مقدمة عامة عن نشأة الأدب الأمريكي

من المألوف دائمًا القول بأن الأدب الأمريكي قد نشأ في أحضان الأدب الإنجليزي، حيث كانت أوائل المستعمرات التي أقامتها المهاجرون إلى الأرض الأمريكية في القرن الثامن عشر تابعةً لملك إنجلترا، كما أن معظم المهاجرين كانوا من إنجلترا ذاتها؛ ولذلك فإن الأدب الأمريكي الذي نشأ من ذلك يُعَد من أحدث الآداب قاطبة. وقد أحضر المهاجرون الأوائل معهم أفكارهم عن التاريخ والدين والكتب، وأساسها الكتاب المقدس الذي تمثَّلت قوته في نسخة الملك جيمس المعتَمَدة الصادرة عام ١٦١١م. وبالطبع، قام الحاضر الذي أوجده أولئك المهاجرون على أنقاض ماضٍ ذي ثقافة وحضارة السكان الأصليين، حين فرض المستوطنون على قارة أمريكا الشمالية وعلى ثقافتها طريقتهم في الحياة وفي الحكم، وتاريخهم وآثارهم المسيحية، وعلومهم واقتصادهم وممارساتهم الاستيطانية والتجارية.

وحين توطَّدت أقدام المستوطنين في البقاع التي أقاموا فيها، بدأت التجارب التي مرُّوا بها تتبلور في سجلات مكتوبة عن الاستكشاف وعن الإبحار وجغرافية الأماكن والملاحظات الطبيعية. وهكذا، حين أقيمت أول مستوطنة إنجليزية دائمة في «جيمس تاون» عام ١٦٠٧م، كان لها مُؤرِّخها الخاص بها: الكابتن «جون سميث»، الذي كتب «القصة الحقيقية عن فرجينيا» وأصدره عام ١٦٠٨م في لندن. ثم أصدر كتابه «التاريخ العام لفرجينيا، نيو إنجلاند، وجزائر سَمَر» (١٦٢٤م، لندن)، الذي ملأه بالقصص الغرائبية، ومنها الحكاية الرومانسية الأولى في اللغة الإنجليزية عن إنقاذ أميرةٍ من السكان المحليين (الهنود) هي «بوكاهونتاس» له من الموت على أيدي هؤلاء المحليين.
وتوالى بعد الكتب التي أصدرها سميث قيام آخرين بنشر تجاربهم في الاستيطان والمغامرات التي قاموا بها في سبيل الحفاظ على مستوطناتهم وعلى تنظيماتها. وكان العامل المسيطر على تلك الكتابات هو الروح التطهرية Puritanism، وهي عقيدة معظم المهاجرين الأوائل الذين رغبوا أن يتبعوا تفسيرًا مخالفًا للمراسم المسيحية يعتمد أساسًا على البساطة ونبذ ما اعتبروه دخيلًا على الروح المسيحية الحقة. وهكذا ظهر كُتَّاب على نفس شاكلة «جون سميث»، مثل «وليام برادفورد» الذي كتب عن «مزرعة بلايموث»، و«جون وِنثروب» حاكم مستعمرة خليج ماساشوستس، و«كوتون ماذر» وهو أشهرهم وأهمهم الذي تُعتبر كتبه ذروة السجل الاستيطاني في الأرض الأمريكية الجديدة.

وبعد ذلك، بدأ المستوطنون في التفكير بإيجاد أسلوب أمريكي خاص بهم في التعبير الأدبي والتاريخي، وإن كانوا لا يزالون يدورون في فلك الحقبة البيوريتانية. وكانت القصائد الشعرية موجودةً في خدمة الدين والشعائر، حتى ظهور «مايكل وِجْلزورث» بقصيدته «يوم القيامة» (١٦٦٢م)، التي — وإن كانت في وصف يوم الدين بالتفسير الكَلْفيني البروتستانتي — كان بها كثافة درامية جعلت منها قراءةً رائعة للكثيرين من الأفراد برغم موضوعها النذيري. وقد ساعدت القصيدة على ظهور الشاعرة «آن براد ستريت» التي يعتبرها مؤرخو الأدب أول شاعرة في اللغة الإنجليزية، التي أصدرت أوَّل مجلد من «الشعر الأمريكي» في عام ١٦٥٠م بعنوان «ربة الشعر العاشرة التي ظهرت مؤخرًا في أمريكا».

واستمرت الكتب الصادرة في أمريكا تدور حول تجرِبة المستوطنين التطهريين مع البرية والصراع مع «الهنود»؛ أي السكان المحليين، مع إضفاء مسحة دينية على تلك التجارب وذلك الصراع. واتخذت القصص التي تُعبِّر عن ذلك شكل «الأليجورية»؛ أي القصة المجارية، على نمط الأليجورية الإنجليزية المشهورة «رحلة الحاج» لجون بنيان.

ومع ذلك، فمع بدايات القرن الثامن عشر، كانت روح «نيو إنجلاند» تلك آخذةً في التغيُّر؛ فقد بدأت ملامح مع الأمور الدنيوية Secularism تلوح في كتابات البيوريتانيين، مثلما ظهر في «يوميات» «صمويل سيووال» الذي بدأ قَسًّا ثم عمل بالتجارة، ثم أصبح قاضي قضاة ماساشوستس، بيوريتانيًّا صرفًا، وقد كان قاضيًا في محاكمات الساحرات الشهيرة في «سالم»، بيد أنه قد أنكر دَوره في تلك الحادثة بعد ذلك، معتبرًا ذلك من قربات الله التي جعلته يتحمَّل اللوم والعار بسبب دوره ذاك.

وكانت الروح الجديدة في أمريكا واضحةً أكثر خارج حدود نطاق «نيو إنجلاند». ومن كُتاب تلك الروح كاتب اليوميات «وليام بيرد الثاني» من فرجينيا، الذي رحل إلى إنجلترا وتعلَّم اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية والإيطالية، واختلط بنُبهاء إنجلترا في عصر عودة الملكية، وجلب معه عند عودته إلى أمريكا عام ١٧٠٥م آثار كتابات «كونجريف» و«سويفت» و«بوب». وقد تراوحت كتاباته ما بين وصف الطبيعة إلى الأحداث السياسية. وقد سطَّر «اليوميات السرية» (١٧٠٩–١٧١٢م) على طريقة الإنجليزي «صمويل بيبس»، على نحوٍ مُشفَّر خاص به، ولم تُكتشف وتحل رموزها إلا عام ١٩٤١م.

وقد جاء «القرن الثامن عشر» بعصر العقل، وتحوَّلت الفلسفة من اللاهوت الجامد تجاه العلوم الطبيعية، وبدأت قيم الطبيعية الأخلاقية والليبرالية والتقدُّم تصبح تدريجيًّا الوسائل المناسبة لتفسير التجرِبة الأمريكية. وظهر ذلك جليًّا في عقليتَين متميزتَين أثمرهما ذلك القرن، هما «جوناثان إدواردز» و«بنيامين فرانكلين». وقد عمل هذان الرجلان على تحقيق التغييرات التي شهدها الفكر الأمريكي والتنوُّع الذي شهده ذلك الفكر. وقد مثَّلا المبادئ المتناقضة للحياة الأمريكية في القرن الثامن عشر؛ فواحدٌ منهما مثالي، والآخر مادِّي، الأول واعظ بيوريتاني يعمل في نيو إنجلاند وفي الولايات الحدودية، والآخر ناشط سياسي يعمل للتأثير في مسار العالم الغربي. وقد اجتمع هذان النقيضان كيما يُشكِّلا الاستمرارية الأساسية للثقافة الأمريكية التي قدَّماها إلى الأجيال المقبلة.

ومع إسهامات «بنيامين فرانكلين» الأدبية، المتمثلة أساسًا في سيرته الذاتية، فقد استمرَّ الأدب الأمريكي متابعًا للتيارات الأدبية السائدة في إنجلترا. ومع حرب الاستقلال وما تلاها، كان نصَّا «إعلان الاستقلال» و«الدستور» عملَين رئيسيَّين من الإنجاز الفكري، وعملا على بدء تيار من محاولة خلق فكر وأدب خاصَّين بالأمة الناشئة. وتركَّز ذلك مبدئيًّا في الخطابة البلاغيَّة التي سادت اجتماعات المؤتمرات التي ناقشت الآليات والمؤسسات اللازمة للاتحاد الجديد. بيد أن الكتابات التي نتجت عن هذه الأنشطة كانت سياسيةً تُعنى بتكوين الجمهورية وعلاقة الولايات بعضها ببعض، أكثر منها أدبية.
ولم تتضح ملامح أدب أمريكي جديد إلا في عام ١٨١٩م، حين نشر واشنطن إرفنج أول حكاية شعبية أدبية أمريكية وهي «رِب فان ونكل». وهكذا صاغت الثورة والاستقلال أوضاعًا وأحوالًا جديدة وتربة مُهيئة لظهور الثقافة الأمريكية المتميِّزة، ومن ثم ظهر «جيمس فنيمور كوبر» و«ناثانييل هوثورن» و«هنري جيمس»، ومن بينهم مشاهير الكُتاب والمؤلفين من روائيين وقَصاصين وشعراء ونقاد أدبيين، ومن جاء بعدهم ممَّن شادوا الآداب والثقافة في أمريكا — وأثرها في الآداب والثقافة العالمية — حتى يومنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤