ذكرى قلعة بعلبك

كُتبت في أواخر سنة ١٩١١
معبد للأسرار قام ولكن
صنْعه كان أعظم الأسرار
خليل مطران

تحرَّك القطار صباحًا في محطة بيروت وهو يهدر ويزمجرُ ويقذف دخانًا كثيفًا أثقل الهواء وترامى على صفحة الأمواج فعكَّر صفاءها. وما فتئ زئيرهُ الهائل كزئير الأسود يترددُ في جوانب الفضاء حتى كاد الصدى منه ينتهي إلى أخربة بعلبك هامسًا «لقد سبقتُ الآخرين لأهزأ بكِ، يا أشباح البلى، أهزأ بك في نقمتي على أُناسٍ يستخدمونني أنا إحدى آيات الاختراع الحديث ليزوروك، أنتِ رمال الليالي الغاديات وبقايا الأيام الخوالي.»

وما لبث أن أسرع القطار في سيره ملتويًا بين الأشجار، وكأن سخطه هدأ تحت قبلات نسيم الجبال فخفَّ زئيرهُ، وتدرَّج متسلقًا أكتاف لبنان يتركُ محطة ويمرُّ بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمَانا، ذلك الوادي الذي قال فيه لامرتين إنهُ أجمل أودية العالم القديم. هناك تتطوَّى التلالُ كالأقمشة الحريرية وتمتد لمداعبة أطراف الجبال المحاذية، تتناسق بينها دوائر أظلَّتها الأشجار، وتتخللها القرى ذوات المساكن البيضاء متوَّجة بالقرميد الأحمر. وهناك، هناك على الشاطئ البعيد، ربضت الآكام كأسود تحمي بحرًا بسط لديها زرقتهُ الفسيحة وارتفع عند الأفق كمن يستمدُّ من الجوِّ نعمةً ما. هذا وبيروت تستوي على شفة البحر استواء المليكة على عرشها.

ثم أخذ القطارُ ينحدر إلى سهول البقاع وقد قامت على جانبيها سلسلتا جبال لبنان وانتي لبنان كما تحدق أسوار الدهر بمروج الأبدية. وبعد السير في السهل نحو ثلاث ساعات تراءى لنا في عصارى النهار طيفُ مدينة «باعال» يحيط بها نطاق سندسي من شجر الفاكهة والحور الرجراج، وتتعالى فوق المنازل منها والحدائق أعمدةُ هيكل الشمس بقدودها الهيفاء. أعمدة ستة هي كل ما سلم في وسط ذلك التهدُّم، وكأنها من أبعادِ وحشتها تنادي المسافر قائلة: «تعالَ انظر إليَّ أي هذا المارُّ، فهل عرفت حزنًا أشد من حزني؟»

بقيةٌ عظيمةٌ من عظمةٍ بائدة، حيالها أضخم الأشجار أعشاب، ذاك هو شبح الماضي المحاول تخليد الأصنام المعبودة … وثلوج لبنان التي رأت يومًا من مدينة الشمس أبراج العزِّ متعالية في الفضاء، تطلُّ الآن من شاهق «فم الميزاب» و«ظهر القضيب» مستفسرة عن سرِّ هدم المعابد والأبراج.

منذ ألوف الأعوام والثلوج تتراكم على هذه الذُّرى، فالشمس تشرق ثم تغيب، والصيف يأتي ويذهب الشتاء، وقلعة بعلبك موحشة في عظمتها المحطمة، بينا ثلوج لبنان تطل عليها مستفهمة أيُّ خطبٍ جرى ولكنها لا تفهم.

•••

تجسَّم حزني وجثا عند أعتاب القلعة باكيًا. ولست أدري أبكي هناك أسفًا على أعجوبة الدهور أم اكتئابًا لمشهد درجات أوجدتها هناك يدُ الغريب.

عند مدخل هذا الهيكل الذي ألقت أسسه شعوب شرقية جاء الأجنبي يضعُ درجات توصلهُ إلى معابد الشرق القديم. مشهد أفعم نفسي غمًّا كأن هذه الحجارة ثقُلت عليَّ لأنها دليل تدخُّل الغربيِّ في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا. وكان أحرى به أن يتركنا وتراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده عاملة للترميم والإصلاح، ومدنسة ما قدَّستهُ دهور البلايا وعزَّزته بلايا الدهور.

دخلتُ أمشي الهوينى بين أكوام الأخربة وبقايا الأبنية، بين الأعمدة المطروحة على الحضيض كالعمالقة ورءوس الأسود المتعانقة في تهشمها عناقًا أبديًّا، بين آثار شعب لاحق تختلطُ بآثار شعب سابق، والتراب يتراكم في كل مكان مجتمعًا في الأفاريز المرضضة والنقوش المحفَّرة. مشيت في عالمٍ مشوَّهٍ من البدائع الفنية دهشة كيف سطا الزمان عليها، كأنها غابةٌ هاجمتها الزوابع فكسَّرت منها الأشجار، واقتلعت الأصول، وتركت الأغصان ملقاةً على حضيض الهواء.

أين من هذه الضخامة والمتانة قصور عصرنا وصروحه؟! إنها لتخال ألاعيب صبيانية شُيدت ساعة فراغ ولهوٍ، فيها الحصى تقوم مقام الحجارة والأشبارُ منها توازي الأميال.

لقد تألَّبت الشعوب على هذا الهيكل فهاجمت جدران مجدهِ وخرَّبت بديع معالمه. وحوَّل المسيحيون جانبًا منهُ إلى كنيسة فشادوا المذابح على قوائم معابد الأصنام. ثم انقلبت الكنيسة وما يحيط بها قلعة إسلامية حتى فاجأتها الزلازل فتخلجت منها الأسس وانهارت الجدران، ودكت ذلك العزَّ إغارات الطبيعة بعد أن طغت عليه يد الإنسان.

لكن آثار المجد في بعلبك ظاهرة باقية. والنفس العصرية تقف متردِّدة بين الهزوء والاحترام أمام معابد آلهة خرافية تضحكنا الآن أسماؤها، وتتعاقب عليها مشاعر جمة من خوف وشفقة وإعجاب وسخرية لتتغلب عليها عاطفة تضمُّ في رحابها قوى النفس جميعًا، وهي الشعور بعمق السِّر العظيم، سر البقاء رغم الفناء …

وهناك على مرتفع هيكل الشمس تقف أعمدة ستة حاملةً إفريزًا كأنَّه تاجٌ مكسَّر تنحني تحته رءوسها على وهدة عزِّها المتفتت. وما انحناء تلك الأعمدة إلا رثاءٌ وتأبين، بل هو التأبين الوحيد اللائق بهيكل بعلبك …

وثلوج لبنان التي تجهل أيَّ خطبٍ جرى تنظر من علٍ إلى حزن الجماد الدهري، وتودُّ أن تفهم علة انهيار الجدران والأعمدة والأبراج، وأنى لها أن تفهم …

•••

ألا كسِّروا باليأس الأقلام، وأزيلوا المداد عن الطروس (الصُّحف)، وأسكتوا الشفاه المتكلمة، وألجموا الأيدي عن التحبير والكتابة.

رائحة الأكفان تفوح لدى هذا التهدم الشامل وتتكشف معاني القبور، وينتشر في الهواء عطر المجامر وتُعقد غيوم البخور، وتعود الأيادي القديمة إلى نحر تلك الضحايا والقرابين على أنصاب لاشتها يدُ الدهور.

كسِّروا الأقلام ومزقوا الطروس، إنما هذا موقف لا تأبين فيه بغير حزن الجماد ولوعة النفوس.

أحزنَ الجماد، لا زلتَ للأفئدة مفطرًا ما طرحت عِبَرُ الزمان الجبابرة على حضيض الهوان! ألوعة النفوس، لا زلتِ لاذعة ما بُترت سلسلة الآجال واعتلت حركة القلوب! أآثار الحياة، لا زلت عالية كآمال المنى وسواد العيون ما ذوت الآمال بالمتأمل وما بيَّض سوادُ الموتِ سواد العيون! أأعمدة بعلبك، لا زلتِ مهشمة، صامتة، منحنية، كئيبة ما سعى دبيب المنى في زوايا المهج وتمايلت أشباح الآلام والأوجاع طيَّ القلوب والصدور!

إذا هزأ الدهر بهذه الجدران المنيعة، فماذا أنتم من الدهر منتظرون؟ إذا مرت قدمُ الدهر على هذه المتانة الحصينة فهرستْها هرسًا، فماذا تعني بعد ذلك حركة قصبتكم الضئيلة ونقش طروسكم البالية؟ أين من المسافة موضعها وما هو من الخلود نصيبها؟

ضموا إلى شفاهكم الأقلام وإلى قلوبكم الطروس، دعوها تنطق يأسًا وحبًّا باسم قلعة بعلبك. ثم حطِّموها وإن عزَّت، ومزِّقوها وإن كانت شطرًا من الأرواح.

الزمان يتابع المسير فويلًا لتربة تدوسها قدمه! هناك تزلزل الزلازل، وتُهدم السدود، وتطغى البحار، وهناك يشعر الإنسان بأنهُ عبد لحظات الأقدار وأنهُ لا يعرف من أسرار الأرض غير اسوداد الليل وابيضاض النهار …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤