الفصل العاشر

حلم سقراط

يُقِيم سقراط في نُزُلٍ قريبٍ من معبد دلفي، ولقد سأل هو وصديقُه كريفون الكاهنةَ ذات يومٍ عمَّن يكون أكثرَ الرجال حكمةً في العالَمِ لكي يذهبَا إليه ويتعلَّمَا منه. (في القصة التي يحكيها أفلاطون في محاورة «الاعتذار»، يسأل كريفون الكاهنةَ «ما إذا كان» في العالَم مَن هو أكثر حكمةً من سقراط، وكانت الإجابة على سؤاله بالنفي. لكن أتراه حقًّا كان سيضيع تلك الفرصةَ المكلفةَ والنادرةَ ليسأل سؤالًا ليس له سوى إجابتين محتملتين: إحداهما بها إطراء والأخرى مُحبِطة، وليس في أيهما ما يثير الاهتمام؟) لكن الكاهنة (الناطقة باسم الإله أبولو) قالَتْ، على نحوٍ أثار ضيقهما: «لا يوجد مَن هو أكثر حكمةً من سقراط.» ينام سقراط الآن على سريرٍ غير مريحٍ في حجرةٍ ضيقة، سعر الإقامة فيها مُبالَغ فيه، وإذا به يسمع صوتًا رخيمًا طربًا يترنَّم باسمه.

هيرميس : مرحبًا يا سقراط.
سقراط (يسحب البطانية مغطِّيًا رأسه) : إليك عني؛ لقد قدَّمْتُ بالفعل قرابينَ أكثر من اللازم اليومَ، ولن تحصل على المزيد مني. أنا أكثر «حكمةً» من هذا، ألم تصلك الأخبار؟
هيرميس : أنا لا أبتغي قربانًا.
سقراط : ماذا تريد إذن؟ (يستدير فيرى هيرميس، وهو عارٍ) حسنًا، أنا متأكِّد من أن بعض رفاقي المخيِّمين بالخارج سيسعدهم أن …
هيرميس : ليسوا هم مَن أريد، بل أنت يا سقراط.
سقراط : سيخيب أملك إذنْ أيها الغريب. والآن فَلْتتركني من فضلك كي آخذ بعضَ الراحة التي يبدو لي أنها صعبة المنال.
هيرميس : لا بأس (يتجه إلى الباب).
سقراط : انتظر.

(هيرميس يستدير ويرفع حاجبه مستفهمًا.)

سقراط (بتمهُّلٍ ورَوِية) : أنا نائم، أحلم، وأنت الإله أبولو.
هيرميس : لماذا تظن ذلك؟
سقراط : إن هذه من مناطقك المقدسة؛ فالوقت ليل ولا مصباحَ هنا، ولكني أراك. هذا غير ممكنٍ في الواقع؛ لذا لا بد أنك آتٍ إليَّ في منامي.
هيرميس : تفكير ممتاز، أَلَسْتَ بخائفٍ؟
سقراط : بالطبع لا! وإني أسألك بدوري: هل أنت إلهٌ خيِّر أم شرير؟ إنْ كنتَ خيِّرًا، فليس ثَمَّةَ ما أخشاه، وإنْ كنتَ شريرًا، فإني أربأ بنفسي عن أن أخشاك. نحن الأثينيين قومٌ ذوو عِزَّة، وتحمينا إلهتُنا كما لا بد أنك تعلم. هزمْنا الإمبراطورية الفارسية مرتين على الرغم من الصعاب الشديدة، ونهزم الآن إسبرطة. إنَّ من عادتنا أن نتحدَّى كلَّ مَن يسعى لإخضاعنا (يبالغ سقراط في هذا الحوار أحيانًا في وصفه لمزايا وإنجازات مدينته الدولة المحبوبة أثينا. وهو يغفل في هذا الموقف مساهماتِ المدن الدول اليونانية الأخرى في صد محاولتين للغزو شنَّتْهما الإمبراطوريةُ الفارسية على اليونان كانت كلتاهما قبل ميلاده).
هيرميس : حتى الإله؟
سقراط : لن يسعى إلى ذلك إله خيِّر. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ من عادتنا أيضًا أن نُصغيَ إلى كلِّ مَن يُسدِي لنا نقدًا أمينًا ويسعى لإقناعنا أن نغيِّر آراءنا بحُرية؛ لأننا نريد أن نفعل ما هو صائب.
هيرميس : هاتان العادتان وجهان لنفس العملة القيِّمة، وإني لأمتدح احترامَكم لهما أيها الأثينيون مدحًا كثيرًا.
سقراط : تستحق مدينتي مدحك ولا ريب، لكن لأي سببٍ قد يريد أحدُ الخالدين أن يحاور شخصًا مشتَّتًا وجاهلًا مثلي؟ أعتقد أني أستطيع أن أُخمِّن السبب؛ لقد ندمتَ على مزحتك التي بلغتنا عبر الكاهنة، أليس كذلك؟ حقًّا، كان من القسوة ألَّا تبعث لنا إلا برسالة هازئة؛ نظرًا للمسافة التي قطعناها وللقرابين التي قدَّمناها. أرجوك أن تخبرني بالحقيقة هذه المرةَ يا نبعَ الحكمة: مَن هو أكثر رجال العالم حكمةً بحقٍّ؟
هيرميس : أنا لا أكشف عن حقائق.
سقراط (يتنهد) : إذن أتوسَّل إليك، فإني لطالما أردتُ أن أعرف: ما هي طبيعة الفضيلة؟
هيرميس : أنا لا أكشف عن حقائقَ أخلاقيةٍ كذلك.
سقراط : لكن لا بد أنك — باعتبارك إلهًا خيِّرًا — قد جئتَ إلى هنا لتُعلِّمني «شيئًا» من المعرفة، فتُرى أيُّ نوعٍ من المعرفة ستتلطَّف وتمنحني إياه؟
هيرميس : المعرفة عن المعرفة يا سقراط. نظرية المعرفة، ولقد ذكرتُ بعضًا منها بالفعل.
سقراط : أفعلتَ هذا حقًّا؟ أوه، لقد قلتَ إنك تمدحنا نحن الأثينيين لانفتاحنا تجاهَ الإقناع، ولتحدِّينا للمتنمِّرين، لكن من المعروف أن هاتين فضيلتان! إن إخبارك لي بما أعرفه بالفعل لا يُعَدُّ وحيًا بالقطع.
هيرميس : صحيح أن معظم الأثينيين يُطلِقون على هاتين فضيلتين، لكنْ كَمْ منهم يؤمن بذلك حقًّا؟ كم منهم مستعِدٌّ لنقْدِ إلهٍ بمقاييس العقل والعدل؟
سقراط (يتفكَّر مليًّا) : كلُّ العادلين، على ما أظن؛ فكيف لشخصٍ أن يكون عادلًا إذا كان يعبد إلهًا وهو غير مقتنعٍ بصلاحه؟ وكيف للمرء أن يقتنع بصلاح أحدهم أخلاقيًّا قبل أن يُكوِّن أولًا رؤيةً عن سمات الصلاح الأخلاقي؟
هيرميس : رفاقك القابعون على العشب في الخارج، هل هم ظالمون؟
سقراط : كلا.
هيرميس : وهل هم على درايةٍ بالصلات التي وصفتها الآن بين العقل، والفضيلة، والنفور من الإذعان للآلهة؟
سقراط : ربما ليسوا على درايةٍ كافيةٍ بعدُ.
هيرميس : لذا، فليس حقيقيًّا أنَّ كل شخصٍ عادلٍ يعلم تلك الأشياء.
سقراط : أتَّفِقُ معك، ربما كلُّ شخصٍ «حكيمٍ» فحسب.
هيرميس : كلُّ شخصٍ في حكمتك على الأقل إذن. مَن غيرك في هذه المنزلة الرفيعة؟
سقراط : هل توجد غايةٌ عُليا في استمرارك في الهُزء بي — يا أبولو الحكيم — بأن تطرح عليَّ نفسَ السؤال الذي سألتُكَ اليومَ؟ تبدو لي مزحتك وقد استُهلِكَتْ.
هيرميس : أَلَمْ تهزأ بأحدٍ قطُّ يا سقراط؟
سقراط (بوقار) : لو سخرتُ من أحدهم — كما يحدث من آنٍ لآخَر — لكان ذلك أملًا في أن يساعدني في البحث عن الحقيقة التي لا يعرفها أيٌّ منَّا بعدُ. أنا لا أسخر من استعلاءٍ كما تفعل أنت؛ فجلُّ مرادي هو حثُّ رفيقي البشري على مساعدتي لأنظر أبعد ممَّا تسهل رؤيتُه.
هيرميس : لكن ما الذي «تسهل» رؤيته في هذا العالم؟ وما «أسهل» الأشياء رؤيةً يا سقراط؟
سقراط (يهزُّ كتفَيْه) : تلك الموجودة أمام أعيُننا.
هيرميس : وماذا أمام عينيك في التوِّ؟
سقراط : أنت.
هيرميس : هل أنت واثق؟
سقراط : هل ستبدأ في سؤالي: «كيف تكون واثقًا من أي شيءٍ تقوله؟ وكيف توقن من أي تعليل تعطيني «إياه»؟»
هيرميس : كلا، أتخالني أتيتُ لأمارس حِيَلَ الجدال المبتذَلة؟
سقراط : حسنًا، من الجليِّ أنني لا أستطيع أن أكون «واثقًا» من أي شيء، لكنني لا أبتغي أن أكون كذلك، لا يسعني تصوُّرُ أمرٍ أكثر إضجارًا — ولا أقصد إهانةً يا أبولو الحكيم — من وصول المرء إلى حالة تمام الثقة في معتقداته، التي يبدو أن البعض يتوقون إليها. لا أرى لها نفعًا سوى أنها تُقدِّم ما يُشبه الحجةَ حينما لا يملك المرءُ حجةً حقيقيةً، ولحسن الطالع أن تلك الحالة العقلية لا تمتُّ بصلةٍ لما أصبو إليه، والذي هو اكتشافُ حقيقةِ الكيفية التي يكون عليها العالَمُ، والأسبابُ، بل الأكثر من ذلك أيضًا الحال التي ينبغي أن يكون عليها.
هيرميس : أُهنِّئُكَ يا سقراط على حكمتك المعرفية، يصعب الوصول إلى المعرفة التي تصبو إليها — «المعرفة الموضوعية» — لكنه ليس مستحيلًا. أما تلك الحالة العقلية التي لا تطمح إليها — «الاعتقاد المبرر» — فإليها يسعى كثيرٌ من الناس، وبخاصةٍ الكهنة والفلاسفة، لكن في واقع الأمر لا يمكن للاعتقادات أن تُعلَّل إلا في إطار علاقاتها باعتقاداتٍ أخرى، وحتى حينئذٍ لا يكون ذلك التعليلُ معصومًا من الخطأ؛ وعلى هذا، لا يؤدِّي البحثُ عن تعليلها إلا إلى ارتدادٍ لا متناهٍ تكون كلُّ خطوةٍ فيه هي ذاتها عرضة للخطأ.
سقراط : أكرِّر أنني أعلم ذلك.
هيرميس : صحيح، وليس «بوحي» أن أُطلِعَك على ما تعلمه بالفعل كما سبق أن أبديتَ ملاحظتك السليمة، لكنْ لاحِظْ أنَّ تلك الملاحظة بالتحديد هي ما لا يوافِقُ عليه الباحثون عن الاعتقاد المبرر.
سقراط : «ماذا؟» عذرًا، لكن هذا التعليق بالغ التعقيد بحيث يتعذَّر على عقلي المفترض به الحكمة أن يفهمه؛ فهَلَّا تفضَّلْتَ بأن تشرح لي ما يتعيَّن عليَّ ملاحظته بشأن أولئك الباحثين عن «الاعتقاد المبرر».
هيرميس : هذا فحسب. افترِضْ أنه قد صادَفَ أنهم أدركوا تفسيرَ أمرٍ ما، أما أنت وأنا فسنقول عندئذٍ أنهم «يعرفونه»، وأما هم، فمهما كانت جودةُ ذلك التفسير، ومهما بلغ من صدقٍ وأهميةٍ ونفع، فإنهم لا ينظرون إليه بصفته معرفة؛ إنهم لن يرَوْا ذلك التفسيرَ بصفته معرفةً إلا إذا جاء أحدُ الآلهة وأكَّدَ لهم أنه حقٌّ (أو إذا تخيَّلوا ذلك الإله أو سلطةً أخرى)؛ لذا فهم يرَوْن بوْحَ السلطة لهم بما يعرفونه تمام المعرفة وحيًا.
سقراط : أفهم ذلك، وأرى أنهم حمقى؛ فما أدراهم أن «السلطة» (يشير إلى هيرميس) لا تعبث بهم أو تحاول أن تُلقِّنهم درسًا مهمًّا؟ ولربما كانوا مخطئين في ظنهم بأنها سلطة …
هيرميس : نعم؛ لذا فإن الشيء الذي يدعونه «معرفة» — الذي هو «اعتقاد مبرر» — هو وهْم، لا يتأتَّى للبشر إلا في صورة خداعٍ للذات؛ فهو غير ضروريٍّ لأي غرضٍ صالح، ولا يرغب فيه أكثرُ الفانين حكمةً.
سقراط : أعلم ذلك.
هيرميس : زينوفانيس أيضًا كان يعلمه ولكنه لم يَعُدْ بين الفانين …
سقراط : أكان ذلك ما تعنيه عندما أخبرتَ الكاهنةَ أنْ ليس ثَمَّةَ مَن هو أكثر حكمةً مني؟
هيرميس (متجاهلًا السؤال) : ولهذا أيضًا لم يكن الاعتقادُ المبرر هو ما أعنيه حينما سألتُكَ إنْ كنتَ على ثقةٍ من أنني أمام عينَيْك، فقط كنتُ أسأل كيف تزعم أنك «ترى بوضوحٍ» ما أمام عينَيْك، في حين تزعم كذلك أنك نائم!
سقراط : حقًّا! نعم لقد ضبطتَني مُخطِئًا، لكنه ولا ريب ليس سوى خطأٍ واهٍ. ربما أنت لستَ أمام عينيَّ بالمعنى الحرفي بالفعل، ربما كنتَ في موطنك على جبل الأوليمب باعثًا إليَّ بشبيهٍ لك، بَيْدَ أنك في تلك الحالة تتحكَّم في ذلك الشبيه، وأنا أراه وأتعامل معه على أنه «أنت»؛ إذنْ فمَن أراه هو «أنت».
هيرميس : ولكن ذلك ليس ما سألتُ عنه، سألتُكَ عمَّا «أمام» عينَيْكَ هنا في الواقع.
سقراط : حسنًا، توجد أمام عينيَّ — في الواقع — حجرةٌ صغيرة، أو إن أردتَ إجابةً واقعيةً قحة، فإنَّ ما أمام عينيَّ جفنايَ بما أني أحسبهما مغلقتين، غير أني أرى من تعبيرك أنك تصبو إلى دقةٍ أكبر. حسنًا، ما أمام عينيَّ هو السطح الداخلي لجفنيَّ.
هيرميس : هل تستطيع رؤيةَ هذين الشيئين؟ بعبارةٍ أخرى: هل حقًّا من «السهل أن ترى» ما أمام عينَيْكَ؟
سقراط : ليس في اللحظة الآنية، لكنَّ الأمرَ كذلك لأني أحلم فحسب.
هيرميس : هل ذلك لأنك نائم فحسب؟ هل تقصد أنك لو كنتَ مستيقظًا لَرأيتَ الآنَ السطحَ الداخلي لجفنَيْكَ؟
سقراط (بحذر) : لو كنتُ مستيقظًا وكانت عيناي لا تزالان مغمضتين، لقلتُ نعم.
هيرميس : أيَّ لون تُبصِر حينما تغمض عينَيْكَ؟
سقراط : في غرفةٍ شبهِ معتمةٍ كهذه، الأَسْود.
هيرميس : هل تظن أن السطح الداخلي لجفنَيْكَ أسودُ اللون؟
سقراط : لا أعتقد ذلك.
هيرميس : إذنْ فهل حقًّا تراهما؟
سقراط : ليس بالضبط.
هيرميس : وإذا فتحتَ عينَيْكَ، فهل تكون قادرًا على رؤية الغرفة؟
سقراط : ليس أكثر من رؤيةٍ مبهمة؛ فهي مظلمة.
هيرميس : لذا أكرِّر السؤال: أصحيحٌ أنك لو كنتَ مستيقظًا لَاستطعت بسهولةٍ أن ترى ما يقع أمام عينَيْك؟
سقراط : حسنًا، ليس دائمًا. ومع ذلك، لو كنتُ مستيقظًا مفتح العينين وفي ضوءٍ ساطع …
هيرميس : ولكن ليس «شديدَ» السطوع حسبما أظن، أليس كذلك؟
سقراط : بلى، بلى. إذا أردتَ أن تستمِرَّ في المراوغة، فيجب عليَّ أن أقرَّ بأن البصر عندما يزيغه نورُ الشمس الساطع قد تقلُّ قدرتُه حتى عمَّا تكون عليه في الظلام؛ وبالمثل فإن المرء قد يرى وجهَه خلفَ مرآةٍ حيث لا يوجد في الواقع سوى مساحةٍ فارغة. أحيانًا ما يرى الإنسان سرابًا، أو تخدعه كومةُ ملابس مجعدة صادَفَ أن شابهَتْ كائنًا أسطوريًّا …
هيرميس : أو قد ينخدع الإنسان بأن يحلم بواحد …
سقراط (مبتسمًا) : بالضبط. وبالعكس، فنيامًا كنَّا أو مستيقظين، فإننا غالبًا ما نخفق في رؤية أشياءَ موجودةٍ في الواقع.
هيرميس : أنت لا تدري أنه ما أكثر تلك الأشياء …
سقراط : بلا شك، ومع هذا، فإن لم يكن الأمر حلمًا، وكانت الظروف مواتيةً للرؤية …
هيرميس : وكيف يمكن أن تقرِّرَ أن «الظروف مواتية» للرؤية؟
سقراط : آه! ها أنت تحاول أن تدخل بي في حلقةٍ مفرغة؛ تريدني أن أقول إن المرء يستطيع أن يقرِّرَ أن الظروف مواتية للرؤية عندما يستطيع بسهولةٍ أن يرى ما هو موجود …
هيرميس : بل أريدك «ألَّا» تقول ذلك.
سقراط : يبدو لي أنك آخِذٌ في السؤال عني «أنا»؛ عمَّا أمامي وعمَّا أستطيع أن أرى بسهولة، وعمَّا إذا كنتُ واثقًا ونحو ذلك، لكني أصبو إلى حقائق أساسية، لا أحسب أن أيًّا منها يدور حول شخصي على الأغلب؛ لذا دَعْني أؤكِّد مجدَّدًا أنني لا أكون واثقًا ما الذي أمام عينيَّ مطلقًا سواءٌ أكانت عيناي مفتوحتين أم مغمضتين، نائمًا كنتُ أو مستيقظًا. ولا أستطيع كذلك أن أجزم بما يمكن أن يكون أمام عينيَّ؛ إذ مِن أين لي أن أقدِّرَ إمكانيةَ أن أكون نائمًا أحلم في حين أعتقد أني واعٍ؟ أو أن حياتي المنصرمة برُمَّتها لم تكن غير حلمٍ سرَّ أحدَكم أيها الخالدون أن يأسرني فيه؟
هيرميس : حقًّا.
سقراط : بل إنني قد أكون ضحيةَ خديعةٍ دنيويةٍ كخدع السحرة. نعلم أن الساحر يخدعنا لأنه يُرِينا شيئًا ما لا يمكن أن يحدث، ثم يطلب منَّا المال! لكنه بمجرد أن يتنازل عن المال ويُريَني شيئًا ممكنًا ولكنه غير حقيقي، فلن أدريَ أبدًا. لعل رؤياك هذه بأسرها ليست حلمًا وإنما خدعة ساحرٍ ماهر. ومن جهةٍ أخرى، ربما كنتَ حقًّا هنا بشخصك وكنتُ أنا مستيقظًا مع كل ذلك، لن أستطيع أبدًا أن «أوقن» أن أيًّا من ذلك حق، أو غير حق؛ ومع هذا، أستطيع أن أتصوَّر أنني «أعرف» بعضًا منه.
هيرميس : تمامًا، وهل يحقُّ الأمر نفسه على معرفتك «الأخلاقية»؟ ففيما يتعلَّق بالخطأ والصواب، هل يجوز أنك مخطئ أو مضَلَّل من قِبَل ما يضاهي ذلك السراب أو تلك الخدع؟
سقراط : من الأصعب أن أتخيل ذلك؛ إذ لا أحتاج حواسِّي إلا في أضيق الحدود عندما يرتبط الأمرُ بالمعرفة الأخلاقية؛ فأنا أعتمد على أفكاري فحسب اعتمادًا رئيسيًّا. «أفكِّر» فيما هو صواب وما هو خطأ، أو فيما يجعل الإنسان فاضلًا أو آثِمًا، قد أُخطِئ بالطبع في تلك المداولات العقلية، لكن لا «تضلِّلني» الخدعُ والأوهام الخارجية بالسهولة نفسها؛ لأن تأثيرها يقع على حواسِّنا لا عقلنا.
هيرميس : كيف إذنْ تعلِّل حقيقةَ أنكم أيها الأثينيون تتجادلون دومًا فيما بينكم حول أيُّ الخصال يندرج تحت الفضائل أو الآثام، وأيُّ الأفعال صالح وأيها خاطئ؟
سقراط : أي حيرةٍ في ذلك؟ سبب خلافنا أن الوقوع في الخطأ سهل، ومع ذلك نحن «نتفق» على أمورٍ عديدةٍ من ذلك القبيل؛ ومن هذا، أُخمِّن — فيما يتصل بما فشلنا في الاتفاق حوله حتى الآن — أن ذلك ليس بسبب أي شيءٍ آخذٍ في تضليلنا، بل ببساطةٍ لأن التفكير في بعض الموضوعات أمر صعب، تمامًا كما أن بالهندسة الرياضية الكثيرَ من الحقائق التي لم يعلمها أحدٌ ولا حتى فيثاغورس، ولكن قد يكتشفها علماءُ الهندسة الرياضية المستقبليون. وكما كتب «الفاني الحكيم» الآخَر زينوفانيس في ترجمة بوبر لكلامه، التي أوردها في كتابه «عالم بارمنيدس» (۱۹۹۸):
لمْ توحِ الآلهة منذ البداية،
بكل شيء لنا؛ ولكن بمرور الزمن،
وبالسعي قد نتعلَّم، ونعرف الأشياء معرفةً أفضل.
إن ذلك هو ما فعلناه نحن الأثينيين حيالَ المعرفة الأخلاقية؛ فبالسعي تعلَّمْنا، واتفقنا حول الأمور اليسيرة، وفي المستقبل وبنفس الأسلوب — أيْ برفض تحصينِ أيٍّ من أفكارنا ضد النقد — قد نتعلَّم بعضَ الأمور.
هيرميس : يكمن فيما تقول قدرٌ كبيرٌ من الحقيقة، فَلْنأخذ الموضوعَ لخطوةٍ أبعد إذن. لو كان من العسير جدًّا أن يُخدَع المرءُ بمنهجيةٍ حول الأمور الأخلاقية، فكيف يختلف معكم الإسبرطيون حول بعضٍ من تلك الأمور التي يتفق حولها كلُّ الأثينيين تقريبًا؛ تلك التي وصفتَها لتوِّكَ بأنها الأمور «اليسيرة»؟
سقراط : لأن الإسبرطيين يتعلَّمون العديدَ من الاعتقادات والقِيَم الخاطئة في طفولتهم المبكرة.
هيرميس : في أي سنٍّ يبدأ الأثينيون في تلقِّي تعليمهم المثالي؟
سقراط : لقد ضبطني أُخطِئ من جديد. نعم، بالطبع نُعلِّم صغارَنا قِيَمَنا نحن أيضًا، التي لا بد أنها تنطوي على أخطر مفاهيمنا الخاطئة مع أعمق حكمتنا جنبًا إلى جنب، لكنْ من قِيَمنا أنْ نكون منفتحين للمقترحات، ومحترمين للاختلاف، وناقدين للرأيَيْن المُعارض والمؤيد كليهما؛ لذا أحسب أن الاختلاف الحقيقي بيننا وبين الإسبرطيين هو أن تربيتهم الأخلاقية تُلزِمهم بتحصين أهم أفكارهم ضد النقد، و«ألَّا» ينفتحوا للمقترحات، و«ألَّا» ينقدوا أفكارًا بعينها مثل عاداتهم أو مفاهيمهم حول الآلهة، و«ألَّا» يسعَوْا إلى الحقيقة؛ لأنهم يزعمون أنهم يملكونها بالفعل.
ولهذا فهم لا يؤمنون بأنه «بمرور الزمن، وبالسعي سنتعلَّم ونعرف الأشياءَ معرفةً أفضل.» إنهم يتفقون فيما بينهم لأن قوانينهم وعاداتهم تفرض عليهم التطابُقَ، أما «نحن» فنتفق فيما بيننا (إلى الحد الذي نتفق عليه) لأننا اكتشفنا بعضَ المعرفة الأصلية بواسطة تقليدِ الجدل النقدي اللامتناهي الذي نمارسه. وبما أنَّ لكلِّ أمرٍ حقيقةً واحدة، تتقارب أفكارنا بعضها من بعض كلما دَنَتْ من تلك الحقيقة؛ ومن ثَمَّ يزداد اتفاقنا. إن إجماع الناس على الحقيقة يجعلهم يتفقون بعضهم مع بعض أيضًا.
هيرميس : حقًّا.
سقراط : وبالإضافة إلى ذلك، لا نُدهش لعدم وصول الإسبرطيين إلى التطوير قطُّ؛ لأنهم لا يسعَوْن إليه مطلقًا. أما نحن — في المقابل — فنسعى إليه بواسطة النقد والجدل المتواصلَيْن، وبمحاولة تصحيح أفكارنا وسلوكنا، الأمر الذي يجعلنا في موقعٍ أفضل يؤهِّلنا لتعلُّمِ المزيد في المستقبل.
هيرميس : ممَّا يستتبع إذنْ «خطأ» الإسبرطيين في تعليم أطفالهم تحصينَ أفكار مدينتهم وقوانينها وعاداتها ضد النقد.
سقراط : ظننتك لن توحيَ أي حقائقَ أخلاقية!
هيرميس : لا حيلةَ لي لو أتَتْ باعتبارها نتيجةً منطقيةً للمعرفة، لكن على أيِّ حال أنت تعلم تلك النقطةَ بالفعل.
سقراط : نعم أعلمها، وأُدرك ما ترمي إليه، إنك تُبيِّن لي أن ثَمَّةَ أشياءَ كالسراب والخدع فيما يرتبط بالمعرفة الأخلاقية، بعضها موغل في صميم اختيارات الإسبرطيين الأخلاقية. يضلِّلهم أسلوبُ معيشتهم برُمَّته ويُعرقلهم لأن أحدَ اعتقاداتهم الخاطئة يحضُّ على الامتناع عن السعي لمنع أسلوب معيشتهم من تضليلهم وعرقلتهم!
هيرميس : هو كذلك.
سقراط : أمِن تلك العراقيل ما يكمن في أسلوب معيشتنا نحن؟ (يعبس) بالطبع، لا أعتقد ذلك، على أني يمكن أن أعتقده، أليس كذلك؟ فكما كتب زينوفانيس أيضًا كيف أنه من السهل جدًّا أن نعزوَ حقيقةً عموميةً إلى مظهرٍ محليٍّ خالص:
يقول الأحباش إن آلهتهم زنوجٌ فُطْس،
بينما يقول التراقيون إن آلهتهم صُهب ذوو عيونٍ زرقاء،
ولكن لو كانت للأنعام أو الخيول أو السباع أيادٍ،
واستطاعوا الرسم والنحت كالبشر،
لَرسمت الخيولُ آلهتها كخيولٍ،
والأنعامُ كأنعامٍ …
هيرميس : إذنْ فأنت تتخيَّل الآن وجود سقراط إسبرطي يحسب أن «أساليبهم» فاضلة وأساليبكم فاسدة …
سقراط : ويرى أننا نحن الواقعون في شَرَك؛ إذ لن «نُصوِّب» أنفسنا طواعيةً أبدًا بأن نعتمد على الأساليب الإسبرطية. نعم.
هيرميس : لكن هل يقلق سقراط الإسبرطي — لو وُجِد — من أن سقراط الأثيني قد يكون على حق، وهو على باطل؟ أَثَمَّةَ زينوفانيس إسبرطي قد ارتاب في أن الآلهة ليسوا على الصورة التي يعتقدها اليونانيون؟
سقراط : كلا بكل تأكيد!
هيرميس : إذنْ بما أن أحد «أساليبهم» هو الحفاظ على تلك الأساليب ضد التغيير، فلو كان هو حقًّا على صواب وكنتَ أنت مخطئًا …
سقراط : إذنْ لَكان الإسبرطيون على حقٍّ منذ انتهجوا أسلوبَ معيشتهم الحالي. لا بد أن الآلهة قد كشفت لهم عن أفضل أسلوبِ حياةٍ منذ البداية، فهل فعلتم؟

(هيرميس يرفع حاجبيه.)

سقراط : بالطبع لم تفعلوا، أرى الآن أن الفارق بين أساليبنا وأساليبهم ليس مسألةَ منظورٍ فحسب، ولا مسألةَ درجةٍ. (سأعرض المزيدَ عن الاختلاف بين هذين النوعين من المجتمعات — واللذين أطلق عليهما المجتمع الاستاتيكي والمجتمع الديناميكي — في الفصل الخامس عشر) دَعْني أُعِدْ صياغةَ الأمر:
«إذا» كان سقراط الإسبرطي مُحقًّا بشأن أن أثينا واقعة في شَرَك الأباطيل على عكس إسبرطة، لَكانت إسبرطة — لكونها لا تتغيَّر — مثاليةً بالفعل؛ ومن ثَمَّ مُحقَّة بشأن كل أمرٍ آخَر كذلك، ولكنهم في الواقع لا يكادون يعرفون أيَّ شيء؛ فمن «الواضح» مثلًا أنهم جاهلون بكيفية إقناع المدن الأخرى بمثالية إسبرطة، حتى المدن صاحبة سياسة الإصغاء إلى الجدل والنقد …
هيرميس : حسنًا، من الجائز منطقيًّا أن يقوم «أفضلُ أسلوبِ حياةٍ» على تحقيق بعض الإنجازات، وأن يكون المرء مُخطِئًا بصدد معظم الأشياء. لكن نعم أنت تلمح لأمرٍ مهمٍّ ها هنا …
سقراط : بينما لو كنتُ أنا المحقَّ في أن أثينا ليسَتْ في براثن ذلك الشَّرَك، لَمَا تضمَّنَ ذلك أيَّ دليلٍ على صوابنا أو خطئنا، أو على أي شيء. حقًّا، إن لبَّ فكرتنا عن إمكانية التطوير يقتضي ضرورةَ وجودِ الأخطاء والنقائص في أفكارنا الحالية.
أشكرك يا أبولو الكريم على تلك «اللمحة» لذلك الفارق المهم.
هيرميس : ويبقى الفارقُ أكبر حتى ممَّا تظن. تذكَّرْ أنَّ الإسبرطيين والأثينيين كليهما ليسوا سوى بشرٍ غير معصومين، وهم عرضة للمفاهيم المغلوطة والأخطاء في سائر تفكيرهم …
سقراط : مهلًا! نحن غير معصومين في «سائر» تفكيرنا؟ أحقًّا لا توجد حرفيًّا ولو فكرة واحدة نستطيع عصمتها من النقد؟
هيرميس : مثل ماذا؟
سقراط (يفكر مليًّا لبرهة، ثم يقول) : ماذا عن الحقائق الرياضية؟ مثل أن حاصِلَ جمْعِ اثنين واثنين هو أربعة؟ أو حقيقة أن دلفي موجودة؟ ماذا عن الحقيقة الهندسية التي تنصُّ على أن مجموع درجات زوايا المثلث يساوي ذلك الخاص بزاويتين قائمتين؟
هيرميس : دون وحيٍ لأي حقائق، لا أستطيع أن أؤكِّد أن هذه الافتراضات الثلاثة حقيقية كلها في المقام الأول! بَيْدَ أن الأهم هو: كيف توصَّلت إلى اختيار هذه الافتراضات الثلاثة باعتبارها أمورًا مرشحة للحصانة ضد النقد؟ لماذا دلفي وليست أثينا؟ لماذا اثنان واثنان وليس ثلاثة وأربعة؟ لِمَ ليست نظرية فيثاغورس؟ هل لأنك قرَّرْتَ أن الافتراضات التي اخترتَها هي الأقدر على التعبير عمَّا ترمي إليه لأن صحتها هي الأكثر وضوحًا وبديهيةً من بين كل الافتراضات التي وضعتها في الاعتبار؟
سقراط : نعم.
هيرميس : ولكن كيف حدَّدْتَ مدى وضوح وبديهية صحة كلٍّ من الافتراضات المرشحة تلك مقارَنةً بنظيراتها؟ أَلَمْ تنقدها؟ أَلَمْ تحاول سريعًا أن تجد وسائلَ أو أسبابًا قد تجعلها خاطئةً؟
سقراط : نعم، فعلتُ ذلك. لقد فهمت، لو كنت حصَّنتها ضد النقد لَمَا ملكت وسيلةً للوصول إلى تلك النتيجة.
هيرميس : إذنْ فأنت بالرغم من كل شيءٍ تمارس اللامعصومية مع أنك تظن العكسَ مخطئًا.
سقراط : لقد شككتُ فيها فحسب.
هيرميس : لقد شككتَ ونقدتَ اللامعصومية ذاتها كما ينبغي لممارِسها أن يفعل.
سقراط : هذا صحيح، وعلاوةً على هذا لولا نقدها لَمَا توصَّلْتُ إلى فهم سببِ صحتها. «طوَّرَ» شكي معرفتي بحقيقةٍ مهمة، وهي أن المعرفة المنيعة على النقد لا يمكن أن تتطوَّر أبدًا.
هيرميس : كنت تعلم ذاك أيضًا؛ ولذلك تُشجِّع الجميعَ دائمًا على نقْدِ حتى ما يبدو من أوضح الأمور إليك …
سقراط : ولذلك أيضًا أنا أضرب لهم مثلًا بنفسي حيث أفعل الأمرَ ذاته معهم!
هيرميس : ربما. والآن تَصوَّرِ الآتي: ماذا يحدث لو ارتكَبَ الناخبون الأثينيون غيرُ المعصومين خطأً، وسنُّوا قانونًا طائشًا جائرًا؟
سقراط : ولطالما فعلوا للأسف …
هيرميس : تخيَّلْ — على سبيل النقاش — حالةً محدَّدة. لتفترِضْ أنهم اقتنعوا جمَّ القناعة بأن «السرقة» فضيلة سامية تنهال منها منافع عديدة، وأنهم ألغَوْا كلَّ قانون يُحرِّمها؛ فماذا سيحدث؟
سقراط : سيَشرع الجميع في السرقة، وسرعان ما يُصبح أولئك الأمهرُ فيها (وفي العيش بين اللصوص) أغنى المواطنين، بَيْدَ أن أغلب الناس (وحتى معظم اللصوص) لن يبقَوْا بمأمنٍ وسط ممتلكاتهم، وسرعان ما سيجد الفلاحون والحرفيون والتجار أن الاستمرار في إنتاج أي شيءٍ ذي قيمةٍ تجذب السارقين أمرٌ مستحيل؛ ومن ثَمَّ سيحلُّ الخراب والجوع من دون المنافع الموعودة، ويدرك الجميع الخطأ الذي ارتكبوه.
هيرميس : أحقًّا سيدركون؟ دعني أذكِّرك من جديدٍ يا سقراط كيف أن الطبيعة البشرية غير معصومةٍ من الخطأ؛ فلو افترضنا أنهم كانوا على أتمِّ اقتناعٍ بمنفعة السرقة، أفَلَا يكون أولُ رد فعلٍ يتخذونه ضد تلك النكسات هو الاعتقادَ بأن السرقات الجارية «غير كافية»؟ ألن يسنُّوا قوانين للحثِّ على السرقة على نحوٍ أقوى؟
سقراط : للأسف، بلى، في البداية، ولكن مهما بلغ اقتناعهم ذاك، فستكون تلك النكسات «مشكلات» في حيواتهم وسيودُّون حلها، وسيبدأ عددٌ منهم مع الوقت في الشك في أن زيادة السرقات قد لا تكون حلًّا بالرغم من كل شيء؛ ولهذا سيولُون الأمرَ مزيدًا من التفكير. إن كان تفسيرٌ ما قد أقنعهم بمنافع السرقة، فإنهم الآن سيحاولون تفسير عدم جدوى الحل المفترض، وسيجدون بمرور الوقت تفسيرًا يبدو أفضل، ولسوف يُقنِعون به الآخرين تدريجيًّا، وهكذا إلى أن تُعارض الأغلبيةُ السرقةَ مجدَّدًا.
هيرميس : بالضبط! إذنْ سيأتي الخلاص بواسطة الإقناع.
سقراط : إنْ وددتَ. الفكر، والتفسير، والإقناع؛ وحينئذٍ سيفهمون «سببَ» ضرر السرقة فهمًا أفضل، بواسطة تفسيراتهم الجديدة (التي قد يعتقد البعض مخطئين أنها «استُنتجت بواسطة التجربة»).
هيرميس : بالمناسبة، تبدو أثينا من وجهة نظري تمامًا كالقصة الصغيرة التي تخيَّلناها للتوِّ.
سقراط (ممتعضًا بعض الشيء) : لا بد أنك تسخر منَّا!
هيرميس : إطلاقًا أيها الأثيني، إني أُجلُّكم كما سبق أن قلتُ. لنتصوَّرِ الآنَ ماذا سيحدث لو كان خطأُ الأثينيين — بدلًا من تشريع السرقة — هو حظرَ الجدل، وكذلك حظر الفلسفة والسياسة والانتخابات وكوكبة الأنشطة تلك برُمَّتها، ووضعها في مصاف الأنشطة الشائنة.
سقراط : أفهمك. سيؤدي ذلك إلى حظر الإقناع؛ ومن ثَمَّ إلى حجْبِ أيِّ سبيلٍ للخلاص الذي تناقشنا بصدده. إن هذا خطأ من نوعٍ نادرٍ ومُهلِك؛ فهو يمنع نفسه من أن يُصلَح.
هيرميس : أو هو على الأقل يزيد صعوبةَ الخلاص على نحوٍ هائل. صدقتَ، هكذا تبدو لي إسبرطة.
سقراط : ولي أيضًا، ما إن أوضحت كل ذلك. لطالما فكَّرْتُ مليًّا فيما مضى في الاختلافات العديدة بين مدينتَيْنا؛ إذ لا بد أن أعترف بوجود الكثير ممَّا كان يعجبني — وما زال يعجبني — في الإسبرطيين، لكني لم أكتشف قطُّ قبلَ الآن كيف أن كلَّ تلك الاختلافات سطحية؛ إذ بالرغم من كل فضائلها ورذائلها الواضحة، بل بالرغم أيضًا من حقيقة عداوتها الضروس لأثينا، فإن إسبرطة هي الضحية — والخادم — لشرٍّ عميق. إنَّ هذا كشفٌ بالغ الأهمية يا أبولو النبيل، أفضل من ألف تصريحٍ من الكاهنة، ولا يسعني التعبير عن امتناني تعبيرًا وافيًا.

(هيرميس يومئ برأسه في امتنان.)

سقراط : أفهم أيضًا لِمَ تحثني دائمًا على وضْع لامعصومية البشر في اعتباري. في الواقع — وبما أنك قد ذكرتَ أن بعض الحقائق الأخلاقية تنبع على نحوٍ منطقيٍّ من اعتبارات معرفية — فإنني أتساءل ما إذا كانت جميعها تفعل الشيءَ ذاته. أمن الممكن أن يكون الأمرُ الأخلاقي الوحيد هو الأمرَ بعدم تدمير وسائل تصحيح الأخطاء؟ وأن كلَّ حقيقةٍ أخلاقيةٍ أخرى تنبع منه؟

(هيرميس صامت.)

سقراط : كما تريد، والآن بخصوص أثينا وما كنتَ تقول عن نظرية المعرفة: إذا كانت آفاقُ اكتشافنا للمعارف الجديدة مشرقةً جدًّا، فلماذا كنتَ تؤكِّد أن الحواس ليست أهلًا للاعتماد عليها؟
هيرميس : كنتُ أصوِّبُ وصْفَكَ للسعي نحو المعرفة باعتباره محاولةً «لرؤية ما وراء ما تسهُل رؤيته».
سقراط : كان ذلك قولًا مجازيًّا، وكنتُ أقصد بالرؤيةِ «الفهمَ».
هيرميس : نعم، ومع ذلك أقررتَ بأنه حتى الأشياء التي اعتقدت أن رؤيتها فعلٌ يسيرٌ هي في واقع الأمر «فعليًّا» عكس ذلك تمامًا دون المعرفة السابقة. في واقع الأمر، لا يوجد ما هو يسيرٌ في رؤيته على الإطلاق دونَ وجود معرفةٍ سابقةٍ بشأنه؛ كل معرفة العالم صعبة المنال، وعلاوةً على ذلك …
سقراط : وعلاوةً على ذلك أن ممَّا يتبع أننا لا نصل إليها بواسطة «البصر»؛ إنها لا تنهال إلى داخلنا عبر الحواس.
هيرميس : بالضبط.
سقراط : ومع ذلك تقول إن المعرفة الموضوعية ممكنة المنال، فما دامَتْ لا تصل إلينا بواسطة الحواس، فمن أين تأتي؟
هيرميس : ماذا لو أخبرتُكَ أن المعرفة كلها تأتي من الإقناع؟
سقراط : الإقناع ثانيةً! حسنًا، سأُجيب — مع جلِّ احترامي — بأن هذا لا يُعقَل. إن مَن يقنعني بأمرٍ ما لا بد أن يكون قد اكتشفه بنفسه أولًا، وفي هذه الحالة تكون المسألةُ الجوهرية هي: من أين أَتَتْه تلك المعرفةُ؟
هيرميس : صحيح، إلا إذا …
سقراط : وعلى أي حال، عندما أتعلَّم شيئًا من خلال الإقناع، فهو «يأتيني» عبر حواسي.
هيرميس : لا، في هذه أنت مخطئ، يبدو لك الأمرُ كذلك فحسب.
سقراط : «ماذا؟»
هيرميس : حسنًا، إنك تتعلَّم مني أمورًا الآن، أليس كذلك؟ أتراها تصلك بواسطة حواسك؟
سقراط : نعم بالطبع. أوه … لا ليس صحيحًا، لكن ذلك لأنك — باعتبارك كيانًا خارقًا — تتجاوز حواسي وترسل إليَّ المعرفة في حلم.
هيرميس : هل أفعل ذلك؟
سقراط : ظننتُكَ قلتَ إنك لستَ هنا لممارسة حِيَل الجدال! هل تُنكر وجودك نفسه الآن؟ عندما يفعلها السفسطائيون، آخذ كلمتهم عادةً على محمل الجد وأتوقَّف عن جدالهم.
هيرميس : وهي سياسة تنمُّ عن حكمتك يا سقراط، إلا أنني لم أنكر وجودي، تساءلتُ فقط «أي فارق هنالك» إذا ما كنتُ حقيقيًّا أو لا. أكان سيُغيِّر هذا رأيك في أي شيءٍ تعلَّمتَه عن نظرية المعرفة خلال هذا الحديث؟
سقراط : ربما لا …
هيرميس : «ربما» لا؟ هلمَّ يا سقراط، لقد كنتَ تُفاخر قبل حين بأنك وبني وطنك منفتحون دائمًا للإقناع.
سقراط : نعم، أفهمك.
هيرميس : والآن، لو كنتُ «حقًّا» محض تلفيقٍ من خيالك، فمَن عساه أقنعك؟
سقراط : أفترض أنني مَن أقنعت نفسي، ما لم يكن هذا الحلم غير آتٍ لا منك ولا مني، وإنما من مصدرٍ آخَر …
هيرميس : لكن أَلَمْ تَقُلْ إنكم منفتحون للإقناع من أي مصدر؟ لو أن الأحلام تنبع من مصدرٍ مجهول، فماذا في ذلك؟ ما دامت مقنعةً، أَلَا تلتزم باعتبارك أثينيًّا بميثاق شرف أن تقبلها؟
سقراط : يبدو ذلك، لكن ماذا لو نبع الحلم من مصدرٍ شرير؟
هيرميس : لا يُشكِّل ذلك فارقًا جوهريًّا أيضًا. افترِضْ أن المصدر يزعم إخبارَك حقيقةً؛ عندئذٍ إذا شككتَ بأن المصدر شرير، فستحاول أن تفهم أيَّ شرٍّ يحاول اقترافَه بإخبارك تلك الحقيقة المزعومة، ولكنك — بالاعتماد على تفسيرك — قد تُقرِّر أنْ تُصدِّقها بالرغم من كل شيء.
سقراط : أفهمك. فمثلًا، إذا أعلن عدوٌّ لي أنه يخطِّط لقتلي، فربما صدقته بالرغم من شر سريرته.
هيرميس : نعم، وقد لا تصدِّقه، وإذا زعم أقربُ أصدقائك إخبارَك بحقيقةٍ، فقد تتساءل بالمثل إذا ما كان «هو» قد ضُلِّل بفعل طرفٍ ثالثٍ شرير، أو أنه أخطأ ببساطةٍ لأيٍّ ممَّا لا حصرَ له من أسباب، وهكذا من السهل أن تبزغ مواقفُ لا تُصدِّق فيها أقربَ أصدقائك وتُصدِّق ألدَّ أعدائك. ما يهم في كل الأحوال هو التفسير الذي تُوجِده — في عقلك أنت — للحقائق، وللملاحظات وللنصائح المذكورة.
لكن الحالة ها هنا أبسط. لن أبوح بحقائق كما قلتُ؛ فقط أُقِيمُ الحجة.
سقراط : أفهمك، لا حاجةَ لي بأن أثق بالمصدر لو كانت الحجةُ نفسها مُقنِعةً، ولا جدوى من الاستناد إلى «أي» مصدرٍ إذا لم أملك كذلك حجةً مقنعةً.
انتظر لحظة؛ لقد أدركتُ شيئًا لتوِّي؛ أنت «لا توحي بحقائق»، لكن الإله أبولو يوحي بها «بالفعل» — بالمئات كلَّ يومٍ — على يد الكاهنة. نعم، لقد فهمتُ الآن. أنت لستَ أبولو، بل إله آخَر.

(هيرميس صامت.)

سقراط : من البيِّن أنك إله معرفة … لكنَّ آلهةً عدةً تهتمُّ بالمعرفة — أثينا ذاتها منهم — لكني أستطيع أن أقول إنك لستَ هي.
هيرميس : لا، لا تستطيع.
سقراط : بل أستطيع، لا أعني من مظهرك، ولكن أعني أنني قادر على أن أستدلَّ على ذلك من الأسلوب المحايد القصي الذي تتحدَّث به عن الأثينيين. إذنْ، أعتقد أنك هيرميس؛ إله المعرفة، والرسائل، وتدفُّق المعلومات …
هيرميس : فكرة رائعة، لكن ما الذي يجعلك تعتقد أن أبولو يوحي بحقائق على يد الكاهنة.
سقراط : أوه!
هيرميس : لقد اتفقنا أن معنى «الوحي» هو إخبار السائل أمرًا لا يعلمه بعدُ …
سقراط : هل «كل» إجاباته خدع ودعابات؟

(هيرميس صامت.)

سقراط : كما تريد يا هيرميس السريع، دَعْني إذنْ أحاول فهمَ حجتك حول المعرفة. لقد سألت من أين تأتي المعرفة، ولفتَّ أنت انتباهي لهذا الحلم بالذات. لقد سألتني إنْ كان يوجد ثَمَّةَ فارقٌ حيال نظرتي للمعرفة التي اكتسبتُها منك لو تبيَّنَ أنها لم تصدر عن إلهامٍ خارقٍ للطبيعة بعد كل شيء. وقد وجب عليَّ أن أوافقك على أن لا فارقَ هنالك. إذنْ هل يكون من الصحيح أن أستنتج … أن المعرفة تنبع كلها من نفس المصدر الذي تنبع منه الأحلام، وهو من داخلنا؟
هيرميس : بالطبع، هل تذكر ما كتبه زينوفانيس بعدما قال إن المعرفة الموضوعية في متناول يد البشر؟
سقراط : نعم، يقول النص بعدها:
أما الحقيقة المؤكَّدة، فلم يعرفها بشر،
ولن يعرفها، لا عن الآلهة،
ولا عن أي شيءٍ أتحدَّث عنه.
وحتى إن نطق الحقيقةَ الكاملة بلسانه مصادَفةً،
فلن يدريَ أنه فعل.
إذنْ، هو يقول هنا إن المعرفة الموضوعية في المتناول، أمَّا الاعتقاد المبرر (أي «الحقيقة المؤكدة»)، فلا.
هيرميس : نعم، لقد تناولنا كلَّ ذلك، ولكن الإجابة التي تبحث عنها في السطر التالي من النص.
سقراط : «فكلها ليست سوى شبكةٍ منسوجةٍ من التخمينات.» تخمينات!
هيرميس : نعم، افتراضات.
سقراط : لكن مهلًا! ماذا عندما تتأتَّى المعرفةُ من سُبُلٍ غير التخمين؛ كأنْ يرسل إليَّ إلهٌ حلمًا؟ ماذا عندما أسمع أفكارًا من أناسٍ آخَرين ببساطة؟ ربما يكونون هم قد خمَّنوها، إلا أنني أنالها فقط بالإصغاء.
هيرميس : غير صحيح؛ ففي كل تلك الحالات، يظلُّ واجبًا عليك التخمينُ لتُحصِّلَ المعرفةَ.
سقراط : حقًّا؟
هيرميس : بالطبع، أَلَمْ يحدث كثيرًا أنْ أساءَ فهمَك أنت نفسك أناسٌ، حتى إنْ حاولوا جاهدين أن يفهموك؟
سقراط : نعم.
هيرميس : وأنت بدورك، أَلَمْ تُسِئْ فهْمَ ما يقصده أحدُهم، حتى وقد حاول أن يكون شديدَ الوضوح فيما يقول؟
سقراط : حدث بالفعل، ولا سيما في حديثنا هذا!
هيرميس : حسنًا، لا تقتصر هذه السمة على الأفكار الفلسفية وحدها، وإنما تتصف بها سائر الأفكار. أتذكر حين ضللتُم جميعًا الطريقَ من السفينة إلى هنا؟ ولماذا حدث ذلك؟
سقراط : كان ذلك — كما أدركنا بعد فوات الأوان — لأننا أسأنا فهْمَ الإرشادات التي أعطانا إياها القبطانُ تمامًا.
هيرميس : فلما حصلتم على فكرةٍ خاطئةٍ عمَّا كان يعنيه بالرغم من إنصاتكم بانتباهٍ إلى كل كلمةٍ قالها، فمن أين أتَتْ تلك الفكرة؟ أفترض أنها لم تأتِ منه …
سقراط : فهمت، لا بد أنها أتَتْ من داخلنا، لا بد أنها تخمين، مع أني — حتى هذه اللحظة — لم يخطر لي قطُّ أنني كنتُ أخمِّن.
هيرميس : لماذا تتوقَّع إذنْ أن يحدث أيُّ شيءٍ مختلفٍ عندما تفهم أحدَهم على نحوٍ صحيح؟
سقراط : فهمت، عندما نستمع إلى شيءٍ يقال، «نخمِّن» معناه دون أن نَعِيَ ما نفعله. بدأ الأمر يبدو معقولًا في نظري.
فيما عدا أن التخمين ليس بمعرفة!
هيرميس : بالفعل، ليسَتْ أغلب التخمينات معرفةً جديدة؛ فمع أن التخمين هو «أصل» كل المعرفة، فإنه كذلك مصدر للخطأ، ولهذا فإنَّ ما يحدث للفكرة «بعد» أن تُخَمَّن أمرٌ مهم.
سقراط : إذن، دعني أدمج هذا مع ما أعرفه عن النقد. قد يأتي التخمينُ من حلم، أو قد يكون مجردَ تفكُّرٍ جامح، أو مزيجٍ عشوائيٍّ من الأفكار، أو أيِّ شيءٍ آخَر، لكننا لا نتقبَّله تقبُّلًا أعمى فحسب، أو نتخيَّل أنه «مُعتَمَد»، أو «نريده» أن يكون حقيقيًّا، بل ننقده ونحاول استكشافَ عيوبه.
هيرميس : نعم، هذا ما «ينبغي» عليك فعله على أي حال.
سقراط : ثم نحاول علاجَ تلك العيوب بالتعديل في الفكرة، أو نبذها واستبدال غيرها بها، والتعديلاتُ والأفكارُ البديلة ذاتها تخميناتٌ يتمُّ انتقادُها، ثم إننا لا نقبل بالفكرة مؤقتًا إلا حينما نخفق في نبذها أو تحسينها.
هيرميس : قد ينجح ذلك. لا يسلك الناسُ السُّبُلَ الوارد نجاحها لسوء الحظ.
سقراط : أشكرك يا هيرميس؛ إنه لمن الشائق أن أكتشف هذه العمليةَ الوحيدةَ التي تنبع منها كلُّ المعرفة، سواءٌ أكانت معرفتَنا بإرشادات قبطان البحر عن دلفي، أم معرفتَنا عن الصواب والخطأ التي أصقلناها عبر السنين، أم معرفتَنا عن نظريات الحساب أو الهندسة الرياضية أو نظرية المعرفة التي أوحى إلينا بها إله …
هيرميس : تأتي كلها من الداخل؛ من الافتراض والنقد.
سقراط : مهلًا! تأتي من الداخل، حتى إنْ كانت «من وحي إله»؟
هيرميس : وتكون عرضةً للخطأ دائمًا وأبدًا. نعم، تشمل حجتك هذه الحالة تمامًا كما تشمل غيرها.
سقراط : إن هذا مدهش! ولكن ماذا عن الأشياء التي «نختبرها» فقط في العالم الطبيعي؛ كأنْ نمدَّ يدًا، فنلمس شيئًا ما، فمن ثَمَّ نختبره خارجنا. لا شكَّ أن هذا نوعٌ مختلفٌ من المعرفة؛ نوعٌ — سواءٌ أكان عرضةً للخطأ أو غير ذلك — يأتي من خارجنا، على الأقل بمعنى أن خبرتنا به تقع «بالخارج» في محل الشيء المختبر (لم يحسم اليونانيون القدامى أمرَهم بشأن موقع التجارب الحسية؛ حتى فيما يتعلَّق بحاسة الإبصار، كان ظنُّ العديد من معاصري سقراط أن العين «تصدر» شيئًا كالضوء، وأن الإحساس برؤية الأشياء يتألَّف من تفاعُلٍ ما بينها وبين ذلك الضوء).
هيرميس : لقد أُعجِبت من قبلُ بفكرة أن كل أنواع المعرفة المتباينة تلك تنشأ بنفس الطريقة، وتُحسَّن بنفس الطريقة؛ فلماذا تكون التجربة الحسية «المباشِرة» استثناءً؟ ماذا لو أنها «تبدو» مختلفةً اختلافًا جذريًّا فحسب؟
سقراط : ولكنك بالتأكيد تطالبني الآن بأن أُومِنَ بنوعٍ من الخدع السحرية الشاملة يُشبه تلك الفكرة الخيالية بأن الحياة في مجملها ليسَتْ في حقيقة الأمر إلا حلمًا؛ فمعناه أن الإحساس بلمس شيءٍ لا يحدث حيث نشعر به — أيْ في اليد التي تلمس — وإنما في العقل الذي أعتقد أنه في مكانٍ ما في المخ. إذنْ تقع كل أحاسيسي الخاصة باللمس في داخل جمجمتي التي لا يمكن أن يمسَّ ما بداخلها شيءٌ ما دمت حيًّا. وحين أعتقد أنني أرى منظرًا طبيعيًّا شاسعًا ووضَّاءً وخلَّابًا، يكون ما أخبُرُه بحقٍّ واقعًا بالكامل داخل جمجمتي التي لا تنزاح الظلمةُ من داخلها!
هيرميس : هل هذا سخيف جدًّا؟ أين عساك تظنُّ كلَّ مشاهد وأصوات هذا الحلم؟
سقراط : أصدق أنها حقًّا داخل عقلي، ولكن هذا هو ما أعنيه؛ تُصوِّرُ معظمُ الأحلام أشياءَ ليسَتْ ببساطةٍ موجودةً في الواقع الخارجي. لا بد أنه من المستحيل أن تُصوِّرَ الأحلامُ أشياءَ موجودةً دون معطياتٍ غير آتيةٍ من العقل، بل من تلك الأشياء نفسها.
هيرميس : تفكير محكَم يا سقراط، لكن هل من حاجةٍ إلى هذه المعطيات في مصدر حلمك؟ أم أن الحاجة إليها تكون فقط في نقدك المتواصِل له؟
سقراط : هل تعني أننا نُخمِّن أولًا ما هو موجود، ثم — ماذا؟ — نختبر التخمينَ من خلال معطيات حواسنا؟
هيرميس : نعم.
سقراط : فهمت. ثم نُنقِّح تخميناتنا ونصوغ من أفضلها نوعًا من الحلم الواعي بالواقع (إنَّ خبرتَنا بالعالم تأخذ فعلًا شكلَ معالجةِ الواقع الافتراضي الذي يحدث بالكامل داخل العقل).
هيرميس : نعم، حلم واعٍ يتوافق مع الواقع. ليس هذا فحسب؛ إنه حلم تملك أنت زمامَ أمره، تفعل ذلك بأن تتحكَّمَ في عناصر الواقع الخارجي المتوافقة معه.
سقراط (يشهق) : يا لها من نظريةٍ بديعةٍ في شمولها! وهي — على قدر فهمي — مترابطة. لكن هل يجب أن أقبل أنني أنا نفسي — الكائن المفكِّر الذي أدعوه «أنا» — لا أملك أيَّ معرفةٍ مباشِرةٍ عن العالم المادي بالمرة، ولا يسعني غيرُ استقبالِ إشاراتٍ غامضةٍ عن ذلك العالم بواسطة ومضاتٍ وخيالاتٍ تصادف أن تنطبع على عينيَّ وباقي حواسي؟ وأن ما أختبره باعتباره واقعًا لا يكون مطلقًا سوى حلمٍ واعٍ يتكوَّن من حِيَلٍ نشأت من داخلي؟
هيرميس : هل لديك تفسير بديل؟
سقراط : لا، وكلما تأمَّلت في هذا التفسير ازددت غبطةً (وهو شعور يجب أن أحذر منه! غير أنني مقتنع كذلك). يعلم الجميع أن الإنسانَ نموذجٌ أسمى من الحيوانات، لكن لو كانت نظريةُ المعرفة التي تخبرني بها صادقةً، لَكُنَّا إذن مخلوقاتٍ أعظمَ كثيرًا من ذلك. ها نحن نجلس نُخمِّن — محبوسين للأبد في كهفِ جماجمنا المظلم شبه المصمت — ننسج أخبارًا عن عالمٍ خارجي، أو عوالمَ في الواقع؛ عالمٍ مادي، وعالمٍ أخلاقي، وعالمِ أشكالٍ هندسيةٍ مجردة، وغيرها، ولكننا لا نكتفي بمجرد التخمين، ولا بالأخبار، إنما نريد تفسيراتٍ حقيقية؛ وعلى هذا، نسعى إلى تفسيراتٍ تبقى قويةً بعد قياس بعضها على بعض، وبعد قياسها على تلك الومضات والخيالات، وعلى معايير المنطق والمعقولية وكل ما يسعنا التفكيرُ فيه. وعندما نعجز عن تغيير هذه التفسيرات لأبعد من ذلك، نكون قد فهمنا شيئًا من «الحقيقة الموضوعية». وبالإضافة إلى ذلك — وكأنَّ هذا كلَّه ليس بكافٍ — نتحكَّم حينئذٍ فيما نفهم، وكأنه سحرٌ لكنَّه حقيقي. إننا كالآلهة!
هيرميس : حسنًا، أحيانًا ما تكتشفون بعضَ الحقيقة الموضوعية، وكنتيجةٍ لذلك، تملكون بعضَ التحكُّم، ولكن في الغالب لا تكونون قد حقَّقتم أيًّا من ذلك حينما تظنون أنكم حقًّا حقَّقتموه.
سقراط : نعم، نعم. لكن هل نستطيع إثرَ اكتشافنا لبعض الحقيقة أن نَحزر تخميناتٍ أفضل، ونُجري مزيدًا من النقد والاختبارات؛ ومن ثَمَّ نفهم المزيدَ ونتحكَّم بالمزيد، كما يقول زينوفانيس؟
هيرميس : نعم.
سقراط : إذن نحن «حقًّا» كالآلهة!
هيرميس : بشكلٍ ما، ولِأُجِيب عن سؤالك التالي: نعم، تستطيعون أن تشبهوا الآلهةَ أكثر وفي مناحٍ أكثر — «لو اخترتم هذا» (وإنْ كنتم ستظلون دومًا غيرَ معصومين من الخطأ).
سقراط : ولِمَ لا نختار هذا؟ أوه، فهمت: إسبرطة وما شابهها …
هيرميس : نعم، لكن أيضًا لأن البعض قد يجادل بأن وجود «آلهة غير معصومة» ليس بأمرٍ جيد …
سقراط : تمامًا. لكن «إذا» اخترنا هذا، فهل تقول إنه لا يوجد حدٌّ أقصى لما يمكن أن نصل إليه من فهمٍ وتحكُّمٍ وإنجاز؟
هيرميس : من الغريب أن تسأل هذا السؤال. سيُكتَب بعد أجيالٍ من زمننا هذا كتابٌ سيقدِّم ما هو شائق من … (في هذه اللحظة، يدقُّ الباب. ينظر سقراط إلى مصدر الصوت ثم يعود بنظره إلى حيث كان هيرميس ليجده اختفى.)
كريفون (من وراء الباب) : آسف لإيقاظك يا صديقي، لكني سمعتُ أننا إذا لم نُخْلِ هذه الغرفَ قبل أن يصل الخَدَم لتنظيفها، فقد نُحاسَب على أجرة يومٍ آخَر.
سقراط (يبرز من الغرفة، ويدخل عبد كريفون ليحزم متاع سقراط المتواضع) : يا كريفون، لم تذهب رحلتنا سُدًى بالرغم من كل شيء! لقد قابلتُ هيرميس.
كريفون : ماذا؟
سقراط : نعم، الإله. قابلتُه في حلم، أو ربما قابلته شخصيًّا، أو لعلِّي حلمتُ فحسب أنني قابلته، لكن هذا لا يهم لأنه — كما أوضح لي — لا يشكِّل أيَّ فارق.
كريفون (حائرًا) : ماذا؟ لِمَ لا؟
سقراط : لأني تعلَّمْتُ فرعًا جديدًا بالكامل من الفلسفة، وأكثر من ذلك! (تقترب مجموعةٌ من رفاق سقراط، يتقدَّمهم بحماسٍ شاعرٌ مراهقٌ يُدعَى أرسطوقليس يُطلِق عليه رفاقُه اسمَ أفلاطون (ومعناها «العريض») بسبب بنيته الشبيهة ببنية المصارعين.)
أفلاطون : سقراط! صباح الخير! أشكرك من جديدٍ ألفَ شكرٍ على السماح لي بالمجيء في تلك الرحلة! (يدخل في الفلسفة مباشَرةً دون أن ينتظر إجابةً) ولكني كنتُ أفكِّر في الليلة الماضية: أَيُعَدُّ وحيًا أن تخبرنا الكاهنةُ ما نعلمه بالفعل؟ كنَّا نعلم بالفعل أنْ ليس من بين الناس مَن هو أكثر حكمةً منك؛ لذلك فكَّرْتُ: أَلَا ينبغي أن نعود إلى الكاهنة ونطالب بسؤالٍ مجاني؟ لكني فكرتُ حينئذٍ …
كريفون : يا أرسطوقليس، إن سقراط قد …
أفلاطون : لا، انتظر! لا تخبرني بالإجابة. دعني أُطلِعك على أفضل تخمينٍ لي أولًا، أقول فكَّرْتُ أنْ … نعم، لقد كنَّا نعلم حقًّا أنه أكثر الناس حكمةً، وأنه أكثرهم تواضعًا، لكننا لم نكن نعلم كَمْ هو متواضِعٌ بالضبط؛ إذنْ هذا هو ما كشف عنه الإله لنا! وهو أن سقراط من التواضع الشديد حتى إنه قد يعارض إلهًا يقول عنه إنه حكيم.

(الرفاق يضحكون.)

أفلاطون : وثَمَّةَ شيء آخَر؛ كان مَن يعلم بتميُّزِ سقراط هم «نحن»، أما الآن فقد كشف أبولو النقابَ عن ذلك «للعالَم بأسره».
كريفون (بصوتٍ خفيض) : كَمْ أتمنَّى إذن لو اشترك «العالم بأسره» في دفع الأجرة.
أفلاطون : ماذا قلتَ؟ هل تخميني صحيح؟ (يلتقط سقراط نفسًا ليُجيب، لكن أفلاطون يواصل حديثه مجددًا.)
أوه، هل تسمح لي يا سقراط بأن أدعوَك «سيدي»؟
سقراط : لا.
أفلاطون : نعم، نعم، بالطبع، عذرًا؛ كلُّ ما في الأمر أني كنتُ أتسكَّع مع بعض الفتية الإسبرطيين في الملعب الرياضي، وهكذا يتحدَّثون طوال الوقت: «قال سيدي هذا. قال سيدي ذاك. لا يسمح سيدي بكذا …» وهكذا، وصل الأمر إلى أنْ بتُّ غيورًا إذ ليس لديَّ سيدٌ أنا الآخَر؛ ومن ثَمَّ …
رفيق رقم ۱ : ويحك يا أفلاطون!
أفلاطون : نعم، لكن …
كريفون (ملتقطًا طرفَ الحديث) : فتية «إسبرطيون»؟ إن هذا غير لائقٍ بالمرة يا أرسطوقليس، إننا في حالةِ حربٍ ضد مدينتهم!
أفلاطون : لسنا كذلك؛ ليس هنا في دلفي، كما أنهم لا يمكن أن ينتهكوا هدنةَ الكاهنة المقدسة «مطلقًا»؛ فهم شديدو التقوى كما تعلم. فتية طيبون بالرغم من لكناتهم الغريبة، لَكَمْ تَحدَّثنا عن المصارعة! أعني عندما لم نكن نمارسها بالفعل. لقد سهرنا طوالَ الليل نتصارع على ضوء الشموع، لم يسبق لي أن فعلتُ ذلك قطُّ. إنهم بارعون بحقٍّ! بالرغم من أنهم يغشُّون كذلك من آنٍ لآخَر. (يبتسم في تسامحٍ إذ يتذكَّر) ومع هذا لم أكن لأترك مدينتنا تُمتهَن، ستُسرُّون عندما تعرفون أني فزتُ بعدة مبارياتٍ من أجل خاطر الأثينيين. كان تباريًا محتدمًا! علَّمني الإسبرطيون بضع حركاتٍ رائعةٍ لا أُطيق صبرًا لأُجرِّبَها في بلدي. غير أن أحدًا منهم ليس مهتمًّا بالشعر لسببٍ معيَّن.
سقراط : إنهم لا يجلُّون الشعراءَ في إسبرطة؛ الأحياء منهم على الأقل.
أفلاطون : يا للحسرة! لقد نظمتُ قصيدةً بمناسبة مسابقتنا في المصارعة، أو هي تدور في الواقع — فيما بين سطورها — حول سبب تفوُّق أثينا على إسبرطة. إنها عبارة عن حجةٍ رياضية … لقد بعثتُ بها مع أحد العبيد إلى حيث يقيمون لكي يُلقِيها عليهم على أي حال، لكن ما دام أنهم لا يُجلُّون الشعراءَ فربما لن يقدِّروها. أوه، لا بأس، أقول في القصيدة …
كريفون : أرسطوقليس … لقد زار الإله هيرميس سقراط ليلةَ أمس!
أفلاطون : مرحى! لماذا لم تنادِنا يا سقراط؟ كان ذلك أفضل حتى من مصارعة الإسبرطيين!
سقراط : لم أستطع أن أناديَ أيَّ شخص؛ فلقد وقع ذلك في منامٍ، أو غيره؛ لستُ واثقًا حتى من أنه كان حقًّا الإله، لكن — كما بيَّنَ هو لي — هذا لا يهم.
أفلاطون : لِمَ لا؟ أوه، أحسب أن ما يهم بعد انقضاء التجربة هو ما تعلَّمتَه منها. ماذا أراد إذن؟ أراهن على أنه أراد أن يجتذبك بعيدًا عن دين أبولو. لا تفعل ذلك يا سقراط! أبولو أفضل كثيرًا؛ لا أقصد أنَّ ثَمَّةَ ما يعيب هيرميس، لكنه لا كهانةَ له، كما أنه ليس في روعة …
كريفون (مصدومًا) : أَبْدِ بعضَ الاحترام يا أرسطوقليس … لسقراط «وكذلك» للآلهة!
سقراط : بل «إنه» يُبدي الاحترام يا كريفون، ولكن بطريقته الخاصة.
أفلاطون (مرتبكًا) : بالطبع أحترمهم يا كريفون، وأنت تعلم كيف أني مستعِدٌّ لأنْ أعبدَ سقراط إذا سمح لي بذلك، وأحترمك أنت أيضًا احترامًا بالغًا أيها الرجل العجوز. أرجو أن تسامحني إنْ كنتُ قد أسأتُ إليك: أعلم أني أفرط في الحماسة أحيانًا. (يتوقَّف قليلًا) لكنْ يا سقراط … عن أي شيءٍ سألتَ الإلهَ؟ وبماذا أجابك؟
سقراط : لم يجرِ الأمرُ هكذا بالضبط. أتى الإله ليوحيَ إليَّ بفرعٍ جديدٍ من الفلسفة؛ نظرية المعرفة — أيِ المعرفة حول المعرفة — وهي تتضمَّن أيضًا ما يتعلَّق بالأخلاق ومجالاتٍ أخرى. كنتُ على علمٍ بالكثير من ذلك بالفعل، أو أعلم بعضَه في حالاتٍ خاصةٍ متعدِّدة، لكنه أعطاني نظرةً إلهيةً شاملة، وهو ما كان أخَّاذًا. ومن المثير أنه فعل ذلك بأنْ سألني «أنا» الأسئلةَ، ودعاني «أنا» لأنْ أفكِّرَ في أمورٍ بعينها. يبدو أن ذلك أسلوبٌ فعَّال، قد أُجرِّبه في وقتٍ ما.
أفلاطون : احكِ لنا كلَّ شيءٍ يا سقراط! ابدأ بأكثر الأشياء التي طلبها منك تشويقًا، وبِردِّك عليه.
سقراط : حسنًا، كان ممَّا طلب مني أن أتخيَّل وجودَ «سقراط إسبرطي».
أفلاطون : ماذا؟ سقراط إسبرطي؟ أوه، فهمتُ، لا بد أن هذا مَن كانت تقصده الكاهنةُ. يا لمكر أبولو! إن سقراط الإسبرطي هو أكثر الناس حكمةً في العالم، ولكنْ بفارقٍ واهٍ بالطبع! لكنه في الأغلب أعظم المحاربين كذلك — لكونه إسبرطيًّا. يا للروعة! أعلم قطعًا أنك كنتَ محاربًا عظيمًا أيضًا في شبابك يا سقراط، ولكنْ … سقراط إسبرطي! إذنْ هل سننطلق إلى إسبرطة على الفور لنقابله؟ أرجوكم!

(يجيب كريفون وسقراط في نفس اللحظة: «الحرب» يا أرسطوقليس!)

سقراط : آسف لأني أخيب ظنك يا أرسطوقليس، لكن تلك كانت تجربةً فكريةً بحتة؛ لا يوجد «سقراط إسبرطي»، في الحقيقة لا علمَ لي بوجود أي فلاسفةٍ إسبرطيين على الإطلاق. كان هذا — بشكلٍ أو بآخَر — محورَ أغلب حديثي مع هيرميس.
أفلاطون : أرجوك أخبرنا بالمزيد. (يشير أفلاطون إلى خادمه الخاص بينما يقول ذلك، فيأتيه الخادم — بحكم تدريبه الجيد — بلوحِ كتابةٍ مغطًّى بالشمع من رزمةٍ يحملها. يلتقط أفلاطون اللوحَ بيدٍ ويسحب قلمًا.)
سقراط : في مرحلةٍ ما، جعلني هيرميس أُدرك الفارقَ الرئيسيَّ بين المنظور الأثيني للحياة ونظيره الإسبرطي، وهو أن …
أفلاطون : انتظر! لنخمِّنْ جميعًا! يبدو هذا خلَّابًا.
سأبدأ أنا؛ لأن ذلك كان موضوع قصيدتي الرئيسي. أما عن الجزء الإسبرطي من اللغز، فسهل؛ أمجاد إسبرطة في الحرب، وهي تُثمِّن كلَّ الفضائل ذات الصلة بها كالشجاعة والجَلَد وغيرهما. (يغمغم رفاق سقراط الآخَرون معبرين عن موافقتهم.)
أما نحن — على الجانب الآخَر — فنُقدِّر كلَّ شيء، أليس كذلك؟ كل شيءٍ جيد بالطبع.
رفيق رقم ۱ : كل شيءٍ جيد؟ هذا قول يدور في حلقةٍ مفرغةٍ يا أفلاطون، إلا إذا كنتَ ستُعرِّف «الجيد» تعريفًا مستقلًّا عن معنى «ما نُقدِّره نحن الأثينيين». أعتقد أني أستطيع التعبيرَ عن هذه النقطة بمزيدٍ من الحكمة؛ إنه «القتال» مقابل «امتلاك ما يستحق القتال لأجله».
رفيق رقم ۲ : تعبير لطيف، لكنه يعني في جوهره «الحرب مقابل الفلسفة»، أليس كذلك؟
أفلاطون (مصطنعًا الشعور بالإهانة) : و«الشعر».
رفيق رقم ۳ : أمن الممكن أن يمثِّل الأثينيون — الذين ترعاهم إلهةٌ أنثى — الروحَ الإبداعيةَ في العالم، بينما يفضِّل الإسبرطيون آريز إلهَ السفك والقتل، الذي هزمته أثينا وأخضعَتْه …
أفلاطون : لا، لا، ليسوا مهتمين بآريز بهذا القدر، بل يُفضِّلون آرتميس، كما أنهم — ويا للغرابة — يُقدِّسون أثينا أيضًا. هل كنتم تعلمون ذلك؟
كريفون : أتسمحون لي بصفتي أثينيًّا أكبر سنًّا منكم جميعًا، وقد شهدتُ الكثيرَ من الحروب، بأن أقول فقط إن الأمر يبدو لي وكأنَّ مدينةَ أثينا — بالرغم من كل إنجازاتها العسكرية المجيدة — ستسعد بالقدر نفسه لو نعمَتْ بحياةٍ هادئة، وأمسَتْ صديقةً لكل اليونانيين ولا سيما الإسبرطيين منهم. ولكنَّ الإسبرطيين — مع الأسف — لا يفوق حبَّهم لإزعاجنا متى استطاعوا شيءٌ، وإنْ كان يجب أن أعترف أنهم في ذلك ليسوا أسوأ من غيرهم، حتى حلفائنا!
سقراط : افتراضات شائقة للغاية، أعتقد أنها جميعًا تحدِّد مواطنَ الاختلاف بين المدينتين، على أنني أشك — وبالطبع قد أكون مخطئًا.
أفلاطون : سقراط الإسبرطي لن يكون «متواضعًا». هل هذا هو الاختلاف؟
سقراط : لا. (وبالمناسبة، أعتقد أنه إذا وُجد، فسيكون متواضعًا.)
أشك في أننا قد التبَسَ علينا جميعًا مفهومٌ خاطئٌ عن إسبرطة؛ أمِنَ الممكن ألَّا يكون الإسبرطيون ساعين إلى الحرب كما نظنُّ على الإطلاق؟ على الأقل ليس منذ أن هزموا المدن المجاورة لهم منذ قرونٍ وجعلوا منهم عبيدًا. ربما أصبح يشغلهم — منذ ذلك الحين — شيء مختلف تمامًا، وهو ذو أهميةٍ بالغةٍ لديهم؛ وربما لا يقاتلون إلا حينما يتهدَّدهم ذلك الشيء الخطر.
رفيق رقم ۲ : وما هذا الشيء؟ إبقاءُ العبيد تحت سيطرتهم؟
سقراط : لا، ليس هذا سوى وسيلةٍ وليس بغايةٍ في حد ذاته. أعتقد أن الإله قد أخبرني بماهيةِ هذا الشيء العام الذي يشغلهم، وأخبرني أيضًا بما يشغلنا نحن؛ مع أننا للأسف نخوض حروبًا للعديد من الأسباب الأخرى، التي نندم عليها لاحقًا في الغالب.
أما نحن أبناء مدينة أثينا، فجُلُّ ما يشغلنا هو «التطوير»، وأما الإسبرطيون، فلا يسعَوْن إلا إلى «الجمود»؛ هذان هدفان متناقضان. أعتقد أنكم لو فكَّرتم في الأمر، لَوافقتُموني سريعًا على أن هذا هو المنبع الوحيد لبحر الاختلافات بين المدينتين.
أفلاطون : لم أفكِّر في الأمر على هذا النحو قطُّ، لكني أعتقد أنني أتفق معك. دعني أختبر هذه النظرية؛ هاك أحد الاختلافات بين المدينتين: ليس في إسبرطة فلاسفة؛ وذلك لأن وظيفةَ الفيلسوف هي فهم الأشياء فهمًا أفضل، وهذا أحد أشكال التغيير؛ وهو أمر ينبذونه. ثَمَّةَ اختلاف آخَر؛ أنهم لا يُعلُون من شأن الشعراء الأحياء، بل الراحلين فقط. لماذا؟ لأن الشعراء المتوفَّيْن لا ينظمون أشعارًا جديدة، على عكس الأحياء. ويوجد اختلاف ثالث؛ أن نظام التربية لديهم قاسٍ للغاية، بينما نظيرُه لدينا مَرِن. لماذا؟ لأنهم لا يريدون لأطفالهم أن يجرءوا على التشكُّك في أي شيء، لئلا يفكروا أبدًا في تغيير أي شيء. ما رأيكم؟
سقراط : سريع الاستيعاب كعادتك يا أرسطوقليس، لكن …
كريفون : أعتقد يا سقراط أني أعرف أثينيين كثرًا لا يسعَوْن وراء التطوير! لدينا ساسةٌ عدة مقتنعون بكمالهم، وسفاسطة عدة يظنون أنهم على علمٍ بكل شيء.
سقراط : لكن ما الذي يظنُّه هؤلاء الساسة كاملًا على وجه التحديد؟ إنها خططهم الفخمة لكيفية «تطوير» المدينة، ويعتقد كلُّ سفسطائي — بالمثل — أن على الجميع اعتناقَ أفكاره التي يراها «تطويرًا» لكلِّ ما جال بالخواطر من قبله. هُيِّئتْ قوانين أثينا وعاداتها لتَسَع كلَّ تلك المفاهيم العديدة المتضاربة للكمال (بالإضافة إلى بعض الاقتراحات المتواضعة للتطوير)، ولتتناولها بالنقد، ولتلتقط منها ما قد يكون بذورًا للحقيقة، ولتختبر أكثرَ ما يبدو واعدًا منها. وهكذا — ومع ذلك — تكوَّنَتْ من تلك الجموع التي لا تتصوَّر لنفسها تطويرًا عمَّا هي عليه، مدينةٌ لا تسعى أبدًا لتطوير نفسها.
كريفون : نعم، أفهمك.
سقراط : لا يوجد في إسبرطة مثل هؤلاء الساسة، ولا مثل هؤلاء السفاسطة، ولا ناقد مزعج مثلي؛ إذ لو ارتاب أيُّ إسبرطيٍّ في الأسلوب الذي طالما جرَتْ عليه الأمور، أو رفضه، لأسرَّ ذلك في نفسه. تهدف الأفكارُ الجديدة القليلة التي تَرِد على أذهان الإسبرطيين إلى تعزيز الحفاظ على المدينة في حالتها الراهنة. أما عن الحرب، أعلم أن من الإسبرطيين مَن يتألَّق فيها، ويتوق لغزو واستعباد العالم برُمَّته، مثلما شرعوا من قبلُ في غزْو جيرانهم، غير أن مؤسسات مدينتهم تُجسِّد مع الافتراضات العميقة الدفينة حتى في عقول الثائرين منهم خوفًا عميقًا حيالَ أيِّ تغييرٍ ويعتبرونه خطوةً نحو المجهول. ورُبَّ دلالةٍ هنالك في كون تمثال آريز المنتصب على أبواب إسبرطة يبدو «مقيَّدًا في الأصفاد» ليبقى دومًا حيث هو ليحميَ المدينة؛ أَلَا يبدو ذلك كمنعِ إلهِ العنف من خرْقِ النظام، وصدِّه عن الانطلاق في العالم مسبِّبًا الفوضى العشوائيةَ وما يصحبها من مخاطَرةِ وقوع التغيير المروِّعة؟
كريفون : ربما. على أي حال، أفهم يا سقراط الآن كيف لمدينةٍ أن يشغلها شيءٌ عام لا يتقاسمه معها سائرُ مواطنيها، لكن أخشى أني ما زلتُ عاجزًا عن فهم كيف تُفسِّر نظريتُك «العداوةَ» بين المدينتين؛ أولًا: لا أستطيع أن أتذكَّر اعتراضَ الإسبرطيين على نزعتنا لتطوير أنفسنا، بل يذكرون كافةَ أنواع التظلُّمات المحدَّدة زاعمين أننا نخرق المعاهدات، ونضعف حلفاءهم، ونتآمَر لبناء إمبراطوريةٍ على بر البلاد الرئيسي، وغير ذلك. ثانيًا: ولا أريد انتقاد إلهٍ بالطبع! …
سقراط : ليس إثمًا أن تنتقد الآلهة يا كريفون، بل عقلانية، وكذلك يعتقد هيرميس أيضًا، إنْ كان يهمك أن تعرف …

(أفلاطون يكتب: «ليس إثمًا أن ننتقد الآلهة.»)

كريفون : حسنًا، حتى إذا كان الإله محقًّا بشأن هذين الشيئين اللذين يشغلان المدينتين حول التحسين والجمود، تحمل كلُّ مدينةٍ الشيءَ الذي يشغلها على عاتقها، ولا تطمح لفرضه على مدنٍ غيرها؛ لذا — وبالرغم من اختيار أثينا التحرُّكَ للأمام واختيار إسبرطة كبْحَ نفسها، وبالرغم ممَّا يبدو عليه هذان الخياران منطقيًّا من «تناقض» — كيف يمكن أن يُصبحَا مصدرًا «للعداوة»؟
سقراط : هاك تخميني؛ يُمثِّل وجودُ أثينا نفسه — مع أنه سلمي — خطرًا شديدًا على جمود إسبرطة؛ ومن ثَمَّ — وعلى المدى البعيد — تُشكِّل حالةُ الجمود المتواصِل في إسبرطة (التي تعني استمرارَ وجودِ المدينة كما يروْنَها) إزهاقًا للتقدُّم في أثينا (وهو ما يُمثِّل خرابها من وجهة نظرنا).
كريفون : ما زلتُ لا أفهم ما هو التهديد بالضبط.
سقراط : لا بأس، افترض أن المدينتين استمرتَا في اعتناق نفس الشيئين اللذين يشغل بالَهما في المستقبل، سيبقى الإسبرطيون كما هم الآن تمامًا، لكنَّ الأثينيين هم بالفعل محطُّ غَيرةِ باقي اليونانيين؛ نظرًا لما نملك من ثروةٍ وإنجازاتٍ متنوعة. ماذا يحدث لو أحرزنا مزيدًا من التطوُّر وأخذنا نتألَّق في كل محفلٍ على حساب كل مَن عدانا في العالم بأسره؟ يندر أن يسافر الإسبرطيون أو أن يخالطوا الغرباء، لكن لن يمكنهم أن يبقَوْا على جهلٍ كاملٍ بما يتحقَّق من تنميةٍ في العالم من حولهم؛ فحتى خوض الحرب يمدهم ببصيصٍ من المعرفة حول شكل الحياة في المدن الأخرى التي تفوقهم ثروةً وحرية، ويومًا ما سيكتشف شبابٌ إسبرطيون يزورون دلفي كَمْ أن الأثينيين هم أصحاب «الحركات» الأفضل والمهارة الأعلى. وماذا لو طوَّرَ محاربون أثينيون — بعد جيلٍ أو اثنين — «حركاتٍ» أفضلَ في «ساحة القتال»؟
أفلاطون : لكن حتى لو كان ذلك صحيحًا يا سقراط، فالإسبرطيون يجهلونه، فكيف عساهم يخشونه؟
سقراط : لا حاجةَ لهم باستطلاع الغيب؛ أَلَا تظنُّ أن كلَّ رسولٍ من إسبرطة عندما يصل إلى مشارف أثينا يكون مأخوذًا بما يرى كما يفعل كلُّ مَن يرى ما هو موجود في أكروبوليس؟ (يقصد البارثينون) ومهما تحدث في نفسه (ربما عن حق) حول غطرستنا وعدم تحمُّلنا للمسئولية، أتراه لا يتفكَّر وهو في طريق العودة إلى وطنه كيف أن مدينته لا تستقطب هذا النوع من الإعجاب مطلقًا من أي أحد؟ هل تعتقد أن شيوخ إسبرطة لا يقلقون في هذه اللحظة بالذات من نمو الديمقراطية في مدنٍ عدة، ومنها بعض حلفائها؟
بالمناسبة، ينبغي على الأقل أن نحتاط نحن أيضًا من الديمقراطية كما يحتاط الإسبرطيون من سفك الدماء وأجيج المعركة؛ فالديمقراطية في جوهرها لا تقل عنهما خطورةً. لا غنى لنا عن الديمقراطية تمامًا كما لا يقدر الإسبرطيون على الاستغناء عن تدريبهم العسكري. وكما حدُّوا هم من الخطورة التدميرية لسفك الدماء بواسطة تقاليد التأديب والحذر لديهم، حدَدْنا نحن من الخطورة التدميرية للديمقراطية بواسطة عادات الفضيلة والتسامح والحرية لدينا. إننا نعتمد على هذه العادات اعتمادًا كاملًا من أجل إبقاء «وحشنا» تحت السيطرة وإلى جانبنا، كما يعتمد الإسبرطيون على تقاليدهم لكبح «وحشهم» من الْتهامهم هم وكل مَن حولهم، ربما أحسَنَّا صنعًا لو أقمنا تمثالًا ﻟ «الديمقراطية مقيَّدة بالأصفاد» ليرمز إلى درع الحماية الرئيسية لمدينتنا.

(أفلاطون يكتب: «الديمقراطية وحش؛ وهو خطر إذا لم يُقيَّد.»)

سقراط : لا بد أن الإسبرطيين — وغيرهم الكثير ممَّن لا يفهموننا — يتساءلون دومًا كيف نُباريهم نحن الأثينيين في المجال الوحيد في العالم الذي يتفوَّقون فيه على غيرهم؛ فنون الحرب، هذا مع أننا في الوقت نفسه نبرع أكثر من أي وقتٍ مضى في الفلسفة، والشعر، والمسرح، والرياضيات، والعمارة، وكلِّ مجالات السعي الإنساني التي نادرًا ما يعبأ بها الإسبرطيون.

(أفلاطون يكتب: «الإسبرطيون هم الأبرع في فنون القتال على مستوى العالم، ولكنهم سيئون في كل مجالٍ آخَر.»)

سقراط : إنهم لا يحتاجون إلى معرفة السبب إذا كان بإمكانهم رؤيةُ الحقيقة الواقعة، لكن السبب هو أننا قادرون على التطوير لأننا لا ننفكُّ نحاول تحقيقه؛ وهم لا يكادون يحقِّقون أيًّا منه لأنهم لا يحاولون مطلقًا! ذلك هو موطن الضعف في إسبرطة.
أفلاطون (يكتب: «يكمن موطن ضعف الإسبرطيين في أنهم لا يسعَوْن إلى التطوير.») : إذنْ فلا يعوزهم سوى الفلاسفة؛ فبهم يصبحون لا غلبةَ لهم!
سقراط (يضحك في نفسه) : صحيح، على نحوٍ ما يا أرسطوقليس، ولكن …

(أفلاطون يكتب: «يقول سقراط إنه بالفلاسفة تصبح إسبرطة لا غالبَ لها.»)

كريفون (قَلِقًا) : إذنْ أينبغي حقًّا أن نناقش هذا هنا في هذا النُّزُل العام؟ ماذا لو سمع أحدُهم ما نقول ونقل لهم السرَّ؟

(أفلاطون يكتب: «ملحوظة لنفسي: لا تخبرهم!»)

سقراط : لا تقلق أيها الصديق العجوز، لو كان الإسبرطيون قادرين بصفةٍ عامةٍ على فهم ذلك «السر»، لَطبَّقوه منذ زمنٍ بعيد، ولما نشبَتِ الحروب بين مدينتَيْنا. ولو حاول أحدُ الإسبرطيين أن ينشر أفكارًا فلسفيةً جديدة، لَوَجَد نفسه على الفور مُحاكَمًا بتهمة الهرطقة أو أي عددٍ من الجرائم الأخرى.
أفلاطون : إلا إذا …
سقراط : إلا إذا ماذا؟
أفلاطون : إلا إذا كان مَن انتهج الفلسفةَ مَلِكًا.
سقراط : أنت خيرُ مَن يجد الثغرةَ المنطقية يا أرسطوقليس. أنت مُحِقٌّ — نظريًّا — لكن في إسبرطة لا يحقُّ حتى للملوك أن يُغيِّروا شيئًا ذا بال؛ ولو فعل أحدهم، لخلعه القضاةُ الرقباءُ على المدينة.
أفلاطون : لنرَ، إن لديهم ملكين، وخمسةَ قضاة، وثمانيةً وعشرين نائبًا؛ وعليه تخبرنا الرياضيات كيف لو انتهج الفلسفةَ فقط خمسة عشر نائبًا وثلاثةُ قضاة وملكٌ واحد …
سقراط (يضحك) : نعم يا أرسطوقليس، أوافقك الرأي. لو انتهج حكَّامُ إسبرطة أسلوبَنا في الفلسفة وطفقوا بجديةٍ ينتقدون تقاليدَهم ويطوِّرونها …
أفلاطون (يكتب وقد انصرف ذهنه قليلًا: «نظرية: الملك الفيلسوف لا يختلف عن الفيلسوف الملك؛ إذنْ ماذا لو أصبح أحد الفلاسفة ملكًا؟») : أو ربما من الأرجح أن يتولَّى السلطةَ ملكٌ صالح …
سقراط : وإن يكن، «إذا» نجحوا في عمل تلك الإصلاحات، فقد تتحسَّن مدينتهم حينئذٍ لتصبح مدينةً عظيمةً بحق. لكنْ لا تنتظر حدوث ذلك.
أفلاطون (يكتب: «يقول سقراط إن المدينة التي يحكمها ملكٌ فيلسوف قد تكون عظيمةً بحق») : لن أنتظره، ولكن كيف سنُعلِّم الملوكَ الفلسفةَ — على المدى البعيد — يا سقراط؟ (يكتب: «هل وظيفة الفلاسفة تعليم الملوك الفلسفة؟»)
سقراط : لستُ متيقِّنًا من أن الفلسفة يجب أن تكون أولى خطوات تعليم القائد، فلا بدَّ للمرء من شيءٍ «يتفلسف» بخصوصه. يجب عليه أن يُلمَّ بالتاريخ، وبالأدب، وبالحساب، وربما يجب أن يُلمَّ قبل أي شيءٍ آخَر بأعمق معرفةٍ لدينا، وهي الهندسة الرياضية.

(أفلاطون يكتب: «لا تسمح لغير المتبحرين في علم الهندسة الرياضية بالدخول إلى هنا.»)

كريفون : حسنًا، يكون حكمي على أيِّ مدينةٍ على أساس كيفية معاملتها لفلاسفتها.
سقراط (يبتسم) : معيار ممتاز يا كريفون، ويجدر بي ألَّا أعارضه! وبالمناسبة يا أرسطوقليس، أنا لستُ متواضعًا على الإطلاق؛ وإثباتًا لذلك بوسعي أن أخبرك أن هيرميس أقنعني بأنني حكيم، بخصوص موضوعٍ واحدٍ على الأقل ذي قيمةٍ خاصةٍ لديه، وهو: إدراكي أن الاعتقادَ المبرر أمرٌ مستحيل، وغير نافع، وغير مرغوب.
أفلاطون (يكتب: «سقراط هو أكثر رجال العالم حكمةً؛ لأنه الوحيد الذي يعرف أنْ ليس لديه أيُّ معرفة؛ لأن المعرفة الأصلية أمرٌ مستحيل») : مهلًا! هل الاعتقاد المبرر مستحيل؟ حقًّا؟ هل أنت واثق؟
سقراط (يضحك بصوت عالٍ، بينما يتابع الآخرون الموقفَ وهم متحيِّرون) : اعذرني، ولكن هذا سؤال باطل إلى حدٍّ ما يا أرسطوقليس.
أفلاطون : أوه، فهمت! (يبتسم في تأسُّف، وكذلك يفعل الآخَرون عندما يدركون أن أفلاطون طالَبَ بتبريرٍ للاعتقاد بأن المرء لا يمكن أن يبرر الاعتقاد.)
سقراط : لا، لستُ واثقًا من أي شيء، ولم أكن قطُّ؛ لكن الإله فسَّرَ لي لماذا يجب أن تكون الحال كذلك، لأسبابٍ تبدأ من لامعصومية العقل البشري ولاموثوقية التجربة الحسية.

(أفلاطون يكتب: «معرفة «العالم المادي» فقط هي المستحيلة، وغير النافعة ولا المرغوبة.»)

سقراط : لقد وجَّهني نحوَ منظورٍ رائعٍ لإدراك العالم؛ إن كل عينٍ من عينيك مثل كهفٍ مظلمٍ صغيرٍ تنعكس على حائطه الخلفي خيالاتٌ شاردةٌ قادمةٌ من الخارج. إنك تقضي عمرك كله في نهاية الكهف غير قادرٍ على رؤية أيِّ شيءٍ بخلاف الحائط الخلفي، وعلى هذا لا تتمكَّن أبدًا من رؤية الواقع رؤيةً مباشرةً.

(أفلاطون يكتب: «وكأننا سجناء مقيَّدون في كهف، غير مسموحٍ لنا إلا برؤية الحائط الخلفي فيه. لا قِبَل لنا بمعرفة الواقع خارجه أبدًا؛ إذ لا نرى منه سوى خيالاتٍ عابرةٍ مشوَّهة.»)

(ملحوظة: حسَّنَ سقراط قليلًا ما بلغه من هيرميس، وأفلاطون آخِذٌ في تفسيرِ ما يقول سقراط تفسيرًا خاطئًا.)

سقراط : ثم استطرد هيرميس وشرح لي كيف أن بلوغ المعرفة الموضوعية ممكن بالفعل؛ إنها تأتي من الداخل! تبدأ على هيئة افتراض، ثم تُصوَّب بواسطة دوراتٍ متكررةٍ من النقد، تتخلَّلها مقارنتها بما على «حائطنا» من أدلة.

(أفلاطون يكتب: «المعرفة الحقيقية الوحيدة هي ما ينبع من داخلنا. (كيف؟ هل نتذكَّرها من حياة سابقة؟)»)

سقراط : وبهذه الطريقة نتمكَّن نحن البشر الضعفاء غير المعصومين من أن نعرف الواقع الموضوعي، بشرط أن نستخدم الأساليبَ السليمة فلسفيًّا كما وصفت (التي لا يستخدمها أغلبُ الناس).

(أفلاطون يكتب: «نستطيع أن نتوصَّل إلى معرفة العالم الحقيقي الكامن وراء عالم التجربة الوهمي، ولكن بواسطة ممارسة فن الفلسفة الملكي فحسب.»)

كريفون : يا سقراط، أعتقد أن الإله كان يخاطبك حقًّا؛ إذ يخالجني شعورٌ قويٌّ بأني لمحتُ من خلالك اليومَ حقيقةً إلهية. يلزمني وقت طويل لأعيد ترتيب أفكاري طبقًا لنظرية المعرفة التي كشف عنها الإلهُ لك. يبدو أن هذا الموضوع واسع المدى وفائق الأهمية.
سقراط : لا ريب، وإنَّ لديَّ من إعادة الترتيب ما ينبغي أن أهتمَّ به أنا أيضًا.
أفلاطون : يتعيَّن عليك يا سقراط أن تُدوِّن كلَّ هذا — بالإضافة إلى كلِّ ما تجود به حكمتُك — من أجل منفعة العالم كله، ومن أجل الأجيال القادمة.
سقراط : لا داعي يا أرسطوقليس، إن الأجيال القادمة حاضرةٌ ها هنا تُصغي إليَّ؛ إنها أنتم يا أصدقائي، ما جدوى أن أدوِّنَ أشياء ستُنقَّح وتُطوَّر إلى ما لا نهاية؟ أفضِّل بدلًا من أن أصنع سجلًّا دائمًا لكل مفاهيمي الخاطئة كما هي في لحظةٍ ما، أن أقدِّمها للآخرين في صورةِ جدالٍ ثنائي، وبهذا أستفيد ممَّا تناله من نقدٍ، بل ربما حقَّقتُ بعض التطوير فيها أيضًا؛ أما القَيِّم، فسينجو ويستمر بعد جدالٍ كذاك، وستتوارثه الأجيال دون مجهودٍ أبذله من جانبي، وأما عديم القيمة، فلا طائلَ من ورائه سوى أن يجعلني أبدو كالأبله أمام الأجيال القادمة.
أفلاطون : كما ترى يا سيدي.

لم يستطع مؤرخو الأفكار سوى تخمين ما اعتقَدَه وعلمه سقراط بالفعل — بما أنه لم يترك لنا أيَّ كتاباتٍ — باستخدامهم دليلًا غير مباشَرٍ هو تصوير أفلاطون وغيره ممَّن عاصَروه له، الذين بقيتْ أخبارهم ووصلتْ إلينا. تُعرَف هذه المشكلةُ ﺑ «المشكلة السقراطية»، وهي مصدر خلافٍ كبير. يرى رأيٌ شائع أن أفلاطون الشاب قد بلَّغَ فلسفةَ سقراط بأمانة، ولكنه استخدَمَ شخصية سقراط فيما بعدُ باعتبارها وسيلةً لنشر آرائه الشخصية، وأنه لم يقصد حتى أن تُصوِّرَ حواراتُه شخصيةَ سقراط الحقيقية، وإنما استخدمها باعتبارها وسائلَ فعَّالةً للتعبير عن حججٍ تتَّخِذ قالبَ الأخذ والرد.

ربما كان من الأفضل أن أؤكِّدَ — في حالة إذا لم يكن الأمر واضحًا بالفعل — أنني أفعل الشيءَ نفسه ها هنا. لا أقصد بالحوار السابق أن أمثِّلَ بدقةٍ آراءَ كلٍّ من سقراط وأفلاطون الفلسفية، وإنما نسجته في تلك اللحظة من التاريخ — وبين هؤلاء المتحاورين بالذات — لأن سقراط ودائرةَ تلاميذِه كانوا من أهم المساهمين في «العصر الذهبي لأثينا» الذي كان ينبغي أن يكون بدايةً للَّانهاية، ولكن ذلك لم يحدث. ومن أسبابي أيضًا أنَّ ممَّا نعلم بحقٍّ عن اليونانيين القدماء أن المشكلات الفلسفية التي أسندوا إليها الأهميةَ قد سادت «الفلسفة الغربية» منذ زمانهم، ومنها: كيف نحصل على المعرفة؟ كيف نُميِّز بين الحق والباطل، وبين الخطأ والصواب، وبين المنطق واللامنطق؟ أيُّ أنواع المعرفة ممكن (الأخلاقية، أم التجريبية، أم الدينية، أم الرياضية، أم المبررة …) وأيها مجرد أوهام؟ وهكذا. ولهذا، وبالرغم من أن نظريةَ المعرفة المقدَّمة في هذا الحوار يعود معظمُها للفيلسوف الذي ظهر في القرن العشرين كارل بوبر — مع بضع إضافاتٍ من عندي — فإني أُخمِّن أنَّ سقراط كان سيفهمها ويُعجَب بها. وفي أكوانٍ شديدة الشبه بكوننا في ذلك الزمان، توصَّلَ سقراط إلى تلك النظرية بنفسه.

بَيْدَ أني أرغب في إبداء تعليقٍ واحدٍ غير مباشِر حول المشكلة السقراطية؛ وهو أننا نستهين بصعوبةِ التواصُل بحكم العادة، تمامًا كما فعل سقراط قُبيل نهاية الحوار حين افترض أن كلَّ طرفٍ بالجدال يدرك بالضرورة ما يقوله الطرف الآخَر، وأن أفلاطون آخِذٌ في استيعاب الحديث استيعابًا خاطئًا. في واقع الأمر، إنَّ توصيل الأفكار الجديدة — حتى الدنيوي منها كالاتجاهات — يعتمد على التخمين من جانب المرسِل والمستقبِل كليهما، وهو عرضة للخطأ بطبيعة الحال؛ ومن ثَمَّ لا يوجد داعٍ للاعتقاد بأن أفلاطون الشاب كان أقلَّ مَن أخطأ في نقل نظريات سقراط فقط لأنه كان ذكيًّا ذا تعليمٍ رفيعٍ ومن الأتباع المخلصين لسقراط. على العكس، لا بد أن يكون الافتراضُ البديهي هو أن سوء الفهم أمر شائع الحدوث، وأن الذكاءَ ونيةَ الدقة ليسَا بضمانةٍ للحَوْل دون وقوعه. ربما أساءَ أفلاطون الشابُّ فهْمَ كلِّ ما أخبره به سقراط، ثم نجح أفلاطون الأكبر سنًّا مع الوقت في فهمه، وهو لهذا الدليل الأوثق، وربما انزلق أفلاطون نحو مزيدٍ من التفسير الخاطئ، وارتكاب أخطاءٍ خاصةٍ به. وللتمييز بين هذه الاحتمالات وبين الكثير غيرها، لا بد من وجود الدليل، وإقامة الحجة، وبيان التفسير. إنها مهمة صعبة بالنسبة إلى المؤرخين؛ إن المعرفة الموضوعية — وإن كانت ممكنةً — صعبةُ المنال.

ويصحُّ كلُّ ذلك على المعرفة المكتوبة تمامًا كما يصحُّ على المعرفة الشفاهية النقل؛ إذنْ كانت ستبقى المشكلة السقراطية قائمةً حتى لو ألَّفَ سقراط كتبًا، بل إن مشكلةً مماثلةً تحوم حول أفلاطون بالرغم ممَّا ترك من كتابات، بل وحول فلاسفةٍ أحياءٍ في بعض الأحيان. ماذا يعني الفيلسوف بكذا وكذا من لفظٍ أو زعمٍ؟ ما هي المشكلة التي يحاول أن يزعمَ حلها، وكيف؟ ليست أيٌّ من هذه مشكلاتٍ فلسفيةً في حدِّ ذاتها، بل هي مشكلاتٌ في تاريخ الفلسفة، ومع هذا كرَّسَ لها أغلبُ الفلاسفة — وبخاصةٍ الأكاديميون منهم — جانبًا كبيرًا من اهتمامهم. تُعلِّق مناهجُ دراسة الفلسفة أهميةً كبرى على قراءة النصوص الأصلية والتعليقات عليها بغيةَ فهم النظريات التي شغلَتْ عقولَ العديد من الفلاسفة العظماء.

إن هذا التركيز على التاريخ أمرٌ غريب، وهو مناقِض لكلِّ التخصُّصات الأكاديمية الأخرى (ربما باستثناءِ علم التاريخ نفسه)؛ على سبيل المثال: لا يحضرني موقفٌ واحدٌ طوال دراستي قبل التخرُّج أو بعده، درستُ فيه أبحاثًا أو كتبًا أصليةً ألَّفها أقطابُ الفيزياء القدماء، أو كانت جزءًا من قائمة الكتب التي من المفترض أن نطَّلِعَ عليها، ولم نقرأ ما كتب المكتشفون عن اكتشافاتهم إلا عندما تمَّ تناوُلُ اكتشافاتهم الحديثة جدًّا؛ وعلى هذا النحو تعلَّمْنا نظريةَ النسبية لأينشتاين دون أن نقرأ أيًّا من أعمال أينشتاين، وتعرَّفنا إلى ماكسويل، وبولتسمان، وشرودنجر، وهايزنبرج وغيرهم كأسماءٍ فحسب؛ قرأنا «نظرياتهم» في مراجع ألَّفها فيزيائيون (وليسوا مؤرِّخين للفيزياء) ربما لم يقرءوا هم أنفسهم قطُّ أعمالَ هؤلاء الروَّاد.

لماذا؟ يكمن السببُ المباشِر في أن المصادر الأصلية للنظريات العلمية يندر أن تكون مصادرَ جيدة. وكيف تكون؟ إن كلَّ عرضٍ شارحٍ يستتبعها يكون بغية إلحاقِ شيءٍ من التطوير بها، وبعضها ينجح؛ ويتراكم التطوير. وثَمَّةَ سبب أعمق؛ إذ يعتنق مُنشِئو أيَّة نظريةٍ جوهريةٍ جديدةٍ في البداية عددًا من المفاهيم الخاطئة الموجودة في نظرياتٍ سابقة؛ ومن ثَمَّ يتعيَّنُ عليهم تطويرُ فهْمِ كيفيةِ وأسبابِ خللِ تلك النظريات القديمة، وفهْمِ الكيفيةِ التي تفسِّر النظريةُ الجديدة بها كلَّ شيءٍ فسَّرَتْه سابقاتُها، غير أن أغلب مَن يدرسون النظريةَ الجديدة بعد ذلك تختلف اهتماماتُهم تمامًا؛ إذ لا يطمحون في الأغلب إلا في التعامُل معها باعتبارها أمرًا مسلَّمًا به وفي استخدامها للتوصُّل إلى تنبؤات، أو لفهم ظاهرةٍ معقَّدةٍ ما بمساندة نظرياتٍ أخرى، أو ربما أرادوا فهم الفروق البسيطة التي تُميِّزها والتي لا علاقةَ لها بسبب تفوُّقِها على النظريات القديمة، أو ربما أرادوا تطويرها. لكن لا يهتمُّ هؤلاء الدارسون بتتبُّع كلِّ اعتراضٍ قد يُواجِه النظريةَ وتفنيدِه، الذي سينبع بطبيعةِ الأمر من شخصٍ يقوم فكرُه على نظرياتٍ أقدم انتهَتْ صلاحيتها وحلَّتِ الأحدثُ منها محلَّها. ما أقلَّ حاجةَ العلماء لبحث الإشكاليات البالية التي كانت بمنزلة الدوافع لأقطاب العلم في الماضي!

في المقابل، يتعيَّن على «مؤرِّخي العلم» أن يقوموا بهذا التتبُّع والتفنيد بالضبط، وهم في هذا يواجهون نفسَ الصعوبات التي يواجهها مؤرِّخو الفلسفة الذين يعالجون المشكلةَ السقراطية. لماذا إذن لا يواجه العلماءُ هذه الصعوباتِ إبَّان دراستهم النظريات العلمية؟ ما سرُّ سلاسةِ ويُسْرِ تناقُلِ تلك النظريات عبر سلاسل الوسطاء؟ أين ذهبَتْ «صعوبةُ التواصُلِ» التي أكَّدتُ عليها منذ وهلةٍ؟

يبدو النصف الأول من الإجابة متناقضًا مع نفسه، وهو أن العلماء حين يدرسون النظريةَ لا يهتمون بما اعتقده مُنشِئوها أو غيرهم ممَّن كانوا حلقاتٍ في سلسلة تناقُلها. عندما يقرأ الفيزيائيون مرجعًا عن نظرية النسبية، يكون هدفُهم المباشِر هو تعلُّمَ «النظرية»، لا التعرُّفَ على آراء أينشتاين أو مؤلف المرجع. إذا كنتَ تجد هذا غريبًا، فتخيَّلْ — على سبيل الجدل — أن أحد المؤرخين اكتشف أن أينشتاين قد ألَّفَ أبحاثه على سبيل المزاح، أو تحت تهديد السلاح، وأنه كان في واقع الأمر مؤمنًا بقوانين كبلر إيمانًا خالصًا؛ لو حدث ذلك، لَكان كشفًا عجيبًا ومهمًّا في «تاريخ» الفيزياء، ولَبَاتَ من الضروري تعديلُ كافةِ المراجع في هذا الشأن، لكنه لن يؤثِّرَ على معرفتنا عن الفيزياء نفسها، ولا يتطلَّب تعديلًا في مراجعها.

أما النصف الثاني من إجابة السؤال، فهو أن سبب محاولة العلماء تعلُّمَ النظرية — وأيضًا عدم اهتمامهم بكيفية تطوُّرها — هو طموحهم في بلوغ معرفةِ حقيقةِ العالم كما هو عليه، وهذا الهدف — في جوهره — هو عينُ هدفِ مُنشِئِ النظرية. إذا كانت النظريةُ جيدةً، وإذا كانت رائعةً كنظريات الفيزياء الأساسية هذه الأيام، فسيكون التغييرُ فيها دونَ المساسِ بصلاحية تفسيرها أمرًا بالغَ الصعوبة؛ لذا فإن الدراسين، عبر نقد تخميناتهم المبدئية وبمساعدة كتبهم ومعلِّميهم وزملائهم، الذين يسعَوْن للوصول إلى تفسيرٍ صالح، سيصلون إلى نفس النظرية التي توصَّلَ إليها مُنشِئُها، وتنتقل النظريةُ بهذه الكيفية من جيلٍ إلى آخَر بأمانةٍ وشفافية، مع أن أحدًا لا يهتمُّ بأمانةِ مُنشِئِها بشكلٍ أو بآخَر.

بدأ هذا ينطبق أيضًا — لكن ببطء، ومع وجود العديد من الانتكاسات — على المجالات غير العلمية. إن إجماع الناس على الحقيقة يجعلهم يتفقون بعضهم مع بعض أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤