مقدمة

على مرِّ تاريخ البشر، لم يتحقَّق «التقدُّمُ» بالسرعة التي تجعله ملحوظًا، ولا بالثبات الذي يدعم استمراره عبر أجيالٍ عديدةٍ إلا مرة واحدة. ولقد تزامنَتْ بدايته مع اندلاع الثورة العلمية تقريبًا، ولا يزال متواصِلًا حتى الآن، وتضمَّنَ تطوُّراتٍ لم تقتصر فقط على الفهم العلمي، بل امتدتْ أيضًا لتشمل التكنولوجيا والمؤسسات السياسية والقِيَم الأخلاقية والفنون وسائر مناحي الرخاء الإنساني.

ومتى كان هناك تقدُّم، كان هناك مفكرون نافذو التأثير يُنكرون أنه أصلي أو مرغوب فيه، أو حتى أن مفهومه يتمتَّع بأي معنًى. لكن لَيْتَهم تحلَّوْا بمزيدٍ من الحكمة؛ فلا شك أن هناك اختلافًا موضوعيًّا بين التفسيرَيْن الباطلِ والصحيح، وبين الفشل المُزمن في حل مشكلةٍ ما وحلها، وكذلك بين الخطأ والصواب، والقبيح والحسن، والمعاناة ورفعها؛ ومن ثَمَّ بين الجمود والتقدُّم بمعانيهما المختلفة.

في هذا الكتاب، أذهبُ إلى أن كل التقدُّم — نظريًّا كان أم عمليًّا — نتج عن نشاطٍ بشريٍّ وحيد؛ وهو السعيُ نحو ما أدعوه «التفسيرات الجيدة». ورغم أن هذا السعيَ بشريٌّ على نحوٍ فريد، فإن تأثيره عبارة عن حقيقةٍ جوهريةٍ عن الواقع على أعلى المستويات اللابشرية الكونية؛ أيْ إنه يتناغم مع القوانين العامة للطبيعة التي هي في واقع الأمر تفسيرات جيدة. تشير هذه العلاقة البسيطة بين ما هو كوني وما هو بشري، إلى الدور المحوري الذي تقوم به «الكيانات الذكية» في النظام الكوني للأمور.

هل من الضروري أن يصل التقدُّم إلى نهايةٍ — سواءٌ أكانت نهايةً كارثيةً أم انتهاءً بمعنى الإتمام والاكتمال — أم أنه لا محدود؟ هذا الخيار الأخير هو الإجابة؛ فهذه «اللامحدودية» هي اللانهاية التي أشير إليها في عنوان هذا الكتاب، والتي يستلزم شرحُها — وعرْضُ الظروف التي تسمح للتقدُّم بالتحقُّق وتُعرقِل هذا التحقُّق — جولةً في كل فرعٍ أساسيٍّ من العلوم والفلسفة تقريبًا؛ حيث نتعلم من كلٍّ منها أن التقدُّم — مع أنه ليس من الضرورة أن تكون له نهاية — لا بد له حتمًا من بدايةٍ؛ قضيةٍ أو حدثٍ يُشعِل فتيله، أو ظرفٍ ضروريٍّ ينشأ فيه ويترعرع. وكلٌّ من تلك البدايات هي «بدايةٌ للانهاية»، كما تبدو من منظور ذلك الفرع من العلم أو الفلسفة. قد يبدو العديد من هذه البدايات — ظاهريًّا — غيرَ متصلٍ، غير أنها في واقع الأمر وجوه متعدِّدة لسمةٍ واحدةٍ للواقع، وهي ما أدعوه «بداية اللانهاية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤