هدى شعراوي والملكة فريدة١

أنا لم أعرف الملكة فريدة معرفة شخصية، ولم أكن من المهتمات بحياة الملكات والأميرات، لكني بعد أن قرأت مقال أمينة السعيد (أخبار اليوم، ١٢ / ٨ / ١٩٨٩) أدركت أننا بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ الملكة فريدة؛ هذه المرأة المصرية التي داست بحذائها على هدية الملك من الماس، ورفضت وساطة رائدة تحرير المرأة هدى شعراوي.

وقد دخلت هدى شعراوي التاريخ، على حين خرجت منه نساء رائدات أخريات مثل درية شفيق لسبب بسيط؛ ذلك أن درية شفيق اصطدمت بالسلطة الحاكمة، وأدى ذلك إلى طردها من التاريخ. ومن هنا أهمية مقال أمينة السعيد وذكرياتها عن هدى شعراوي والملكة فريدة. ورغم أن أمينة السعيد قد أخذت جانب هدى شعراوي، إلا أنني أخذت جانب فريدة في موقفها من الملك فاروق؛ لأن موقفها كان أكثر شجاعةً وأكثر إنسانيةً وأكثر قوةً من موقف هدى شعراوي.

وكتبت أمينة السعيد في مقالها الآتي:

كانت هدى شعراوي تلازم الفراش إثر ذبحة صدرية خطرة، وكانت أمينة السعيد تحرص على الجلوس بجوار فراشها طول النهار لتكون في خدمتها، وذات يوم جاء رسول من عند الملك، ونهضت هدى شعراوي مسرعة إلى ملابسها، فانزعجت أمينة السعيد لفرط خوفها عليها وهي في هذه المرحلة الحرجة من الذبحة الصدرية، وعرضت عليها أن يأتوا برسول الملك في مصعدها الخاص لتقابله بغرفة الجلوس الملحقة بغرفة نومها، لكن هدى شعراوي رفضت وأصرت على الهبوط إليه، وغابت ساعة ثم عادت وأخبرت أمينة السعيد أن الملك طلب منها السفر إلى الإسكندرية لتقنع «فريدة» بالتخلي عن إصرارها على الطلاق. وسافرت هدى شعراوي إلى الإسكندرية رغم ظروفها المرضية الخطيرة، وعادت باهتة اللون حزينة غاضبة وقالت لأمينة السعيد بانفعال: لقد كنت أظنها عاقلة رزينة (تعني فريدة)، ولكن تبينت أنني كنت مخدوعة، وقد ظهر لي أنها امرأة «نوروستانيك». وهي كلمة فرنسية تعني «مهووسة».

لماذا كل هذا؟ لأن فريدة رفضت وساطة هدى شعراوي وأصرت على الطلاق، بل وداست بحذائها وحطمت هدية من الماس كان قد أرسلها إليها فاروق.

ولا أظن أن أحدًا يمكن أن يرى في مثل هذا التصرف أي هوس أو جنون، بل هو تصرف عاقل تمامًا من امرأة تحترم كرامتها وإنسانيتها وتصر على الطلاق من زوج فاسد وإن كان هو الملك، وترفض هداياه وإن كانت من الماس. إن كرامتها وإنسانيتها أثمن عندها من الماس ومن التاج.

أما تصرف هدى شعراوي فهو تصرف غريب غير مفهوم لا تقوم به امرأة عادية من الشعب، فما بال رائدة النساء؟! إذ كيف تُسرع وتُعرِّض حياتها للخطر، بل للموت، وهي تعاني من ذبحة صدرية خطيرة لمجرد أن تقابل رسولًا من عند الملك، ثم تسافر وهي في هذه الحالة إلى الإسكندرية لتقنع فريدة بالعودة إلى فاروق؟!

لو كانت امرأة أخرى غير هدى شعراوي لقلنا عنها إنها هي المهووسة وليست فريدة.

وإذا كانت هدى شعراوي تضحي بحياتها وصحتها من أجل أن تلبي رغبة من رغبات الملك فلا بد أن يصيبها أشد الغضب حين تفشل في مهمتها، ولا بد أن يتجه غضبها إلى «فريدة» فتتهمها بالهوس أو الجنون.

وفي رأيي أن فريدة كانت عاقلة تمامًا بل أكثر من عاقلة، لكن التاريخ أهملها بمجرد خروجها من القصر ودائرة السلطة والضوء. ولا أعتقد أن «فريدة» ندمت على طلاقها من فاروق كما تصورت أمينة السعيد؛ لأنها عاشت حياتها امرأة مستقلة فنانة رسامة، وربما كانت تحب فنها ولوحاتها أكثر مما تحب الحياة مع زوج يخونها كل ليلة، وربما كانت حريتها أهم لديها من التاج ومن الانحباس داخل القصر كغيرها من الملكات والأميرات. وقد رأينا من مقال أمينة السعيد كيف عاشت الملكة نازلي وبناتها الأميرات كالسجينات داخل القصر الملكي.

ولم تصرح الملكة فريدة لأمينة السعيد أنها ندمت على الطلاق، لكن الأستاذة أمينة السعيد استنتجت ذلك لأن فريدة كانت توقِّع على اللوحات التي ترسمها باسم «فريدة مصر» وليس باسمها الأصلي قبل الزواج وهو «صافيناز ذو الفقار»، وكانت تضع حرف R، وهو بداية كلمة «ريجينا»؛ أي ملكة باللغة اللاتينية. لكن هذا التصرف لا يدل على شيء، وهناك فنانات وكاتبات في مصر وفي العالم احتفظن بعد الطلاق بأسمائهن اللاتي اشتهرن بها أثناء الزواج. أما حرف R فهو مجرد رمز يستخدمه كل من كان ملكًا أو ملكةً ما دام لم يصدر قرار بالحرمان من اللقب. وقد أصدر الملك فاروق قرارًا بحرمان أمه نازلي من لقبها الملكي لكنه لم يصدر مثل هذا القرار بشأن فريدة؛ ولهذا ظلت تحتفظ باللقب. احتفاظها به دليل على تمسكها بحقها أكثر مما هو دليل على ندمها لفراق زوجها الذي بذلت جهودًا للطلاق منه، وكان يقول لها: «الملوك لا يطلِّقون مهما حدث حتى لا يهتز العرش أو يحطموه.»

وقد وقف الشعب المصري إلى جانب فريدة ضد فاروق، وخرجت المظاهرات تهتف بعد طلاقها: «خرجت الطهارة من بيت الدعارة.»

ولا بد أن هدى شعراوي قد سمعت هذه الهتافات مثلما سمعتها أمينة السعيد وكل من عاش تلك الفترة. وبسرعة شديدة ينقلب غضب هدى شعراوي على فريدة واتهامها بالهوس إلى المساندة والتأييد، بل إنها جمعت عددًا من النساء في رتل ضخم من السيارات وذهبت بهن إلى «فريدة» وهن يهتفن لها طوال الطريق، ومنهن أمينة السعيد، كما جاء في مقالها.

أما الملكة نازلي فلا أعرف عنها إلا الشائعات التي انتشرت فترة بين الشعب المصري عن سوء سلوكها، ثم انقطعت الشائعات بعد أن عاقبها الملك فاروق وجرَّدها من لقبها وأموالها. وأنا أختلف مع الأستاذة أمينة السعيد في تصورها أن أول مسمار في نعش الملك فاروق كان أمه نازلي أو أخواته البنات أو الأميرة شويكار أو أي امرأة أخرى؛ فهذا التفسير للتاريخ يشبه إلى حدٍّ كبير التفسير الذي يجعل «حواء» هي سبب سقوط آدم، وهكذا تصبح الضحية هي كبش الفداء وهي المسئولة عن الإثم والخطيئة، على حين يطلَق سراح الجاني ويحظى بالتعاطف والعطف، خاصةً وهو على قمة السلطة يضع على رأسه التاج ويملك الأمر والنهي.

إن أول مسمار في نعش الملك فاروق كان تعاونه مع الإنجليز ضد مصالح الشعب المصري. وقد كنت طالبة بالسنة الأولى بكلية الطب عام ١٩٥٠ وكنا نخرج إلى الشوارع في المظاهرات نهتف ضد الملك والإنجليز ولم يكن أحد منا يذكر نازلي أو شويكار أو فريدة أو فتحية أو أية امرأة أخرى.

١  أخبار اليوم، ٢٦  أغسطس  ١٩٨٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤