عن قانون الأحوال الشخصية١

تزوج رجل من امرأة وأنجب أطفالًا، ثم وقع نظره على امرأة أخرى فتعلق بها، فهل يتخلى عن مسئوليته الاجتماعية والأخلاقية تجاه الزوجة والأطفال من أجل تلبية رغبته العاطفية؟

وما هو الفاصل بين المسئولية الاجتماعية والحرية الشخصية داخل الأسرة؟ هل نهدم الأسرة ونشرد الأطفال من أجل إطلاق الحرية الشخصية بلا قيود وبلا مسئولية؟

إن جميع الأديان بما فيها الإسلام أكدت على أن المسئولية الاجتماعية والأخلاقية تأتي في المرتبة الأولى قبل إرضاء الشهوات والرغبات العاطفية، ومع ذلك فقد قرأت في جريدة الوفد ٩ أغسطس الماضي آراءً لبعض السيدات، منها أن الزوج إذا وقع نظره على امرأة فتعلق بها فإن عنده الحرية الكاملة لأن يتزوجها ويطلق زوجته الأولى أو يستبقيها … هو حرٌّ تمامًا ولا أحد يقول له أخطأت، وإلا كان من الجاهلية.

وتختلف المبررات وراء هذه الحرية الشخصية المطلقة للزوج وإغفال مسئوليته الاجتماعية والأخلاقية. ويأتي الدين وكأنه المبرر الأول لهذه الحرية الشخصية المطلقة، وتستشهد الآراء ببعض الأجزاء من الآيات القرآنية دون الأجزاء الأخرى، وتتغافل المعنى الكلي لهذه الآيات وتركز على الكلمة والحرف، وتنسى أهم حقيقة في الإسلام، وهي أن الضرورة القصوى هي السبب الوحيد للطلاق أو الزواج بأخرى، والضرورة القصوى بنودها معروفة وليس من بينها وقوع نظر الزوج على امرأة أخرى فيتعلق بها.

وحينما يتضح أن الدين لا يهمل المسئولية الاجتماعية والأخلاقية من أجل إرضاء الشهوات تسوق بعض الآراء موضوع الصحة النفسية، وتقول إن تحكُّم الزوج في رغباته العاطفية يسبب له ضررًا نفسيًّا أشد من الضرر النفسي والاجتماعي الذي يقع على زوجته الأولى وأطفاله. وهذا منطق يخالف مبادئ الطب النفسي؛ لأن الصحة النفسية ليست في إشباع كل النزوات الشخصية والعاطفية على حساب مصلحة الأطفال والأسرة، بل العكس هو الصحيح؛ فإن الصحة النفسية تزداد عند الإنسان كلما ازدادت سيطرته على نفسه واستطاع أن يربط بين المسئولية الاجتماعية والأخلاقية والحرية الشخصية. أما الضرر النفسي والاجتماعي الذي يقع على الزوجة والأطفال والأسرة، فهو ثابت في علم الاجتماع والنفس، ويكفي الاطلاع على آلاف الحالات في المحاكم الشرعية والعيادات النفسية والملاجئ الاجتماعية لنعرف الحقيقة المؤلمة، التي دفعت كثيرًا من المصلحين الاجتماعيين منذ سبعين عامًا إلى المطالبة بوضع قانون جديد للأسرة يحميها من عبث الأزواج، والتأكيد على أن مسئولية الزوج والأب ليست اقتصادية فحسب، ولكنها قبل كل شيء مسئولية اجتماعية وأخلاقية، والأطفال في الأسرة يحتاجون إلى رعاية الأب وحنانه أكثر من احتياجهم لنقوده، والزوجة تحتاج لوفاء زوجها وإخلاصه أكثر من النفقة.

وتسوق الآراء مبررات أخرى، ومنها أن الزوج الذي يقع نظره على امرأة ويتعلق بها فسوف يصل إليها شئنا أم أبينا، بالزواج السري، أو بالزنى، أو يجعلها عشيقة، ولا فائدة من القانون؛ لأن الرجل يتحايل على القانون ليصل إلى هذه المرأة سرًّا أو علنًا، وما دام الأمر كذلك فلماذا نتركه يفعل هذه الأشياء في السر، والأفضل أن يفعلها علانيةً تحت مظلة القانون؟ وهذا منطق غريب أيضًا. وبدلًا من إصلاح الفساد نطالب بتقنين الفساد وجعله قانونًا. وأغرب من ذلك أن بعض الآراء تقول إن الطلاق في غير حاجة إلى إشهار، ويكفي لثبوته ونفاذه نية الرجل. لماذا؟ لأن الرجل قد يطلق زوجته ثم يعاشر ما دام لم يصلها الإعلان، والأفضل الاعتماد على نية الرجل وليس القانون. والمنطق هنا معكوس؛ لأنه إذا كانت النية هي الأساس فلماذا يعاشر الرجل مطلقته قبل أن يصلها الإعلان؟ وأيهما أفضل، أن نترك الأمور هكذا لنوايا الرجل أم نسعى إلى القوانين منعًا للفوضى الأخلاقية؟ لكن الفوضى الأخلاقية في نظر هذه الآراء هي تلك التي ينتج عنها خلط في الأنساب فحسب. أما الطلاق السري (أو بالنية فقط) دون إشهار فلا يقود إلى خلط في الأنساب، لكن المرأة تظل في هذه الحالة زوجة ومطلقة في آنٍ واحد، ولا أحد يعرف عن حالتها المزدوجة إلا زوجها، وهي نفسها لا تعلم، وتظل تعيش معه أيضًا، ويظل يعاشرها وهو مطلقها بالنية الداخلية، يستغلها جسدًا ونفسًا دون أن تعلم، وبعد أن يموت قد يظهر من تحت الأرض أطفال له آخرون وزوجة أخرى أو زوجات …

وكل ذلك في نظر هذه الآراء لا يتعارض مع الدين والأخلاق والصحة النفسية والاجتماعية. وهذا مفهوم محدود للدين والأخلاق والصحة النفسية والاجتماعية؛ لأنه يضع نزوة الرجال الطارئة فوق مسئوليتهم الاجتماعية والأخلاقية؛ ولهذا السبب تؤكد هذه الآراء على أن عش الزوجية ليس من حق الزوجة المطلقة وأطفالها، ولكنه من حق الزوج؛ لأنه قد يحتاج إلى هذا العش لزواجه الجديد. أو قد يُحوله إلى أي شيء آخر حسب رغبته. أما الزوجة السابقة والأطفال فلا بد لهم من الخروج من هذا العش إلى بيت آخر مناسب يدبره الزوج.

والسؤال الذي غاب عن هذه الآراء هو: إذا كان هذا الزوج قادرًا على توفير مسكن آخر مناسب، فلماذا لم ينتقل إليه مع عروسه الجديدة ويترك العش القديم للزوجة القديمة وأطفالها؟ وأيهما أحق بالاستقرار: الأم وأطفالها الصغار، أم الرجل الذي تخلى عن مسئوليته الاجتماعية والأخلاقية من أجل امرأة وقع عليها نظره فتعلق بها؟!

وتعفي هذه الآراء الرجل من المسئولية تمامًا وتلقي بها على المرأة وحدها؛ فالرجل لا يطلق امرأة صالحة! ويسقط من الذاكرة تمامًا الرجل الذي وقع نظره على امرأة فتعلق بها. والمرأة أيضًا مسئولة عن تعدد الزوجات، فهي التي تقبل أن تكون زوجة ثانية. ولماذا تتزوج الفتاة من رجل متزوج؟ ويسقط من الذاكرة تمامًا أن الأب قد يفرض على ابنته رجلًا عجوزًا متزوجًا لمجرد ثرائه. وقد يُفرَض على المرأة الوحيدة أو المطلقة غدرًا وخيانةً أن تتزوج غدرًا وخيانةً، ومسئوليتها هنا أقل من الزوج.

إن الدين هو العدل … والأخلاق هي العدل. وليس من مبادئ الدين والأخلاق أن نسلب من الزوجة والأطفال حقوقهم من أجل أن نلبي للرجل رغبات ثانوية ثم نعطيه شهادة بالبراءة ونوجه للمرأة قرار الإدانة. إن وضع مستقبل الأسرة والأطفال تحت رحمة نوايا الرجال نوع من العبث، وإلا فلماذا وُجدت القوانين؟ ولماذا تعاقَب المرأة قانونًا إذا وقع نظرها على رجل آخر غير زوجها فأعجبها؟! لماذا لا نترك الأمر لنوايا النساء كما نتركه لنوايا الرجال؟!

١  الوفد، ١٦  أغسطس  ١٩٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤