ويسألونك عن الاحتباس١

قامت الدنيا بسبب قانون الحبس الاحتياطي في بلادنا، وهو ذلك الحبس الذي يتم بدون دليل وبدون تحقيق، أو يكون المتهم تحت التحقيق، لم تثبت الإدانة بعد … تم اكتشاف مادة في الدستور تنص على المساواة بين المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة أو العقيدة … إلخ؛ لهذا كان لا بد من تغيير بعض القوانين، ومنها قانون الصحافة مثلًا، بحيث يتساوى الصحفيون مع عامة الشعب في موضوع الحبس الاحتياطي.

رغم أنني أنتمي إلى عامة الشعب، وكان المفروض أن أغتبط بمساواة البشر وإلغاء كافة الامتيازات المهنية، وخاصةً مهنة الصحافة، التي عانيت منها الكثير، وكم من مقالات كُتبت ضدي، دون وجه حق، فلم أملك الرد عليها، ولم آخذ حقي عن طريق القضاء حتى اليوم؛ فإنني لم أغتبط أبدًا، ولم أرحب بفكرة أو مبدأ الحبس الاحتياطي للجميع، خاصةً أن هذه المساواة في الحبس لا تشمل الجميع فعلًا؛ فهناك فئات لا تزال تتمتع بالحصانة وعدم الحبس الاحتياطي، ومنها فئة الوزراء ورؤساء الوزارة والقضاة وأعضاء مجالس الشعب والشورى ورؤساء مجالسها ورؤساء الدول، والمفروض حسب الدستور أن يتساوى الجميع في كل شيء حتى الحبس، أو الانحباس، بل إن صاحب السلطة الأعلى لا بد أن يكون حسابه أشد.

وقد اكتشفت وجود قانون «الاحتباس» وهو يسري على نصف المجتمع فقط دون النصف الآخر، وهذه مخالفة دستورية من الواجب تصحيحها، بحيث يسري القانون على المجتمع.

ولأنني أنتمي إلى نصف السكان في بلادنا الذين يعانون من قانون الاحتباس، لا لجريمة اقترفتها أو أخبار كاذبة نشرتها فأحدثت تكديرًا للشعب السعيد أو ازدراءً لمؤسسات الدولة المبجلة، وإنما لمجرد أنني وُلِدت من جنس آخر غير جنس الرجال.

•••

لم أعرف أنني «مُحتبسة» بحكم القانون إلا منذ فترة قصيرة حين أردت تجديد جواز سفري. ذهبت إلى المكتب المختص في الجيزة، رفض الضابط المسئول تجديد جواز سفري. لماذا؟ هل أنا في قائمة الممنوعين من السفر لأسباب جنائية؟! أبدًا. لمجرد أنني امرأة متزوجة، ولا يحق لي تجديد جواز سفري دون موافقة الزوج. كان زوجي مسافرًا خارج القُطْر، فقال لي الضابط المسئول: هاتي شقيق زوجك. وشعرت بالإهانة؛ فأنا أستاذة في جامعة «ديوك» من أكبر جامعات العالم، وأنا كاتبة معروفة لي العديد من المؤلفات بجميع اللغات، وأنا أيضًا طبيبة أعالج الناس، فكيف يضع الناس أرواحهم في يدي وأنا لا أملك في يدي أمر نفسي، وألجأ إلى شقيق زوجي ليمنحني الموافقة على تجديد جواز سفري؟! وقلت للضابط المسئول: شقيق زوجي مسافر أيضًا.

قال لي: هاتي والد زوجك. قلت له: والد زوجي مات منذ عشر سنين. قال لي: ألا يمكنك الاتصال بزوجك في الولايات المتحدة ليكتب لكِ الموافقة على تجديد جواز سفرك ثم يعتمدها من السفارة المصرية في واشنطن ثم يرسلها إليك؟ قلت له: هذا سيأخذ مني وقتًا طويلًا، على الأقل أسبوعين، وأنا أريد السفر خلال أيام. قال لي: ألا يوجد في أسرة زوجك رجل ينوب عن زوجك؟ أي إهانة أن ألجأ إلى الغرباء عني ليوافقوا لي على تجديد جواز سفري أو يعترضوا فلا أسافر! لكن هذا هو قانون الاحتباس!

منذ أربعين عامًا حين كنت فتاة غير متزوجة، كنت أكثر حريةً من اليوم. لم أكن ناقصة الأهلية أمام القانون كما أنا الآن، كنت ما أزال طالبة في كلية الطب في الثانية والعشرين من عمري، لكني كنت أملك أمر نفسي. تجاوزت الستين عامًا من العمر وكان المفروض أن أكون كاملة الأهلية، على الأقل مثلما كنت منذ أربعين عامًا، إلا أنني أتقهقر إلى الوراء وأُصبح مثل الطفل القاصر في حاجة إلى موافقة ولي الأمر في أبسط الأمور مثل تجديد جواز سفر.

•••

بعد موت أبي عام ١٩٥٨ أصبحتُ الوصية على أخواتي القاصرات، لكن الوصاية شيء والولاية شيء آخر. والمرأة لا يمكن أن يكون لها حق الولاية وإن كانت وزيرة أو رئيسة وزراء أو حتى رئيسة دولة. ويندرج حق الموافقة على السفر تحت الولاية. وكم حُرِمَت أخواتي من حقوق لأنني لا أملك الولاية عليهن، وعليَّ البحث عن رجل في الأسرة وإن كان بعيدًا عنا ليمارس حق الولاية على أخواتي. كنت أستأجره لمجرد ملء الأوراق الرسمية.

درس أبي الإسلام في الأزهر والقضاء الشرعي ودار العلوم. كان متبحرًا في الفقه والتشريع، وقال لي: إن جوهر الإسلام أو التفسير الصحيح للآيات القرآنية لا يتعارض مع ولاية المرأة وولاية غير المسلم ما دام أنه مواطن صالح أو أنها مواطنة صالحة.

إن الاجتهادات الفقهية التي كانت تمنع ولاية المرأة أو ولاية غير المسلم كانت محكومة بظروف اجتماعية وسياسية اختلفت تمامًا اليوم. إن الإسلام يُقر مبدأ الاجتهاد، والاجتهاد هو تنزيل النص على الواقع، أو رفع الواقع أو المصلحة المتغيرة على النص الثابت؛ لهذا من الخطأ أن نتعامل في بدايات القرن الواحد والعشرين بتفسيرات واجتهادات القرن التاسع أو الثامن.

•••

إن الولاية ذات الصبغة الدينية قد تغيرت، فلم تَعُد وظيفة القاضي مثلًا أو رئيس الدولة تندرج تحت الولاية مثل وظيفة «الإمام» الذي كان يملك وحده سلطة العلم والمعرفة والرؤيا والرؤية والاجتهاد والتشريع والتنفيذ والقضاء وكل شيء. لقد توزعت هذه السلطات على أجهزة عديدة واتسعت ممارسة الديمقراطية في بناء الدول وإدارتها، وظهرت المواثيق والدساتير التي تساوي بين المواطنين بصرف النظر عن الجنس أو العقيدة.

فلماذا لا تُعطى المرأة «الولاية»، وكيف تصبح المرأة في بلادنا وزيرة ومع ذلك تظل محكومة بقانون الاحتباس، ولا تستطيع أن تجدد جواز سفرها إلا بموافقة الزوج أو شقيق الزوج أو والد الزوج أو أي رجل آخر قريب أو بعيد من الأسرة؟!

لقد آن الأوان لإلغاء قانون الاحتباس هذا، وغيره من القوانين التي تحرم الأم أو الزوجة من حقوق الإنسان الأساسية الممنوحة لكل من يبلغ الرشد.

أنا أعرف أن تغيير القوانين يحتاج دائمًا إلى قوة سياسية واجتماعية منظمة تفرض هذا التغيير، وقد أصبح الأقباط في بلادنا قوة ذات وزن وليسوا أقلية، رغم أنهم من الناحية العددية أقلية، لكنهم من الناحية السياسية والاجتماعية لهم صوت مسموع وقوة فرضت نفسها على الاجتهادات الفقهية … وتغير مفهوم «الولاية» فيما يخص غير المسلمين.

لكن النساء في بلادنا أقلية سياسية واجتماعية رغم أنهن أكثر من نصف السكان عدديًّا؛ ولهذا تتعثر دائمًا أية محاولة لتغيير القوانين التي تمس حياتهن في الصميم، مثل قوانين الزواج أو الطلاق أو الجنسية أو الاحتباس.

أيضًا من أهم العقبات أمام المرأة هو جمود الفكر الاجتهادي الديني الخاص بحقوق المرأة. يكاد يقتصر الاجتهاد الديني على الرجال فقط.

وإن حدث واحتلت امرأة مركزًا كبيرًا في الدولة، كأن ترأس اللجنة التشريعية في مجلس الشعب مثلًا، فهي لا تجتهد من أجل إلغاء الظلم الواقع على نصف المجتمع، بل تسعى إلى مساواة الصحفيين بعامة الشعب في الحبس الاحتياطي. فلماذا إذن تحت شعار المساواة هذا يتم تطبيق قانون الاحتباس على النصف الآخر من المجتمع؟

إن جوهر الإسلام أو التفسير الصحيح للقرآن لا يتعارض مع ولاية المرأة أو ولاية غير المسلم «القبطي» طالما أنهما من المسالمين غير المتآمرين على الوطن. إن الاجتهادات الفقهية التي حفل بها التراث الإسلامي كانت محكومة بأزمنة وأوضاع اختلفت تمامًا عما نحن عليه الآن، وإنه إذا كان الاجتهاد في بعض معانيه هو تنزيل النص على الواقع، فإنه يصبح من الخطأ الجسيم أن نتعامل مع واقع القرن العشرين باجتهادات جرى تنزيلها على واقع القرن العاشر الميلادي، وإن الولاية ذات الصبغة الدينية قد تغيرت؛ فلم تَعُد وظيفة القاضي أو رئيس الدولة أو الوزراء تندرج تحت «الولاية»؛ لأن السلطات قد توزعت على العديد من الهيئات، ولم يَعُد لهؤلاء الصلاحيات التي كانت ﻟ «الإمام»، ومنها سلطة العلم أو الاجتهاد؛ ذلك أن المعرفة أو الرؤية أصبحت موزعة على أجهزة عديدة فنية متخصصة وحلَّ القرار الجماعي محل القرار الفردي، وهكذا يمكن الأخذ بأساليب الديمقراطية في بناء الدولة وإدارتها، ويمكن المساواة بين المواطنين جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ونساءً ورجالًا.

١  أكتوبر، ١٣  أغسطس  ١٩٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤