«الرق» و«الرقة» والختان والحنان١

بسبب المقالين السابقين في مجلة «المصور» تعرضت لكثير من الأسئلة حول موضوع الختان، مما يؤكد أهمية مواصلة الكتابة في هذا الموضوع، وهو جزء من قضية المرأة غير المفهومة لدى الكثيرين والكثيرات في بلادنا، ومنهم أيضًا أغلب الذين يزعمون أنهم زعماء الحركة الوطنية التقدمية أو زعيمات الحركة النسائية.

إنهم يزعمون أن قضية المرأة هامشية وثانوية ويجب تأجيلها حتى يتم القضاء على الفقر والبطالة والمخدرات وتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية وتحرير الشعوب العربية وعلى رأسها فلسطين الشقيقة.

منذ كنت طفلة في العاشرة من عمري وأنا أسمع عن تحرير فلسطين الشقيقة، وقد تجاوزت الستين عامًا ولم أشهد تحرير فلسطين الشقيقة، بل شهدت العكس، أن أرض فلسطين تتناقص وتتناقص إلى حد التلاشي.

هناك عبارة سمعتها من أبي وأنا في السادسة من عمري أضاءت أمامي الطريق … كان أبي يقول: إن فاقد الشيء لا يعطيه، إن المرأة التي لا تملك كرامتها واستقلالها وحريتها لا يمكن أن تمنح أولادها وبناتها الكرامة والاستقلال والحرية.

هكذا تمسكت بكرامتي واستقلالي وحريتي، ولم تكن هناك قوة في العالم قادرة على أن تسلبني هذه الأركان الأساسية في تكوين الإنسان، وأعز ما يملكه الإنسان «المرأة أو الرجل» هو الكرامة والاستقلال والحرية. وأعز ما يملكه المجتمع أو الدولة هو الكرامة والاستقلال والحرية.

ومن البديهي أن المجتمع أو الدولة التي لا تطعم نفسها وتعيش عالة على معونات الآخرين مثل الإنسان الفرد «المرأة أو الرجل» الذي لا يطعم نفسه ويعيش عالة على غيره.

هكذا قررت منذ كنت في العاشرة من عمري ألا أعيش عالة على أحد، وارتبطت كرامتي في عقلي بقدرتي على الاستقلال وعدم الخضوع لزوج ينفق عليَّ.

هذا الدرس الأول في حياتي كان متعارضًا مع كثير من القيم والعادات الموروثة منذ نشوء العبودية أو ما يُسمى النظام الطبقي الأبوي … لم يكن للقلة القليلة من الأسياد الحكام أن يستعبدوا الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء دون إجراء عمليات جسدية وتعليمية وقانونية لاستئصال كرامة الإنسان أو المرأة، كان لا بد من إخصاء العبيد لتصبح «أبوة» الأسياد مؤكدة مائة في المائة لا تشوبها ذرة شك، وكان لا بد أيضًا من ختان النساء، وتختلف عملية الختان عن عملية الإخصاء في أن المرأة المختنة لا تفقد قدرتها على الإنجاب أما الرجل المخصي فهو يفقد قدرته على الإنجاب.

وقد ثار العبيد في التاريخ البشري بسبب قدرتهم على التنظيم السياسي والضغط على القلة الحاكمة. وهكذا تلاشت عمليات إخصاء العبيد. لكن النساء عجزن حتى اليوم عن تكوين تنظيم سياسي له قدرة على الضغط وتغيير القوانين المجحفة بهن، ومنها قانون الطاعة في الزواج، والعادات الموروثة منذ العبودية، ومنها الختان.

الختان والحجاب وحزام العفة وقانون الطاعة وامتلاك الرجل لحق الإنفاق، والطلاق وتعدد الزوجات والنسب وتوريث الأطفال وغيرها من الحقوق التي يحظى بها الرجال دون النساء، كل هذه القيم والعادات والقوانين لا علاقة لها بنشوء الدين الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، بل هي كلها نشأت مع نشوء النظام العبودي وما سُمي بالرق.

أصبحت المرأة حين تتزوج تحمل اسم الزوج أو «الرقيقة» وتعني «العبدة» وجمعها في اللغة «الرقيق».

مع تحرر العبيد تغيرت القوانين وتم تجريم أي كاهن أو طبيب يقوم بعملية إخصاء لأي رجل.

كان الكهنة في المجتمعات العبودية والإقطاعية هم الأطباء، يوكل إليهم من قِبل الأسياد أن يقوموا بإخصاء الرجال وختان النساء. كان الكهنة أو الأطباء أو حتى الفلاسفة في العصر العبودي يؤمنون أن العبد الذي يتحلى بالأخلاق الحميدة هو العبد المخصي، كذلك أيضًا آمنوا أن المرأة الزوجة أو الرقيقة التي تتحلى بالأخلاق الحميدة هي المرأة المختنة.

في العصر العبودي الفرعوني كان الفنانون يرسمون نساءً مختتنات على الجدران وأوراق البردي، وفي بلاد العالم أجمع تحت ظل الحكم العبودي كانت هناك قوانين وإجراءات تَفرض عمليات الإخصاء على بعض عبيد الأرض والأُجراء كما تفرض الختان على النساء.

•••

لم تكن قارة أفريقيا هي القارة الوحيدة التي عرفت ختان المرأة كما يزعم زعماء وزعيمات الحركات التقدمية في الغرب والشرق، إنهم يحاولون اليوم إلصاق تهمة «الختان» بالجنس الأسود في أفريقيا، كما زعموا أن مرض الإيدز نشأ في أفريقيا وليس أمريكا، مع أن العكس هو الصحيح.

لم يكن الجنس الأسود في أفريقيا هو سبب البلاوى في هذا العالم، ولم يخترع الأفارقة النظام العبودي، بل وقع الأفارقة ضحية العبودية التي مارستها الدول الغربية ولا تزال تمارسها تحت أشكال جديدة وكلمات رقيقة من نوع الديمقراطية والتنمية والإصلاح الهيكلي والتكامل والتعاون والصداقة والسلام … إلخ إلخ إلخ.

وقد اشتبكتُ مع إحدى زعيمات الحركة النسائية الأمريكية في المؤتمر النسائي عام ١٩٨٠ في كوبنهاجن، التي وقفت لتلقي علينا خطبة تقول فيها إن ختان المرأة عادة أفريقية. ووقفتُ لأخالفها الرأي بناءً على الحقائق التاريخية وقلت إن هذه الفكرة عنصرية؛ لأنها تُرجع التخلف الفكري والاجتماعي إلى لون البشرة وليس إلى الأسباب الحقيقية السياسية والاقتصادية ونظام الحكم السائد دوليًّا ومحليًّا.

والغريب أن الزعيمة الأمريكية غضبت من كلامي واتهمتني بالتعصب والانحياز للأفريقيات ضد الأمريكيات والأوروبيات، وقالت لي: أنتِ مصرية ولستِ أفريقية!

وضجت القاعة بالضحك على هذه الزعيمة التي لم تعرف بعدُ أن مصر في أفريقيا.

هذه الزعيمة اسمها «فران هوسكن» وقد ملأت الدنيا بالبيانات «غير العلمية» المؤكدة أن ختان النساء عادة أفريقية، أكثر من ذلك أنها نشرت بيانات أخرى تؤكد أنها عادة إسلامية أو عربية، وألقت علينا خطبة أخرى تؤكد ذلك، وقفتُ أخالفها وقد عرفتُ أنها من المناصرات لإسرائيل ضد العرب، وتنظر إلى الشعوب العربية كما تنظر إلى الشعوب الهمجية غير المتحضرة بدليل قيامهم بختان النساء، وحين أوضحتُ لها الخطأ الذي وقعت فيه الأفكار العنصرية السياسية التي تغلب عليها غضبت بشدة وقالت: أنتِ مصرية ولستِ عربية! وضجت القاعة بالضحك عليها.

•••

وفي الوطن أيضًا التقيت بعدد قليل من زعيمات الحركة النسائية في بلادنا اللاتي يتصورن أن ختان الإناث عادة أفريقية، وقد آن الأوان أن نحرر البشرة السوداء من هذه الأفكار الخاطئة.

إن لون الإنسان لا علاقة له بالتخلف الإنساني، وقد نشأت الحضارات القديمة العريقة في مصر وأفريقيا وآسيا. هذه الحقيقة أصبحت معروفة. وقد انتقلت الحضارة من مصر إلى أوروبا عبر «أثينا» وليس العكس؛ لهذا يطلقون عليها من الناحية الحضارية أثينا السوداء وليس البيضاء.

لقد اقترف الرجل الأبيض من الجرائم السياسية والاقتصادية والعسكرية ما لا يُعد ولا يُحصى، ولا تزال الحروب والمجاعات والحضارات الاقتصادية المفروضة على الشعوب تؤكد أن هذه الجرائم مستمرة حتى اليوم. إن الرجل الأبيض لم يتحضر حتى اليوم، بدليل ما يحدث من مذابح يومية في فلسطين ولبنان ورواندا وزائير وأوغندا ومعظم بلاد أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، يموت الآلاف من الأطفال كل يوم وكل ساعة من جراء السياسة الكونية الخرقاء للرجل الأبيض، ليس لأنه أبيض، ولكن لأنه مستعمر ومستغل ومستعبد.

لماذا إذن نلصق التخلف الإنساني والحضاري بأنفسنا وبشرتنا السمراء أو السوداء؟! لماذا لا نبدأ بتحرير أنفسنا من هذه الأفكار الخاطئة؟ فاللون لا علاقة له بالتخلف.

«ابدأ بنفسك»، هذا المبدأ سمعته من أبي وأنا طفلة، وقرأته على لسان معظم الأنبياء، ومنهم رسول المسلمين سيدنا محمد، وهذا المبدأ يؤكد عبارة «فاقد الشيء لا يعطيه».

فهل تتحرر الشعوب في بلادنا إذا كان نصفها من النساء غير محررات؟ وإن لم تكن قضية المرأة قضية وطنية تتعلق بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال والكرامة، فما هي القضية التي تعلو على قضية تحرير نصف المجتمع؟!

تحت اسم القضية الوطنية يتم تجاهل قضية المرأة، واعتبارها قضية ضد الأخلاق أو الدين أو القيم الخاصة بتراثنا الأصيل أو الخصوصية الثقافية في حضارتنا الشرقية الروحانية، ويتم إلصاق تهمة الاستغراب أو التغريب لكل من يتحمس لقضية المرأة، يقولون عنه أو عنها: إنها تستورد أفكارها من الحضارة الغربية الأوروبية. وأحيانًا يقولون الحضارة الغربية «المنحلة الأخلاق المؤمنة بالإباحية.»

•••

هكذا يتم الربط بين تحرير المرأة والإباحية أو الانحلال الأخلاقي.

وقد رأينا أن الانحلال الأخلاقي أو التخلف الاجتماعي أو الاقتصادي أو الفقر المادي أو الروحي، كل ذلك لا علاقة له بلون البشرة بيضاء أو سوداء، أو الجنس ذكرًا أو أنثى، أو الجنسية أفريقيًّا أو آسيويًّا أو أمريكيًّا أو أوروبيًّا أو أستراليًّا.

في الغرب مثلًا هناك علماء عظماء ورجال ونساء محترمات مناضلات ضد العنصرية وضد الاستعمار وضد قهر الرجال والنساء … وهناك أيضًا مثلهم في الشرق الذين يموتون دفاعًا عن العدل والحرية والاستقلال والكرامة.

إن المرأة التي تملك كرامتها وحريتها واستقلالها أقدر على الدفاع عن الحرية والاستقلال والكرامة من المرأة المسلوبة الحرية والاستقلال والكرامة. فاقد الشيء لا يعطيه.

إن التناقض هو الأساس الأول للعبودية وتحريم المعرفة. إن التناقض هو الأساس الأول لعمليات التجهيل التي فُرضت على العبيد والنساء؛ مثلًا يفرضون «عليهم وعليهن» بتر أعضائهن الجنسية المدنسة من أجل الطهارة والكرامة، ومع ذلك لا يندرج العبيد والنساء تحت بند الأسياد «الأطهار» ذوي الكرامة، بل يندرجون مع الحيوانات تحت بند الأشياء الدنسة. وهنا التناقض الذي فُرض على المرأة أو العبد، أن يكون «مدنسًا» من الناحية الاجتماعية، وأن يكون «مطهرًا» من الناحية الجنسية.

أما الرجل السيد فهو «طاهر» من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو «مدنس» من ناحية أخرى إذ يحق له تعدد العلاقات الجنسية بلا قيد ولا شرط داخل نظام الزواج وخارجه.

من هنا نشأ المثل العبودي الذي لا يزال يتردد حتى اليوم على لسان الكثيرين والكثيرات: «الرجل لا يعيبه إلا جيبه.» يعني ذلك أن الرجل يمكن أن يمارس الجنس كما يشاء، ويظل شريفًا طاهرًا ما دام جيبه عامرًا بالفلوس. أما المرأة فإن أي شيء يعيبها وإن كان عضوًا طبيعيًّا خلقه الله في جسدها من أجل ممارسة الجنس مع زوجها.

هذا العضو الأنثوي لا بد أن يُقطع بعملية الختان ولا يهم أن تمارس المرأة الجنس مع زوجها، بل المهم فقط أن تلد له أطفاله. لا يهم أن تشعر المرأة كالرجل بالسعادة في العلاقة الزوجية، بل المهم أن تشعر بالسعادة النابعة من الأمومة.

تمت إدانة اللذة الجسدية أو المادية في حياة العبيد والنساء، وفُرضت عليهم السعادة الروحية فقط. أصبح على العبد أن يكون سعيدًا يبتسم في وجه سيده رغم أنه يعاني الألم والفقر والإذلال والاستغلال. وأصبح على المرأة أن تكون سعيدة تبتسم في وجه زوجها وإن أهانها، وتفرح بمجيء الداية أو الطبيب الذي يبتر أعضاءها.

هكذا حدث الترابط بين الألم والسعادة في حياة العبيد والنساء؛ حالة مرضية معروفة في الطب النفسي باسم «الماسوشية» أو «استعذاب الألم».

قال لي أحد زملائي من الأطباء النفسيين: إن المرأة الطبيعية هي المرأة التي تعشق الخضوع والسلبية والختان، أما المرأة التي تخرج على قانون الطاعة لزوجها فهي امرأة ناشز أو نشاز.

مع أن الطب النفسي تطور وتغير في العالم شرقًا وغربًا، وتم الكشف عن زيف الأفكار والقيم التي أدت إلى مرض الماسوشية، أدرجت هذه الحالات تحت بند «سيكلوجية العبيد» واتضح التشابه الكبير بين سيكلوجية النساء وسيكلوجية العبيد.

إلا أن هذه السيكلوجية لا تزال تُفرَض على المرأة تحت اسم الصحة النفسية أو الصحة العقلية أو الصحة الأخلاقية، وانعكست الأوضاع وانقلبت القيم، أصبحت المرأة الحرة المستقلة ذات الكرامة التي ترفض الختان أو ترفض الخضوع أو ترفض أن تعيش عالة على أحد، أصبحت هذه المرأة هي الشاذة وغير الطبيعية، مع أنها هي المرأة الطبيعية وهي المرأة السليمة جسديًّا ونفسيًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا، وهي الزوجة والأم المثالية التي يمكن أن تُرضع أولادها وبناتها الكرامة والحرية والاستقلال مع لبنها الدافئ الحنون. إن الحنان والدفء والرقة عند المرأة لا يتناقض مع كرامتها واستقلالها وحريتها، وإن فقدت المرأة الحرية والكرامة فقدت معهما الحنان والرقة، أصبحت مجرد «رقيقة» التي اشتقت في اللغة من كلمة «الرق».

والفرق هائل بين «الرق» أي العبودية والرقة الإنسانية في العلاقات الحميمة، مثل الفرق بين الختان والحنان.

١  المصور، ١  أغسطس  ١٩٩٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤