الفصل الثالث عشر

الاختيارات

في مارس من عام ١٧٩٢، استخدَمَ جورج واشنطن أولَ فيتو رئاسيٍّ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. إذا كنتَ لا تعلم سببَ خصومته مع الكونجرس تلك بالفعل، أشكُّ بأن في استطاعتك تخمينَها، ومع ذلك يبقى ذلك السببُ موضعَ خلافٍ حتى يومنا هذا، بل إن المرء قد يدرك الآنَ متأخِّرًا وجودَ قدرٍ من الحتمية في ذلك الخلاف؛ لأن جذورَه — كما سأشرح — راسخةٌ في مفهومٍ خاطئٍ واسع الانتشار حول طبيعة الاختيار البشري، وهو لا يزال سائدًا حتى اليوم.

تبدو المسألة في ظاهرها وكأنها خلافٌ على تفصيلةٍ فنيةٍ بسيطةٍ وحسب: «كم مقعدًا تستحقه كلُّ ولايةٍ في مجلس النواب الأمريكي؟» وهو ما يُعرَف باسم «إشكالية التوزيع»؛ إذ ينص الدستور الأمريكي على أن تكون مقاعدُ مجلس النواب «موزَّعةً ما بين الولايات المختلفة … تبعًا لأعداد سكانها»؛ وعليه، فإذا ضمَّتْ ولايتُك ١ بالمائة من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة، فستستحقُّ بذلك ١ بالمائة من مقاعد مجلس النواب. جاء ذلك التقسيم بقصد تطبيق مبدأ «الحكومة الممثِّلة للشعب»، من منطلق ضرورة تمثيل السلطة التشريعية لأفراد الشعب، ولقد اختصَّ على كل حالٍ بمجلس النواب. (في المقابل، يمثِّل مجلسُ الشيوخ الأمريكي «ولايات» الاتحاد؛ ومن ثَمَّ تحظى كلُّ ولايةٍ فيه — بصرف النظر عن عدد سكانها — بمقعدين.)

يضمُّ مجلسُ النوابِ حاليًّا ٤٣٥ مقعدًا؛ وهكذا لو كان عددُ سكان ولايتك حقًّا ١ بالمائة من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية، لَحدَّدَ التناسُبُ الدقيق عددَ مقاعد النوَّاب التي تستحقها — أو ما يُعرَف «بحصتها» — على أنه ٤٫٣٥. عندما لا تكون الحصةُ عددًا صحيحًا — وهو ما يندر حدوثُه بالطبع — لا بد من تقريبها على نحوٍ ما. يُعرَف منهجُ التقريب باسم «قاعدة التوزيع». لم يحدِّد الدستورُ قاعدةَ توزيعٍ بعينها؛ إذ ترك مثل تلك التفاصيل للكونجرس، ومن هنا نشب الخلافُ المستمر منذ قرون.

تُوصَف قاعدةُ التوزيع بأنها لا تزال «في حدود الحصة» إذا لم يختلف عددُ المقاعد التي تُخصِّصها لكلِّ ولايةٍ عن حصة تلك الولاية بمقدارٍ يزيد عن مقعدٍ واحدٍ صحيح؛ فمثلًا: إذا كانَتْ حصةُ ولايةٍ ما تبلغ ٤٫٣٥ مقاعد، فستمنح القاعدةُ لتلك الولاية إما أربعةَ مقاعد في المجلس وإما خمسة. للقاعدة أن تأخذ في حسبانها أيَّ قدرٍ من المعلومات إبَّان تحديدِ اختيارها ما بين أربعةٍ أو خمسة، لكنها لو استطاعَتْ تعيينَ أيِّ رقمٍ آخَر غير هذين الرقمين، لَوُصِفت بأنها «تخلُّ بالحصة».

عندما تصل إشكاليةُ التوزيع إلى مسامع شخصٍ لأول مرة، تبزغُ الحلولُ الوسطى من فورها بسهولةٍ في ذهنه. يسأل الجميع: «لِمَ لا يفعلون فحسب كذا وكذا؟» كان ما سألتُه أنا بدوري هو: لماذا لا يقرِّبون حصةَ كلِّ ولايةٍ إلى أقرب عددٍ صحيح؟ طبقًا لتلك القاعدة سيتمُّ تقريب ٤٫٣٥ مقاعد نزولًا إلى ٤ مقاعد، وتقريب ٤٫٦ مقاعد صعودًا إلى ٥ مقاعد؛ ولما كانت هذه القاعدةُ لا تضيف أو تنتقص أكثرَ من «نصف» مقعد مطلقًا، فلقد بَدَا لي أنها ستضمن لكلِّ ولايةٍ عددَ مقاعد لا يختلف عن حصتها إلا بمقدار نصف كرسي، فتبقى بهذا «في حدود الحصة» بهامشٍ معقول.

كنتُ مخطئًا؛ إذ إن قاعدتي تخلُّ بالحصة. يسهل توضيحُ ذلك بواسطة تطبيقها على مجلس نوَّابٍ تخيُّليٍّ به عشرة مقاعد، في دولةٍ ذات أربع ولايات؛ افترِضْ أن إحدى الولايات تضمُّ ما يقلُّ قليلًا عن ٨٥ بالمائة من إجمالي عدد سكان الدولة، وأن الولايات الثلاث الأخرى تضمُّ ما يفوق ٥ بالمائة بقليل؛ للولاية الكبيرة إذنْ حصةٌ تقلُّ بقدرٍ طفيفٍ عن ٨٫٥، وهو ما تُقرِّبه قاعدتي إلى ٨، وتملك كلُّ ولايةٍ من الثلاث الأخرى حصةً تفوق نصف الكرسي بفارقٍ زهيد، وهو ما تُقرِّبه قاعدتي إلى واحدٍ صحيح، ولكننا نكون بذلك قد وزَّعْنا أحدَ عشرَ مقعدًا لا عشرة مقاعد. ليست هذه مشكلةً في حدِّ ذاتها؛ فليس على الدولة سوى أن تنفق على مشرِّعٍ واحدٍ زائدٍ عن الخطة. إن المشكلة الحقيقية هي أن هذا التوزيع لم يَعُدْ ممثلًا على نحوٍ صحيح؛ لأن ٨٥ بالمائة من أحد عشر كرسيًّا لا تساوي ٨٫٥ بل ٩٫٣٥، وبهذا تكون الولاية الكبيرة — التي حصلَتْ على ثمانية مقاعد فحسب — غير مكتملة الحصة؛ إذ ينقصها ما يزيد عن مقعدٍ واحد. تقصِّر قاعدتي في تمثيل ٨٥ بالمائة من السكان؛ فلقد «قصدنا» توزيعَ عشرة مقاعد؛ لذا لا بد أن يساويَ مجموعُ الحصص عشرةً؛ ولكنَّ مجموعَ الحصص المقرَّبة أحدَ عشرَ. وإذا كان المجلس سيضمُّ أحد عشر مقعدًا، فإن مبدأ الحكومة الممثِّلة للشعب، والدستور، يفرضان حصولَ كلِّ ولايةٍ على حصتها العادلة من المقاعد الأحد عشر، لا من العشرة التي قصدناها فقط.

تقفز إلى الذهن من جديدٍ أفكارٌ من نوع: «لِمَ لا يفعلون …؟» فلماذا لا يزيدون ثلاثةَ مقاعد إضافية فقط ويخصِّصونها للولاية الأكبر، فيُعِيدوا التوزيعَ بذلك إلى «حدود الحصة»؟ (قد يرغب مُحِبُّو الاستطلاع من القرَّاء في التأكُّد من أنَّ أقلَّ عددٍ من المقاعد الإضافية لتحقيق ذلك هو ثلاثة.) أو لماذا لا يقومون عوضًا عن ذلك بإحالة مقعدِ إحدى الولايات الصغيرة إلى الولاية الكبيرة؟ ربما كان من الأجدر أن يكون ذلك مقعدَ أقلِّ الولايات سكانًا؛ لئلَّا يضار إلا أقل عددٍ ممكنٍ من السكان. سيُعيد هذا التصرُّفُ تخصيصَ المقاعد على كل ولايةٍ إلى حدود الحصة؛ وليس ذلك فحسب، بل سيُعيد إجمالي عدد المقاعد إلى العشرة المزمعة في الأصل.

تُعرَف مثل تلك الاستراتيجيات باسم «مخطَّطات إعادة التخصيص»؛ وهي قادرة بالفعل على الالتزام بحدود الحصة. ماذا يعيبها إذنْ؟ باستخدام اللغة التخصُّصية لموضوعنا، تكون الإجابةُ عن هذا السؤال هي: «مفارقات التوزيع»، أو — باللغة العادية — «الإجحاف» و«اللاعقلانية».

على سبيل المثال: يتَّسِم مخطَّط إعادة التخصيص الأخير بالإجحاف؛ لأنه متحيِّز ضد سكان الولاية الأقل عددًا الذين يتحمَّلون وحدهم كلفةَ تصحيحِ أخطاء التقريب. في الحالة التي وصفتُها قُرِّبَ تمثيلهم في المجلس إلى صفر، ومع هذا فإن عدالة التوزيع — فيما يتعلَّق بتقليص الانحراف عن الحصة — تكون شبهَ مثاليةٍ؛ ففي السابق حُرِم ٨٥ بالمائة من السكان من نيل حصتهم العادلة بأكملها، أما الآن فتمثيلهم جميعًا في حدود الحصة، كما نال ٩٥ بالمائة من السكان أقربَ عددٍ صحيحٍ من حصتهم من مقاعد المجلس. صحيح أن ثَمَّةَ ٥ بالمائة ليسوا مُمَثَّلين فيه الآن — وعليه لن يستطيعوا التصويتَ في انتخابات الكونجرس بالمرة — ولكن مع ذلك، فإن هذا الأمر في حدود الحصة، ولم يَزِدِ ابتعادُهم عن حصتهم الفعلية إلا قليلًا. (الرقمان صفر وواحد على مسافةٍ شبه متساويةٍ من مقدار الحصة الذي يزيد عن نصف واحدٍ قليلًا.) غير أن أغلب مناصري تمثيل الحكومة للشعب سيجدون هذه النتيجة أعجز من سابقتها في تحقيق هذا التمثيل؛ لأن هؤلاء الخمسة بالمائة سيكونون قد حُرِموا حقوقَهم الشرعية بالكامل.

لا بد أن ذلك يعني أن «الحد الأدنى للانحراف عن الحصة» ليس هو المقياسَ الصحيحَ للتمثيل؛ فما هو المقياس الصحيح إذن؟ ما هي المقايضة السليمة بين ظلمٍ بسيطٍ لكثيرٍ من الناس وظلمٍ قاسٍ لقلةٍ منهم؟ أدرك الآباءُ المؤسِّسون أن مفاهيمَ مختلفةً للعدل أو التمثيل قد يتعارض بعضها مع بعض؛ فمثلًا: كان من مسوغات الديمقراطية لديهم أن الحكومة لا تكون شرعيةً إلا إذا كان لكلِّ فردٍ تحت طائلة القانون ممثِّلٌ من بين واضعي القوانين، ويظهر التعبير عن ذلك في شعارهم «لا ضريبةَ دون تمثيل». وكان من طموحاتهم أيضًا القضاء على «التمييز»؛ إذ أرادوا لنظام الحكم أن يخلوَ من الانحياز الداخلي، ومن هنا فرضوا التوزيعَ المتناسب. ولما كان من الوارد أن يتضارب هذان المطمحان، تضمَّنَ الدستورُ بندًا يفصل بينهما فصلًا واضحًا، وهو: «يكون لكل ولايةٍ نائبٌ واحد على الأقل.» يفضِّل هذا البندُ مبدأَ الحكومةِ الممثِّلة للشعب بمعناه الوارد في شعار «لا ضريبةَ بلا تمثيل»، على حساب نفس المبدأ بمعناه الوارد في هدف القضاء على التمييز.

ومن المفاهيم التي يتردَّد ظهورُها في مجادلات الآباء المؤسسين سعيًا لتشكيل حكومةٍ ممثلةٍ للشعب، مسألةُ «إرادة الشعب». يُفترض في الحكومات أن تُشرِّع لتلك الإرادة، لكن هذا يظلُّ مصدرًا لمزيدٍ من التناقضات؛ ففي الانتخابات لا يُحتسَب سوى «الناخبين»، وليس كافةُ «الشعب» بناخبين، بل كان الناخبون في ذلك الزمان قلةً يسيرةً؛ الذكور الأحرار ممَّن جاوزَتْ أعمارُهم الحاديةَ والعشرين دون غيرهم. لمعالجة هذه النقطة شملت «أعدادُ السكان» المشارُ إليها في الدستور كافةَ سكانِ الولاية، بما فيهم غير الناخبين كالنساء، والأطفال، والمهاجرين، والعبيد. حاوَلَ الدستور بهذه الطريقة أن يُعامِلَ كافةَ «السكان» بالمساواة، بأن عامَلَ «الناخبين» دون مساواةٍ.

وهكذا، خُصِّصَ للناخبين المنتمين إلى الولايات ذاتِ النِّسَب الأعلى من غير الناخبين عددٌ أكبر من النوَّاب لكل فرد. كان لهذا تأثيرٌ سلبيٌّ تَمثَّل في أنه في الولايات التي كان الناخبون فيها أكثر امتيازًا بالفعل داخلها (أيْ حيث كانوا أقليةً صغيرةً جدًّا)، نال الناخبون مزيدًا من الامتياز بالنسبة إلى مَن سواهم من الناخبين في الولايات الأخرى؛ فلقد خُصِّصت لهم مقاعدُ نيابيةٌ أكثر في الكونجرس. أصبحت تلك مسألة سياسية شائكة فيما يخص مالكي العبيد؛ فلماذا يحقُّ للولايات المالكة للعبيد أن تُختَصَّ بسطوةٍ سياسيةٍ أكبر بما يتناسب مع أعداد ما تملك من عبيد؟ ولتخفيف وطأة ذلك التأثير، تمَّ الوصولُ إلى تسويةٍ يُحسَب على أساسها العبدُ بثلاثة أخماس إنسانٍ بهدف تقسيم المقاعد في المجلس؛ ومع هذا فإن ثلاثة أخماس الظلم فحسب ظلَّتْ ظلمًا في عيون الكثيرين. (كثيرًا ما أُوِّلَتْ هذه القاعدةُ خطأً على أنها توضِّح النظرةَ الدونيةَ للعبيد، لكنها لا علاقةَ لها بهذه القضية. شاع بالفعل النظرُ إلى السود على أنهم أقلُّ من البيض، لكن هذا القياس خصوصًا قد صُمِّم بهدف «تقليص» سلطان الولايات المالكة للعبيد، بالمقارنة بما كانت ستصبح عليه لو احتُسِبوا كأيِّ فردٍ آخَر.) يوجد نفس هذا الخلاف اليومَ بشأن المهاجرين غير الشرعيين، والذين يُعَدُّون جزءًا من السكان لأغراضٍ توزيعيةٍ خاصةٍ بالمقاعد النيابية؛ وهكذا تحصل الولاياتُ التي تسكنها أعدادٌ كبيرةٌ من المهاجرين غير الشرعيين على مقاعدَ إضافيةٍ في الكونجرس، فيما تخسرها تبعًا لذلك ولايات أخرى.

بعد إتمام إحصاء السكان الرسمي الأول في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٧٩٠، وبمخالفة ما يفرضه الدستور الجديد من تناسُب، وُزِّعتْ مقاعدُ مجلس النواب باستخدام قاعدةٍ أخَلَّتْ بحصة الولايات، وبالإضافة إلى ذلك فإن تلك القاعدة التي اقترحها الرئيس المستقبلي آنذاك، توماس جيفرسون، حابَتِ الولايات ذات عدد السكان الأكبر بمنحها عددًا أكبر من النوَّاب عن كل فرد؛ لهذا أجرى الكونجرس اقتراعًا لإلغائها، واستبدل بها قاعدةً من اقتراح غريم جيفرسون اللدود ألكسندر هاميلتون تضمَن نتيجةً لا تُخلُّ بالحصة ولا تُميِّز على نحوٍ بيِّنٍ بينَ الولايات.

كان ذلك هو التغييرَ الذي استَخدم الرئيسُ جورج واشنطن الفيتو ضدَّه، وقد علَّل إجراءَه ذاك بأن التغيير المعنِيَّ يتضمَّن ببساطةٍ عمليةَ إعادةِ تخصيص؛ فقد رأى واشنطن أن كافةَ مخططات إعادة التخصيص غير دستورية؛ لأنه أوَّلَ مصطلحَ «موزَّعة» بمعنى «مقسَّمة» بواسطة معاملِ قسمةٍ عدديٍّ مناسب، ثم مقرَّبة بعد ذلك، ولكن دون تغييرٍ آخَر. شكَّ البعضُ لا محالةَ في أن السبب الحقيقي وراء موقف واشنطن هو انتماؤه — مثل جيفرسون — إلى ولاية فيرجينيا ذات العدد الأكبر من السكان من بين الولايات كافة، التي كان من شأنها أن تخسر مقاعدَ في المجلس حال تنفيذ قاعدة هاميلتون.

بات الكونجرس من ذلك الحين يتباحث قواعدَ التوزيع ويقدِّم بدائلَ بغرض الوصول إلى الصيغة المثلى. أُبطِلَ العملُ بقاعدة جيفرسون عام ١٨٤١، واستُبدِل بها أخرى من اقتراح السيناتور دانيال وبستر تقوم على عملية إعادة تخصيصٍ وتُخلُّ بالحصة أيضًا، ولكن في حالاتٍ نادرة، وهي بذلك تُشبه قاعدة هاميلتون في محاولته مراعاةَ العدالة بين الولايات.

ثم أُبطِلَ العمل بقاعدة وبستر بدورها بعد عقدٍ لاحق، واستُبدِلت قاعدة هاميلتون بها. اعتقد المدافعون عن الأخيرة أن مبدأ تمثيل الحكومة للشعب أمسى مطبَّقًا تطبيقًا تامًّا، وربما رَجَوْا أن يضع ذلك نهايةً لإشكالية التوزيع، إلا أن خيبة الأمل كانت في انتظارهم؛ فسرعان ما تسبَّبَتْ قاعدةُ هاميلتون في مزيدٍ من السجال والخصومة بما فاق أيَّ عهدٍ سبق؛ لأنها — بالرغم من إنصافها وتناسبها — أخذَتْ ترسم توزيعاتٍ بَدَتْ مفرطةَ الفساد والانحراف؛ فلقد كانت على سبيل المثال عرضةً لما سُمِّي فيما بعدُ ﺑ «مفارقة السكان»: إذ قد «تخسر» ولايةٌ تَسارَع نموُّها السكاني منذ آخِر تعدادٍ مقعدًا في المجلس لصالح ولايةٍ أخرى تناقَصَ عددُ سكانها.

إذن «لِمَ لا» يطرحون مقاعدَ جديدةً ويمنحونها للولايات التي خسرَتْ بفعلِ مفارقة السكان؟ بل فعلوا، لكن ذلك للأسف قد يعود بخروج التخصيص عن الحصة المحدَّدة، وقد يجلب مفارَقةَ توزيعٍ أخرى ذات أهميةٍ تاريخية: «مفارقة ألاباما». تحدث مفارقة ألاباما حينما تنجم عن زيادة إجمالي عدد «مقاعد» المجلس خسارةُ ولايةٍ مقعدًا فيه.

لم تكن تلك هي المفارقة الوحيدة، على أن تلك المفارقات لم تكن «مُجحِفةً» بالضرورة بمعنى كونها متحيِّزةً أو غير متناسبةٍ في توزيعها، بل تُلقَّب ﺑ «المفارقات» لأنها عبارة عن قاعدةٍ منطقيةٍ في ظاهرها تُنتِج تغييراتٍ بيِّنةَ اللامعقولية بين توزيعٍ وآخَر. وهذه التغييرات عشوائيةٌ بطبيعة الحال؛ لأنها تنتج عن أهواء أخطاء التقريب لا عن أيِّ تحيُّز، وهي يُلغِي بعضها بعضًا على المدى الطويل. لكنَّ الإنصافَ «على المدى البعيد» لا يحقِّق الهدفَ المرجوَّ وهو الحكومة الممثِّلة للشعب. قد تتحقَّقُ «العدالةُ على المدى البعيد» بالكامل دون حتى انتخاباتٍ بواسطة اختيار الهيئة التشريعية عشوائيًّا من بين جمهور الناخبين جميعًا، ولكن كما يستحيل لعملةٍ تُقذَف مائةَ مرةٍ أن تعطيَ نتيجةً خمسين مرةً «ملك» وخمسين مرةً «كتابة» بالضبط، يستحيل عمليًّا لهيئةٍ تشريعيةٍ تتكوَّن من ٤٣٥ فردًا اختيروا عشوائيًّا أن تُمثِّل الشعبَ حقَّ التمثيل في أي وقت؛ فإحصائيًّا، سيبلغ الانحرافُ التقليدي عن التمثيل الأمثل للشعب حوالي ثمانية مقاعد، وستنشب تذبذُباتٌ كبيرة كذلك بشأن توزيع تلك المقاعد بين الولايات. لمفارقات التوزيع التي وصفتُها آثارٌ مماثلة.

عادةً ما يكون عددُ المقاعد الذي تدور حوله المفارقاتُ قليلًا، لكنَّ هذا لا يجعله غيرَ مهم. يقلق الساسةُ بشأن هذا الأمر لأن عدد الأصوات في مجلس النواب يتقاربُ جدًّا في أغلب الأحيان؛ فكثيرًا ما تُمرَّر مشروعاتُ القوانين أو يفشل تمريرها بفعل صوتٍ واحد، وغالبًا ما تعتمد الصفقاتُ السياسية على الْتِحاقِ النوَّاب بتكتُّلٍ أو آخَر؛ لذا فأينما نجم عن إحدى مفارقات التوزيع نزاعاتٌ سياسية، طفق الناس يحاولون ابتكارَ قاعدةِ توزيعٍ لا يمكن أن تتسبَّبَ رياضيًّا في تلك المفارقة خصوصًا. تجعل المفارقاتُ المتدارَسة الأمرَ يبدو وكأنَّ كلَّ شيءٍ سيصبح على ما يرام فقط لو «أنهم» قاموا بتغييرٍ بسيطٍ ما، على أن المفارقات في مجملها تتَّسِم بخاصيةٍ مزعجة، وهي أنه مهما تمَّ السعيُ بجديةٍ لاستبعادها، فإنها تعود مرةً ثانية للظهور، ولكن بشكلٍ مختلف.

ظلَّتْ قاعدةُ وبستر تنعم بدعمٍ ملموسٍ بعد تطبيق قاعدة هاميلتون عام ١٨٥١؛ لذا نفَّذَ الكونجرس — في مناسبتين على الأقل — حيلةً بَدَتْ وكأنها ستوفِّر تسويةً حصيفة؛ تمثَّلَتْ في تعديل عدد المقاعد في المجلس حتى تتوافق القاعدتان. من المفترض أن هذا كان سيُرضي الجميع! لكن في عام ١٨٧١ رأتْ بعضُ الولايات أن نتيجةَ ذلك مُغرِقة في الإجحاف؛ ممَّا استتبع ظهور تشريعٍ لمحاولة تسوية الأمر، الذي كان غير مدروسٍ تمامًا، حتى بات من غير الواضح أيُّ قاعدةِ تخصيصٍ تلك التي اعتمدها إنْ كان قد اعتمَدَ واحدة؛ فقد طبَّقَ توزيعًا لم يحقِّق قاعدة هاميلتون ولا قاعدة وبستر، وقد تضمَّنَ طرْحَ مقاعدَ جديدةٍ في آخِر لحظةٍ دون سببٍ واضح، وعَدَّه الكثيرون غيرَ دستوري.

شهد كلُّ تعدادٍ رسمي للسكان في العقود القليلة التي تَلَتْ عام ١٨٧١ تبنِّيَ قاعدةِ توزيعٍ جديدةٍ أو تغييرًا في عدد المقاعد، بهدف الجمع بين القواعد المختلفة. في عام ١٩٢١ لم تُوضَع قاعدةُ توزيعٍ على الإطلاق، بل عُمِل بالقاعدة القديمة (وهو تصرُّفٌ قد يكون غيرَ دستوريٍّ هو الآخَر)؛ إذ لم يستطع أعضاءُ الكونجرس الاتفاقَ على قاعدة.

تمَّ تحويلُ مسألةِ التوزيع إلى علماء رياضياتٍ بارزين أكثر من مرة، منها مرتان تمَّ اللجوءُ فيهما إلى الأكاديمية الوطنية للعلوم، وفي كل مرةٍ قدَّمَتْ هذه الأساطين توصياتٍ مختلفةً، لكنْ ما من أحدٍ منهم اتَّهَمَ أسلافه بارتكاب الأخطاء «في الرياضيات». كان حريًّا بالجميع أن يُنذِرَهم ذلك بأن هذه الإشكالية لا تكمن في الشقِّ الرياضي من الأمر في الواقع، وأنَّى اتُّبعت توصيات الخبراء ظلَّتِ المفارقاتُ والنزاعات تتوالى.

نشر مكتبُ الإحصاء الأمريكي في عام ١٩٠١ جدولًا يُبيِّن توزيعَ المقاعد في المجلس لكلِّ عددٍ بين ٣٥٠ و٤٠٠ مقعد، باستخدام قاعدة هاميلتون. في مراوغةٍ حسابيةٍ من نوعٍ يشيع في حساب التوزيع، كان لولاية كولورادو أن تحصل على ثلاثة مقاعد من أي عددٍ من تلك الأعداد إلا العدد ٣٥٧، حيث يقتصر عددُ مقاعدها عندئذٍ على اثنين فقط. اقترح رئيسُ لجنة المجلس للتوزيع (الذي كان من ولاية إلينوي، ولستُ أدري إنْ كان في قلبه غضاضة ضد كولورادو) أن يصبح عددُ مقاعد المجلس ٣٥٧، وأن تُطبَّق قاعدةُ هاميلتون. تمَّ التعامُلُ مع هذا الاقتراح بارتيابٍ، ثم رفَضَه الكونجرس بعد ذلك، واعتمد توزيعًا بين ٣٨٦ مقعدًا باستخدام قاعدة وبستر، التي أعطَتْ ولايةَ كولورادو مقاعِدَها الثلاثة «المستحقة». لكن هل كان ذلك التوزيعُ حقًّا أكثرَ إنصافًا من ذي اﻟ ٣٥٧ مقعدًا المستخدم لقاعدة هاميلتون؟ وإن كان، فبأي معيار؟ أهو تصويت الأغلبية ضد قواعد التوزيع؟

ما العيب بالضبط في استخلاصِ ثمرة عددٍ كبيرٍ من قواعد التوزيع المتنافسة، ثم مَنْحِ كلِّ ولايةٍ عددَ مقاعدِ التمثيل التي تنصُّ عليها أغلبيةُ مخططات إعادة التخصيص؟ أهم نقطةٍ هي أن هذا الإجراء في حد ذاته بمنزلة قاعدة توزيع. بالمثل، أدَّتْ محاولةُ التوفيق بين مخطَّطَيْ هاميلتون ووبستر عام ١٨٧١ إلى تبنِّي مخطَّطٍ ثالث. وما الذي ينتظر هذا المخططَ؟ من المفترض أن كلَّ مخطَّط يتكون منه قد صُمِّم ليتمتَّع ببعض الخواص المرغوبة، أما المخطَّط المختلط الذي لم يُصمَّم بحيث تكون له تلك السماتُ، فلن يملكها إلا بمحض الصدفة؛ وبهذا لن يَرِثَ بالضرورة مزايا مكوناته، بل سيرث بعضَ المزايا وبعض المساوئ، ويتصف بما يخصه من مثلَيْهما، لكنْ لِمَ عساه أن يكون جيدًا إذا لم يكن «مصمَّمًا» لذلك؟

قد يسأل أحدُ هواة الجدل الآن: إذا كانت فكرةُ تبنِّي ما أجمعَتْ عليه أغلبيةُ قواعد التوزيع سيئةً هكذا، فلماذا يُنظَر إذنْ إلى تصويت أغلبية «الناخبين» على أنه فكرة جيدة؟ من الكارثي أن يُستخدَم تصويت الأغلبية في العلم مثلًا. يفوق عددُ المنجِّمين عددَ علماء الفلك، وكثيرًا ما يشير المؤمنون بالظواهر «الخارقة» إلى أن عددَ الشهود المزعومين على تلك الظواهر يفوق كثيرًا عددَ الشهود على أغلب التجارب العلمية؛ وتبعًا لهذا يُطالِبون بمصداقيةٍ تتناسب مع ذلك، إلا أن العلم ينأى بنفسه عن تقييم الأدلة بهذه الطريقة؛ إذ يلتزم بمعيار التفسير الجيد. إذنْ إذا كان ممَّا يضرُّ بالعلم اعتناقُه للمبدأ «الديمقراطي» ذاك، فلماذا يصحُّ للسياسة اتِّبَاعُ المبدأ ذاته؟ هل هذا للسبب الذي وصفه تشرشل حين قال: «لقد جُرِّبتْ نُظُمٌ عدَّة للحكومات، وسيُجرَّب غيرها الكثير في عالَمِ الخطيئة والبلاء هذا. لا يمكن أن يدَّعِيَ أحدٌ مثاليةَ الديمقراطية أو شمولَ حكمتها؛ فقد قيل عنها إنها أسوأ نُظُم الحكم باستثناء كل النُّظُم الأخرى التي تمَّت تجربتها من آنٍ لآخَر.» كفى بذلك من سببٍ حقًّا؛ على أن ثَمَّةَ أسبابًا دامغةً أخرى تتعلَّق كلها بالتفسير، وذلك كما سأشرح.

يتحيَّر الساسةُ في بعض الأحيان بشدةٍ من الانحراف الصارخ لمفارقات التوزيع، حتى وصل بهم الأمرُ إلى التنديد بالرياضيات ذاتها. اشتكى روجر كيو ميلز النائبُ عن تكساس في عام ١٨٨٢ قائلًا: «ظننتُ … أن الرياضيات عِلْمٌ إلهي. اعتقدتُ أن الرياضيات هي العِلْمُ الوحيد الذي نطق بالإلهام وكان منزَّهًا عن الخطأ في كل عملياته، [لكن] ها هو نظامٌ رياضيٌّ جديدٌ يُثبِت أن الحقيقة باطلة.» في عام ١٩٠١، قال النائب جون إي ليتلفيلد، الذي هُدِّدَ مقعده في المجلس باعتباره نائبًا عن ولاية ماين بفعل مفارقة ألاباما: «لكِ الله يا ولاية ماين؛ إذ تمدُّ إليك الرياضياتُ ذراعَها لتساعدك، وبدلًا من ذلك تهمُّ بالبطش بك.»

في الواقع، لا يوجد ما يُدعَى «بالإلهام» الرياضي (وهو ما يعني أن المعرفة الرياضية تأتي من مصدرٍ معصومٍ من الخطأ، ويُقصَد بها عادةً الرَّبُّ)؛ فكما شرحتُ في الفصل الثامن، معرفتُنا الرياضية ليسَتْ معصومةً من الخطأ، لكن إذا كان النائب ميلز يعني أن علماء الرياضيات هم أفضل قضاةٍ عدولٍ في المجتمع — أو من المفترض أن يكونوا كذلك على نحوٍ ما — فهو ببساطة مُخطِئ؛ حيث ينبغي ذلك لعلماء الفيزياء بالطبع. كان من بين اللجنة التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم التي قدَّمَتْ توصياتها للكونجرس عام ١٩٤٨، عالِمُ الرياضيات والفيزياء جون فون نيومان. قرَّرَتِ اللجنةُ أن القاعدة التي ابتكَرَها عالِمُ الإحصاء جوزيف أدنا هيل (وهي القاعدة المستخدَمة اليوم)، هي الأكثر إنصافًا لكلِّ الولايات، لكنَّ عالِمَيِ الرياضيات ميشيل بالينسكي وبايتون يانج خلصَا بعد ذلك إلى أنها تُحابي الولاياتِ الأصغر. يوضِّح ذلك مرةً أخرى كيف أن المعايير المختلفة «للإنصاف» تُحابي قواعدَ توزيعٍ مختلفة، ولا تستطيع الرياضيات تحديد أيٌّ منها هي المعيار الصحيح. في الحقيقة، لو كان النائبُ ميلز يقصد المعنى الساخِرَ لقوله — أيْ إن الرياضيات وحدها لا يسعها أن تتسبَّبَ في الظلم ولا أن تعالجه — لَكان مُحِقًّا.

على أي حال، تمَّ التوصُّلُ إلى اكتشافٍ رياضيٍّ غيَّرَ طبيعةَ الجدل الدائر حول التوزيع إلى الأبد؛ فإننا نعلم الآن أن السعيَ نحو قاعدة توزيعٍ تتَّسِم بالتناسُبِ والخلوِّ من المفارقات لن ينجح أبدًا، وقد أثبت هذا بالينسكي ويانج عام ١٩٧٥.

مبرهنة بالينسكي ويانج

«تنصُّ هذه المبرهنة على أن كلَّ قاعدةِ توزيعٍ لا تُخلُّ بالحصة التي تستحقُّها كلُّ ولايةٍ تشوبها مفارقةُ السكان.»

هذه المبرهنة القوية تُفسِّر السلسلةَ الطويلة من الإخفاقات التاريخية في حلِّ إشكالية التوزيع، فضلًا عن الظروف المتنوعة الأخرى التي قد تبدو ضروريةً لضمان عدالة التوزيع؛ إذ لا تقدر أي قاعدة توزيعٍ على استيفاء أبسط متطلبات التناسب وتجنُّب مفارقة السكان. أثبَتَ بالينسكي ويانج مبرهناتٍ تتعلَّق بمفارقاتٍ كلاسيكيةٍ أخرى كذلك.

كان لذلك العمل سياقٌ أرحب من إشكالية التوزيع فحسب. ظهر في القرن العشرين — وخاصةً بعد الحرب العالمية الثانية — إجماعٌ بين أغلب الحركات السياسية الكبرى على أن رخاء مستقبل البشرية سيعتمد على زيادةِ التخطيط وصنعِ القرار على مستوى المجتمع (وحبذا العالم). اختلف الإجماعُ الغربي عن نظرائه الشموليين في أنه أمَلَ أن يكون هدفُ هذه الممارسات إرضاءَ رغبات واختيارات المواطنين؛ وهكذا أُجبِر مناصرو التخطيط المجتمعي في الغرب على التعامُل مع سؤالٍ جوهريٍّ لم يطرحه الشموليون، أَلَا وهو: عندما يكون على المجتمع بأسره الاختيار بشأن أمرٍ ما، ويختلف المواطنون في تفضيلاتهم فيما يتعلَّق بالخيارات المتاحة، فأي خيارٍ يكون من الأفضل للمجتمع تبنِّيه؟ إذا أجمع سائرُ المواطنين على خيارٍ، فلا مشكلة؛ ولكن تنتفي الحاجةُ إلى التخطيط كذلك. أما إذا لم يُجمِعوا، فأي خيار يجوز الدفاع عنه بعقلانيةٍ بصفته يمثِّل «إرادة الشعب»؛ أيْ إنه الخيارُ الذي «يريده» المجتمع؟ يطرح هذا سؤالًا آخَر: كيف ينبغي للمجتمع أن يُنظِّمَ عمليةَ صنْعِ القرار الخاصة به بما يضمن تبنِّيَه حقًّا الخياراتِ التي «يريدها»؟ طالما وُجِد هذان السؤالان — ولو وجودًا ضمنيًّا — منذ بداية الديمقراطية الحديثة. على سبيل المثال: يتحدَّث كلٌّ من إعلان الاستقلال والدستور الأمريكيَّيْن عن حق «الشعب» في فعل أمورٍ معينة، مثل تنحية الحكومات. أصبح هذان السؤالان اليومَ محوريَّيْن في فرعٍ من نظرية الألعاب الرياضية يُعرَف باسم «نظرية الاختيار الاجتماعي».

وهكذا دُفع بنظرية الألعاب — بعد أن كانَتْ من قبلُ فرعًا غامضًا وغريبًا بعضَ الشيء من فروع الرياضيات — دفعًا فجأةً إلى قلب الأمور الإنسانية، تمامًا كما حدث لعلمَيِ الصواريخ والفيزياء النووية. وهكذا برزَتْ نخبةٌ من أفضل العقول الرياضية بالعالم — ومن بينهم نيومان — لتواجِهَ تحدِّيَ تطويرِ نظريةٍ تدعم احتياجاتِ المؤسسات العديدة الخاصة بصناعة القرار الجمعي التي أخذت تنشأ. استهدف هؤلاء ابتكارَ أدواتٍ رياضيةٍ جديدةٍ تستطيع بعد إلمامها برغبات المجتمع أو احتياجاته أو تفضيلاته أن تحدِّد بدقةٍ ما «يريده» المجتمع، وبهذا تُحقِّق «إرادة الشعب». أرادوا كذلك تحديدَ أي أنظمة التصويت والتشريع ستحقِّق للمجتمع ما يريده.

تمَّ اكتشافُ بعض الأدوات الرياضية الشائقة. لكن القليل جدًّا منها — إنْ وُجِد — كان يفي بالغرض. وعلى العكس، أثبتَتِ المبرهناتُ التي تشير إلى استحالة تحقيق قواعد التوزيع العادلة، كمبرهنة بالينسكي ويانج، مرارًا وتكرارًا أن الافتراضات الكامنة خلف نظرية الاختيار الاجتماعي مُفكَّكة ومتضاربة.

وهكذا اتَّضَح أن إشكالية التوزيع — تلك التي استنزفَتْ كلَّ ذلك الوقت والمجهود والحماس من المشرعين — ليست سوى قطرةٍ من غيث. إن الإشكالية ليست بضيق الأفق الذي تبدو عليه، بل هي أعمق ممَّا تبدو؛ فمثلًا: تكون أخطاءُ التقريب أقل نسبيًّا حينما يُطبَّق على مجلسٍ تشريعيٍّ ذي عددٍ كبيرٍ من المقاعد. إذنْ لِمَ لا يجعلون المجلسَ التشريعيَّ ضخمًا جدًّا — قُلْ عشرة آلاف عضوٍ مثلًا — بحيث تُمسي كلُّ أخطاء التقريب قليلةً لا تُذكَر؟ من أسباب عدم إمكانية ذلك أن مجلسًا تشريعيًّا بهذه الضخامة سيُضطر إلى تنظيم نفسه داخليًّا من أجل صُنع أي قرار. ستُضطر التكتُّلاتُ داخل المجلس إلى تحديد قائديها، وسياساتها، واستراتيجياتها، وهلمَّ جرًّا؛ ومن ثَمَّ فإن كلَّ مشكلات الاختيار الاجتماعي داخل هذا «المجتمع» الحزبي الصغير ستنشب داخل مجلس التشريع. نرى إذنْ كيف أن الأمر لا يتعلَّق بأخطاء التقريب، كما أنه لا يتعلَّق بتفضيلات الشعب الكبرى؛ فبمجرد أن نتأمَّلَ تفاصيلَ صناعةِ القرار في المجموعات الضخمة — كيف للمجالس التشريعية والأحزاب والتكتلات داخل الأحزاب أن تُنظِّمَ نفسَها لتُعبِّر برغباتها عن «رغبات المجتمع» — علينا أن نأخذ في الحسبان اختياراتهم الثانية، والثالثة؛ إذ يظلُّ للشعب الحقُّ في المساهمة في صنع القرار إذا لم يستطع إقناعَ الأغلبية بالموافقة على اختياره الأول. غير أن الأنظمة الانتخابية المصمَّمة لوضع مثل تلك العوامل في الاعتبار تجلب دائمًا مزيدًا من المفارقات والمبرهنات التي تدل على استحالة تحقيق أمورٍ معينة.

أُثبتت واحدة من أولى المبرهنات الدالة على استحالة تحقيق أمورٍ معينة في عام ١٩٥١ على يد الاقتصادي كينيث أرو، وساهمت في فوزه بجائزة نوبل للاقتصاد عام ١٩٧٢. تبدو مبرهنةُ أرو مُنكِرةً لوجود الاختيار الاجتماعي من الأساس، وتصطدم بمبدأ الحكومة الممثِّلة للشعب، والتوزيع، والديمقراطية نفسها، وغير ذلك الكثير.

هاك ما فعل أرو؛ طرح في البداية خمسَ مسلَّماتٍ أوليةٍ ينبغي لأي قاعدةٍ تُعرِّف «إرادةَ الشعب» — أيْ تفضيلات جماعةٍ ما — أن تفيَ بها، وقد بَدَتْ تلك المسلَّمات لأول وهلةٍ منطقيةً للغاية، حتى وكأنها من نافلة القول. تقضي إحدى تلك المسلَّمات بأن تُعرِّف القاعدةُ تفضيلاتِ الجماعة من خلال تفضيلاتِ أفرادِ هذه الجماعة. تقضي مسلَّمة أخرى بأنه على القاعدة ألَّا تُشير إلى آراء شخصٍ بعينه على أنها «تفضيلات الجماعة» دون النظر إلى ما يريده الآخرون؛ تُعرَف هذه باسم مسلَّمة «اللادكتاتورية». تنصُ المسلَّمةُ الثالثة على أنه عند إجماع أفراد الجماعة على أمرٍ ما — بمعنى أن يكون لديهم جميعًا نفس التفضيلات بشأنه — يتعيَّن على القاعدة أن تعكس رأيَ الجماعة هذا أيضًا. تُعبِّر هذه المسلَّمات الثلاث — في هذا الموقف — عن مبدأ الحكومة الممثِّلة للشعب.

أما مسلَّمة أرو الرابعة، فتنصُّ على ما يلي: افترض أنه — في ظل تعريفٍ معيَّنٍ «لتفضيلات الجماعة» — احتسبت القاعدة أن للجماعة تفضيلًا محددًا، لنَقُلْ إنه تفضيل البيتزا على الهامبرجر؛ يجب على القاعدة إذنْ أن تظل معبِّرةً عن أن هذا هو تفضيل الجماعة إذا قام بعضُ أفرادها ممَّن «اختلفوا» معها من قبلُ (أيْ فضَّلوا الهامبرجر) بتبديل آرائهم وأصبحوا يفضِّلون البيتزا؛ يُشبه هذا الشرطُ نبْذَ مفارقة السكان. تفتقر الجماعةُ إلى العقلانية إذا بدَّلَتْ «رأيها» لتتَّخِذ اتجاهًا معاكسًا لاتجاه أفرادها.

أما آخِر المسلَّمات الخمس، فهي أنه إذا كان للجماعة تفضيلٌ ما، ثم غيَّرَ بعضُ أفرادها آراءَهم بخصوص «شيء آخَر»، فستستمر القاعدة في تعيين التفضيل الأول باعتباره تفضيل الجماعة. على سبيل المثال: إذا غيَّرَ بعضُ أفراد الجماعة آراءَهم بخصوص التفضيل بين الفراولة والتوت، ولكن لم يغيِّروا تفضيلهم فيما يتعلَّق بالبيتزا والهامبرجر، فلا بد أن تظلَّ القاعدةُ تُعبِّر عن تفضيل الجماعة المتعلِّق بالبيتزا والهامبرجر. يمكن اعتبارُ هذا الشرط هو الآخَر كمسألةٍ منطقية: إذا لم يُغيِّر أيٌّ من أفراد الجماعة رأيَه بخصوص مقارنةٍ ما، فلن يتغيَّر بدوره موقفُ تلك الجماعة من تلك المقارنة.

أثبت أرو أن هذه المسلَّمات التي سردتُها للتوِّ يتضارب بعضها مع بعض، بالرغم ممَّا تبدو عليه من مظهرٍ منطقي، فلا قِبَلَ لأي نهجٍ يسعى إلى تحقيق «إرادة الشعب» باستيفاء المسلَّمات الخمس كلها. إن هذه ضربة في مقتلٍ للافتراضات التي تقوم عليها نظريةُ الاختيار الاجتماعي، بل ربما تكون أيضًا على مستوًى أعمق ممَّا تصل إليه مبرهنات بالينسكي ويانج. أولًا: لا تدور مسلَّمات أرو حول موضوع التوزيع بما يبدو عليه من ضيق أفقٍ ظاهري، بل تمتد إلى أي موقفٍ قد نسعى فيه إلى وضع تصوُّرٍ عن جماعةٍ لها تفضيلات. ثانيًا: من البديهي أن هذه المسلَّمات الخمس ليسَتْ مرغوبةً بُغيةَ إرساء العدالة في أي نظامٍ فحسب، بل ضرورية لجعله منطقيًّا؛ ومع هذا يتضارب بعضها مع بعض.

وفيما يبدو أن ذلك يستتبع ضرورة افتقارِ أي جماعةٍ تقوم باتخاذ قراراتٍ جماعيةٍ إلى العقلانية والمنطقية بوجهٍ أو بآخَر. قد تشوبها الدكتاتورية، أو الوقوع في قبضة قاعدةٍ تعسُّفيةٍ ما، أو لا بد أنها — إذا استوفَتْ شروطَ التمثيل الثلاثة — ستغيِّر «رأيها» أحيانًا إلى اتجاهٍ معاكسٍ لذلك الذي نجح النقد والإقناع في تمهيده؛ إذنْ ستتخذ الجماعة قراراتٍ خاطئةً مهما بلغ الأشخاص الذين أوَّلوا تفضيلاتها وفعلوها من حكمةٍ وحُسْن نِية، إلا إذا كان أحدهم دكتاتورًا (سأتطرَّق لذلك بعد برهةٍ). لا يوجد إذنْ شيءٌ يُدعَى «إرادة الشعب»، ولا يمكن النظر إلى المجتمع باعتباره كيانًا صانعًا للقرار ذا تفضيلاتٍ ذاتية الاتساق. بالطبع لم تكن هذه هي النتيجةَ المرجوَّ من نظرية الاختيار الاجتماعي الردُّ على العالم بها.

وكما حدث مع إشكالية التوزيع، شهدَتْ مبرهنةُ أرو محاولاتٍ لإصلاح مضامينها بواسطة أفكارٍ من نوع «لِمَ لا يفعلون كذا وكذا؟» منها مثلًا: لِمَ لا يُؤخَذ في الاعتبار «مدى قوة» تفضيلات الشعب؟ أيْ لو فضَّلَ ما يزيد قليلًا عن نصف الناخبين بالكاد الخيارَ «س» على الخيار «ص»، بينما رأى الباقون أن تنفيذ الخيار «ص» مسألة حياةٍ أو موت، فستُعيِّن أغلبُ المفاهيم البديهية للحكومة الممثِّلة للشعبِ الخيارَ «ص» على أنه يمثِّل «إرادة الشعب». ولكن ما أصعبَ تعريفَ مدى قوة التفضيلات! وخصوصًا التفاوتات فيما يتعلَّق بها بين الأشخاص، أو حتى على مستوى الشخص الواحد في الأوقات المختلفة، تمامًا مثلما يصعب تعريف السعادة! وعلى أي حال لا يُحدِث إدراجُ أمورٍ كهذه أيَّ اختلاف؛ إذ تظلُّ المبرهناتُ الدالة على استحالة تحقيقِ أمرٍ ما باقيةً.

وكما الحال في إشكالية التوزيع، يبدو أنه كلما سدَّ المرءُ فجوةً في نظامٍ لصنع القرار فيما يتعلَّق بجانبٍ ما، ظهرتْ فجوةٌ أخرى في جانبٍ آخَر. تفاقمَتْ مشكلةٌ عويصةٌ أخرى اصطدم بها كثيرٌ من مؤسسات صُنْعِ القرار، وهي أن تلك المؤسسات تُغرِي المشاركين في صنع القرار بالحوافز ليكذبوا بصدد تفضيلاتهم. على سبيل المثال: لو كان أمامك خياران تفضِّل أحدهما قليلًا على الآخَر، لَأغرَوْك على أن تؤكِّدَ أنك تفضِّل بشدةٍ الخيارَ الذي تفضِّله. ربما تمتنع عن فعل ذلك بوازعٍ من شعورٍ بالمسئولية المدنية، لكنَّ عيبَ نظامِ صُنْعِ القرار الذي تتحكَّم في استقامته المسئوليةُ المدنيةُ هو مَنْحُه أهميةً غير متناسبةٍ لآراء مَن «يفتقرون» إلى الشعور بالمسئولية المدنية ولا يتورَّعون عن الكذب. على الجانب الآخر، لا يمكن أن يكون لدى المجتمع الذي لدى الجميع فيه وعيٌ كافٍ بحيث يصعب حدوث مثل هذا الكذب، نظامُ اقتراعٍ سري فعَّال، وسيعطي النظام حينها أهميةً غير متناسبةٍ للتكتُّل الأكثر قدرةً على تخويف المترددين.

من مشكلات الاختيار الاجتماعي المثيرة للجدل باستمرارٍ مشكلةُ تحديد النظام الانتخابي؛ يُشبه هذا النظام مخطَّطَ التوزيع من الناحية الرياضية، ولكنه بدلًا من تخصيص المقاعد للولايات على أساس عدد سكانها، يوزِّعها على المرشحين (أو الأحزاب) على أساس الأصوات، لكنه أكثر تناقُضًا من التوزيع، وله من التبعات الجسيمة ما يفوق تبعات الأخير؛ ففي حالة الانتخابات يكون عنصرُ «الإقناع» محوريًّا في العملية برمتها؛ إذ يفترض في الانتخابات أن تحدِّد ما أصبح المصوِّتون مقتنعين به. (لا يرتبط التوزيع بمحاولة إقناع الولاياتِ الناسَ بالهجرة إليها من الولايات الأخرى.) ومن ثَمَّ، قد يساهم نظامٌ انتخابيٌّ في إرساء قواعد تقاليد النقد في المجتمع الذي يُطبَّق فيه، وقد يكبحها.

لنضربْ لذلك مثلًا: يُدعَى النظام الانتخابي الذي يوزِّع المقاعد كليًّا أو جزئيًّا بالتناسب مع عدد الأصوات التي فاز بها كل حزبٍ بنظام «التمثيل التناسبي»، ونعلم بفضل بالينسكي ويانج أن النظام الانتخابي إذا كان بالغ التناسُبيَّة، فسيكون عرضةً لما يماثِل مفارقةَ السكان وغيرها من المفارقات. ولقد بيَّنَ أستاذ العلوم السياسية بيتر كورليد-كليتجارد — في دراسةٍ أجراها على آخِر ثمانية انتخاباتٍ عامةٍ أُجرِيت في الدنمارك (المطبَّقة بنظام التمثيل التناسبي) — أن كلًّا من تلك الانتخابات الثمانية قد شهدتْ مفارقات. كان من بين تلك المفارقات مفارقةُ «تفضيل أعلى ومقاعد أقل»، التي يفضِّل فيها أغلبيةُ المصوتين الحزبَ «س» على الحزب «ص»، ولكن يفوز الحزبُ «ص» بمقاعد أكثر من الحزب «س».

بَيْدَ أن ذلك حقًّا أقل ما يعتري التمثيل التناسبي من خصائصَ غيرِ منطقية؛ فهناك خاصية أهم تتَّسِم بها حتى أكثر النُّظُم التناسبية اعتدالًا، وهي إعطاء أهمية «غير» تناسبية إلى «ثالث أكبر حزب» في المجلس التشريعي، بل إلى الأحزاب الأصغر أيضًا في أغلب الأحيان. يحدث ذلك كما يلي: من النادر (في أي نظام) أن يفوز حزبٌ واحد بأغلبيةٍ ساحقةٍ من الأصوات؛ ومن ثَمَّ إذا تمَّ تمثيلُ الأصوات على نحوٍ متناسبٍ داخل المجلس التشريعي، فلن يتمَّ تمريرُ تشريعٍ إلا إذا تعاونَتْ بعضُ الأحزاب بُغيةَ تمريره، كما لا يمكن تشكيلُ أي حكومة إلا إذا شكَّل بعضها ائتلافًا فيما بينه. ينجح الحزبان الأكبر في تنفيذ هذا في بعض الأحيان، لكن النتيجة الأكثر شيوعًا هي أن قائدَ ثالثِ أكبر حزبٍ يصبح هو المتحكِّمَ في «ميزان القوة»، ويقرِّر أي الحزبين الأكبر سيشاركه في تشكيل الحكومة، وأيهما سيُنحَّى جانبًا، ولأيِّ مدة. يعني هذا تفاقم الصعوبة أمام «جمهور الناخبين» إزاء قرارهم بشأن اختيار أي الأحزاب — وأي السياسات — سيخرج من السلطة.

كان الحزب الديمقراطي الحر هو ثالثَ أكبر حزبٍ في ألمانيا (ألمانيا الغربية سابقًا) في المدة بين عامَيْ ١٩٤٩ و١٩٩٨. (إنني أعدُّ كلًّا من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي ببافاريا ها هنا حزبًا واحدًا للأغراض الخاصة بالعرض.) ومع أنه لم يَفُزْ قطُّ بأكثر من ١٢٫٨ بالمائة من الأصوات — بل كان يحصل على أقلَّ من ذلك كثيرًا في المعتاد — فإن نظام التمثيل التناسبي بالدولة قد منحه سلطةً لم تتأثَّر بتغيرات آراء الناخبين. اختار هذا الحزب مَن سيتولى الحكومةَ من الحزبين الأكبر أكثرَ من مرةٍ، وغيَّرَ جبهةَ انتمائه مرتين، واختار أن يضع أقل الحزبين شعبيةً (بقياس عدد الأصوات الحاصل عليها) في السلطة ثلاث مرات. في الغالب، كان يُعيَّن رئيس الحزب الديمقراطي الحر وزيرًا كجزءٍ من صفقة الائتلاف؛ مما نتج عنه أن ألمانيا لم تخلُ من وزيرِ خارجيةٍ مُنْتَمٍ إلى هذا الحزب طوال التسعة والعشرين عامًا الأخيرة من تلك الفترة إلا لأسبوعين. عندما تزحزح ذلك الحزب إلى المركز الرابع عام ١٩٩٨ على يد حزب الخضر، استُبعِد من الحكومة على الفور، واستولى حزبُ الخضر على تلك المكانة ذات التأثير السياسي النافذ، وتولَّى حزب الخضر وزارةَ الخارجية كذلك. إن هذه السلطة غير التناسبية التي يمنحها التمثيل التناسبي لثالث أكبر حزبٍ نقيصةٌ يندى لها الجبين في نظام «علة وجوده» كلها — ومبرره الأخلاقي المفترض — هو توزيع التأثير السياسي على نحوٍ تناسبي.

لا تنطبق مبرهنة أرو على صنع القرار الجماعي فحسب، وإنما على الأفراد كذلك، كما سنرى فيما يلي. تخيَّلْ شخصًا رشيدًا في موقف اختيارٍ ما بين خياراتٍ عدةٍ أمامه؛ إذا كان القرار يتطلَّب تفكيرًا، فلا بد لكل خيارٍ أن يقترن بتفسيرٍ — ولو مبدئيًّا — للسبب الذي قد يجعله الخيارَ الأفضل. إن اصطفاء خيارٍ يعني اختيارَ تفسيرٍ له؛ فكيف على المرء إذنْ أن يقرِّر أي التفسيرات سيعتمد؟

يُخبرنا المنطق السليم أن على المرء «وزنَ» تلك التفسيرات، أو أن يَزِن الدليلَ الذي تُقدِّمه حججُ كلٍّ منها. إن هذه استعارة قديمة؛ فلطالما حملَتْ تماثيلُ العدالة موازينَ منذ القِدَم. وفي التاريخ الأقرب صبَّتِ الاستقرائيةُ التفكيرَ العلمي في نفس القالب، قائلةً إن النظريات العلمية تُختار، وتُبرَّر، وتُعتقَد — بل وتُكوَّن على نحوٍ ما في المقام الأول — طبقًا «لوزن الدليل» المثبت لها.

لنتأمَّلْ عمليةَ الوزن الافتراضية تلك. كل جزءٍ من الدليل، بما فيه كل إحساس، وتحامُل، وقيمة، ومسلَّمة، وحجة، وما إلى ذلك — بقدر ما لذلك الدليل من «وزن» في ذهن الشخص — سوف يسهم بقدرٍ في «تفضيلات» هذا الشخص من بين التفسيرات المتنوعة؛ ومن هنا يجوز النظر إلى كل جزءٍ من أي دليلٍ بحسب مبرهنة أرو على أنه «فرد» يشترك في عملية صنع القرار؛ بحيث يكون الشخص ككلٍّ هو «الجماعة».

يتحتم على العملية التي تفصل بين التفسيرات المختلفة أن تفيَ ببعض الشروط إذا كان لها أن تتحلَّى بالمنطقية؛ فمثلًا: لو تلقَّى المرءُ — بعد أن قرَّرَ أن خيارًا بعينه هو الأفضل — مزيدًا من الأدلة التي تمنح وزنًا أكبر لهذا الخيار، لتعيِّن على التفضيل النهائي لذلك الشخص أن يظلَّ هو نفسَ الخيار، وهكذا. تخبرنا مبرهنةُ أرو أن هذه المتطلبات متضاربة؛ ممَّا يلمح إلى أن كل صور صنع القرار — وسائر صور التفكير — غيرُ منطقيةٍ بالضرورة، إلا إذا كان أحدُ أطراف العملية دكتاتورًا من سلطته تجاوُزُ آراءِ كل الأطراف الأخرى مجتمعة. لكن هذا نكوص لا نهائي: كيف يختار هذا «الدكتاتور» من بين التفسيرات المتنافسة، على نحوٍ يتجاوز فيه آراءَ كل الأطراف الأخرى في العملية؟

ثَمَّةَ عيب خطير جدًّا في هذا النموذج التقليدي لصنع القرار، في كلٍّ من عقول الأفراد وفي الجماعات كما هو مفترض في نظرية الاختيار الاجتماعي؛ إذ يتخيَّل هذا النموذجُ صنْعَ القرار وكأنه عمليةُ اختيارٍ من بين خياراتٍ موجودةٍ طبقًا لصيغةٍ معينة (كقاعدة توزيعٍ أو نظامٍ انتخابي)، ولكن في الواقع لا يحدث ذلك إلا في «نهاية» عملية صنع القرار، في المرحلة التي لا تتطلَّب فكرًا إبداعيًّا. وباستخدام تعبير إديسون: يشير النموذج إلى مرحلة الجهد فقط، دون أن يدرك أن صنع القرار هو حلٌّ لمشكلة، وأنه دون مرحلة الإلهام لا تُحَلُّ أيُّ مشكلةٍ ولا تُتاح أيُّ خيارات. يقبع في قلب عملية صنع القرار ابتكارُ خياراتٍ جديدة، ونبْذُ خياراتٍ حاليةٍ أو تعديلها.

إنَّ تبنِّيَ خيارٍ دون غيره من الناحية العقلية لَهُوَ اختيارُ التفسير المقترن به؛ وعليه لا يتعلَّق صنعُ القرار العقلاني بوزن الدليل بل بتفسيره، باعتباره خطوةً على طريق تفسير العالم. يحكم المرء على الحجج بصفتها تفسيراتٍ لا مبررات، وهو ما يحدث بإبداعٍ إذا ما انتهج الافتراضُ الذي يروِّضه كلَّ أشكال النقد. ونظرًا لطبيعة التفسيرات الجيدة التي يصعب التعديل فيها، لا يوجد منها إلا تفسير واحد لكلِّ خيار. فلا تُغريَنَّ المرءَ البدائلُ بمجرد أن يبتكر ذلك التفسير الجيد؛ إذ رجحت كفته، وغلب بحجته حجة البدائل ونبذها. وبطبيعة الحال يشقى المرءُ أثناء العملية الابتكارية لا ليفاضِلَ بين التفسيرات اللامحدودة شبه المتكافئة، بل يشقى ليصل إلى تفسيرٍ واحدٍ جيد، ولَكَمْ يُسعِده حين يصل إليه أن يتخلَّص من كافة التفسيرات الأخرى.

تقود فكرة صنع القرار بواسطة الوزن في بعض الأحيان إلى مفهومٍ خاطئٍ آخَر، وهو أن المشكلات يمكن حلُّها على هذا المنوال؛ أو هو تحديدًا أن الخلاف بين مناصري التفسيرات المتنافسة يمكن حلُّه بالتوصُّل إلى متوسطٍ وزنيٍّ لكل مقترحاتها معًا. لكن التفسير الجيد في الحقيقة — لاستحالة التعديل فيه دون إفقاده قوتَه التفسيرية — يصعب دمجه مع تفسيرٍ منافس؛ إذ عادةً ما يكون أيُّ حلٍّ وسطٍ بينهما أسوأ من كلٍّ منهما على حدة. يتطلب دمْجُ تفسيرين من أجل خلقِ تفسيرٍ «أفضل» مجهودًا إبداعيًّا إضافيًّا؛ لهذا نجد التفسيرات الجيدة منفصلةً تتشعَّب بينها التفسيراتُ السيئة، ولهذا أيضًا نواجه خياراتٍ منفصلةً إبَّان اختيارنا من بين التفسيرات.

غالبًا ما تتبع المرحلةُ الإبداعية في القرارات المعقدة مرحلةَ جهدٍ آلي، وفيها يُتمِّم المرءُ حسْمَ تفاصيل التفسير التي لا يصعب التعديل فيها بعدُ، ولكن يمكن جعلها كذلك بواسطة وسائلَ غيرِ إبداعية؛ على سبيل المثال: عندما يسأل عميل مهندسًا معماريًّا عن أقصى ارتفاعٍ يمكن أن تُبنَى عليه ناطحةُ سحاب، مع مراعاة بعض المتطلبات، لا يصل المهندس إلى إجابته بواسطة حساب رقمٍ ناتجٍ عن معادلةٍ فحسب. قد «تنتهي» عمليةُ صنع القرار بحسابٍ كذاك، ولكنها تبدأ بدايةً إبداعيةً بأفكارٍ حول كيفية مراعاة تصميمٍ جديدٍ لأولويات العميل ومتطلباته. كان على العملاء قبل ذلك أن يقرِّروا — بإبداعٍ — ماهيةَ تلك الأولويات والمتطلبات. لم يكن من الممكن للعملاء أن يُدركوا في بداية تلك العملية ما سينتهون إليه من تفضيلاتٍ يقدِّمونها للمهندسين المعماريين؛ وبالمثل، قد يتفحَّص الناخب قوائمَ سياسات الأحزاب المختلفة، بل قد يقيم أيضًا «وزنًا» لكلِّ قضيةٍ في سياساتها يمثِّل أهميةَ تلك القضية؛ لكنَّ فعلًا كهذا لا يتأتَّى إلا «بعدما» يتفكَّر الناخبُ في فلسفته السياسية الشخصية، وبعدما يفسِّر لقناعته الشخصية مدى الأهمية التي تُعلِّقها تلك الفلسفةُ على القضايا المختلفة، وما هي السياسات المحتمَل أن تتَّبِعَها الأحزابُ المتنوعة فيما يتعلَّق بتلك القضايا، وهكذا.

تفترض نظريةُ الاختيار الاجتماعي «قرارًا» من نوعيةٍ تقوم على الاختيار من بين خياراتٍ معروفةٍ ومحدَّدة، طبقًا لتفضيلاتٍ معروفة، ومحدَّدة، ومتَّسِقة؛ والمثال النموذجي على ذلك الناخبُ إذ يقف في لجنة الاقتراع لا ليفاضل بين مرشحين، بل ليختار من بين خانات تأشيرٍ على ورقة. إن هذا كما شرحتُ نموذجٌ غيرُ وافٍ ولا دقيقٍ لعملية صنع القرار البشرية؛ لأن الناخب في الواقع يختار من بين تفسيرات، لا خانات تأشير. وبينما لا يختار إلا قلةٌ قليلةٌ جدًّا من الناخبين التأثيرَ بأنفسهم على خانات التأشير — بأن يترشَّحوا للمناصب المعنية — يكوِّن سائرُ الناخبين العقلانيين تفسيرَهم الخاص لاختيارهم الشخصي لخانة تأشيرٍ بعينها.

وعلى هذا فليس من الصحيح أنَّ صُنْعَ القرار يعاني بالضرورة من مظاهر اللاعقلانية الفجة تلك؛ لا لوجود عيبٍ في مبرهنة أرو أو مثيلاتها من المبرهنات، بل لقيام نظرية الاختيار الاجتماعي نفسها على افتراضاتٍ باطلةٍ حول ما يُشكِّل التفكيرَ والقرارَ. إن هذا خطأ زينوني؛ فالنظرية تخلط بين عمليةٍ مجردةٍ «سمَّتها» صُنْعَ القرارِ وبين عمليةٍ حياتيةٍ واقعيةٍ تحمل نفس الاسم.

وبالمثل، فإن مَن يُدعَى «دكتاتورًا» في مبرهنة أرو ليس بالضرورة أن يكون دكتاتورًا بالمعنى المتداول للكلمة؛ إنه ببساطةٍ أيُّ عنصرٍ فاعلٍ تختصه قواعدُ صُنْعِ قرار المجتمع بالحقِّ المنفرِد لاتخاذِ قرارٍ معينٍ بصرف النظر عن تفضيلات أي شخصٍ آخَر؛ وبهذا يُمثِّل كلُّ قانونٍ يتطلَّب موافَقةَ الفرد على شيءٍ ما — مثل القوانين المكافحة للاغتصاب والجراحات القسرية — «دكتاتورية» بالمعنى المستخدَم في مبرهنة أرو. إن كل شخصٍ دكتاتورٌ على جسده، وتُمثِّل القوانينُ المكافحة للسرقة دكتاتوريةً للمرء على ممتلكاته الخاصة. إن الانتخابات الحرة — بحكم تعريفها — هي الانتخابات التي يكون كلُّ ناخبٍ فيها دكتاتورًا على ورقةِ اقتراعه الخاصة. تفترض مبرهنة أرو أن كل المشاركين في صُنْعِ القرار يملكون السلطةَ المنفردة على «مساهماتهم» فيه، وبصفةٍ أعم، تتطلَّب أهمُّ شروطِ صُنْعِ القرار صُنعًا عقلانيًّا — كحرية الفكر والتعبير، واحترام المعارضة، وحق الأفراد في تقرير مصيرهم — «دكتاتورياتٍ» بالمعنى المشار إليه في مبرهنة أرو. من المفهوم سبب اختياره لهذا المصطلح، ولكنه في هذا السياق لا علاقةَ له بالدكتاتورية التي من أبرز سماتها زوَّارُ الفجر.

لقد استجاب تقريبًا كلُّ المعلقين على هذه المفارقات والمبرهنات الدالة على استحالةِ تحقيقِ أمرٍ ما استجابةً خاطئة وعلى قدرٍ من الإيحاء؛ فهم «يأسفون» لها. يشير ذلك إلى الخلط الذي أتحدَّث عنه؛ إنهم يتمنَّوْن لو كانت هذه المبرهنات الرياضية البحتة خاطئة، ويشتكون قائلين إنه لو كانت الرياضيات تسمح بذلك فقط، لكنَّا بَنَيْنا نحن البشر مجتمعًا عادلًا يتخذ قراراتٍ عقلانية؛ ولكننا — إذ اتضح لنا استحالة ذلك — لا يبقى أمامنا سوى أن نختار من أشكال الظلم واللاعقلانية ما يثير إعجابنا أكثر من غيره، ونحيطها من ثَمَّ بقدسية القانون. وكما كتب وبستر عن إشكالية التوزيع: «إن ما لا يمكن تنفيذه على نحوٍ مثاليٍّ، لا بد أن يُنفَّذَ على نحوٍ أقرب ما يكون للمثالية، وإذا استحال تحقيقُ الدقة التامة بسبب طبائع الأمور، فلا بد من اتِّباع أقربِ نهجٍ عمليٍّ لها.»

ولكن أي «مثالية» تلك التي «تتعارض مع المنطق»؟ إن التعارض مع المنطق لغوٌ، والحقيقة أبسط كثيرًا: إذا تضارَبَ مفهومك عن العدل مع متطلبات المنطق أو العقلانية، فهو غير عادل، وإذا تضارَبَ مفهومك عن العقلانية مع مبرهنةٍ رياضيةٍ (أو في هذه الحالة: مع عدة مبرهنات)، يغدو مفهومك عن العقلانية لا عقلانيًّا. أما الإصرار العنيد على قِيَمٍ مستحيلةٍ منطقيًّا، فلا يضمن فقط الفشل بالمعنى المحدود من استحالة تحقيق تلك القِيَم، بل يجبر المرء أيضًا على نبذ التفاؤل (أي «نقص المعرفة أصل كل الشرور»)، ويحرمه بهذا من وسائلِ إحرازِ التقدُّم. إنَّ تَمنِّيَ أمرٍ مستحيلٍ منطقيًّا علامةٌ على وجود أمرٍ أفضل لنتمنَّاه. وعلاوةً على ذلك — وإذا صحَّ حدْسي الذي أشرتُ إليه في الفصل الثامن — فالأمنية المستحيلة «غير شائقةٍ» كذلك.

نحتاج إلى شيءٍ أفضل لنتمناه، شيء لا يتضارب مع المنطق، ولا العقل، ولا التقدم، ولقد صادفناه بالفعل؛ إنه الشرط الرئيسي الواجب توافره في النظام السياسي لكي يكون قادرًا على تحقيق التقدُّم المستمر: معيار بوبر الخاص بتمكين النظام من التخلص من السياسات والحكومات السيئة دون عنف. يستلزم ذلك التخليَ عن معيار «لمَن ينبغي الحكم؟» باعتباره أداةً للحكم على النظم السياسية. جرَتِ العادة على تأطير جميع الأطراف المعنية لقواعد التوزيع وكافة قضايا نظرية الاختيار الاجتماعي الأخرى في قالب: «لمَن ينبغي الحكم؟» ما هو عدد المقاعد الصحيح لكل ولاية، أو لكل حزبٍ سياسي؟ ماذا «تريد» الجماعة — المفترض لها الحق في الحكم على جماعاتها الفرعية وعلى الأفراد — وأي المؤسسات ستحقِّق لها ما «تريد»؟

دعنا إذنْ نُعِدِ النظر في صُنْعِ القرار الجمعي بمعايير بوبر هذه المرة؛ فبدلًا من أن نتساءل بجديةٍ أي المعايير البديهية والمتضاربة للعدالة والتمثيل وما إلى ذلك الأكثرُ بديهيةً لكي نُرسِّخَها، لنحكم على تلك المعايير ومعها كافة المؤسسات السياسية الفعلية والمقترحة في ضوء مدى جودة تشجيعها على التخلُّص من الحكام السيئين والسياسات السيئة؛ وللقيام بذلك، يتعيَّن عليها أن تُجسد تقاليد النقاش النقدي السلمي، عن الحكام، والسياسات، والمؤسسات السياسية نفسها.

ومن هذا المنظور، نرى أن كل تأويلٍ للعملية الديمقراطية على أنها مجرد طريقةٍ لاستشارة الشعب من أجل تحديد مَن ينبغي له الحكم، أو السياسات اللازم تطبيقها؛ يخفق في استيعاب حقيقة ما يحدث. لا تقوم الانتخابات في المجتمع الرشيد بنفس الدور الذي قامت به استشارة العرَّاف أو الكاهن، أو طاعة أوامر الملك، في المجتمعات الغابرة. لا يكمن جوهر عملية صُنْعِ القرار ديمقراطيًّا في الاختيار الذي ينتقيه النظامُ إبَّان الانتخابات، بل في الأفكار المبتكرة بين عمليات الانتخاب. وما الانتخاباتُ إلا واحدةٌ من عدة مؤسساتٍ وظيفتها السماح لمثل تلك الأفكار بالخروج إلى النور، واختبارها، وتعديلها، ورفضها. ليس الناخبون بمناهل حكمة يمكن «استنباط» الحكمة منها تجريبيًّا؛ إنهم يحاولون تفسيرَ العالم — مع وجود قابليةٍ للخطأ — ومن ثَمَّ تحسينه؛ إنهم يسعَوْن جميعًا نحو الحقيقة — جماعات وفرادى — أو ينبغي عليهم ذلك إن كانوا عقلانيين. الحقيقة الموضوعية «موجودة» في قلب المسألة؛ فالمشكلات قابلة للحل، والمجتمع ليس لعبة ذات مجموعٍ صفري: لم تصل حضارة التنوير إلى ما وصلتْ إليه اليومَ بأن وزَّعَتْ بمهارةٍ ثرواتِها وأصواتَها وكلَّ ما كان محلَّ نزاعٍ حين بدأت، بل وصلتْ إلى ما وصلتْ إليه اليوم بواسطة «الابتكار». إن ما يفعله الناخبون بوجهٍ خاصٍّ أثناء الانتخابات ليس خلقًا لقرار كيانٍ خارقٍ اسمه «المجتمع». إنهم يختارون أي التجارب يجب تنفيذها، وأيها يجب استبعادها (في البداية) لعدم وجود تفسيرٍ جيدٍ يُحدِّد سببَ أفضليتها، وفي هذا يقوم الساسة — وسياساتهم — بدور تلك التجارب.

عندما تُستخدَم المبرهنات الدالة على استحالة تحقيق أمرٍ ما كمبرهنة أرو في صياغة عملية صُنْعِ قرارٍ حقيقية، يجد مستخدمها نفسه مضطرًّا — في حيْدٍ بيِّنٍ عن الواقعية — لافتراض أن أحدًا من صُنَّاع القرار في الجماعة غيرُ قادرٍ على إقناع الآخرين بتعديل تفضيلاتهم، أو على ابتكار تفضيلاتٍ جديدةٍ يسهل الاتفاق عليها عن الموجودة، ولكن واقع الأمر أن أيًّا من التفضيلات والخيارات لا يجب أن يظل في نهاية عملية صنع القرار كما كان في بدايتها.

ربما تسأل: لِمَ لا … يصلحون نظريةَ الاختيار الاجتماعي بأن يَضمُّوا عملياتٍ إبداعيةً كالتفسير والإقناع إلى نموذجها الرياضي لصُنْعِ القرار؟ الإجابة هي: لأن كيفية صياغة نموذج العملية الإبداعية أمر غير معروفٍ بعدُ. إن نموذجًا كهذا «سيكون هو نفسه» عمليةً إبداعيةً؛ ذكاءً اصطناعيًّا.

إن شروطَ «العدالة» كما تظهر من مشكلات الاختيار الاجتماعي المتعددة مفاهيمُ مغلوطةٌ مناظِرةٌ للتجريبية: تدور كلها حول «مدخلات» عملية صنع القرار؛ مَن يشارك فيها؟ وكيف تُدمَج آراؤهم لتشكيل «تفضيل الجماعة»؟ يجب على التحليل العقلاني أن يُركِّزَ عوضًا عن ذلك على كيفية مساهمة القواعد والمؤسسات في «التخلُّص من» السياسات السيئة والحكام السيئين، وكيفية خلْق خيارات جديدة.

في بعض الأحيان، يؤيد مثل هذا التحليل أحدَ المتطلبات التقليدية، ولو جزئيًّا. على سبيل المثال: من المهم حقًّا ألَّا يُميَّز أحدُ أفراد الجماعة أو يُحرَم من التمثيل، ولكن هذا لا يعني إمكانيةَ مساهَمةِ كافة أعضائها في الحل؛ يرجع ذلك إلى أن مثل هذه التفرقة تُرسِّخ في النظام تفضيلًا معينًا من بين «انتقاداته» المحتملة. لا يُعقَل أن «يتضمَّن» القرارُ الجديد السياساتِ المفضَّلة لدى الجميع أو حتى أجزاءً منها، بل يعوز التقدُّم «استبعاد» الأفكار التي تفشل في الصمود أمام النقد، ومنعها من الترسُّخ، وترويج ابتكار الأفكار الجديدة.

يقوم الدفاعُ عن التمثيل التناسبي في الأغلب على أن الأخير يؤدِّي إلى حكوماتٍ ائتلافيةٍ وسياساتِ تسويةٍ توافقية، ولكن التسويات — التي هي بمنزلة خليطٍ من سياسات المساهمين — تحظى بسمعةٍ جيدةٍ لا تستحقها؛ فمع أنها ولا ريب أفضلُ من العنف العاجل، فإنها بصفةٍ عامة — كما شرحتُ — سياساتٌ سيئةٌ. إذا لم تكن سياسةٌ ما من الأصل فكرةَ أحدهم لحلٍّ قد ينجح، فلماذا عساها تنجح؟ لكن ليس هذا أسوأ ما في السياسات التوافقية؛ إن عيبها الرئيسي هو أن أحدًا لا يتعلَّمن منها شيئًا حينما تُطبَّق وتفشل؛ لأن أحدًا لم يتفق معها مطلقًا، وبهذا تَحجب السياساتُ التوافقية التفسيراتِ الدفينةَ التي تبدو أفضل على الأقل لتكتُّلٍ ما، وتمنعها من التعرُّض للنقد والاستبعاد.

بموجب النظام المتَّبَع لانتخاب أعضاء المجالس التشريعية في أغلب البلدان التي تعتمد على النهج السياسي البريطاني، تستحقُّ كلُّ منطقةٍ (أو «دائرة انتخابية») في الدولة مقعدًا واحدًا في المجلس التشريعي، يفوز به المرشح صاحب أكبر عددٍ من الأصوات في تلك الدائرة، يُعرَف هذا باسم نظام «انتخاب الأكثرية» (حيث تعني «الأكثرية»: «أكبر عددٍ من أصوات الناخبين»)، وغالبًا ما يُطلَق عليه نظامُ «الفوز للأكثر أصواتًا»؛ إذ لا يفوز مَن يأتي في المركز الثاني بأي شيء، ولا تقام دورةُ انتخابٍ ثانيةٌ (على عكس نُظُمٍ انتخابيةٍ أخرى تُتِيح هاتين السمتين بهدف زيادة تناسُب النتائج). يبالغ نظامُ انتخاب الأكثرية في «تمثيل» أكبر حزبين بطبيعة الحال، مقارَنةً بنِسَب الأصوات التي يحصلان عليها، وبالإضافة إلى ذلك، لا يضمن هذا النظامُ تجنُّبَ مفارَقةِ السكان، وهو كفيلٌ بزجِّ حزبٍ إلى السلطة، في حين أن حزبًا غيره هو مَن فاز بإجمالي أصواتٍ أكثر.

كثيرًا ما يُستشهَد بهاتين السمتين باعتبارهما حججًا ضد نظام انتخاب الأكثرية، ولتفضيل نُظُمٍ أكثر تناسبيةً — إما نظام التمثيل النسبي بحذافيره، وإما أي مخططاتٍ أخرى كنُظُم الأصوات القابلة للتحويل ونُظُم الانتخاب على دورتين بما لهما من بصمةٍ في تعزيزِ تناسُب تمثيل الناخبين في المجلس التشريعي. ومع ذلك، وبمعيار بوبر، فهذا كله لا يرقى إلى المقارنة بالفاعلية الأكبر لنظام انتخاب الأكثرية في التخلُّص من الحكومات والسياسات السيئة.

اسمح لي أن أتتبَّعَ آليةَ تلك المزية في نظام انتخاب الأكثرية بوضوحٍ أكثر. إن النتيجة المعتادة التي تتبع انتخاباتٍ أُجرِيت بنظامِ انتخابِ الأكثرية، هي حصولُ الحزب الفائز بأكبر عددٍ من الأصوات على أغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، وعلى هذا فهو يتولَّى المسئوليةَ منفردًا، وتُستبعَد كافةُ الأحزاب الخاسرة من السلطة بالكامل. يندر ذلك في ظل نظام التمثيل التناسبي؛ لأن بعض أحزاب الائتلاف القديم تظلُّ مطلوبةً في الائتلاف الجديد؛ ومن ثَمَّ فإن منطق نظام انتخاب الأكثرية هو أن الساسة والأحزاب السياسية لا يملكون سوى فرصةٍ هزيلةٍ في الحصول على نصيبٍ من السلطة، ما لم يستطيعوا إقناعَ نسبةٍ كبيرةٍ من السكان بالتصويت لصالحهم. يحفز ذلك سائرَ الأحزاب لإيجاد تفسيراتٍ أفضل، أو على الأقل لإقناع المزيد من الناس بتفسيراتهم الحالية بالفعل؛ لأنهم لو فشلوا في هذا لَاستُبعدوا من السلطة في الانتخابات التالية.

تخضع التفسيرات الفائزة في ظل نظام انتخاب الأكثرية حينئذٍ للنقد والاختبار؛ إذ يمكن تطبيقها دون أن تمتزج بأهم أفكار البرامج المعارضة. وبالمثل، يتحمَّل «الساسةُ» الفائزون مسئوليةَ اختياراتهم بالكامل، بما لا يترك لهم سوى أقل مجالٍ لاختلاق الأعذار فيما بعدُ لو اتَّضح أنها كانت اختياراتٍ سيئةً؛ فإذا وهن إقناعهم لجمهور الناخبين بحلول الانتخابات التالية، فلن يوجد مجالٌ لصفقاتٍ تُبقيهم في السلطة بالرغم من ذاك.

في ظل النظام التناسبي، نادرًا ما يُعزَى أيُّ شيءٍ إلى حدوث تغيُّراتٍ طفيفةٍ في الرأي العام، ومن السهل أن تتنقَّل السلطةُ إلى الاتجاه المتعارض مع الرأي العام. إن أكثر ما يهم هو التغيُّرات في رأيِ قائدِ ثالثِ أكبرِ حزب، وذلك يقي القائد — بل و«معظم» السياسات والساسة الشاغلين لمواقعهم في الهيئة التشريعية — الإزاحةَ من السلطة بواسطة الانتخابات، بل لا يُحدق بهم ذلك الخطر في الأغلب إلا بفقدهم دَعْمَ أحزابهم، أو بتغيير التحالفات بين الأحزاب. يخذل بشدةٍ هذا النظامُ معيارَ بوبر على هذا الصعيد، بينما العكسُ صحيحٌ في ظل نظام انتخاب الأكثرية. إن طبيعة «الكل أو اللاشيء» التي تتمتَّع بها انتخاباتُ الدوائر وما يتبعها من تمثيلٍ ضعيفٍ للأحزاب الصغيرة؛ تجعل المحصلةَ الإجماليةَ حساسةً لتحوُّلات الرأي الطفيفة. عندما يتحوَّل الرأي بعيدًا عن الحزب الحاكم يتهدَّد الأخير عادةً خطر فقدانه السلطةَ تمامًا.

توجد في ظل التمثيل التناسبي حوافزُ قويةٌ لاستمرار إجحاف النظام وتفاقُمه مع مرور الوقت. على سبيل المثال: إذا خرجَتْ كتلةٌ صغيرة عن حزبٍ كبير، فقد تَئُول بها الحال إلى امتلاك فرصةٍ أكبر في تمرير سياساتها عمَّا إذا بقي داعموها في الحزب الأصلي؛ يترتَّب على ذلك انتشارُ شراذم الأحزاب الصغيرة في المجلس التشريعي؛ ممَّا يزيد بدوره من ضرورة نشوء الائتلافات، بما فيها التحالفات مع الأحزاب الأصغر؛ ممَّا يعطيها المزيد من سلطةٍ غير تناسبية. كان أثر ذلك على إسرائيل — الدولة ذات نظام الانتخابات الأكثر تناسبيةً في العالم — أثرًا عنيفًا لدرجة أن أكبر حزبين — في زمن كتابة هذه السطور — لا يستطيعان مجتمِعَيْن أن تكون لهما الأغلبية، ومع ذلك لم يتحقَّق التناسُب في ظل هذا النظام الذي ضحَّى بكافة الاعتبارات الأخرى مفضِّلًا العدالةَ المفترضةَ للتناسب: في انتخابات عام ١٩٩٢ حصل مجمل الأحزاب اليمينية على أغلبية الأصوات، بينما فازَتِ الأحزاب اليسارية بأغلبية المقاعد. (السبب في ذلك أن انتمَتْ إلى التيار اليميني نسبةٌ هائلة من الأحزاب الثانوية التي فشلت في التأهُّل للحصول ولو على مقعدٍ واحد.)

وفي المقابل، تجنح خصائص تصحيح الخطأ التي يتحلَّى بها نظامُ انتخابِ الأكثرية إلى تجنُّب المفارقات التي يكون معرَّضًا لها النظامُ نظريًّا، وإلى إبطالها بسرعةٍ حالَ وقوعها؛ ذلك لأن كل تلك الحوافز تُعكَس في ظل هذا النظام؛ لنضربْ مثلًا بما حدث في مقاطعة مانيتوبا الكندية عام ١٩٢٦: حصل حزب المحافظين على أكثرَ من ضعف الأصوات التي فاز بها أيُّ حزبٍ آخَر، ولكنه لم يَنَلْ «ولو مقعدًا واحدًا» من المقاعد السبعة عشر المخصَّصة لتلك المقاطعة؛ فترتَّب على ذلك خسارته للسلطة في البرلمان الوطني بالرغم من فوزه بمعظم الأصوات على مستوى الدولة كذلك، ومع ذلك — وحتى في هذه الحالة النادرة والمتطرفة — كان التناسُبُ بين تمثيل الحزبين الرئيسيين في البرلمان معقولًا؛ إذ كانت للناخب الليبرالي العادي نسبةُ تمثيلٍ في البرلمان تفوق نسبةَ نظيرِه المحافظ بمقدار ١٫٣١ مرة. ماذا حدث بعد ذلك؟ فاز حزب المحافظين في الانتخابات التالية بأكبر عددٍ من الأصوات على مستوى الدولة مرةً أخرى، ولكن هذا منَحَه هذه المرةَ أغلبيةً عظمى في البرلمان. زاد التصويتُ لصالح حزب المحافظين في تلك الانتخابات بنسبة ٣ بالمائة، ولكن تمثيله زاد بنسبة ١٧ بالمائة من إجمالي عدد المقاعد؛ ممَّا ناسَبَ أنصبةَ الأحزاب من المقاعد تناسُبًا تقريبيًّا، ولبَّى معيارَ بوبر بنجاحٍ باهر.

يرجع هذا جزئيًّا إلى سمةٍ مفيدةٍ أخرى في نظام انتخاب الأكثرية، وهي أن الانتخابات عادةً ما تتقارب فيها النتائجُ على نحوٍ كبير: من حيث الأصوات، وأيضًا من حيث خطر الاستبعاد البالغ الذي يتهدَّد سائرَ أعضاء الحكومة. يندر أن يحدث ذلك في النُّظُم التناسبية بأيٍّ من المعنيَيْن السابقين. ما جدوى منْحِ الحزب ذي أغلبية الأصوات أغلبيةَ المقاعد إذا كان ثالثُ أكبرِ حزبٍ قادرًا عندئذٍ على منْحِ السلطة إلى ثاني أكبر حزب، ليضعَا بذلك معًا برنامجًا توافُقيًّا لم يصوِّت له أحدٌ قطُّ؟ ينتج عن نظام انتخاب الأكثرية في أغلب الأحيان مواقف ينتج فيها عن التغيُّر البسيط في التصويت تغيُّرٌ كبيرٌ نسبيًّا (في نفس الاتجاه!) في ماهية مَن سيشكِّلون الحكومة؛ كلما زاد تناسُبُ النظام، قلَّتْ حساسيةُ محتوى الحكومة الناتجة عنه وسياساتها، تجاهَ التغيرات في الأصوات.

توجد مع الأسف ظواهرُ سياسية بمقدورها الإخلال بمعيار بوبر إخلالًا أقوى ممَّا تقوم به النُّظُم الانتخابية السيئة؛ منها على سبيل المثال التقسيمات العِرقية المتأصلة، أو أشكال العنف السياسي المتنوعة؛ ولهذا لا أقصد من مناقشة النُّظُم الانتخابية التي سبقت نسْجَ تأييدٍ شاملٍ لنظام انتخاب الأكثرية، ووصفه بأنه «النظام الوحيد الحق» للديمقراطية الصالح لجميع النُّظُم السياسية الحاكمة وفي كل الظروف. إن الديمقراطية نفسها غيرُ قابلةٍ للتنفيذ في بعض الظروف، لكن خلق المعرفة يمكن — وينبغي له — أن يكون الأعلى أولويةً في ظلِّ ثقافاتِ التنوير السياسيةِ المتقدمة، وفكرةُ توقُّف تمثيل الحكومة للشعب على تناسُب التمثيل في المجلس التشريعي خاطئةٌ على نحوٍ لا لبسَ فيه.

في النظام الأمريكي، يجب أن يكون مجلسُ الشيوخ ممثِّلًا على نحوٍ يختلف فيه عن مجلس النواب: تُمَثَّل «الولايات» بالتساوي، احترامًا لحقيقة كون كلٍّ منها كيانًا سياسيًّا منفصلًا له نظمه السياسية والقانونية الخاصة والمميزة. تستحق كلُّ ولايةٍ مقعدَيْن في مجلس الشيوخ بصرف النظر عن عدد سكانها، ولأن الولايات تختلف أيَّما اختلافٍ من حيث عدد سكانها (كاليفورنيا هي أكثر الولايات سكانًا حاليًّا؛ حيث يبلغ عددهم سبعين ضعفَ عددِ سكان ولاية وايومنج الأقل سكانًا بين الولايات على الإطلاق)، تُشكِّل قاعدةُ توزيع مقاعد مجلس الشيوخ انحرافاتٍ صارخةً عن نهج التناسب القائم على عدد السكان، وهي أكبر كثيرًا من تلك المتنازَع عليها بشدةٍ فيما يخصُّ مجلسَ النواب. ومع ذلك، من النادر تاريخيًّا أن تسيطر على مجلسَيِ الشيوخ والنوَّاب بعد الانتخابات أحزابٌ مختلفة؛ يشير هذا إلى أن ثَمَّةَ ما يزيد عن مجرد «التمثيل» — أيْ كَوْن المجلس التشريعي انعكاسًا لرأي الشعب — في عملية التوزيعات والانتخابات الواسعة تلك. أيكون حلُّ المشكلات الذي يدعمه نظام انتخاب الأكثرية هو ما يُغيِّر باستمرارٍ «خيارات» الناخبين، كما يُغيِّر «تفضيلاتهم» من بين الخيارات، بالإقناع؟ وبهذا «تلتقي» الآراء والتفضيلات — بالرغم من المظاهر — لكن ليس بمعنى انتهاء الاختلاف بينها (لأن الحلول تخلق مشكلاتٍ جديدة)، ولكن بمعنى خلق مزيدٍ من المعرفة المشتركة.

لا يفاجئنا في محراب العلم أن نجد مجتمعًا من العلماء اختلفَتْ آمالُ أفراده وتوقُّعاتهم في بادئ الأمر، ودارتْ بينهم خلافاتٌ مستمرةٌ حول نظرياتهم المتنافسة، يصلُ بالتدريج إلى اتفاقٍ جماعيٍّ شبهِ تامٍّ بخصوص مجموعةٍ من القضايا (ومع ذلك يستمرون في الاختلاف طوال الوقت). لا يفاجئنا هذا لوجود حقائقَ قابلةٍ للملاحظة — في حالتهم — بإمكانهم استخدامها لاختبار نظرياتهم. يتلاقى هؤلاء العلماء على أي قضيةٍ لأنهم يتلاقَوْن جميعًا عند الحقيقة الموضوعية، أما في عالم السياسة فمن المعتاد ألا نرى إمكانيةً لحدوث مثل ذلك التلاقي.

بَيْدَ أن هذه رؤيةٌ تشاؤمية. في الثقافة الغربية، كان قدر كبير من المعرفة الفلسفية التي يُسلِّم بها اليومَ الجميعُ تقريبًا محلَّ خلافٍ متأجِّج منذ عقودٍ قليلةٍ فحسب — لنَقُلْ: كشناعة الاستعباد، أو حرية المرأة في الخروج للعمل، أو قانونية التشريح، أو عدم ربط الترقي في الجيش بلون البشرة — وكانت الآراءُ المناقضة حين ذلك هي البديهيات المسَلَّم بها. يشقُّ النظامُ الناجح والباحث عن الحقيقة طريقَه نحوَ إجماعٍ عامٍّ أو شبهِ عامٍّ، وهي الحالة الوحيدة التي لا يكون فيها الرأي العام عرضةً لمفارقات نظريات صُنْعِ القرار، وحيث يكون ﻟ «إرادة الشعب» معنًى حقيقيٌّ؛ لذا، فإن التلاقيَ في إجماعٍ عامٍّ أمرٌ ممكنٌ بمرور الزمن، تُمكِّنه حقيقةُ استبعاد كلِّ مَن يعنيهم الأمر للأخطاء التي تشوب آراءهم ومواقفهم يومًا بعد يوم، وتلاقيهم في الحقائق الموضوعية. تفوق أهميةُ تيسير هذه العملية — بتلبية معيار بوبر على أفضل وجهٍ ممكن — أهميةَ أيُّ التكتُّلين المتنازعين ذوَيِ الدعم شبه المتساوي يفوز بانتخاباتٍ بعينها.

وفيما يخص قضية التوزيع أيضًا، وقعت منذ تفعيل الدستور الأمريكي تغيُّراتٌ عدة في المفهوم السائد عمَّا يعنيه «تمثيل» الحكومة للشعب. ضاعَفَ الاعترافُ بحق المرأة في الانتخاب على سبيل المثال من عدد الناخبين، وأوضح ضمنيًّا أن نصف عدد السكان قد حُرِم حقوقه في كل الانتخابات السابقة، وأن تمثيل النصف الآخَر كان مبالغًا فيه بالمقارَنة بالتمثيل العادل. من منظورٍ عددي، تُسفِّه هذه المظالم كل حالات إجحاف التوزيع التي استنزفت كمًّا كبيرًا من الطاقة السياسية على مرِّ القرون؛ ومع ذلك، يعود الفضل إلى النظام السياسي، وإلى شعب الولايات المتحدة الأمريكية، والغرب بصفةٍ عامةٍ في أنهم — بالرغم من جدالهم المتَّقِد حول عدالة نقل نسبة تمثيلٍ مئويةٍ بسيطةٍ من ولايةٍ لأخرى — قد تدارسوا أيضًا هذه التحسينات المصيرية ونجحوا في إدخالها، وأصبحت اليومَ لا خلافَ عليها.

لقد صُمِّمت نُظُم التوزيع، والنُّظُم الانتخابية، والمؤسسات الأخرى القائمة على التعاون البشري — أو تطوَّرَتْ — بُغيةَ التعامُلِ مع الخلافات اليومية، ولتوفير طرقٍ للمضي قدمًا دون عنفٍ رغم أنف الخلاف الحاد حول الأفضل. ينجح أفضلها لأنه — عادةً دونَ قصدٍ — طبَّقَ حلولًا شاسعة المدى؛ ومن ثَمَّ أصبح التعامُلُ مع الخلافات والنزاعات مجردَ وسيلةٍ لغايةٍ. لا بدَّ أن يصير هدفُ النزول على إرادة الأغلبية في النُّظُم الديمقراطية نهجًا للدُّنُوِّ من الإجماع في المستقبل، من خلال منْحِ كلِّ الجهات المعنِيَّة الحافِزَ لنبذ الأفكار السيئة وتقديم أخرى أفضل منها. إن «تغيير الخيارات» تغييرًا إبداعيًّا هو ما يسمح للناس في الحياة الواقعية بالتعاون بطرقٍ تصفها المبرهنات الدالة على استحالة تحقيقِ أمرٍ ما بالمستحيلة؛ بل وهو ما يسمح لعقول الأفراد بالاختيار من الأساس.

لا تؤدِّي زيادةُ حجم المعرفة المتفق عليها بالإجماع لانتهاء الخلاف؛ فعلى العكس، لن يقلَّ الخلافُ بين بني البشر أبدًا عمَّا هو عليه الآن، وهذا أمر جيد جدًّا. إذا حقَّقَتْ تلك المؤسسات — كما يبدو أنها تفعل — الأملَ في أن تكون التغيُّرات — إجمالًا — للأفضل، فستستطيع الحياةُ البشرية أن تتحسَّن بلا حدود؛ إذ نتقدَّم متخطِّين مفاهيمَ مغلوطةً نحو مفاهيمَ مغلوطةٍ أفضل وأفضل.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • الحكومة الممثِّلة للشعب: نظام حكم يَعكس بموجبه تشكيلُ أو آراءُ السلطة التشريعية آراءَ الشعب.
  • نظرية الاختيار الاجتماعي: دراسة إمكانية تحديد «إرادة المجتمع» من خلال رغبات أفراده، وماهية المؤسسات الاجتماعية القادرة على تمكين الشعب من تفعيل إرادته التي تمَّ تحديدها.
  • معيار بوبر: المؤسسات السياسية الجيدة هي تلك التي تُسهِّل قدرَ الإمكان اكتشافَ ما إذا كان اختيارُ حاكمٍ أو سياسةٍ ما خطأً، وتُسهِّل أيضًا التخلُّصَ من الحكَّام والسياسات السيئة دون عنفٍ إذا كانوا كذلك.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • الاختيار الذي يتضمَّن خلق خياراتٍ جديدةٍ بدلًا من المقارنة بين الخيارات الموجودة.

  • المؤسسات السياسية التي تُلبِّي معيارَ بوبر.

ملخص هذا الفصل

من الخطأ أن نتصوَّر الاختيارَ وصُنْعَ القرار عبارة عن عملية انتقاءٍ من بين خياراتٍ موجودةٍ طبقًا لصيغةٍ محدَّدة. يغفل ذلك أهمَّ عاملٍ في عملية صُنْعِ القرار، أَلَا وهو ابتكار الخيارات الجديدة. من الصعب التعديل في السياسات الجيدة، وعلى ذلك تنفصل السياسات المتضاربة، ولا يمكن المزجُ بينها مزجًا تعسُّفيًّا. وكما لا يتضمَّن التفكيرُ العقلاني تقييمَ مبررات النظريات المتنافسة، بل استخدام الحدْس والنقد للسعي نحو أفضل تفسير، فالحكومات الائتلافية ليست هدفًا مرجوًّا من النُّظُم الانتخابية. لا بد من الحكم على النظم الانتخابية طبقًا لمعيار بوبر الخاص بمدى السهولة التي توفِّرها للتخلُّص من الحكَّام السيئين والسياسات السيئة. يجعل ذلك نظامَ انتخابِ الأكثرية أفضلَ نظامٍ في حالة الثقافات السياسية المتقدمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤