أيتها المرأة المصرية، ارفعي رأسك وصوتك!١

رأيتها واقفة على باب الطائرة البريطانية ترحب بالركاب، ملامحها مصرية صميمة حميمة ذكرتني بملامح ابنتي وأمي. البشرة الملوحة بالشمس وهواء البحر الأبيض المتوسط ونسمة النيل. كانت واقفة ممشوقة الجسم مرفوعة الرأس مثل الإلهة إيزيس، عيناها مرفوعتان وابتسامتها مثل شعاع الشمس.

سمعتها تقول باللغة العربية: أهلًا يا دكتورة نوال. قالتها بصوت قوي رقيق مثل تغريد عصفور، بلغة الأم، بحنان الأم، وذلك الشموخ. ما أجمل القوة مع الرقة في المرأة أو الرجل! الضعفاء فقط هم العاجزون عن الرقة أو التواضع.

رغم أسفاري الكثيرة لم ألتقِ من قبل بمضيفة مصرية تعمل في طائرات بريطانية، ثم عرفت منها أنه منذ خمس سنوات فقط بدأت المرأة المصرية تغزو الخطوط الجوية الأجنبية وتتفوق على زميلاتها من البلاد الأخرى.

كان مقعدي في الدرجة السياحية حيث الشباب ومحدودو الدخل من السياح. إلى جواري شاب فرنسي يرتدي قميصًا ورديًّا. ابتسم حين جلست وسألني هل أنا مصرية، إنها المرة الأولى في حياته التي يزور فيها مصر. كان يحلم منذ طفولته بهذه الزيارة. أبوه فرنسي يعمل قبطانًا في سفينة، وأمه مصرية، ماتت وهو في الرابعة من العمر، بلغ الرابعة والعشرين وفي خياله صورتها وملامحها وصوتها حين كانت تتكلم اللغة العربية. لا يعرف من العربية إلا كلمة «ماما». اشتغل عدة سنوات في معمل تحاليل ليوفر ثمن التذكرة إلى وطن أمه التي غابت عنه منذ عشرين عامًا. وامتلأت عيناه ببريق الدموع مع الفرح وقال باللغة الفرنسية: أحس أنني أعود إلى وطني، فالوطن هو الأم.

جاءت المضيفة المصرية ونقلتني إلى مقعد في الدرجة الأولى. كنت أريد مواصلة الحديث مع الشاب الفرنسي عن أمه المصرية، لكن المضيفة الشابة أصرت على تقديم المقعد لي كنوع من التكريم.

مقعد الدرجة الأولى في الطائرة البريطانية يتسع لثلاثة أشخاص، أو شخص واحد في حجم الإمبراطور أو السلطان الذي رأيت مقعده في أحد المتاحف في إسطنبول. لم يكن هذا الحاكم يمشي على قدميه، وإذا انتقل من غرفة النوم إلى دورة المياه حملوه فوق مقعد ضخم يتسع لجسد الفيل.

إلى جواري كانت تجلس امرأة مصرية مألوفة الملامح، ربما رأيت صورتها في الصحف، ربما كانت زميلة لي في المدرسة أو الجامعة، ربما تحمل الآن لقب وزير أو نائب وزير أو أمين عام مؤسسة أو جمعية أو هيئة عليا حكومية (أو غير حكومية كلاهما واحد رغم اختلاف الاسم).

رمقتني بنظرة استعلاء من طرف أنفها، إنها تنتمي تمامًا إلى مقعد في الدرجة الأولى تدفع ثمنه الحكومة، وهي ترتدي «تاييرًا» فاخرًا من «سيلفريدج» في شارع «أكسفورد» في لندن، وشعرها مصفوف مقصوص على آخر طراز، تلف من حوله «تيربون» أو إيشاربًا أو حجابًا أنيقًا مستوردًا من أكسفورد أيضًا.

يبدو أنها تعرفت على ملامحي فلم تبتسم، أو لعلها لمحت الحذاء الكاوتش في قدمي فأدركت أنني لا أنتمي إلى أي هيئة عليا حكومية أو غير حكومية، إلا أن المضيفة قدمتني إليها قائلة: الدكتورة نوال السعداوي الأديبة المعروفة. لكن الأستاذة العالية المنصب والكعب مطت بوزها بما يشبه الاعتراض على كوني أديبة أو معروفة، وانفرجت شفتاها المصبوغتان بلون أحمر محتشم عن صوت خافت أو هواء ساخن.

•••

هبطت الطائرة إلى أرض الوطن، ملأت أنفي برائحة أمي واللبن الحليب في الصبح والذرة المشوية على شط النيل، إلا أن عاصفة من التراب ورمال الصحراء كانت تملأ الجو بلون أصفر، وطوابير من المصريين والمصريات العائدين والعائدات من السعودية أو بلاد النفط. الرجال منهم وجوههم شاحبة ممصوصة الدم والكرامة، والنساء ملفوفات بالحجاب الأسود، واقفات في الطوابير خلف أزواجهن منكسات الرءوس صامتات، لا تفتح الواحدة منهن فمها، وحين يسألها ضابط الجوازات عن اسمها يبادر زوجها بالرد عنها. سألت واحدة منهن: أنتِ سعودية أم مصرية؟

قالت بصوت غير مسموع: أنا مصرية. قلت لها: لماذا لا ترفعين صوتك؟

لم ترد واستدار الرجل أمامها وقال بصوت شبه غاضب: صوت المرأة عورة.

أصابني صوت الرجل بالغم والكآبة، تصورت أنه سعودي، لكنه مصري وزوجته مصرية، وهذه الطوابير كلها من المصريين والمصريات العاملين في بلاد النفط والعائدين في إجازة الصيف.

في الطريق من المطار إلى بيتي كنت أطل من نافذة السيارة، وجوه الناس في الشوارع تشبه الوجوه التي رأيتها في طوابير المطار، خطوة النساء البطيئة وهن يمشين في الشارع، رءوسهن منكسة إلى الأرض ملفوفة الحجاب.

حول أجهزة التليفزيون في الشوارع والدكاكين كان الرجال ملفوفين يتصايحون كلما دخلت كرة القدم إلى الجون: جون جون!

أصواتهم أو صرخاتهم تشبه أصوات جنود أحيلوا في سن الشباب إلى المعاش يتفرجون على حرب وهمية تنقلب فيها الهزيمة إلى نصر. جون جون!

•••

في اليوم الثاني جمعتني جلسة مع مجموعة من الشابات المصريات، كلهن متعلمات، منهن الطبيبة والمهندسة وأستاذة الجامعة والصحفية والمحامية والموظفة في بنك أو شركة … إلخ، وانقضى الوقت في معركة كلامية حول سؤال واحد: هل الحجاب فريضة إسلامية أم لا؟

أربع أو خمس ساعات راحت في مباراة حول هل الحجاب هو الخمار هو الجلباب هو الجيوب هو الساتر أو غطاء الرأس؟ هل المرأة المحجوبة هي المستورة هي المرأة غير المرئية؟ هل المرأة كلها عورة وجهها وجسمها وصوتها؟ ما معنى آية: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا؟ هل الزينة هي كحل العينين وخضاب اليدين «الحناء» أم مساحيق الوجه البودرة وأحمر الشفتين؟ ما الفرق بين آية الحجاب وآية الخمار، وهل تسري الآية على زوجات النبي فقط أو نساء العالم أجمعين؟ هل الخمار هو القناع يُسدل من وراء ظهر المرأة فيبقى العنق والنحر بلا ساتر؟

دارت معركة حامية الوطيس لمدة ساعتين حول الحد الفاصل بين العنق والنحر. اختلفت الآراء حول مساحة النحر، هل يمتد من العنق إلى أعلى الصدر قبل الشق الفاصل بين النهدين؟

كنت أستمع إلى هذا الحوار (سمَّته إحداهن الحوار الوطني) الساعة وراء الساعة وأنا مندهشة، غبت عن الوطن عامين اثنين فقط لم أتصور أن البطالة زادت إلى هذا الحد. البطالة ليست هي عدم الحصول على عمل فحسب، ولكنها أيضًا عدم الانشغال بشيء هام.

إن معركة الحجاب مثل معركة كرة القدم ليست إلا معارك جانبية ثانوية، ومع ذلك فهي تشغل مساحات ضخمة من تفكير الناس ومن ورق الصحف والمجلات.

وسألني أحد الصحفيين عن رأيي في معركة الحجاب وقلت له: إن أخلاق المرأة القوية (أو أخلاق الرجل) لا علاقة لها بشكل غطاء الرأس أو العنق أو النحر، قد تغطي المرأة (أو الرجل) رأسها بطرحة أو قبعة أو عقال أو «تيربون» ويظل عقلها مشغولًا بأشياء غير أخلاقية.

إن نفاق السلطة الحاكمة عمل غير أخلاقي. إن الانشغال بتوافه الأمور عمل غير أخلاقي؛ لأنه يهدر الوقت والطاقات الإنسانية في معارك وهمية على حين يغرق الوطن في مشاكل حقيقية.

وسمعت واحدة من الفتيات تقول: أنا عاوزة أتجوز وأقعد في البيت، المرأة مكانها البيت حسب الشرع.

قلت لها: إذا كانت المرأة مكانها البيت فلماذا تخرج آلاف أو ملايين الفلاحات المصريات من بيوتهن كل يوم إلى الحقول؟ ولماذا كانت السيدة خديجة زوجة سيدنا محمد تخرج إلى العمل والتجارة وعاش معها عشرين عامًا ولم يتزوج عليها امرأة أخرى حتى ماتت؟

•••

انتصف الليل والحوار لا يخرج عن هذا الجدل العقيم حول المرأة وحجابها وخروجها إلى العمل.

أسئلة عفى عليها الزمن، مثل الجثث الميتة يخرجونها من القبور، على حين يصبح الأحياء مثل الجثث الميتة بلا أهمية لوجودهم أو لمشاكلهم الحية.

في أنحاء متعددة من العالم التقيت بنساء مصريات هاجرن إلى بلاد أخرى أو وُلدن في مكان يبعد عن الوطن آلاف الأميال. لكن القوة الموروثة عن الإلهة إيزيس لا تزال تسري في دمائهن. في أستراليا، في أوروبا، في آسيا، في أفريقيا، في أمريكا الشمالية والجنوبية، في كل مكان أسافر إليه كنت ألتقي بنساء مصريات مرفوعات الرأس والكرامة، شديدات الذكاء، حريصات على العمل المنتج والإبداع. في كل مكان كنت ألتقي بهن. لا يهم المكان أو مسقط الرأس، المهم هو العقل أو الوعي أو الفهم أو انطلاق الفكر فوق حدود المكان، فوق حدود الأرض والخطوط المرسومة على الخريطة.

إحداهن اسمها «منال» وُلدت في سان فرانسسكو في أمريكا الشمالية، من أسرة مصرية هاجرت إلى أمريكا منذ نصف قرن. لم تسمع «منال» منذ ولادتها إلا اللغة الإنجليزية، رأيتها ترهف أذنيها حين تسمعني أنطق الحروف العربية، كأنما هناك في أعماق الذاكرة، في أعماق خلايا الجسد، اللغة كامنة نائمة صاحية متحفزة للصحيان لأي صوت وأي حرف. كنت حين يسألني أحد ما هو وطنك أقول وطني هو اللغة العربية، ولا شيء يعيدني إلى الوطن مهما بعدت وأينما كنت إلا سماع اللغة العربية الحميمة الحانية الحروف مثل قلب الأم.

خلال العامين الماضيين حيث كنت أستاذة زائرة في جامعة ديوك وجامعة واشنطن، وكانت «منال» ضمن طالباتي في جامعة واشنطن وغيرها من الشابات المصريات والعربيات ومختلف الجنسيات، كان الحديث يدور حول إبداعات النساء والرجال في مجالات السياسة والاقتصاد والفن والأدب والفلسفة والتاريخ … إلخ إلخ، عن تنظيم ندوة لتضامن المرأة العربية في المؤتمر الدولي الذي يُعقد في الصين عام ٩٥ تحت عنوان «العلاقة بين قضية المرأة وما يُسمى النظام العالمي الجديد»، وندوة أخرى في الجزائر حول «الاستعمار الاقتصادي والثقافي في اتفاقية «الجات» وعلاقتهما بمشكلات المرأة العربية»، وندوة ثالثة في مؤتمر القاهرة ١٩٩٤ عن السياسة السكانية الأمريكية المفروضة على شعوب العالم الثالث تحت اسم التنمية أو الصحة … إلخ إلخ.

«منال» الشابة المصرية الأصل الأمريكية المولد كانت تصحو مبكرًا كل يوم لتؤدي رياضتها اليومية: الجري أو السباحة أو ركوب الدراجة في الجبال لمدة ساعة، ثم العودة لتبدأ عملها اليومي: الذهاب إلى الجامعة لحضور المحاضرات وإعداد رسالتها عن النظام الأبوي الطبقي في السياسة الدولية. بعد انتهائها من الجامعة تركب دراجتها إلى المطعم في الأفينو الرابع حيث تشتغل لمدة ثلاث ساعات، تتقاضى أجرًا يبلغ ثلاثين دولارًا في اليوم، تدفع منه مصاريف الجامعة وإيجار الغرفة والطعام. نهاية الأسبوع تقضي يوم السبت في مكتبة الجامعة تقرأ وتكتب، يوم الأحد هو إجازتها تخرج في رحلة لتسلق الجبال مع الصديقات والأصدقاء أو تسافر إلى منطقة جديدة تتعرف عليها.

كنت أتأمل «منال» وأتذكر ابنتي «منى» وغيرها من الشابات المصريات، أدرك أن المرأة هي نصف البشرية وهي مقياس حضارة الأمم وهي قادرة على الإبداع والخلق إذا توافرت الظروف والإمكانيات.

قبل مغادرتي الوطن على المطار سألني الصحفيون: ما هي نصيحتك للمرأة المصرية هذه الأيام؟ قلت: ليست عندي نصيحة إلا عبارة واحدة أقولها لها: ارفعي رأسك وارفعي صوتك ولا تستسلمي لأي قوة تعيدك إلى الوراء.

١  الأهالي، ٦  يوليو  ١٩٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤