذكر الجديد كان يرسل مندوبه إلى المرأة لتحمل بالولد الوريث للعرش فوق الأرض أو في السماء، أو كان ينفخ فيها من روحه المقدسة لتحمل بابن الإله الذي يعتلي العرش من بعده.

حسب «التوراة» لم يكن الإله الذكر يلد إلا الأبناء الذكور. هذه العبارة قد تبدو غير معقولة لكثير من البشر في عالمنا المعاصر، إلا أنها وردت في أحد الكتب الدينية الهامة في التاريخ البشري، وهو كتاب التوراة. تقول الآية في الإصحاح السادس (التكوين): «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض ووُلِد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساءً من كل ما اختاروا … إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهن أولادًا.»

لقد قرأت هذه الآية حين كنت في المدرسة الابتدائية عام ١٩٤٢، كان ذلك في مدينة صغيرة في محافظة المنوفية اسمها منوف، وكانت ناظرة المدرسة إنجليزية، تقرأ علينا أحيانًا بعض الآيات من الكتاب المقدس، الذي يشمل العهد القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الإنجيل. كان بعض الآباء يعترضون على الناظرة باعتبار أن بناتهم المسلمات لا يصح لهن أن يقرأن إلا كتاب القرآن. لكن أبي كان مختلفًا عن الآباء، لقد تخرَّج في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم، كان دارسًا للدين الإسلامي وعلوم الفقه واللغة العربية، ولم يعترض على قراءتي للتوراة والإنجيل، وفي القرآن آيات متعددة تؤكد أن التوراة والإنجيل مثل القرآن جاءت من عند الله نورًا وهدًى.

في العاشرة من عمري توقفتُ أمام عبارة: «دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهن أولادًا»، تحيرت قليلًا، كيف يكون لله أبناء من الذكور فقط وليس الإناث، لكني تحيرت أكثر؛ كيف يكون لله أطفال ذكورًا أو إناثًا وهناك آيات متعددة في القرآن تؤكد أن الله لم يلد ولم يولد. وسألت أبي فقال لي: إن كتاب التوراة قد حُرِّفَت فيه بعض الآيات.

في العشرين من عمري حين كنت طالبة بكلية الطب، مرت بي مرحلة تساؤل أخرى بعد أن أعدتُ قراءة الكتب الدينية، توقفتُ أمام كثير من الآيات، وسألت أبي كما كنت أسأله في الطفولة، أدركت أنه لا يملك الإجابة على كثير من الأسئلة، وقد ضاق صدره أحيانًا حين كنت أُلح في السؤال، فيقول لي بشيءٍ من نفاد الصبر: شغلي عقلك، أليس عندك عقل؟!

هكذا تحررتُ من السلطة الأبوية فيما يخص الدين وبدأت أشغل عقلي في كل أمور الحياة بما فيها السلطة والجنس، لقد وُلدتُ أنثى، وأدركت في جميع مراحل عمري أن هناك علاقة وثيقة بين السلطة والجنس، (كلمة الجنس هنا لا تعني العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة فقط، ولكنها تشمل أيضًا … أحكام السلطة في الدولة والعائلة التي تُفرَض على جنس دون الجنس الآخر). أدركت أيضًا أن هناك علاقة وثيقة بين الدين والجنس، يكفي أن نرجع إلى الكتب الدينية لنرى هذا الترابط الوثيق بين الثالوث: السلطة والدين والجنس.

إن حياتي الخاصة كامرأة وطبيبة قد أتاحت لي الفرصة لإدراك التناقضات التي تقع فيها سلطة الدولة والدين فيما يخص أحكامها أو قوانينها التي تحكم بها النساء. لم تنفصل سلطة الدولة عن السلطة الدينية في عصر من العصور ولا في بلد من بلاد العالم حتى يومنا هذا. وإلا فلماذا يتحدث بابا الفاتيكان في الأمور الدولية والسياسية ويعقد الاجتماعات مع الملوك والرؤساء في جميع أنحاء العالم؟ لماذا تتدخل سلطة الفاتيكان الدينية في أمور الجنس والإجهاض والإنجاب وعلاقة المرأة بالرجل؟

وفي بلادنا، لماذا يفعل شيخ الأزهر أو مفتي الديار أو كبار المشايخ ما يفعله البابا أو الفاتيكان في العالم المسيحي؟! شهدنا في السنين الأخيرة كيف كانت السلطة الدينية تتدخل في أمور الحرب أو السلام أو الفوائد على الأموال المودعة في البنوك بمثل ما تتدخل في أمور الجنس من ختان الإناث أو ختان الذكور، أو إباحة الإجهاض لحالات الحمل الشرعي الناتجة عن الاغتصاب، أو إعادة العذرية للبنات ضحايا الاغتصاب، أو إباحة الزواج العرفي أو زواج المسيار!

وهل انفصل الدين عن الدولة عن الجنس في أي مكان من العالم شرقًا أو غربًا، شمالًا أو جنوبًا؟! حتى في هذه البلاد التي تدَّعي الفصل بين الدين والدولة، فإن هذا الفصل لم يحدث إلا جزئيًّا أو ظاهريًّا، وسرعان ما يعود الالتحام بينهما خاصةً في الأزمات الاقتصادية أو العسكرية، وإلا فلماذا أمسك الرئيس الأمريكي «جورش بوش» بالإنجيل في يده، رفع رأسه إلى السماء، وأعلن الحرب باسم الله ضد شيطان العراق في منتصف يناير ١٩٩١؟ ولماذا يلجأ الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» إلى الله وقسس الكنيسة بعد انكشاف خياناته الزوجية أو علاقاته السرية بالفتيات والنساء هذا العام ١٩٩٨؟ ولماذا يمسك رئيس الحكومة الإسرائيلية اليوم بكتاب التوراة في يده، يرفع رأسه إلى السماء، ويعلن باسم الله عن مزيد من القتل للفلسطينيين وطردهم من أرضهم، فهي الأرض الموعودة في الكتاب المقدس لشعب الله المختار أو اليهود؟

ولماذا تنتشر الحركات المسيحية في الغرب (يُطلَق عليها اسم التيارات المسيحية) وتحمل في الولايات المتحدة الأمريكية اسم التحالف المسيحي، الذي يقف مع المحافظين في الحزب الجمهوري، ويشجع العودة إلى القيم الطبقية الأبوية تحت اسم العودة إلى الدين أو القيم العائلية، يطلقون الرصاص على الأطباء في عيادات الإجهاض القانوني، يقتلون النساء الحوامل في هذه العيادات أو يهددونهن بالقتل، يطالبون النساء بالعودة إلى البيوت تحت سلطة الرجال، يطالبون الدولة بالتراجع عن الحقوق الممنوحة للنساء، وإعادة تدريس الدين في المدارس، وحذف النظريات العلمية المتعارضة مع نظرية الخلق في الكتاب المقدس ومنها نظرية دارون؟

وفي بلادنا العربية والإسلامية ترتفع منارات الجوامع ويتضاعف عددها العام وراء العام، تُعلَّق عليها الميكروفونات أو مكبرات الصوت لتدوِّي آلاف الأصوات من الرجال خمس مرات في اليوم تدعو إلى الصلاة، وتستمر اللقاءات المعلنة وغير المعلنة، بين القيادات الدينية عبر البحار والمحيطات، بين القوى الحاكمة فيما يُسمى العالم الأول، أو الشمال، وبين القوى الحاكمة فيما يُسمى العالم الثالث أو الجنوب؛ مما يكشف الترابط الوثيق بين القوى الرأسمالية الدولية في عصر ما بعد الحداثة، وبين تصاعد التيارات الدينية الأصولية المحافظة في جميع أنحاء العالم، سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية أو بوذية أو هندوكية أو غيرها.

قد يختفي الترابط أو التحالف بين السلطات السياسية أو الاقتصادية وبين السلطات الدينية لأهداف قريبة أو بعيدة، كما كان الإله في التوراة يتخفَّى وراء سحابة من الدخان ويصدر أوامره بقتل الشعوب وطردها من أرضها، إلا أن التناقضات بينها قد تظهر أحيانًا، خاصةً في حياة الرجل والنساء الجنسية، أو في الأحكام الأخلاقية المزدوجة التي تحكم العلاقات الشخصية، بل العلاقات الدولية أيضًا.

وفي الوقت الذي تحاول فيه القوة العسكرية الأمريكية إبادة الشعب العراقي تحت اسم احترام الشرعية الدولية أو قرارات الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، فإنها تحمي الحكومة الإسرائيلية عسكريًّا واقتصاديًّا رغم خرقها لقرارات الأمم المتحدة أو مجلس الأمن مئات المرات على مدى السنين الماضية.

إن الكيل بمكيالين أو الازدواجية هي الأساس الذي تحكم به السلطة في الدين والدولة معًا، وفي الدستور الأمريكي — مثل غيره من دساتير العالم — لا يعاقَب المسئول في الدولة عن فساده الأخلاقي أو خيانته لزوجته، بل يعاقَب فقط إذا خان الوطن. لقد تابعنا على مدى شهور خلال عام ١٩٩٨ أخبار العلاقات الجنسية المتعددة في حياة الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون»، قرأنا على مدى الأيام والشهور تفاصيل الجنس في حياة رئيس أكبر دولة في العالم، أقبل على قراءتها الملايين في جميع بلاد العالم، أدركوا الفساد الأخلاقي الذي يعيشه الرجل المسئول عن تحقيق العدل أو الحرية أو حقوق الإنسان ليس داخل أمريكا وحدها بل في العالم أجمع، ثم يقف هذا الرجل على المنصة الدولية ليهدد بضرب الشعب العراقي بالقنابل مرة أخرى، رغم أن هذا الشعب يعيش الجوع والمرض في ظل الحصار الاقتصادي المفروض عليه منذ عام ١٩٩١ حتى اليوم، ويهدد شعوبًا أخرى في العالم اقتصاديًّا تحت اسم حرية السوق أو العولمة.

هذه التناقضات هي سمة النظام الطبقي الأبوي؛ إذ يحكم العالم اليوم طبقة صغيرة من أصحاب الأموال والشركات المتعددة الجنسيات، لا يمكن لها أن تسيطر على الأغلبية الساحقة من سكان الأرض دون قوانين تستمدها من القوة السماوية أو الروحية، وهي قوة مذكَّرة رغم أن كلمة الروح في اللغة مؤنثة.

إن إله السماء عند كثير من البشر ليس له جسد، إنه روح فقط، والروح لا تلد ولا تولد باعتبارها لا تملك الجسد، والمفروض أن الروح ليس لها جنس، فلماذا يرد ذكرها بصيغة المؤنث في الكتب الدينية السماوية؟! بالرغم من أن الله يرد ذكره بصيغة المذكر؟

لقد ساعدتني دراستي الطبية والأدبية على الاهتمام بعلوم التراث والتاريخ واللغة. وكنت أتوقف دائمًا عند كثير من التناقضات بين الروح والجسد فيما يخص الجنس، أو بين الشكل والمضمون أو اللفظ والمعنى فيما يخص اللغة والأدب. وظل التناقض بين تأنيث الروح في اللغة وتذكير إله السموات قائمًا، حتى درست التاريخ المصري القديم، واكتشفت الصراع الطويل الذي دار بين الإلهة القديمة والإله الأب الجديد، وكيف انحدرت المرأة (بنشوء النظام العبودي) من إلهة السماء لتكون إلهة الأرض، أو الخصوبة، أو الجنس، أو الجسد، كيف تحوَّل الجنس أو الجسد من شيء مقدس إلى شيء مدنس، كيف فقدت المرأة منصبها من إلهة الأرض والجسد والخصوبة إلى إلهة الشر أو الشيطان أو الخطيئة.

تعكس اللغة التغيرات التي تحدث للسلطة الحاكمة في الدولة والعلاقات الجنسية والاقتصادية التي تحدث بين الأفراد والجماعات. مع صعود سلطة الأب البدائي الذي اكتشف أبوته ودوره في تكوين الجنين، ومع تزايد رغبته في توريث أطفاله ما يفيض من أملاكه، بدأ الأب تحت اسم الإله الجديد المنتصر على الإلهة القديمة يفرض أحكامًا على المرأة تقيد من حريتها الجنسية أساسًا، لقد أدرك الرجل أن أبوته للأطفال لا يمكن أن تكون معروفة ومؤكدة إلا إذا فرض على زوجته ألا تتزوج وألا تمارس الجنس مع رجل آخر غيره، ومن هنا نشأ النظام الذي يفرض على المرأة زوجًا واحدًا، على حين ظل الرجل متحررًا من هذا القيد، يمارس تعدد الزوجات كما يشاء.

لم يكن لهذا النظام الأخلاقي المزدوج أن يسود ويستمر دون قمع النساء بكل أشكال السلطة المتاحة، وتحتاج السلطة دائمًا إلى العنف أو القوة للسيطرة وفرض قوانينها المزدوجة غير العادلة، وبدأت في التاريخ سلسلة من الأحكام أو القوانين الاقتصادية والجنسية في آنٍ واحد، لم يكن ممكنًا التحكم في أجساد النساء والعبيد من الرجال الأُجراء في الأرض دون حرمانهم وحرمانهن من القوة الاقتصادية والسياسية والفكرية، لا يمكن التحكم في الجسد الإنساني دون التحكم في العقل والروح، هكذا تم تحريم الفكر أو الفلسفة أو الدين على النساء والعبيد، فُرض عليهم وعليهن العمل العضلي دون أجر في الأرض أو في البيوت. إن العمل بأجر يُكسب المرأة أو العبد نوعًا من الاستقلال الاقتصادي عن السيد أو الرجل، واستطاع هذا الأخير (السيد أو الرجل) أن يسيطر على نسائه وعبيده عن طريق إطعامهم وإطعامهن، أصبح الإنفاق واجب السيد أو الرجل، والطاعة واجب النساء والعبيد.

إن قانون الطاعة يحكم النساء في بلادنا حتى اليوم، وينص قانون الزواج على أن واجب الزوج الإنفاق وواجب الزوجة الطاعة. أصبحت الطاعة مفروضة على الزوجات بقوة القانون، أي قوة الدولة والسلطة الحاكمة، وقوة الدين أيضًا. وكان لا بد من قمع النساء جسديًّا وعقليًّا للخضوع حسب نظام «الرق» أو العبودية. أصبح اسم الزوجة «الرقيقة» وتعني العبدة. وأصبح من حق الدولة أن تقطع بعض أعضائها الجنسية بالقوة والعنف تحت اسم العفة والأخلاق، أدرك الأب البدائي أن أبوته غير مؤكدة طالما هو يشك في سلوك زوجته، وقد أراد أن يقطع الشك باليقين عن طريق قطع أعضاء المرأة الجنسية. دخلت هذه العملية الوحشية في التاريخ تحت اسم ختان الإناث، وهي محاولة السلطة للتحكم في أجساد النساء، أو سلوكهن الجنسي، بحيث يتأكد الرجل من أبوته للأطفال، أو على الأقل تقل شكوكه وتخوُّفه أن يرث أمواله أطفال رجال آخرين.

ومن هنا فُرض الحجاب أيضًا على المرأة؛ حتى لا يراها رجل آخر غير زوجها، وفي بعض الأحيان يُفرَض على المرأة عدم الخروج من البيت حتى لا يراها أحد.

أصبحت المرأة سجينة جسديًّا أو فكريًّا أو اجتماعيًّا لمجرد أن يتأكد الرجل من أبوته. وأصبح العبد الأجير أيضًا سجين الفقر والجوع، وتعرض لعمليات جسدية منها الإخصاء، وهي أيضًا تتعلق برغبة الرجل السيد أن يتأكد من أبوته، وفُرض على العبيد والخدم في بيته ألا يكونوا قادرين على إخصاب النساء، بقطع الخصيتين بالمشرط الجرحي.

أما عملية ختان الذكور فهي تتعلق أيضًا بالسلطة السياسية والدينية الحاكمة في الدولة، والتي تجسدت في العصر العبودي في الإله المعبود. نقرأ في كتاب التوراة أن الاستيلاء على الأرض الموعودة قد تم تحت شعار الأرض مقابل ختان الذكور، جاء ذلك على شكل العهد بين بني إسرائيل وربهم في السموات، أن يعطيهم أرض فلسطين أو كنعان بشرط أن يقطعوا غرلة الذَّكَر (يعني الختان). ما علاقة احتلال أرض الغير بالقوة المسلحة بختان الذكور؟!

إلا أن العدل أو المنطق يغيب في التاريخ القديم والحديث ما دام الصراع يدور حول الأرض، تتغير الشعارات التي يرفعها بنو إسرائيل تحت اسم الرب من «الأرض مقابل الختان»، إلى الأرض مقابل السلام، إلى الأرض مقابل الأمن، ولا نعرف ما هو الشعار الجديد الذي يطلَق غدًا.

ويظل السؤال القديم قائمًا: ما علاقة الأرض بالختان؟!

حين تخرجت في كلية الطب في ديسمبر ١٩٥٤ لم أكن أعرف شيئًا عن المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الإناث أو الذكور.

كانت السلطة التي تحكم نظام التعليم تَحول دون دراسة الجنس حتى في كلية الطب، تفصل بين الجنس والإنجاب أو الولادة. درسنا في كلية الطب عملية الولادة فقط، لم ندرس العملية الجنسية. أصبحنا أطباء وطبيبات لا نعرف لماذا يُقطع بظر البنت وهي طفلة في السادسة أو السابعة من عمرها، ولماذا تُقطع غرلة الولد وهو طفل في الأسبوع الأول من عمره.

من هذه الأسئلة بدأت رحلتي الطويلة الشاقة في سراديب التاريخ المظلم. وكأنما كنت أمشي في طريق مليء بالألغام. إن الدراسة التاريخية العلمية تُعَد أحيانًا من المحظورات أو المحرمات، خاصةً فيما يتعلق بالثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة. أدركت أن تأثيم المعرفة إحدى وسائل السلطة للسيطرة على الأجساد والعقول والأرواح. تتجسد هذه السلطة في قوة دولية تساندها قوة محلية. لا يمكن للسلطة الخارجية أن تعمل دون الاعتماد أو التعاون مع سلطة داخلية. وأن هذه السلطة الداخلية أشد بطشًا؛ لأنها أقرب إلى أجسادنا، يمكنها أن تبطش بأجسادنا عن طريق الحبس أو الضرب أو التجويع.

أما أخطر السلطات فهي السلطة داخل الأسرة، في البيت، حين يصبح من حق الرجل أن يمنع المرأة من الخروج أو العمل ويفرض عليها الحجاب. لقد انتشرت ظاهرة تحجيب النساء في السنين الأخيرة، وهي دليل على ترابط السلطة السياسية مع السلطة الدينية، تدعمها السلطة التعليمية والإعلامية، وأصبح مألوفًا أن نرى على شاشة التليفزيون الرسمي المملوك للحكومة هذا الشيخ الإسلامي الوقور الذي يشجع النساء على التحجب درءًا للفتنة وحفاظًا على الأخلاق، تعقبه على الفور راقصة شبه عارية يتلوى جسدها بحركة إغراء جنسية، إعلانًا عن بضاعة أمريكية جديدة أو سلعة مستحدثة من منتجات الشركات المتعددة الجنسيات.

تحتاج القوى الدولية الاستعمارية الجديدة إلى ترويج بضائعها في العالم وفتح مزيد من الأسواق، وخلق أنماط جديدة من الاستهلاك؛ ومن هنا يلعب الجنس دوره في تنشيط الاستهلاك لدى النساء والرجال، وإثارة غرائز الشباب من الجنسين عن طريق أفلام الجنس وسط المراهقين والمراهقات المحرومين والمحرومات من العلاقات الجنسية الصحية السليمة.

لقد نجحت العولمة الاقتصادية الدولية في تخريب عقول الشباب والشابات في المدن والقرى، خاصةً الفتيات اللائي يصبحن ضحايا الاغتصاب الجنسي، أو يتمزقن بسبب التناقض بين القيم الدينية التي تفرض عليهن التغطية، والقيم التجارية والاستهلاكية التي تفرض عليهن التعرية أو الكشف عن أفخاذهن في الثياب الحديثة. وفي قريتي على ضفاف النيل أصبح مألوفًا أن تتأرجح الفتاة الريفية الفقيرة على الكعب العالي، الذي ينغرز في حُفَر الشوارع الزراعية أو أكوام السباخ، وأن تغسل شعرها بالشامبو الأمريكي بدلًا من الصابون المصري. وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في الإسكندرية وغيرها من المدن الساحلية أصبح مألوفًا أن نرى امرأة تسبح في البحر وهي مرتدية الحجاب حول رأسها والجلباب أو السروال الطويل والقفازات السوداء في يديها.

هذه المشاهد تبدو متناقضة، وهي كذلك بالفعل، إلا أنها مترابطة تُمثِّل الوجهين أو الوجه المزدوج للنظام، ترابط السلطة والجنس عن طريق التحكم في البشر، خاصةً أجساد النساء.

ويغيب العدل في الصراع الدائر حول حقوق النساء في قوانين الأحوال الشخصية بمثل ما يغيب العدل في الصراع الدولي حول حقوق الشعوب المطرودة من أراضيها أو المفروض عليها الفقر أو الجوع. إنه منطق القوة الذي يحكم منذ نشوء الرق. مع غياب العدل يغيب المنطق، يتلاعب الأقوى بالشعارات الكاذبة ابتداءً من الأرض مقابل الختان إلى الأرض مقابل السلام أو الأمن، إلى الشعار الآخر الذي يحكم النساء داخل قانون الزواج وهو «الطاعة مقابل الإنفاق».

لقد أصبح الرجل مسيطرًا على زوجته لأنه هو الذي ينفق عليها، وهناك آية قرآنية تقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لكن هل يتغير الوضع إذا كانت المرأة هي التي تنفق وتصبح لها القوامة؟!

لقد استطاعت سلطة الدولة أن تأخذ من الأب البدائي كثيرًا من سلطته التي كان يمارسها على النساء داخل أسرته؛ لهذا تغيرت قوانين الزواج والطلاق في كثير من المجتمعات في العالم. ساعد في ذلك أيضًا تزايد القوى السياسية والاقتصادية للنساء العاملات في المجالات الإنتاجية الزراعية والصناعية والثقافية المختلفة. لقد تم تحريم تعدد الزوجات في أكثر بلاد العالم شرقًا وغربًا، بما في ذلك بعض البلاد الإسلامية. كما تساوت النساء مع الرجال في حق الطلاق والحضانة والنسب والإرث في كثير من البلاد، بعد أن أصبح الإنفاق مسئولية المرأة والرجل معًا، وكان الرجل يرث أكثر من المرأة لأنه كان المسئول وحده عن الإنفاق.

ولا يزال الإجهاض محرمًا في بلادنا إلا من أجل إنقاذ حياة الأم. وقد وافقت السلطة الدينية مؤخرًا على إباحة الإجهاض لإنقاذ ضحايا الاغتصاب الجنسي، وهي خطوة إلى الأمام تحاول التخفيف من العقاب الواقع على المرأة الضحية.

منذ تخرجت في كلية الطب منذ أكثر من أربعين عامًا طالبت بإباحة الإجهاض لهؤلاء الفتيات، اللائي أغلبهن خادمات فقيرات، واعترفت في كتاب «مذكرات طبيبة» الذي صدر في نهاية الخمسينيات أنني أجهضت خادمة فقيرة جاءت إلى عيادتي الطبية تعاني الحمل بعد أن اعتدى عليها جنسيًّا سيدها صاحب السلطة في البيت الذي تشتغل فيه. هناك قَسَم في نقابة الأطباء نُقسِم عليه عند التخرج في كلية الطب، يشمل هذه العبارة: «وألا أجهض حاملًا»، لكن لم يكن هناك أي دليل مادي على أنني خرقت القانون إلا الرواية الأدبية تحت عنوان: «مذكرات طبيبة».

مع ازدياد حالات الاغتصاب الجنسي للفتيات والنساء في السنين الأخيرة اضطُرت السلطة الدينية في مصر (متمثلة في المفتي وشيخ الأزهر) إلى إباحة الإجهاض في هذه الحالات، بل أباحت أيضًا إعادة العذرية بعملية جراحية لهؤلاء الفتيات المغتصبات رغم إرادتهن. إلا أن هذه العملية ليست صالحة من الناحية الطبية أو الصحية أو الأخلاقية، فالمفروض أن الرجل الذي يغتصب امرأة هو الذي يفقد شرفه وليس المرأة. لكن حسب القيم الموروثة فإن المرأة هي التي تفقد شرفها أو عذريتها، فالرجل ليس له عذرية ولا أحد يحاسبه على فساده الجنسي أو الأخلاقي قبل الزواج أو بعده. لقد أصبح مقياس الشرف منذ نشوء الرق هو عذرية البنت، أو غشاء البكارة، رغم أن عددًا غير قليل من البنات (حوالي ٣٠٪) يولدن بغير غشاء بكارة، وأن نسبة أخرى يولدن بأنواع مطاطة من الغشاء لا تنزف ليلة الزفاف. لكن النظام، فرض هذا المقياس الواهي للشرف كإحدى وسائل القمع الجنسي للنساء من أجل التأكد من الأبوة.

إن عملية إصلاح العذرية جراحيًّا لها مخاطرها على صحة المرأة جسديًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا، أقل ما فيها أن تتدرب النساء على الكذب وإخفاء الحقيقة، كأنما المرأة مسئولة عما حدث.

هناك أيضًا مخاطر على الرجل الذي يتزوج هذه المرأة التي أصلحت غشاءها بمشرط الجراح، والذي يترك عادةً فتلة في الغشاء بعد الخياطة بالإبرة، أثناء الاتصال الجنسي ليلة الزفاف قد تشق الفتلة رأس القضيب. ويُنقل العريس إلى المستشفى لإنقاذه من النزيف أو الألم بدلًا من الاحتفال به في الصباحية بعد ليلة الدخلة.

وقد تتعرَّض الفتاة الحامل في عملية الإجهاض لمخاطر جسدية، منها النزيف الذي قد يؤدي أحيانًا إلى الموت، خاصةً أن حالتها النفسية تكون متدهورة، فالأم الحامل تشعر أن طفلها جزء من جسدها، تشعر نحوه بالحب الأمومي الطبيعي، إلا أنها تضحي به من أجل ظروفها الاجتماعية القاسية. والمفروض في هذه الحالات أن يكون الإجهاض اختياريًّا وألا يُفرَض الإجهاض على الأم، من حقها كأم الاحتفاظ بطفلها، وأن يكون طفلًا شرعيًّا مثل غيره من الأطفال. ليس من العدل ولا المنطق أن نعاقب الطفل بسبب خطأ الأب أو رفضه أن يمنح اسمه للطفل. ولماذا لا يكون اسم الأم شرعيًّا مثل اسم الأب، وكانت الأم المصرية القديمة هي التي يُنسَب إليها الأطفال؟

إن دراسة التاريخ المصري القديم تمدنا بكثير من الحقائق التي تؤكد أن سلطة الجنس الذكري في الدولة والدين والأسرة لم تكن هي القاعدة، يكفي أن نعيد قراءة حياة الإلهة المصرية «إيزيس» لندرك القيمة الإنسانية العالية التي تمتعت بها المرأة في مصر منذ سبعة آلاف عام، وكيف فقدت هذه القيمة تدريجيًّا مع نشوء العبودية.

إلا أن السلطة الحاكمة سياسيًّا ودينيًّا تَحول دون دراسة التاريخ المصري القديم دراسة علمية حقيقية، خشية ظهور بعض الحقائق عن الترابط بين القهر الجنسي والقهر السياسي والاقتصادي، أو المساس ببعض القيم الموروثة، ومنها تعدد الزوجات أو الفساد الجنسي للرجال أو الازدواجية في القوانين الأخلاقية، وانفصال القوة عن المسئولية.

وفي يوم من عام ١٩٧٦ جلست إلى المكتب وكتبت مسرحية بطلتها الإلهة المصرية القديمة إيزيس. يتميز الفن بقدرته على تجاوز المحظورات، إلا أن الرقابة على الفكر رفضت ظهور المسرحية على خشبة المسرح. وفي عام ١٩٨٦، أي بعد عشر سنوات، استطعت أن أنشرها في كتاب بعد أن حذفت بعض الأجزاء. وبعد عشر سنوات أخرى، في عام ١٩٩٧ استطاعت مسرحية إيزيس أن تظهر على خشبة المسرح لمدة ثلاث ليالٍ فقط، لم تقدمها إلا فرقة صغيرة من الهواة، من الشباب والشابات الذين لا يملكون السلطة أو الإمكانيات، واختفت مسرحية إيزيس مرة أخرى في الظلام، فالأضواء الإعلامية في بلادنا تملكها السلطة الحاكمة. وقال لي أحد الرقباء: إن الألوهية والأنوثة لا تجتمعان في كيان واحد، قلت له: لكن هناك مسرحيات أخرى عُرضت تحت اسم إيزيس. قال: نعم، لكن هذه الإيزيس المسموح بها هي الزوجة المطيعة الوفية لزوجها أوزوريس، وليست إيزيس التي جاءت في مسرحيتك كصاحبة الحكمة والفلسفة.

إن الطريق لا يزال طويلًا أمام الباحثين والباحثات علميًّا وفنيًّا من أجل الوصول إلى الحقيقة أو المعرفة الحقيقية. كانت الخطيئة الأولى التي اقترفتها حواء هي الأكل من شجرة المعرفة، هل كانت الشجرة ترمز إلى الجنس؟ لماذا إذن تعرَّت عورات آدم وحواء بعد أن أكلا من الشجرة؟ ولماذا حكمت السلطة الدينية ببراءة آدم دون حواء؟

إن مثل هذه الأسئلة العلمية التاريخية لا تزال محظورة في عدد من البلاد منها بلادنا، إنه الطريق الوعر المليء بالألغام، وهذا هو الجزء الأول من الدراسة التي أنوي نشرها عن توأم السلطة والجنس، هذا الجزء يشمل مجموعة من المقالات كتبتها خلال الثمانينيات والتسعينيات، بعضها نُشر بدون حذف، أو بعد حذف أجزاء، وبعضها لم يُنشر. أغلبها يتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل أو السلطة في المجتمع، بعضها يتعلق بالسياسة والبعض الآخر يتعلق بالجنس. وهناك مقالات عن القيود المفروضة على الفكر والإبداع عامةً، وعلاقة ذلك بحياة النساء والرجال الخاصة أو حياتهم العامة، وكيف يكون الفصل بين الخاص والعام إحدى أدوات السلطة لنشر الجهل أو التجهيل بأسس الحياة البديهية، وهل هناك بديهية أكثر وضوحًا من أن الإنسان (رجلًا كان أو امرأة) له أو لها جسد وعقل وروح داخل كيان واحد لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر؟!

إلا أن النظام الحاكم على مدى القرون الماضية أراد لهذا الكيان الإنساني الواحد أن يتمزق بين ثلاثة أجزاء متصارعة متنافرة: الجسد والعقل والروح، وأن يتصارع الجنسان باعتبار أن المرأة هي الجسد الأدنى أو الأنوثة أو الأمومة، وأنها نقيض الجنس الذكري الأعلى أو الروح أو العقل أو الرجولة أو الأبوة.

لم يكن سهلًا الكشف عن زيف هذا الصراع المفروض على البشر، لم يكن سهلًا إثبات أن المرأة تمتلك الروح والعقل مثل الرجل، مع أنها بديهية، لم يكن سهلًا إدراج حقوق المرأة ضمن حقوق الإنسان حتى يومنا هذا، فالإنسان في اللغة أصبح مذكرًا يرمز إلى الرجال فقط، أما النساء فهن الجنس الآخر، بلا عقل أو روح، أو ناقصات العقل والروح.

نوال السعداوي
القاهرة
نوفمبر ١٩٩٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤