ساعة مع عيلة غريبة

الأشخاص

  • متاتياس: ماليٌّ من رجال البورصة.
  • أغابي: زوجته يونانية الأصل تظهر اللكنة الأعجمية في لفظها.
  • مدام سالم: أخته الكبرى ضيفة عنده مع زوجها.
  • الدكتور سالم: صهر متاتياس.
  • سميحة: أخت متاتياس الصغرى. عزباء تسكن معه. وقد تُوفيت والدة هؤلاء الأخوة الثلاثة على إثر ولادة سميحة.
  • شفيق: طالب في مدرسة الحقوق، أديب وموسيقي، أخو متاتياس لأبيه، وقد تُوفيت والدته كذلك بعد وفاة أبيه، يصغر سميحة بعامين أو أكثر قليلًا.

المكان

منزل فخم في رمل الإسكندرية.

الوقت

بُعيد الساعة التاسعة صباحًا.

متاتياس (جالس أمام المائدة يتناول طعام الفطور وإِلى يمينه زوجته، وإلى شماله شقيقتاه مدام سالم وسميحة. يتحادثون عن أشياء عادية كالمغص الذي تألم منه الولد، والخصام بين الخدم، والمخصر على طاولة البكارا البارحة، وكم ربح الجيران من مدخول البوكر في الشهر المنصرم … إلخ. يدخل شفيق بلا تسرُّع ويجلس بهدوء في مكانه قرب سميحة. متاتياس يرقبهُ بشيء من الاستياء ثم يتنحنح ليجلو صوته ولينذر السامعين بأنه سيقول شيئًا خطيرًا، مخاطبًا شفيق) : صحِّ النوم!
شفيق (بعد سكوت قصير) : لم أكن نائمًا، أنا آتٍ من حمَّام البحر.
متاتياس : من حمَّام البحر؟ إذن هذه الليلة لم تنم كعادتك؟

(شفيق يصب القهوة في فنجانه معرضًا)

إذن تريد أن تنتحر انتحارًا؟ أتظن أني سأحتمل هذا طويلًا دون أن أدعك تشعر بأن لك مَن يسيطر عليك؟ في الليل بدلًا من أن تفعل كسائر الخلائق فتسهر في تياترو أو في سينما …
شفيق (مقاطعًا بأدب) : وهل من شروط الخليقة أن تسهر

(مفخِّمًا اللفظة)

الخلائق في تياترو أو في سينما؟
متاتياس (دون أن يلتفت لمقاطعته) : … أو معنا نحن أهلك؛ فإنك تذهب إلى مجتمعات الدعوى، والكلام الفارغ، والعقول المرقَّعة التي تسميها أندية الأدب والمناقشة والخطابة

(أغابي ومدام سالم يتبادلان إشارة أسف وتتنهدان عاليًا جدًّا)

وتعود بعد نصف الليل إلى كتبك الشيطانية كأن نور النهار لا يكفي لإضعاف بصرك وإتلاف صحتك وتقصير حياتك …
أغابي (تتنهد مرة أخرى) : يا سلام!
متاتياس (ينظر إليها شزرًا لجرأتها على مقاطعته ويتابع متغيظًا) : كانت غرفتك منارة عند الساعة الثالثة، فمتى نِمتَ ومتى استيقظت؟ ألا تعلم أن الكتب لم يتاجر بها متاجرٌ إلا وجنَّنتهُ وأفقرته؟ أتريد أن تعيش مستعطيًا ذليلًا؟ ألسنا نحن أفضل من هذه الوريقات عدَّة إبليس؟ أليس مجلسنا أهلًا لك حتى تقضي الساعات مسجونًا في غرفتك، وعندما تخرج إلينا لا تعطينا غير الدقائق التي تقضيها على المائدة؟ أهكذا يصطاف الناس، أهكذا يتنزَّهون ويعيشون؟ أتعلم أن أمرك صار يشغلني إلى درجة القلق؟ ساعدك الله على حياتكَ كيف تكون!
شفيق (يحرِّك السكر في فنجانه بهدوءِ ويحتمل هذه الوعظة بتجلد مَن اعتاد سماعها، يتكلم بأدب ورصانة) : يسوءني أن أكون سببًا لإزعاجك. ولكني لا أستطيع تغيير فطرتي. ثق بأني لن أفعل ما يؤذيني، بل أتمتع بحريتي باعتدال. أحب أن أشعر بأني حرٌّ مطلق الحرية.
مدام سالم (تشهق متعمِّلة التعجب والغيظ) : أخوك يريد خيرك وينصحك وأنت تقول له «أنا حرٌّ»؟ نجِّنا يا ألله من أولاد الجيل الجديد دا!
أغابي : دا إيه دا يا شفيق؟ إنت تبقى حر إزَّاي؟
شفيق (متألمًا في ذكائه لمناقشة هذه الرءوس الخاوية) : ها قد ابتُلينا بموضوع جديد! وهل كلمة «أنا حر»، هذه الكلمة التي تُثبتُ وجود الإنسان أمام الوجود، هل هي أثيمة إلى هذا الحد؟ إنَّ لي ذوقي وميولي ومطالبي ورغباتي وكلها تختلف عن ذوق أخي وميوله ومطالبه ورغباته. لا يعني هذا أني أفضله أو أنه يفضلني. كلُّ طبيعة حسنة منسجمة في ذاتها. ولكنه عندما ينصحني ويعنفني يقدِّر أني مثلهُ تمامًا، ويجردني من نفسي، ولا يتصوَّر أني أختلف عنه كل الاختلاف، فحبذا لو تفاهمنا مرة واحدة ووضعنا حدًّا لمثل هذه المناقشات. لكلٍّ منَّا فطرته وحريته، ولي حريتي وأريد أن أتمتع بها.
مدام سالم (وقد طفح كيل تعجُّبها) : يا ابني دا أخوك. يكبرك بعشرين سنة. دا رباك زي أبوك. دا هوَّ احتضنك ورباك. وأنت مخطئ تتبع سبل الضلال، ولما يجي ينصحك تقوم أنت تتجاسر تقول له «أنا حر!»
شفيق (متتبعًا باهتمام تحنِّي هذا المنطق الأعوج) : مَن يسمعكِ قائلة إني أسير في «سبل الضلال» يحسب أني …

(يصمت فجأة؛ إذ يأنف متابعة جدال كهذا، ثم يقول بشيءٍ من المرارة)

تلومونني لأني لا أطيل الجلوس معكم، وهل من عجبٍ وكل جلسة كهذه الجلسة؟
متاتياس (يتنحنح كعادته ليقول شيئًا خطيرًا) : وكم دفعت ثمن الأرغن الذي جئتَ به البارحة؟
شفيق (بتأدب) : هذا أمر لا يعني غيري.
متاتياس (يغضب حقيقة هذه المرة) : شئونك المالية لا تعنيني؟
شفيق (ينجح في أن يكون هادئًا كالأول) : إنها لا تعني غيري في هذا الموقف؛ لأني ابتعتُ الأرغن بما توفر لديَّ من مصروفاتي الشهرية. وأنا حرٌّ في أن أشتري آلة موسيقية تسرني ولا تؤذي أحدًا.
مدام سالم : هو «حر» من جديد. هو «حر» كل مرة.
متاتياس : ألست مجنونًا؟
شفيق (يهز كتفيه) : قد أكون مجنونًا لأني لست مثل …
متاتياس (متممًا فِكرَ شفيق) : مثلنا نحن، أليس كذلك؟ نحن عقلاء نعمل كجميع الناس، ونجتمع بالوجهاء أمثالنا، وألعابنا ومسراتنا معقولة معتبرة، كما أن أشغالنا شريفة كثيرة الأرباح. أما أنتَ فانظر إلى ما تفعل واذكر مَن تعاشر. وأنا أريد أن أصلحك رحمةً بك وخوفًا على مستقبلك فتقبل نصحي كالمجنون الأحمق.
شفيق (بهدوءٍ حزين) : حدثني عن رحمتكَ … إني حتى الساعة لم ألمح خيالها …
متاتياس (يتكلف الشفقة المتناهية) : وماذا ينفع الذكاء والدرس إن لم يقدهما النصحُ والرأي؟ اعلم أيها المغرور، أنه كما قال الشاعر العربي

(بفخامة وتأنٍّ في الألفاظ)

«الرأي قبل شجاعة الشجعان.»

(شفيق ينظر إلى أخيه بعينين واسعتين دهِشتين وفيهما خيال الضحك، فتهمس لهُ سميحة بسرعة: «لا تدهشنَّكَ هذه الفصاحة الفجائية! هذا عنوان إعلان تجاري رآه في جريدة هذا الصباح قرب أخبار البورصة.» هنا ينهض متاتياس بعظمةٍ تتبعه زوجته ومدام سالم ويتجهون نحو الباب. وعندما يصل متاتياس قرب أخيه يتهكم قائلًا: «ابقَ على حريتك لنرى إلى أين تقودك.» ثم يخرجون وشفيق مهتم بملس الزبدة على كسرة خبز في يده. وبعد أن يبتعد وقع أقدامهم يجيل النظر فيما حوله فيرى أنه وحده، فيحمل فوطته ويلوِّح بها في الفضاء كمن يطرد الذباب، فيسمع صوتًا يتكلم وراءه ويلتفت فيرى الدكتور سالم مشيرًا نحو الشرفة حيث سميحة تسقي الأزهار.)

الدكتور سالم (مخاطبًا سميحة) : أتسمحين لي بفنجان قهوة صغير؟
سميحة : أسمح بفنجان قهوة كبير.

(تدخل من الشرفة وتدنو من المائدة.)

الدكتور : أشكر لكِ كرمًا لن أتمتَّع به. يجب أن أذهب إلى المدينة في الحال.

(مخاطبًا شفيق)

كيف الحال يا سي شفيق؟
شفيق : في الحياة أمراض لا يداويها الطبُّ يا دكتور.
سميحة (بعطف أكيد) : لقد أنهكوا قوى هذا الولد المسكين.
الدكتور (يشرب القهوة واقفًا) : كدا؟ وأي ذنبٍ جنيتَ يا كثير الذنوب؟
شفيق : هو الذنب الأكبر الذي لا ينتهي. وهل ينتظرك في المدينة مريض ما؟
الدكتور : لا تغير الموضوع. أخبرني عن ذنبك الجديد.
سميحة : سهر البارحة في النادي. وظلَّت غرفتهُ مُنارةٌ حتى الساعة الثالثة صباحًا. وابتاع أرغنًا. وقال إنه «حر». هذه قائمة الذنوب الجديدة.
شفيق (لا يلتفت إليها) : ذنبي الذي لا يُغفر هو أني لست طفلًا. أريد أن أفتكر بنفسي، وأعمل لنفسي، وأعتمد على نفسي. وهم يقذفون عليَّ بآرائهم ونصائحهم في كل حين. وما هي قيمة الرأي يا تُرى إن لم أطلبه أنا؟ وقد أطلبه وأسمعه دون أن أتبعه. ثم إذا استشرت غيري كل خطوة فكيف أعرك الأمور فأخطئ هنا وأصيب هناك، وأكتسب من الفشل والنجاح اختبارًا هو في الحقيقة أكبر وأقدر ما يقود المرء في هذه الحياة المتشعبة السبل؟
الدكتور : الرأي حسن يا شفيق، عندما تطلبهُ وتكون في حاجة إليهِ.
شفيق (متحمسًا) : حسن في هذه الحال وقبيح فيما عداها. عندما أقصدكَ مستشفيًا أعلم أنك تستطيع شفائي فأذعن لأوامرك وأقبل نصائحك. وعندما أسألك رأيك أعتبرك قادرًا على وضع نفسك مكاني والشعور معي، حقيقًا بأن تقودني في طريقٍ سلكتها واختبرتها قبلي. ولكن ما قيمة الرأي عند غير أهله؟ كيف يرشدني في الموسيقى مَن لا يتقن إلا التجارة؟ كيف يصلح أغلاطي اللغوية مَن كان صحيحه مغلوطًا؟ كيف يعلمني الصينية مَن لا يعرف عدد حروفها؟ ثم كيف هو ينهاني عن قيادة زورق حياتي كما أريد؟ عجبًا! أَأُلامُ لأني لا أقضي لياليَّ حول الطاولة الخضراء، ولا أصرف نهاري بين سباق الخيل، وصيد الحمام، وحانات الرقص والشراب؟ كنتُ وما زلتُ أعتقد أن مَن كانت هذه حياته حقَّ عليه الملام، وها أنا الذي أطلب الهدوء والوحدة أُقابل بالشغب والعبوس.

(يصمت آسفًا لأنه تكلم، إلا أن الكلام يعود متدفقًا من شفتيه)

يُعيرني أنه رباني صغيرًا. والله يعلم كيف رباني! إنه أدخلني المدرسة، وهل كان بوسعه أن يفعل أقلَّ من ذلك! ويقول إنه بمثابة الأب لي، فأي حنوٍّ وطَّد هذه الأبوَّة؟ كنت أقضي في المدرسة شهورًا طويلة دون أن أراه، وإذا زارني هو و… وهنَّ حملوا إليَّ الحلوى واللعبات وكل ما تجلبه الدراهم، ولكنهم لم يكونوا ليعطوني منهم شيئًا. الدراهم أورثنيها أبي مثل ما أورثهم. أما قلوبهم فكانت مختومة كالقبور. كنت أبكي — أتسمع يا دكتور؟ قلتُ أبكي — كنت أبكي عندما أرى رفاقي في أحضان ذويهم محبوبين مدللين، أما هو فكان يأتي ويذهب بلا قبلة عطف، بلا كلمة محبة، بلا نظرة اهتمام لليتيم الصغير الذي كنتهُ. وكم كنت مستعدًّا لأحبه! وكم كنت أتمنى أن يتركني أحبهُ دون أن يجمد قلبي! ولو علمت اليوم أنه ينصحني مهتمًّا مخلصًا لسعدتُ بالتنازل عن رأيي وسارعت إلى إتيان ما يشتهي. ولكنه ينصحني ليجعل لنفسه أهمية وليذلني، ولو أَذْعَنْتُ لكلامه لحظة ما تأخر عن تغييره في اللحظة التالية.

(يتنهد)

لا أستنشق في هذا البيت غير هواء المقت والكظيمة. إنهم ينظرون إليَّ كدخيلٍ مغتصب. وهذه أمراض عضالة لا تستطيع معالجتها يا دكتور.

(تلتقي عيناه بعيني الطبيب وهو ينظر إليه طويلًا بعطف يشبه المصادقة، فيهز رأسه فجأة ويحاول الابتسام)

أستمحيك عفوًا فقد مزجتُ قهوتك بالشكوى.

(يهز كتفيه)

ما أحقر الشكوى وما أحقر الشاكي!

(يتغلب على نفسه ويرسل زفرة عميقة)

انتهى يا دكتور.
الدكتور (متجهًا نحو الباب) : نصحي إليك، وإن كرهتَ الناصحين، أن تخرج من نفسك بقدر الإمكان. إن عكفك على ذاتك يزيد عواطفك رقةً وتهيجًا. احتك بالناس، اسمع ثرثرتهم، شاركهم فيها، اخرج إلى الهواء الطلق، تعاطَ الألعاب الرياضية. العب، العب، كن من أبناء جيلك لئلا تتعذب كثيرًا.
سميحة (تغمز ضاحكة) : سلمني مريضك فأمرِّضه يا دكتور!

(إلى شفيق)

تعالَ معي إلى الهواء الطلق! تعالَ وكن رابع رفقائي في دور «التنس» هذا الصباح!

(يخرج الطبيب مسلِّمًا ويحاول شفيق اتباعه فتسد سميحة الطريق قائلة):

لا تذهب هكذا. لئن ساءني أن أراك غاضبًا فإنه يحزنني أن أراك حزينًا. وعندما يضايقونك يضعف احتمالي وينفد صبري.
شفيق (ببرود) : يحزنكِ! يسوءك! إنك مثلهم جميعًا.
سميحة : ما أجهلك بي! لماذا لا تنظر إليَّ؟ لا أدري أأنت محقٌّ أم متاتياس، ولكن ميلي معك.
شفيق (بلا اكتراث ودون أن ينظر إليها) : عجائب!
سميحة : لو علمت أني في حاجة إليك، وأني شقية مثلك في هذا البيت لما كلمتني بهذه اللهجة.
شفيق (يتكلف الاهتمام التمثيلي) : شقية أنت بين حمَّامات البحر، ولعب الكرة، والسهرات الراقصات، والسينما، والتياترو، ومغازلة أبناء الوجهاء أمثال أخيك؟ تعزي بالأثواب الجديدة، والقلائد الكثيرة، والكعاب الطويلة، تعزي ولا تحزني!

(ينظر إلى ساعته)

مضى الوقت أرجوك أن تدعيني أخرج.
سميحة (بتأنٍّ) : قلت إني في حاجة إليك.
شفيق (يخرج من جيبه مفكرة وقلم رصاص) : صحيح، نسيت؛ بماذا تريدين أن أجيئكِ من المدينة …

(منتظرًا أن تتكلم ليكتب)

بودرا؟ خضاب؟ عطر؟ زهور؟ شكولاتا؟ أي شيء؟
سميحة (يظهر الحزن في وجهها. وتفسح له الطريق قائلة) : لك أن تخرج.
شفيق (يخطو العتبة وهناك يتردَّد ذاكرًا خشونته. ثم يلتفت ويعود نحو سميحة وينظر في وجهها متمتمًا ما يشبه الاعتذار) : إنك لا تنقمين عليَّ، أليس كذلك؟
سميحة : وماذا يهمك؟
شفيق : لا يهمني! لقد هنتُ على الآخرين فهانوا هم عليَّ. لا يهمني شيء.
سميحة : فهمتُ أني لا أهمك، وأنك لا تريد أن تعتني بأمري، أَعُدتَ لتقول هذا؟
شفيق : عُدتُ لأقول …

(بترددٍ)

أراكِ غير راضية.
سميحة : حقًّا لستُ راضية. إني شقية.
شفيق (لا يريد أن يتأثر) : لستِ جادَّة.
سميحة : وهل من شقاءٍ أوفر جدًّا من أن تقصد زوجة متاتياس أن تزوجني لأحد أقاربها واسمه خريستو بوبو لاندو بولس.
شفيق (يرفع يده كمن يقي رأسه لطمة) : يا حفيظ! ما كل هذا؟
سميحة : كل هذا اسم واحد.

(يائسة)

اسم يملأ بطاقة الزيارة من أولها إلى آخرها.
شفيق (مواسيًا) : هوِّني عليكِ! وماذا يقول متاتياس؟
سميحة : وماذا يُنتظر من رجلٍ لا قيمة عنده إلا للمال، وكل اسمه متاتياس؟
شفيق (يضحك) : لست أدري لماذا أعطوه هذا الاسم.
سميحة : يظهر أن ابن جارة يونانية لنا كان يُدعى به. وربما كان نبوءَة بأنه سيقترن بامرأة يونانية من ذوي قرباها خريستو بوبو لاندو بولس هذا.
شفيق : ممكن

(يضحك ثم تعود إليه هيئة التفكير شيئًا فشيئًا)

إذن تتخوَّفين الإرغام؟ أيزعجك الإرشاد المتتابع، أم في هذا القلب الصغير شيء آخر؟
سميحة : أنت طيب كجميع الرجال الأذكياء.
شفيق (يتفحص وجهها بدقة) : وكيف عرفتِ جميع الرجال لتعلمي أن الأذكياء منهم …
سميحة (مشرقة الوجه) : أعرف الجميع لأني أعرف واحدًا.

(تهز رأسها لتخفي خجلها)

وأنت أخبرني أسرارك: بين الكثيرات المفضلات على الكثيرات، والقليلات المفضلات على الأخريات، ألا يوجد واحدة …
شفيق (يأتي إشارة مبهمة ونظره، يتبعُ خطوط حلمٍ بعيد) : ليس هذا من شئون الفتيات. وساروفيمك هذا من أبطال «التنس»؟
سميحة : إن ذكاءك لمدهش! هو زميلي وقد غلبتهُ مرات مع أنه لاعب ماهر.
شفيق : وقد نال حظوة في عينيك لأنه لاعبٌ ماهر أم لأنه مثَّل دور المغلوب؟
سميحة (تحلم) : لستُ أدري. إنه يجذبني خصوصًا ونحن وحدنا في الليل على شطِّ البحر.
شفيق (متبرمًا) : وحدكما على شطِّ البحر، وفي الليل، ما هذه الحكاية؟
سميحة (تتغير ملامحها وتجللها الهيبة والعظمة) : هناك عطفة تؤدي إلى الشط حيث طائفة صخورٍ لها صور الضواري وأشكال الكواسر. ينبسط أمامها البحرُ بمروجهِ المائية وتنهده العميق الفسيح. هناك تحت عيون النجوم أجلسُ على مقربةٍ منهُ، أجلسُ في حماه، فيتناجى هو والبحر صامتين وأظلُّ حابسةً أنفاسي لأستمع لنجواهما.
شفيق (مأخوذًا بهذا الشيء الجديد الذي لم يعهده فيها) : أشاعرة أنتِ! حقًّا إن المرأة لغزٌ.

(ولكنه يعود إلى ما يشغله)

ومن ذا الذي اكتشف هذه الخلوة؟
سميحة : ومن ذا الذي يصنع الأعاجيب غيره؟ اكتشفها وقال «تعالي» فذهبت.
شفيق (غير مسرور) : أيكفي أن يقول «تعالي» لتذهبي؟
سميحة (تملأ عينيها مشاهد بعيدة) : يكفي أن يقول «تعالي» لأذهب.
شفيق (جادًّا) : أنصحك ألا تذهبي بعد الآن.

(سكوت قصير. ثم يقول آمرًا وبقوة هادئة)

لا أريد أن تذهبي. أتفهمين؟
سميحة (تعود إلى خفتها الأولى. مقلدة صوته) : «نصحي إليك ألا تذهبي» «لا أريد أن تذهبي»

(ثم بلهجة خطابية فخمة وإشارة تمثيلية واسعة)

اصغي خاشعة أيتها الشعوب، فإن أخا متاتياس يتكلم!
شفيق (متغلبًا على نفسه لا يريد أن يضحك) : اسمعي يا بنيَّة. أنت لا تعرفين هؤلاء الشبان ولا تسمعين ما يتبجَّحون به بعضهم أمام بعض. يكفي الواحد منهم أن يعرف فتاةً معرفة سطحية وأن تكون علاقته بها اجتماعية محضة، فتجامله مجاملة تقضي بها الاصطلاحات، بل قد يكفي أن يراها مرةً واحدة ليذكرها بلهجةٍ توهمُ أنه واقف على جميع دخائلها. لو علمت النساءُ جميع التعليقات، والملاحظات، وأنصاف الابتسامات، وأنصاف النظرات، وصنوف الكلام، وصنوف السكوت الخبيثة التي يشفعُ بها ذكرهنَّ أولئك المتملقون! آه لو علمت النساء الغافلات!
سميحة : شرير منكَ أن تعمد إلى الوشاية.
شفيق : هذا هو الواقع مع الأسف.
سميحة : قد يوجد بين الرجال كمن وصفتَ ولكن هو لا يشبههم.
شفيق : كلُّ امرأةٍ تُكْبِرُ بطلها وترفعه فوق الآخرين. أقول لكِ إنه يكفي أن يصافحها …
سميحة (بلهجة الغالب) : وأنا أقول لك إنه لا يصافحني.
شفيق (مرتابًا) : ألا تصافحينهُ قبل «التنس» وبعده؟
سميحة : أصافحه وقتئذٍ، وأصافحهُ كلما اجتمعت به في الأندية العامة كما أصافح غيره من معارفي. أما في تلك الخلوة القدسية فلا.
شفيق : أهي معاهدةٌ بينكما؟
سميحة : تعاهدنا ولكن بغير كلام.
شفيق : لم تتصافحا البارحة، أما الغد فمن يضمنهُ؟ لو مدَّ لك يدهُ وقال «ضعي يدك هنا» فماذا أنت فاعلة؟
سميحة (لا تريد أن تتخيل ذلك) : هذا غير ممكن. هذا مستحيل.
شفيق : ولكن هي لحظة أن المستحيل ممكن. لو مدَّ يده غدًا وقال

(يلفظ الكلمات بتأنًّ متعمدًا)

بلهجة قوله «تعالي»، لو قال بتلك اللهجة «ضعي يدك هنا» فماذا أنت فاعلة؟
سميحة (حائرة حزينة) : أتركهُ، أهرب، ولا أعود ألتقي به.

(ترفع رأسها مفاخرةً)

غير أن الرجل الذي أحتمي بحماه لا يُحوجني إلى الهرب.
شفيق : كم تحبينهُ!

(سميحة تضطرب كأن هذه الكلمة لمست من نفسها مكانًا مؤلمًا فتسبل أجفانها وتسح دموعها ببطء، شفيق يتأملها.)

أإلى هذا الحد؟
سميحة (تفتح عينيها فجأةً وتسأل بحرقة) : شفيق، قل لي: أتظن أن فتاة مثلي، فتاة عادية مثلي، تستطيع أن تسعد رجلًا حادَّ الذكاء؟
شفيق (يبتسم بحلم) : أرى جميع أعراض المرض بادية. وأراك ككل امرأة تبالغين في قدر مَن تحبين.

(يسكت متأملًا)

أتمنى أن يكون هذا الغلام أهلًا للكنز الذي هو أنت.

(ثم معاتبًا ومداعبًا معًا)

وهكذا أفقد أختي ساعة أجدها! إذا سرق هو كل شيء فماذا يبقى لي؟
سميحة : في صدر المرأة قلوب يا فيلسوف، وعلى كلٍّ أن يجد القلب الذي يخصه.

(عائدة إلى الموضوع الرئيسي)

خلاصة كل هذا أني أتكل عليك في دحر متاتياس وخرستو بوبو بولاند بولس وشركائهما.
شفيق : سندحرهم! ومعنا الدكتور سالم الذي أحترمه؛ لأنه ليس على وفاق مع أختك زوجته … مسكين! أما سهراتك أنتِ على شط البحر فسيكون لك مَن يرقبها ويحرسها … يا لعناد النساء! وفي ما عدا ذلك سندحرهم، ولنا الفوز المبين!
سميحة : آمين!

(تمضي باحثة عن صولجان «التنس» وشبكته وتنشد)

«يا ليلة يا بيضا يا نهار سلطاني»

(ثم تغادر الغرفة بخطوات خفيفات راقصات).

شفيق (يخرج إلى الشرفة منتظرًا مرورها في الحديقة وعندما يراها ينحني قائلًا) : سلِّمي عليه!
سميحة (تتظاهر بعدم الفهم) : أي شيء؟

(ثم تضمُّ أصابعها وتدنيها من شفتيها وتقول):

ما أحلى اسمك يا شفيق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤