أهو غياب الوعي؟١

لم أشهد في حياتي مثل هذا السباق لإرضاء أصحاب النفوذ، وهناك دائمًا التبرير الفلسفي للنفاق السياسي والديني، فما أسهل ركوب الموجات الصاعدة! وما أسهل أن يكتب الصحفي أو الكاتب أو الأديب مقالًا في مدح الوزراء ومَن فوقهم أعلى السلم! لكن ما أصعب أن تقاوم هذا التيار وتكتب شيئًا مختلفًا عما هو سائد! ما أصعب أن تقف مع التيارات الدينية الرسمية وغير الرسمية لتحظى بلقب المؤمن! وما أصعب أن تُعبر عن عقلك وتتحمل الاتهامات وأقلها تهمة الإلحاد. الإلحاد قد يكون دينيًّا أو سياسيًّا أو أدبيًّا، مثلًا إذا كان الكل يميل إلى تأليه نجيب محفوظ وأنت ترى رأيًا آخر انقلب عليك المثقفون كما ينقلب ذوو النزعات الدينية المتطرفة إن اختلفت معهم في الرأي. والمسألة هنا هي النزعة لتأليه الفرد الجالس على قمة هرم الأدب أو السياسة أو الدين أو العلم أو الفن، أعني النزعة الهرمية المتوارثة منذ الفراعنة وبُناة الأهرامات، بحيث يتحول البشر إلى فراعنة وآلهة من الصعب مساواتهم بالآخرين أو توجيه النقد إليهم.

وقد قذفني بعض الصحفيين التابعين ﻟ «الشِّلَل الثقافية» بالحجارة لأني تجرأت في مؤتمر الرواية العربية (فبراير ١٩٩٨) ووقفت ضد هذه النزعة التأليهية، فما بال الحجارة الأخرى التي قذفني بها المتعصبون الإسلاميون لمجرد اختلافي في الرأي مع أحد زعمائهم على شاشة تليفزيون قناة الجزيرة!

بالرغم من وجود صحف معارضة في بلادنا فإن الثقافة العامة والتعليم العام يمنعان المعارضة الحقيقية، ولا يسمحان إلا بمعارضة القشور دون الدخول في عمق الفكر وجذور الفلسفة. وقد تلقيت دعوة لحضور ندوة يرأسها وزير التعليم رغم أن الندوة قد عُقدت لمناقشة كتاب وزير التعليم عن «التعليم والمستقبل» في بلادنا. ولا أحد يمنع الوزير من أن يكون مؤلفًا، لكن أن يكون المؤلف هو رئيس الندوة التي تنقد أعماله فهذا ضد حرية النقد الأدبي أو العلمي، والمفروض أن يرأس الندوة شخص آخر غير المؤلف. وهذا شبيه في القضاء أن يكون المتهم هو القاضي أو رئيس الجلسة. وكان فرعون الإله في مصر القديمة هو القاضي والمتهم في آنٍ واحد، يشكو الناس منه إليه. أذكر مقالًا ليوسف إدريس بعنوان «إني أشكو منك إليك» وقد وجَّه هذا المقال إلى رئيس الدولة حينئذٍ، وسألته: كيف تكتب هذا المقال بهذا العنوان؟ وضحك يوسف إدريس وقال: أعمل إيه؟

ومنذ ستة وعشرين عامًا سألت توفيق الحكيم: لماذا لا يعود وعي المثقفين إلا بعد موت الحاكم؟ وضحك توفيق الحكيم وقال: نعمل إيه إذا كان في إيده كل حاجة حتى أرواحنا؟

سمعت هذه العبارة ذاتها من أستاذ جامعي في إندونيسيا قبل سقوط «سوهارتو» بأيام قليلة، وأضاف قائلًا باللغة الإنجليزية ما معناه: إن سوهارتو استطاع أن يشتري كبار المثقفين والصحفيين الذين امتلكوا الصفحات الكبيرة في المجلات والصحف والإعلام بحيث أصبح سوهارتو إلهًا لا يمكن لأحد إلا أن يشكو منه إليه.

بعد سقوط سوهارتو اتضح أن انتفاضة الشعب الإندونيسي لم تكن انتفاضة مشاغبين أو خونة أو حرامية، بل اتضح أن رجال سوهارتو هم الحرامية، وسوهارتو نفسه كان يكسب كل عام أكثر من مليار دولار، وعلى مدى ٣٢ عامًا من الحكم أصبح من أثرياء العالم، تُقدَّر ثروته اليوم — حسب الإذاعات — بثلاثة وأربعين مليارًا من الدولارات!

الغرب داخل الوطن وخارجه

مدينتي القاهرة أحملها معي حيثما سافرت، أعود إليها بالحنين والشوق والحب، لكن ما إن أعيش فيها بضعة أيام حتى أشعر بالغربة، وتبدأ الغربة حين أقف في مطار القاهرة عند حاجز الجوازات، فإذا بالأجانب يحظون بالاحترام أكثر من المصريين، وفي جميع مطارات العالم هناك طابور خاص لأصحاب البلد يقفون فيه ويدخلون إلى بلدهم أسرع من الأجانب، ما عدا بلدنا؛ فلا كرامة للمصريين في بلدهم ولا امتيازات، بل الامتيازات للأجانب. قرأت في جريدة الأهرام (١٨ مايو ١٩٩٨) في الصفحة الأولى عن السائح الأمريكي الذي خُصصت له طائرة عسكرية لتنقله من الغردقة إلى القاهرة (لإصابته بمرض مفاجئ). فهل يمكن لمواطن مصري أن يحظى بهذا الامتياز العظيم؟!

إن الامتيازات التي يحظى بها الأجانب تعيد إلى أذهاننا عهود الاستعمار القديم والعبودية أيام الخديوي. وقد شهدت شيئًا آخر؛ يكفي أن تشهد في الطريق المتسولين وذوي العاهات الفقراء من الرجال والنساء والأطفال مع مشاهد الثراء الفاحش ونهم الشراء والاستهلاك للكماليات، على رأسها أدوات الزينة للنساء والرجال وصبغات الشعر وحبوب إعادة الشباب ومنها «الفياجرا»، التي بدأ الدعاية التجارية لها في الولايات المتحدة أحد أقطاب اليمين (بوب دول)، تبعه في ذلك الصحفيون وموظفو الإعلام من جماعات الردة الدينية الذين يروِّجون لإعادة تدريس الإنجيل بالمدارس ومنع الكتب التي تشرح أصل الكون بطريقة مختلفة عن نظرية الخلق كما جاءت في الإنجيل، والجماعات الأخرى السياسية المتفاوتة (في الظاهر أو في الخفاء) مع هذه التيارات الدينية التي تدعو إلى عودة النساء إلى البيوت لحل مشكلة البطالة، وعقاب كل من يتعرض للسيد المسيح أو الإنجيل بأي نقد أو كلام مخالف.

حين عدت إلى مصر وتابعت ما يُنشر في الصحف عن ترويج حبوب الفياجرا، ومنه الكتب التي تتعرض لسيدنا محمد أو القرآن، تداركت التشابه بين ما يحدث في مصر وأمريكا، لاحظت أن هؤلاء المتحمسين لترويج حبوب الفياجرا والكتابة عن مفعولها لعلاج الضعف الجنسي عند الرجال هم أنفسهم المتحمسون لحماية رسول الله من أية عبارة ناقدة في أي كتاب علمي أو غير علمي.

أكثر ما أدهشني هو عدم السرعة أو الحسم في منع تجارة حبوب الفياجرا رغم السرعة الفائقة في منع تداول الكتب الممنوعة، فما إن نشر أحد الصحفيين كلمة ضد كتاب مكسيم رودنسون عن النبي محمد حتى صدر القرار الوزاري بمنع الكتاب. وقد قرأت هذا الكتاب باللغة الإنجليزية منذ سنوات لا أعرف عددها، لم ألحظ أية كلمة جارحة لكرامة الرسول، فهل جاءت الترجمة العربية مخالفة للأصل؟ ولماذا لم نشكل لجنة لفحص الكتاب من العلماء وأساتذة الجامعات بدلًا من الاعتماد على مقال صحفي واحد؟ والسؤال الأهم: هل منع الكتب وسيلة لمنع الأفكار الناقدة؟! لقد نفدت من السوق، فهل أسرع إليها الجميع، أم تم جمعها بوسيلة ما؟! ولماذا لم تعقد إحدى الهيئات الثقافية في بلادنا (منها المجلس الأعلى للثقافة) ندوة لفحص هذا الكتاب أو غيره من الممنوعات التي أصبحت تتزايد بازدياد الردة الثقافية والخوف من ألسنة الصحفيين القادرين على تشويه سمعة أي إنسان يخالفهم الرأي؟

لقد أصبح للصحافة والإعلام سطوة خاصة على الضعفاء من خلق الله، النساء والرجال، الذين لا ينتمون إلى ذوي السلطان. وإذا هاجمني أحد من هؤلاء الصحفيين في مقاله أو عموده اليومي أو الأسبوعي فأين يمكنني الرد عليه في الوقت المناسب وليس بعد فوات الأوان؟

الرجال يكتبون عن تحرير المرأة

بعض الأقلام في مصر من الرجال بدأت تتبنى الأفكار الداعية لتحرير النساء المصريات من القهر الواقع عليهن من جراء القوانين، خاصةً قانون الأحوال الشخصية، ومن جراء عودة الأفكار البالية ومنها عزل النساء عن الحياة العامة وإيداعهن البيوت. وهذه ظاهرة إيجابية أن يتحمس الرجال لتحرير المرأة. لكن الظاهرة السلبية هي تراجع المرأة عن تحرير نفسها وتقليدها النساء الأمريكيات حتى في العودة إلى البيت تحت اسم مشاعر الأمومة، التي تضخمت فجأة مع تضخم البطالة واتساع الهوة بين الفقراء والأثرياء.

إن علاج البطالة لن يكون بعودة النساء إلى البيوت، لكن باقتلاع أسباب البطالة داخل النظام الرأسمالي عالميًّا ومحليًّا. وقد ظهرت في السنين الأخيرة كتب كثيرة تمجد الأمومة، ولا تشمل هذه الدعوة الفلاحات والخادمات في بيوت الأثرياء، فهل هؤلاء النساء بلا حنان أمومي؟! ولا تتحدث هذه الكتب — وأغلب مؤلفيها نساء أمريكيات — عن حنان الأبوة المناقضة لحنان وحب الأطفال والمشاركة في رعايتهم مع الأم.

وسألت أحد الرجال في مصر — الذي بدأ يكتب مقالات نارية عن تحرير المرأة المصرية من القهر الواقع عليها — عن مدى إيمانه فعلًا بما يكتب، وضحك الأديب الصحفي وقال: منعوني من الكتابة قلت أكتب في قضية المرأة بعيدًا عن السياسة. وأدركت لماذا يحظى هذا الصحفي بمساحة كبيرة في الصحف والمجلات، وقد أصبح بطلًا من أبطال تحرير المرأة، على حين اختفت أصوات النساء المدافعات عن حقوقهن أو كادت.

وسألت إحدى الكاتبات الصحفيات التي لا تكف عن الكتابة ولها مساحة خاصة في إحدى الصحف الكبرى لماذا لا تشمل قضية المرأة ضمن الموضوعات السياسية والاجتماعية التي تكتب عنها، فصاحت بذعر: عاوزاهم يعملوا فيَّ اللي عملوه فيكي؟!

١  الأهالي، ٢٤  يونيو  ١٩٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤