مرة أخرى حول رسالة الطبيبة الشابة١

سبق لي أن عارضت الطبيبة الشابة التي نشر د. عبد العظيم رسالتها وعلَّق عليها في عدة مقالات بالأهرام في تأييدها لقرار وزير الصحة بالسماح بإجراء عمليات ختان الإناث في مستشفيات وزارة الصحة، وقلت إن واجب الوزارة هو تدريب الأطباء على وقاية الناس منها وليس على إجرائها. وقد قرأت رد وزير الصحة في أهرام ٣ يونيو ١٩٩٥ ودفاعه عن صواب قراره رغم اعترافه أن العملية ضارة جدًّا صحيًّا وطبيًّا، فكيف تبيح وزارة الصحة عملية جراحية ضارة؟! إن أي تبرير غير معقول، خاصةً أن ذلك التبرير بأن هذه العملية يقوم بها الدايات وحلاقو الصحة خارج الوزارة، وأن الأمر يحتاج إلى توعية وإعلام. ولكن المفروض أن القرارات الوزارية والتشريعات والقوانين تساند الإعلام والتوعية وليس العكس، فكيف نرفع الوعي بمضار شيءٍ ما إذا كان القانون يشرعه ويبيحه؟! وجاء في رد وزير الصحة أن «التشريعات الحالية التي تُحرم مزاولة مهنة الطب لغير الأطباء كفيلة بالتصدي لمن يمارسون عملية الختان بشكل غير مشروع …» وإذا كان الأمر كذلك فلماذا شرعت وزارة الصحة الختان؟! وأيهما أسهل للتصدي لهؤلاء الدايات وحلاقي الصحة؛ حين يكون الختان مشروعًا بقرار وزاري أو حين لا يكون مشروعًا؟! وما فائدة التشريعات والقوانين إذن؟!

وكنت أود للدكتور عبد العظيم رمضان (قبل أن ينشر مقاله بالأهرام ٢٧ / ٥ / ١٩٩٥) أن يرجع إلى بعض كتاباتي السابقة حول نشوء النظام العبودي في التاريخ البشري وعلاقته بنشوء عمليات جراحية مثل الإخصاء والختان وغيرهما مما تعرَّض له العبيد والأُجراء إناثًا وذكورًا. ولم يكن لي أن أسهب واكتفيت بالقول إن النظام العبودي (أو الطبقي الأبوي) قد بدأ هذه العملية (الختان) «لأسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية». إن كلمة «اقتصادية» هنا تشمل حرمان العبيد (الإناث والذكور) من الأجر على العمل الذي يقومون به في المزرعة أو البيت أو مكان آخر والاكتفاء بإطعامهم؛ وبذلك «يعيشون عالة» على أسيادهم وتحت رحمتهم.

لم يكن لي أيضًا أن أسهب في العلاقة بين الختان الجسدي والنفسي، واكتفيت بالقول إن قطع عضو من جسد المرأة يسلبها القوة النفسية للدفاع عن كونها إنسانًا وليس عبدًا. هذه حقيقة بديهية يعرفها الجميع، فما بال طبيبة مثلي درست على مدى أربعين عامًا العلاقة بين الأمراض الجسمية والنفسية ويطلق عليها النفسجسمية، ولي دراسات منشورة عن المشاكل النفسية التي يتعرض لها الأطفال الإناث والذكور بسبب عمليات الختان، ومنذ ثلاث سنوات أعمل أستاذة في جامعة «ديوك» بالولايات المتحدة، وأتابع عن قرب الحركة التي تقوم بها الجمعيات الطبية وغيرها من المنظمات غير الحكومية لاستصدار قرار من الكونجرس يُحرم إجراء عمليات الختان للذكور والإناث في المستشفيات الأمريكية، وقد تكونت جمعيات أهلية لمنع الختان في بلاد متعددة في العالم منها «إندونيسيا» التي يمارس فيها ختان الإناث قبل أن يمارس في مصر القديمة.

وأنا أتفق مع د. رمضان في أن المرأة المختونة تكون أكثر عدوانية من المرأة غير المختونة، إلا أن نسبة الزوجات القاتلات غير المختونات «في أمريكا» أكثر منها بين النساء المختونات، وبالمثل أيضًا فإن العنف والعدوان في الرجال غير المختونين أكثر مما هو في الرجال المختونين. هناك فارق كبير بين ختان الإناث وختان الذكور من الناحية البيولوجية أو الجسدية، إلا أن الأثر النفسي للعمليات الجراحية في الطفولة المبكرة قد يتشابه أحيانًا، وقد تحدث أخطاء يقع فيها الأطباء الناشئون الذين يقومون بمثل هذه العمليات.

وقد خلط د. رمضان بين القوة النفسية عند المرأة المناضلة أو الرائدة مثل هدى شعراوي والنساء قاتلات أزواجهن، الفرق هنا كبير مثل الفرق بين الإبداع والجنون أو المرض النفسي؛ وذلك أن المريض نفسيًّا يقتل ويدخل السجن أو المستشفى، لكن الإبداع يقود المرأة أو الرجل إلى تغيير النظم في العالم ومنها العبودية.

وأختلف أيضًا مع د. رمضان في أن مصر القديمة هي التي اخترعت الختان مثل التحنيط؛ لقد أثبت علم التاريخ والأنثروبولجي أن الختان ظاهرة موجودة لدى العرب والمسلمين واليهود والمسيحيين والبوذيين وغيرهم، إنها ترتبط بنوع النظام الاجتماعي الاقتصادي السائد في المجتمع وليس نوع البشر أو دينهم أو جنسهم أو عرقهم أو لغتهم.

وهناك من يربطون بين ختان الذكور والدين اليهودي لأنه ورد في التوراة، لكن الرق ورد في التوراة والإنجيل والقرآن ولا يعني ذلك أن الرق بدأ بهذه الأديان، بل لقد حاربت هذه الأديان ضد الرق وخاصةً الدين الإسلامي الذي سعى إلى تحرير الأرقاء والعبيد. وهناك دلائل تاريخية على أن الختان بدأ مع الرق مع نشوء النظام العبودي الذي أدى إلى القتل والحروب وإخضاع الأسرى بوسائل متعددة منها الختان والإخصاء، وليس العكس كما قال د. رمضان في مقاله.

١  الأهرام، ٧  يونيو  ١٩٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤