الفصل الخامس

حقيقة المجردات

تشرح النظريات الأساسية في الفيزياء الحديثة العالَمَ بطرقٍ تتناقض مع البديهة تناقضًا صارخًا؛ فعلى سبيل المثال: يعتقد معظم الناس من غير الفيزيائيين على نحوٍ بديهيٍّ أنه إذا رفع أحدنا ذراعه لأعلى أفقيًّا، فإنه يمكن أن «يشعر» بقوة الجاذبية تشدُّ ذراعَه لأسفل؛ لكن هذا في الحقيقة غير صحيح. من المدهش أن تُنكر نظريةُ النسبية العامة لأينشتاين — التي تُعَدُّ إحدى أعمق نظريتَيْن في الفيزياء — وجودَ قوة الجاذبية؛ إذ تنص هذه النظرية على أن القوة الوحيدة المؤثرة على ذراعك في هذا الموقف، هي القوة التي تبذلها أنت لرفعه لأعلى لتُبقيَ على عجلته في اتجاهٍ معاكسٍ لأكثر المسارات الممكنة استقامةً في حيِّز منحنٍ من الزمكان. كما تصف نظرية الكم — ثاني أعمق النظريات الفيزيائية — الواقعَ وصفًا أكثر تناقضًا مع البديهة، وسوف أتناول تلك النظريةَ بالتفصيل في الفصل الحادي عشر. يتعيَّن على علماء الفيزياء التفكُّر في أحداث الحياة اليومية بطرقٍ جديدةٍ لكي يتمكَّنوا من فهم تفسيراتٍ كتلك.

يظل مبدؤنا الأساسي هو نبذَ التفسيرات السيئة لصالح التفسيرات الجيدة، ويؤدِّي ذلك إلى ضرورة تقبُّل وجودِ ما تنصُّ أفضل تفسيراتنا على أنه موجود من كياناتٍ في المجال ذي الصلة، ويؤدِّي أيضًا إلى ضرورة التوقُّف عن الاعتقاد بوجود ما تُنكِر أفضلُ تفسيراتنا وجودَه، وذلك كما هي الحال مع قوة الجاذبية في نظرية النسبية العامة.

بالإضافة إلى ذلك، تتصف أحداثُ الحياة اليومية بتعقيدٍ مذهلٍ عندما يتم تناوُلها من منظورٍ فيزيائي؛ على سبيل المثال: إذا ملأتَ غلايةً بالماء وقمتَ بتشغيلها، فلن تستطيع كلُّ أجهزة الكمبيوتر الفائقة على كوكب الأرض أن تحلَّ المعادلات التي تتنبَّأ بما ستفعله كلُّ تلك الجزيئات من المياه، وإنْ قضَتِ الدهرَ كلَّه في المحاولة؛ حتى لو استطعنا أن نحدِّد إلى حدٍّ ما حالتَها الأولية وحالةَ كلِّ المؤثرات الخارجية التي قد تتعرَّض لها، وهي مهمة في حد ذاتها مستحيلة.

لحسن الحظ، يحلُّ بعضٌ من ذلك التعقيد نفسَه وصولًا إلى مستوياتٍ أكثر بساطة؛ إذ يمكننا مثلًا أن نتوقَّع بشيءٍ من الدقة الفترةَ التي ستستغرقها المياهُ حتى تغلي، ولا يتطلب هذا سوى الإلمامِ ببعض المقادير الفيزيائية السهلة القياس، مثل: كتلة المياه، وقوة عنصر التسخين، وهكذا. قد نحتاج إلى المزيد من المعلومات عن بعض الخواص الأقل وضوحًا إذا أردنا التوصُّل إلى مستوًى أعلى من الدقة، مثل عدد ونوع مواقع التنوِّي لفقاعات المياه، إلا أن تلك لا تزال ظواهرَ «عالية المستوى» نسبيًّا، تتكوَّن من أعدادٍ لا متناهيةٍ من الظواهر التفاعلية التي تحدث على المستوى الذري. هناك إذنْ فئة من الظواهر ذات المستوى الأعلى — منها سيولة الماء والعلاقة بين الحاويات وعناصر التسخين والغليان والفقاعات — يمكن تفسير بعضها بواسطة بعضٍ بلا ضرورةٍ للاستناد المباشِر إلى أي شيءٍ على المستوى الذري أو دونه. وبتعبيرٍ آخَر: يتسم سلوك هذه الفئة من الظواهر ذات المستوى الأعلى بأنه «شبه مستقل». يُعرَف هذا التحوُّل نحو القابلية للتفسير عند مستوًى أعلى شبه مستقل بمصطلح «الانبثاق».

الظواهر المنبثقة عددها قليل جدًّا؛ فبإمكاننا أن نتنبَّأ بوقت غليان الماء، وبحدوث الفقاعات عند الغليان، لكن لن يحالفك الحظُّ لو أردتَ أن تتنبَّأ بموقع كل فقاعةٍ وقتَ ظهورها (أو بقولٍ أدق: باحتمالات حركاتها المتعددة الممكنة؛ انظر الفصل الحادي عشر)؛ بل من الأصعب أيضًا أن تتنبَّأ بخصائص الماء التي لا حصرَ لها التي تُحدَّد مجهريًّا، مثل تحديد إذا ما كان عددُ الإلكترونات الذي سيتأثَّر بالتسخين في فترة محددة عددًا فرديًّا أم زوجيًّا.

ومع أن تلك الخصائص المعقدة لها الغلبة من حيث العدد، فإننا لحسن الحظ غير مهتمين بالتنبُّؤ بمعظمها أو حتى بتفسيرها؛ إذ ليس لأيٍّ منها تأثيرٌ على ما نريد أن نفعله بالماء، كأنْ نفهم مكوناتِه، أو أن نستخدمه في إعداد كوبٍ من الشاي؛ فلإعداد الشاي، نريد أن يكون الماء مغليًّا، ولا نهتم لنمط ظهور الفقاعات، ولا يهمنا من كمية الماء إلا أن يكون ما بين حدَّيْن أدنى وأقصى، بصرف النظر عن عدد الجزيئات المكوِّن لتلك الكمية. يمكن أن ننجح في تحقيق التقدُّم في إنجاز هذه الأهداف لأننا نستطيع التعبيرَ عنها بواسطة تلك الخصائص المنبثقة شبه المستقلة، التي نملك عنها تفسيراتٍ جيدةً ذات مستوًى أعلى. ونحن لا نحتاج إلى معظم تلك التفاصيل المجهرية لكي نفهم دورَ الماء في المنظومة الأكبر للكون؛ لأن كل تلك التفاصيل تقريبًا محدودة النطاق.

يتمثَّل سلوك الكميات الفيزيائية ذات المستوى الأعلى في سلوك مكوناتها ذات المستوى الأدنى فقط مع تجاهُل معظم التفاصيل، وقد أدَّى ذلك إلى انتشار مفهومٍ خاطئٍ عن الانبثاق والتفسير يُعرَف ﺑ «الاختزالية»، وهي النهج الذي يرى أن العلم دائمًا ما يفسِّر الأمورَ ويتنبَّأ بها على نحوٍ اختزالي؛ أيْ بردِّها إلى مكوناتها. عادةً ما نفعل هذا عندما نستخدم حقيقة أن القوى بين الذرية تخضع لقانون حفظ الطاقة لعملِ وتفسيرِ تنبُّؤٍ ذي مستوًى أعلى بأن الماء لا يمكن أن يغليَ في الغلاية دون مصدرٍ للطاقة. لكن الاختزالية تتطلَّب أن تكون العلاقةُ بين المستويات المختلفة من التفسير دائمًا على هذا النحو، وهو ما لا يتحقَّق في الغالب؛ فعلى سبيل المثال، وكما ذكرتُ في كتابي «نسيج الواقع»:

لنتأمَّلْ أيَّ ذرة نحاسٍ في طرف أنف تمثال السير وينستون تشرشل القائم في ميدان البرلمان في لندن. دعني أحاول أن أفسِّرَ سببَ وجود ذرة النحاس تلك في ذلك المكان؛ إنها حيث هي لأن تشرشل كان رئيس وزراء في مجلس العموم الواقع على مقربة من ذلك المكان، ولأن أفكاره وقيادته قد ساهمَتا في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ولأن التقليد قد جرى بأن تُكرَّم مثل هذه الشخصيات بإقامة تماثيل لها، ولأن البرونز الذي يُعَدُّ المادة الأكثر استخدامًا لعمل مثل هذه التماثيل يحتوي على النحاس، وهكذا. نفسِّر على هذا النحو ملاحظةً فيزيائيةً ذات مستوًى أدنى — وهي وجود ذرة نحاسٍ في موقعٍ محدَّد — من خلال نظرياتٍ ذات مستوًى أعلى جدًّا عن ظواهر منبثقة، مثل: الأفكار، والقيادة، والحرب، والتقاليد.

ليس هناك سبب لضرورة وجود أيِّ تفسيرٍ من المستوى الأدنى، ولو نظريًّا، لوجود تلك الذرة في مكانها عوضًا عن التفسير الذي ذكرتُه للتوِّ. من المفترض مبدئيًّا أن تقدِّم أيُّ نظريةٍ اختزاليةٍ لكل شيءٍ تنبُّؤًا على مستوًى أدنى لاحتمالية وجود مثل هذا التمثال، (لنقُلْ مثلًا) على أساس حالة المجموعة الشمسية في وقتٍ سابق، وأن تصف أيضًا كيف وصل التمثال إلى مكانه. لكن تلك الأوصاف والتنبؤات (وهي بالطبع مستحيلة جدًّا) لن تفسِّر أيَّ شيء، ولا تصف سوى مسارِ كلِّ ذرة نحاسٍ منذ أنْ خرجَتْ من منجم النحاس، مرورًا بدخولها المصهر ووصولها إلى معمل النحَّات، وهكذا. في الحقيقة، يُضطَر تنبُّؤٌ كهذا للإشارة إلى كل ذرات النحاس على كوكب الأرض التي اشتركَتْ في الحركة المعقَّدة التي نسمِّيها الحربَ العالمية الثانية، إلى جانب أشياء أخرى عديدة. لكن حتى إذا امتلكْتَ القدرةَ الخارقة على تتبُّع مثل هذه التنبؤاتِ المطولة عن وجود الذرة حيث هي، فلن تستطيع أن تقول: «نعم، فهمتُ الآن «سببَ» وجودِ تلك الذرات هناك.» سيتعيَّن عليك أن تتساءل عن كُنْهِ ذلك التكوين من الذرات وسبب وجوده، وعن المسارات التي سلكها وجعلتْه يُنتج ذرةً في ذلك الموضع. سيكون السعي وراء ذلك التساؤل مهمةً إبداعية، كحال اكتشاف التفسيرات الجديدة دائمًا، وفي ذلك السعي سيكون عليك أن تكتشف أن تكويناتٍ ذريةً معينةً تدعم بعضَ الظواهر المنبثقة — مثل القيادة والحرب — التي يرتبط بعضها ببعضٍ من خلال نظرياتٍ تفسيريةٍ ذات مستوًى أعلى. وفقط عندما تعلم تلك النظريات، سيمكنك فهمَ سبب وجود ذرة النحاس في الموضع الذي هي فيه.

حتى في علم الفيزياء، فإن أغلب التفسيرات الأساسية وما تنتجه من تنبُّؤاتٍ ليست اختزالية بالمرة، ولْننظرْ على سبيل المثال إلى قانون الديناميكا الحرارية الثاني، الذي يقول إن العمليات الفيزيائية ذات المستوى الأعلى تميل نحو فوضى أكبر. لا يمكن أن تعود البيضة بعد خفقها إلى حالتها الأولى قبل الخفق، ويستحيل أن تستخلص طاقةً من المقلاة لتُعيد نفسَها إلى قشرتها مرةً أخرى، والقشرةُ لا تُغلِق نفسها في سلاسةٍ من جديدٍ أبدًا. لكنك إذا استطعتَ بطريقةٍ أو بأخرى أن تُصوِّر مقطعَ فيديو لعملية الخفق بدقةِ وضوحٍ عاليةٍ، بحيث ترى كلَّ الجزئيات الفردية، ثم عرضتَ المقطع على نحوٍ معكوسٍ وفحصت أيَّ جزءٍ منه بهذا النطاق، فلن ترى إلا جزيئاتٍ تتحرك وتتصادم في خضوعٍ تامٍّ لقوانين الفيزياء ذات المستوى الأدنى. نحن ما زلنا لا نعرف كيف يمكن استنتاج قانون الديناميكا الحرارية الثاني — أو ما إذا كان من الممكن استنتاجه — من بيانٍ بسيطٍ عن الذرات الفردية.

إلا أنه ما من ضرورةٍ تحتم ذلك. غالبًا ما تكون هناك سمة أخلاقية ترتبط بالاختزالية (بأن العلم يجب أن يكون اختزاليًّا أساسًا)، وهذه الفكرة ذات ارتباطٍ وثيقٍ بالذرائعية وبمبدأ العادية، وقد انتقدْتُهما في الفصلين الأول والثالث. تتشابه الذرائعية مع الاختزالية فيما عدا نقطةً واحدة، وهي أنها لا ترفض التفسيرات ذات المستوى الأعلى فحسب، بل تحاول أن ترفض كلَّ التفسيرات؛ أما مبدأ العادية، فهو صورةٌ أخفُّ وطأةً من الاختزالية؛ فهو لا يرفض سوى التفسيرات ذات المستوى الأعلى التي تتعلَّق بالبشر. وعلى ذِكْر المذاهب الفلسفية الرديئة ذات السمة الأخلاقية، دعني أُضِفِ «المذهبَ الكلي»، وهو صورة معكوسة من الاختزالية، ويرى أن التفسيرات الصحيحة (أو المهمة على الأقل) هي فقط تفسير الجزء في ظل الكل. وعادةً ما يشارك أنصارُ هذا المذهب الاختزاليين المفهومَ المغلوط الذي مفاده أن العلم لا يمكن (ولا ينبغي له) إلا أن يكون اختزاليًّا، وعلى ذلك يعارضون معظمَ العلم بصفةٍ عامة. تكمن لاعقلانية كل تلك المذاهب في نقطةٍ واحدةٍ مشتركة، وهي أنها تحثُّ على قَبول أو رفض النظريات على أسسٍ غير كونها تفسيراتٍ جيدة.

عندما تستتبع منطقيًّا تفسيراتٌ ذات مستوًى أدنى تفسيرًا ذا مستوًى أعلى، فإن ذلك يعني أيضًا أن التفسير ذا المستوى الأعلى يشير ضمنيًّا إلى شيءٍ ما بخصوص التفسيرات ذات المستوى الأدنى؛ ومن ثَمَّ فإن المزيد من النظريات ذات المستوى الأعلى — إذا اتسقت جميعًا بعضها مع بعض — قد تضع المزيد والمزيد من القيود على ما قد ينشأ من نظرياتٍ ذات مستوًى أدنى. وبهذا قد تشير كلُّ التفسيرات ذات المستوى الأعلى ضمنيًّا إلى كل التفسيرات ذات المستوى الأدنى، والعكس أيضًا صحيح. أو ربما تشير بعضُ التفسيرات ذات المستوى الأعلى والأوسط والأدنى مجتمعةً ضمنيًّا إلى كل التفسيرات، وأعتقد أن هذا هو الأصح.

من هذا المنطلق، إحدى الطرق الممكنة لحل مشكلة الضبط الدقيق هي إثبات أن بعض التفسيرات ذات المستوى الأعلى هي قوانين طبيعية دقيقة، وقد يبدو أن التبعات المجهرية لذلك مُحكمة الدقة. يصلح في هذا الشأن مبدأ عمومية الحوسبة، الذي سأناقشه في الفصل التالي، كما يصلح مبدأ القابلية للاختبار؛ ففي عالَمٍ لا تسمح فيه قوانينُ الفيزياء بوجود المختبرين، فإنها بهذا تمنع اختبارها هي في الأساس. بَيْدَ أن تلك المبادئ في صورتها الحالية، التي نُصنِّفها باعتبارها قوانينَ فيزيائية، تتَّسِم بأنها بشرية التمركُز وتعسُّفية؛ مما يجعلها في مصافِّ التفسيرات السيئة. لكن ربما تكون تلك المبادئ أشكالًا تقريبية لمبادئ أعمق تكون عبارة عن تفسيراتٍ جيدة، تتكامل مع تلك الخاصة بالفيزياء المجهرية كما هي الحال بالنسبة إلى قانون الديناميكا الحرارية الثاني.

وفي كل الأحوال، لا ريب أن الظواهر المنبثقة أساسية لقابلية العالم للتفسير؛ فقبل فترةٍ طويلةٍ من امتلاك البشر لأي معرفةٍ تفسيرية، استطاعوا التحكُّمَ في الطبيعة باستخدام أحكام الخبرة، التي اعتمدت على تفسيراتٍ عن انتظاماتٍ ذات مستوًى أعلى في ظواهرَ منبثقةٍ مثل النار والصخور. وقبل ذلك بفترةٍ طويلة، كانت الجينات فقط هي ما يُشفِّر أحكام الخبرة، والمعرفة الكامنة بها أيضًا دارت حول ظواهرَ منبثقة؛ وعليه فالانبثاق هو إحدى صور بداية اللانهاية؛ إذ يعتمد كلُّ خلقٍ للمعرفة على ظواهرَ منبثقة، بل يتكون أيضًا منها ماديًّا.

الانبثاق مسئول أيضًا عن حقيقة أن الاكتشافات يمكن أن تتم في خطواتٍ متعاقبة؛ مما يفسح مجالًا للمنهج العلمي. إن النجاح الجزئي لكل نظريةٍ في تسلسُلٍ من النظريات المحسنة يعادِل وجودَ «طبقة» من الظواهر التي تنجح كل نظريةٍ في تفسيرها، وإنِ اتَّضَحَ أنه كان تفسيرًا خاطئًا جزئيًّا.

تختلف أحيانًا التفسيراتُ العلمية المتعاقبة في الطريقة التي «تفسر» بها تنبؤاتها، حتى في المجالات التي تتماثل أو تتطابق فيها تلك التنبؤات؛ فعلى سبيل المثال: لا يُصحِّح تفسيرُ أينشتاين لحركة الكواكب تفسيرَ نيوتن فحسب، بل يختلف عنه اختلافًا جمًّا، مُنكِرًا — من ضمن الأشياء الأخرى الكثيرة التي أنكرها — وجودَ بعض العوامل المحورية في تفسير نيوتن، مثل: قوة الجاذبية والزمن المتدفق بثباتٍ الذي وصف نيوتن في ضوئه الحركةَ. بالمثل، لم تصحِّح نظريةُ عالم الفلك يوهانز كبلر نظريةَ الكرات السماوية، بل نَفَتْ وجودَ تلك الكرات تمامًا، وذلك عندما أكَّدَتْ أن الكواكب تتحرك على شكل قطوعٍ ناقصة. كما لم تستبدل نظريةُ نيوتن بتلك القطوع الناقصة أشكالًا جديدة، بل استحدثت طريقةً جديدةً تمامًا تُمكِّن القوانينَ من تحديد الحركة بواسطة كمياتٍ محدَّدةٍ متناهيةِ الصغر، مثل: السرعة اللحظية، والعجلة. نرى إذنْ أن كلًّا من تلك النظريات المفسرة لحركة الكواكب قد تجاهَلَتْ أو أنكَرَتِ السبلَ الأساسية التي طرقتها سابِقاتها لتفسير الظاهرة محل الملاحظة.

استُخدِمت هذه النقطة باعتبارها حجةً للذرائعية، وذلك على النحو التالي: تقدِّم كلُّ نظريةٍ تاليةٍ تصحيحًا بسيطًا وأيضًا دقيقًا لما «تنبَّأت» به سابقتها، ومن هنا تصبح نظريةً أفضل. ولكن بما أن «تفسير» كل نظريةٍ جديدةٍ يمحو تفسيرَ سابقتها، فتفسيرُ النظرية الأقدم لم يكن صحيحًا في المقام الأول؛ وعليه لا يمكننا أن نعتبر تلك التفسيراتِ المتعاقبةَ مساهمةً في إثراء المعرفة عن الواقع. إن ما بين أيدينا منذ كبلر إلى نيوتن إلى أينشتاين هو بالترتيب: القوة غير ضرورية لتفسير المدارات، ثم كل مدار مسئولة عنه قوة قانون تربيع عكسي، ثم لا حاجة إلى قوةٍ مرةً أخرى. كيف يمكن إذنْ أن نعتبر «قوةَ الجاذبية» الخاصة بنيوتن (على نحوٍ مستقلٍّ عن معادلاته التي تتنبَّأ بتأثيراتها) تقدُّمًا في المعرفة البشرية؟

نعم يمكن أن تُعَدُّ تقدُّمًا في المعرفة البشرية — بل لقد كانت كذلك بالفعل — إذ شتان بين محو بعض الكيانات التي تبني عليها النظريةُ تفسيرَها، وبين محو التفسير كله؛ فعلى الرغم من أنه ليست هناك قوة جاذبية، فإن شيئًا حقيقيًّا (هو انحناء الزمكان) تتسبَّب فيه الشمس، له قوة تتغيَّر تبعًا لقانون التربيع العكسي الذي صاغه نيوتن، وهو يؤثِّر على حركة الأجسام المرئية وغير المرئية. ولقد فسَّرَتْ نظريةُ نيوتن أيضًا على نحوٍ صحيحٍ كيف تنطبق قوانينُ الجاذبية نفسها على الأجسام السماوية والأرضية على حدٍّ سواء؛ فقد فرَّقَتْ بين الكتلة (قياس مقاومة الجسم للعجلة) والوزن (القوة اللازمة لمنع الجسم من السقوط بفعل الجاذبية)، ونصَّتْ على أن تأثير الجاذبية على أي جسمٍ يعتمد على كتلة هذا الجسم وليس على خصائص أخرى مثل كثافته أو تركيبه. ولم تؤيد نظرية أينشتاين فيما بعدُ كلَّ تلك الخصائص فحسب، بل شرحت أيضًا أسبابَها. استطاعتْ نظريةُ نيوتن أيضًا أن تقدِّم تنبؤاتٍ أدق ممَّا قدَّمَتْ سابقاتها؛ لأنها كانت أكثر صحةً منها فيما يتعلَّق بموضوع الملاحظة. ولقد استطاع تفسير كبلر قبلهما أن يتضمَّن عناصرَ مهمة من التفسير الصحيح، مثل أن مدارات الكواكب تحكمها قوانينُ الطبيعة، وأن تلك القوانين تنطبق على الكواكب كافة، بما فيها الأرض، وأنها لا تنطبق على الشمس، وأنها ذات طابعٍ رياضيٍّ وهندسي، وغير ذلك. وبما تقدِّمه لنا كلُّ نظريةٍ تاليةٍ من إدراكٍ متأخرٍ لا يمكننا أن نتبيَّن ما قدَّمتْه كلُّ نظريةٍ سابقةٍ من تنبؤاتٍ خاطئةٍ فحسب، بل يمكننا أن نتبيَّن أيضًا أنَّ كل ما كان صحيحًا في تنبؤاتها، كان لأنها عبَّرت على نحوٍ صحيحٍ عن بعض جوانب الواقع؛ ولهذا فإن تلك الجوانب تستمر في النظرية الجديدة، أو كما قال أينشتاين: «ما من مصيرٍ أفضل لأي نظريةٍ فيزيائيةٍ غير أن تُنير الطريقَ لنظريةٍ أشمل منها، وأن تحيا فيها باعتبارها إحدى الحالات المحددة لها.»

كما شرحت في الفصل الأول، لا يمكن النظر إلى الوظيفة التفسيرية للنظريات باعتبارها مسألةَ تفضيلٍ غيرَ أساسية؛ إذ تعتمد عليها الوظيفةُ التنبُّئِية للعلم بالكامل. كذلك يتطلَّب تحقيقُ التقدُّم في أي مجالٍ أن تتنوَّع التفسيرات — وليس التنبُّؤات — التي تقدِّمها النظريات الموجودة تنوُّعًا مبتكرًا، حتى يعول عليها لافتراض النظرية اللاحقة. بالإضافة إلى ذلك، تؤثِّر تفسيراتُ النظريات في مجالٍ معينٍ على فهمنا للمجالات الأخرى؛ فمثلًا: إذا اعتقد شخص أن نجاح إحدى الخدع السحرية سببُه قدراتٌ خارقة يتمتَّع بها مؤدِّي الخدعة، فسيؤثِّر ذلك على حكمه على النظريات في علم الكون (مثل أصل الكون أو مشكلة الضبط الدقيق)، وفي علم النفس (أي كيف يعمل العقل البشري)، وغير ذلك من المجالات.

وبالمناسبة، ليس من الصحيح تمامًا أن تنبؤات النظريات المتتابعة عن حركة الكواكب كانت بذلك القدر من التشابه؛ فقد كانت تنبؤات نيوتن بالفعل ممتازةً في سياق بناء الجسور، وغيرَ ملائمةٍ بعضَ الشيء فيما يتعلَّق بنظام تحديد المواقع العالمي، لكنها مخطئة تمامًا في تفسيرها للنجوم النابضة أو الكويزرات أو الكون ككلٍّ، ويستلزم الفهمُ الصحيح لكل هذا تفسيراتِ أينشتاين الجذريةَ الاختلاف.

لا يقابل هذه الفجوات الكبيرة الموجودة في معاني النظريات العلمية المتلاحقة مثيلًا بيولوجيًّا؛ حيث لا تختلف السلالة المهيمنة في نوعٍ متطوِّرٍ من جيلٍ إلى الذي يليه إلا قليلًا، غير أن الاكتشاف العلمي عملية تدريجية أيضًا؛ لكن في العلم يحدث كلُّ التدريج وتقريبًا كلُّ النقد والرفض للتفسيرات السيئة داخلَ عقول العلماء، أو كما قال بوبر: «يمكننا أن نَدَع نظرياتِنا تموت بدلًا منَّا.»

توجد مَزيَّة أخرى أكثر أهميةً في قدرة المرء على انتقاد النظريات دون المخاطرة بحياته من أجلها؛ وتتضح تلك المزية عندما نتفحَّص حالَ عمليات التكيُّف الخاصة بكائنٍ ينتمي إلى نوعٍ متطوِّر. يتعيَّن على تلك العمليات في كل جيلٍ أن تتحلَّى بوظيفية كافية بحيث تُبقي على حياة الكائن، وأن تنجح في كل اختبار تقابله في توريث نفسها للجيل التالي، لكن التفسيرات الوسيطة التي تصل بالعالم من تفسيرٍ جيدٍ إلى التفسير الذي يليه، يجب ألا تكون قابلةً للاستمرار، وهو أمر ينطبق على التفكير الإبداعي بوجهٍ عام؛ وهذا هو السبب الرئيسي لقدرة الأفكار التفسيرية على تجنُّب ضِيق الأفق، وهو ما ليس في استطاعة التطوُّر البيولوجي ولا أحكام الخبرة.

وهذا ينقلنا إلى الموضوع الرئيسي لهذا الفصل، وهو المجردات؛ لقد ألمحتُ في الفصل الرابع إلى أن المعارف ناسخات مجردة تستخدم الكائنات الحية والعقول (ومن ثَمَّ تؤثر عليها) لنسخ نفسها. وهذا مستوًى تفسيريٌّ أعلى من المستويات المنبثقة التي ذكرتُها حتى الآن؛ فهو زعم بأن شيئًا مجردًا — أيْ غير مادي — مثل المعرفة الكامنة في جينٍ أو نظريةٍ يؤثِّر على شيءٍ مادي. لا يحدث على المستوى المادي في هذه الحالة سوى أنَّ مجموعة من الكيانات المنبثقة — مثل أجهزة الكمبيوتر أو الجينات — تؤثِّر على مجموعاتٍ غيرها، وهو أمر تنكره الاختزاليةُ بالفعل، لكن التجريد ضروري للوصول إلى تفسيرٍ أعمق. أنت تعلم بالطبع أنه إذا هزمك الكمبيوتر في مباراة شطرنج، فإن مَن هزمك في الحقيقة هو البرنامج، وليست ذرات السليكون أو الجهاز نفسه. يتجسَّد البرنامجُ المجرد ماديًّا في هيئة سلوكٍ عالي المستوى لعددٍ شاسعٍ من الذرات، لكنَّ «تفسيرَ» سببِ انتصاره عليك لا يمكن التعبير عنه دون الإشارة إلى البرنامج في حد ذاته. ولقد تجسَّدَ البرنامج أيضًا دون أن يتغيَّر في سلسلةٍ طويلةٍ من الركائز المادية المختلفة، مثل الخلايا العصبية في عقول المبرمجين وفي الموجات اللاسلكية أثناء تحميلك له عبر شبكةٍ لا سلكية، وأخيرًا في صورة بنوك ذاكرة طويلة وقصيرة المدى في الكمبيوتر. قد تكون تفاصيلُ تلك السلسلةِ من التجسيدات ذاتَ صلةٍ بتفسير كيفية وصول البرنامج إليك، لكنها لا تفسِّر سببَ هزيمتك أمامه؛ فذاك أمر يفسِّره محتوى المعرفة (الكامنة فيه وفيك). يشير ذلك التفسير حتمًا إلى المجردات؛ وعليه فهي موجودة وتؤثِّر على الأشياء المادية على النحو الذي يتطلَّبه التفسيرُ.

صاغ اختصاصي الكمبيوتر دوجلاس هوفستاتر حجةً لطيفةً تؤكد أن هذا النوع من التفسيرات ضروري لفهم بعض الظواهر؛ إذ تخيَّلَ في كتابه «أنا حلقة غريبة» (٢٠٠٧) كمبيوتر مخصَّصًا لغرضٍ معينٍ صُنِع من ملايين قطع الدومينو المرتبة — كما يُفعَل بقطع الدومينو للتسلية أحيانًا — بحيث تقف على أحد طرفَيْها ومتراصَّةً بعضها على مقربةٍ من بعض؛ بحيث لو أُسقطتْ واحدة فإنها ستُسقِط ما تليها، ثم تتوالى باقي القطع كلها في السقوط واحدةً تلو الأخرى. لكنَّ قطع الدومينو مضبوطة بزنبرك على نحوٍ يجعلها تعاوِدُ الوقوفَ بعد فترةٍ معينةٍ من سقوطها؛ وعليه فعندما تسقط قطعة دومينو تنتشر موجةٌ أو «إشارةٌ» من القطع المتساقطة على طول امتداد تراصِّ القطع، حتى تصل إلى طريقٍ مسدود، أو إلى قطعةٍ ساقطةٍ بالفعل في تلك اللحظة. وبترتيب قطع الدومينو في شبكةٍ في امتداداتٍ حلقيةٍ ومتفرعةٍ وموصولة، يمكن للمرء أن يجعل تلك الإشارات تندمج وتتفاعل لتُشكِّل حصيلة غنية على النحو الكافي من الأساليب تُحوِّل البناء كله إلى كمبيوتر، وفيه تُترجَم الإشارةُ المتنقلة عبر امتداد القطع إلى العدد الثنائي «١»، ويُترجَم عدم وجود الإشارة إلى العدد الثنائي «٠»، وبالتفاعل بين الإشارات يمكن أن تتكوَّن ذخيرةٌ من العمليات المنطقية — مثل بوابات AND وOR وNOT المنطقية — التي يمكن أن تتألَّف منها عملياتٌ حسابية اعتباطية.

حُددت إحدى قطع الدومينو باعتبارها «مفتاح التشغيل»؛ فبإسقاطها يبدأ الكمبيوتر الدومينو في تنفيذ البرنامج الممثل في حلقاته وامتداداته. يقوم البرنامج المطروح في تجربة هوفستاتر الفكرية بحساب ما إذا كان العدد المدخل أوليًّا أم لا، ويتم إدخال العدد المراد بوضع مجموعةٍ مساويةٍ من قطع الدومينو متراصة في وضعيةٍ معينةٍ في امتدادٍ ما، قبل طرق «مفتاح التشغيل»، وتقوم قطعة دومينو أخرى في مكانٍ آخَر بالشبكة بتوصيل ناتج العملية الحسابية بأن تسقط فقط إذا وجد مقسوم عليه للعدد المدخل؛ مما يعني أنه ليس بعددٍ أولي.

يُدخِل هوفستاتر العدد ٦٤١ — وهو عدد أولي — ويطرق «مفتاح التشغيل» فتسري موجاتُ الحركة ذهابًا وإيابًا في الشبكة كلها، وسرعان ما تتساقط القطع اﻟ ٦٤١ كلها حين «تقرأ» العملية الحسابية المُدخَل، ثم تعود فتقف وتشترك في المزيد من الأنماط المعقدة. هي عملية طويلة؛ لأن هذه ليست الطريقةَ المثلى لإجراء العمليات الحسابية، لكنها تؤدِّي الغرض.

ثم يتخيَّل هوفستاتر أن ملاحظًا لتلك العملية لا يعلم الغرضَ من شبكة قطع الدومينو يتساءل عندما يلاحظ أن واحدة من القطع تظل ثابتةً بإصرار، ولا تتأثر أبدًا بموجات السقوط والقيام التي تموج حولها:

يشير المشاهد (لتلك القطعة) ويتساءل في فضول: «لماذا لا تسقط تلك القطعة أبدًا؟»

نحن نعلم أن تلك هي قطعة الناتج، ولكن الملاحِظ لا يعلم. يستكمل هوفستاتر قائلًا:

اسمحوا لي أن أقارن بين نوعين مختلفين من الإجابات يمكن أن يقدِّمهما شخصٌ ما. ستكون الإجابة الأولى — وهي قصيرة النظر إلى حد السخف — هي: «لأن القطعة التي تسبقها لم تسقط، أيها الأحمق!»

أو قد تصبح الإجابة: «لأن أيًّا من القطع المجاورة لها لم تسقط.» لو كان بجانب القطعة قطعتان أو أكثر. يستطرد هوفستاتر قائلًا:

لا شك أن هذه إجابة صحيحة في نطاقها، إلا أن نطاقها ضيق جدًّا؛ فهي لا تفعل شيئًا سوى أن تُلقِيَ بالتبعية على قطعة دومينو أخرى.

في الواقع، قد يستمر المرء في الإلقاء بالتبعية من قطعة دومينو إلى أخرى ليقدِّم المزيدَ من الإجابات التفصيلية «السخيفة وإن كانت صحيحةً في نطاقها». ومع الوقت، وبعد أن يفعل ذلك لمليارات المرات (وهو عدد أكبر كثيرًا من عدد قطع الدومينو الموجودة بالشبكة؛ لأن البرنامج يدور في «حلقات» من القطع) سيصل إلى قطعة الدومينو الأولى، أو «مفتاح التشغيل».

عند تلك النقطة، سيكون التفسير الاختزالي (للفيزياء ذات المستوى الأعلى) باختصارٍ أنه: «لم تسقط تلك القطعة لأن أيًّا من أنماط الحركة التي بدأها طرق «مفتاح التشغيل» لم يتضمَّنها.» لكننا كنا نعلم ذلك بالفعل، وبإمكاننا أن نصل إلى ذلك الاستنتاج — كما فعلنا للتوِّ — دون خوض تلك العملية الشاقة. وإن كان هذا الاستنتاج بلا شكٍّ صحيحًا، فإنه ليس التفسيرَ الذي كنَّا نبحث عنه؛ فهو يعالج تساؤلًا آخَر — تنبُّئِيًّا أكثر منه تفسيريًّا — وهو: هل ستسقط قطعةُ الناتج إذا ما سقطَتِ القطعةُ الأولى؟ وهو تساؤلٌ يوجَّه على مستوًى خاطئ من الانبثاق. كان سؤالنا عن سبب عدم سقوطها، وللإجابة عنه يتبنَّى هوفستاتر نهجًا تفسيريًّا مختلفًا على المستوى الصحيح للانبثاق حين يقول:

النوع الثاني من الإجابات سيكون: «لأن ٦٤١ عددٌ أوَّلي.» تملك هذه الإجابة بالإضافة إلى صحتها (في الواقع هي أدق كثيرًا من الإجابة الأولى) خاصيةً مدهشةً، وهي أنها لا تتحدَّث عن أي شيءٍ ماديٍّ على الإطلاق. لقد انتقَلَ التركيزُ إلى مستوًى أعلى للخصائص الجماعية … وهذه الخصائص بدورها تتخطَّى ما هو ماديٌّ وتتعلَّق بمجرداتٍ خالصةٍ مثل أوَّلية الأعداد.

ويختتم هوفستاتر بقوله: «إن مغزى هذا المثال هو أن أوَّلية العدد ٦٤١ هي أفضل تفسير، بل ربما تكون التفسيرَ الوحيدَ لسقوط بعض قطع الدومينو بعينها وعدم سقوط أخرى.»

ولأُصحِّح هذا قليلًا، أضيفُ أن التفسير القائم على الفيزياء أيضًا صحيح، وأن الجانب الفيزيائي لقطع الدومينو ضروري أيضًا لشرح سبب كون الأعداد الأوَّلية ذاتَ صلةٍ بذلك الترتيب الذي تتراصُّ فيه، إلا أن حجة هوفستاتر تُثبِت أن أوَّلية الأعداد لا بد أن تكون جزءًا من أي تفسيرٍ متكاملٍ لسقوط قطع الدومينو من عدمه؛ وهي بذلك تشكِّل دحضًا للاختزالية فيما يتعلَّق بالمجردات؛ فنظرية الأعداد الأوَّلية ليست جزءًا من علم الفيزياء ولا تشير إلى أشياءَ مادية، وإنما تشير إلى كياناتٍ مجردةٍ كالأعداد، التي يُوجَد منها مجموعة لا متناهية.

لكن هوفستاتر تخلَّى لسوء الحظ في النهاية عن حجته ليتبنَّى فكرةَ الاختزالية؛ فتُرى لماذا؟

يدور كتاب هوفستاتر في المقام الأول حول ظاهرةٍ منبثقةٍ محددة، أَلَا وهي العقل، أو «الأنا» كما يقول في كتابه؛ حيث يتساءل إن كان من الأرجح أن نعتقد أن العقل يمكن أن يُنظَر إليه على أنه «يؤثِّر» على الجسد بأن يجعله يختار أمورًا دون غيرها، في ظل الطبيعة الشمولية لقوانين الفيزياء. تُدعَى هذه الفكرة بمشكلة العقل والجسد؛ على سبيل المثال: نحن عادةً ما نُفسِّر تصرُّفاتنا في ضوء اختيارنا لها، في حين أن أجسادنا — بما فيها أمخاخنا — تحكمها قوانينُ الفيزياء بالكامل بما لا يدع مجالًا ﻟﻠ «أنا» لأنْ تؤثِّر على مثل هذا الاختيار. ويتَّبِع هوفستاتر خُطى الفيلسوف دانيال دينيت حين يختتم باستنتاج أن «الأنا» ليست سوى وَهْمٍ؛ لأن العقول «لا تستطيع أن تحرِّك الأشياءَ المادية من حولها» لأن «القانون الفيزيائي وحده يكفي لتحديد سلوك تلك الأشياء»؛ ومن هنا جاء تبنِّيه فكرةَ الاختزالية.

لكن، بادئ ذي بَدء، القوانين الفيزيائية المادية أيضًا لا يمكنها أن تحرِّك أيَّ شيء؛ إذ ليس بوسعها سوى أن تتنبَّأ وأن تفسِّر، وهي ليست سبيلنا الوحيد للتفسير. إن النظرية التي تقول إن قطعة الدومينو تبقى ثابتةً ولا تسقط «لأن العدد ٦٤١ هو عدد أوَّلي (ولأن شبكة قطع الدومينو تُجسِّد خوارزميةً لاختبار أوَّلية الأعداد)»؛ هي تفسير ذو جودةٍ فائقة. ما الذي يعيب هذه النظرية؟ إنها لا تتعارض مع قوانين الفيزياء، وتُقدِّم تفسيرًا أعمقَ من أي تفسيرٍ يدور في فلك تلك القوانين وحدها، ولا يقدر أيُّ تنويع منها أن يؤدِّيَ نفسَ المهمة.

ثانيًا: لا شك أن الاختزالية ستُنكر بالمثل قدرةَ الذرة على أن «تدفع» ذرةً أخرى (بمعنى أن تتسبَّب في حركتها)؛ إذ حدَّدت كلٌّ من الحالة الأوَّلية للكون وقوانين الحركة بالفعل كلَّ حالٍ في كلِّ وقتٍ آخَر.

ثالثًا: فكرة «السببية» فكرة منبثقة ومجرَّدة؛ فهي لم تُذكَر في أيٍّ من قوانين حركة الجسيمات الأوليَّة، وكما أوضح الفيلسوف ديفيد هيوم، نحن لا نستطيع أن ندرك السببية، وإنما ندرك فقط تتابُعًا لأحداث. أضِفْ إلى ذلك أن قوانينَ الحركة قوانينُ «محافظةٌ»؛ أي إنها لا تفقد المعلومات، أعني بذلك أنها قادرة على تحديد الحالة الأوَّلية لأي حركةٍ بواسطة الحالة النهائية، تمامًا كقدرتها على تحديد الحالة النهائية من الأوَّلية، بل قادرة أيضًا على تحديد حالة الحركة في أي وقتٍ بِناءً على معطى الحالة في وقتٍ آخَر؛ لذا يصبح كلٌّ من السبب والنتيجة — على هذا المستوى من التفسير — قابلًا للتبديل، وهما ليسَا ما نرمي إليه حين نقول إن برنامجًا قد تسبَّبَ في فوز الكمبيوتر في مباراة الشطرنج، أو إن قطعة الدومينو ظلَّتْ واقفةً لأن ٦٤١ عددٌ أوَّلي.

لا يعني وجودُ أكثر من تفسيرٍ لنفس الظاهرة على مستوياتٍ مختلفةٍ من الانبثاق وجودَ تضارُبٍ بين تلك التفسيرات. إن اعتبارَ التفسيرات الفيزيائية الدقيقة أنها أساسية أكثر من التفسيرات المنبثقة لَهُو أمرٌ تعسُّفيٌّ ومغلوط. إن تفسير هوفستاتر صحيح، لكننا لسنا بحاجةٍ إلى تفسيرٍ مثله. ربما يكون العالم كما نتمنَّاه أن يكون وقد لا يكون كذلك، لكنَّ نبْذَ التفسيرات الجيدة بِناءً على ذلك يعني أن نقع في أخطاءٍ ضيقةِ الأفق.

لذلك تفسِّر الإجابةُ «لأن العدد ٦٤١ هو عددٌ أوَّلي» مناعةَ قطعة الدومينو ضد السقوط، إلا أن النظرية التي تعتمد عليها هذه الإجابة — وهي نظرية الأعداد الأوَّلية — ليست جزءًا من قوانين الفيزياء، ولا تقريبًا لأحدها، بل تدور حول مجردات، ومجموعات لا متناهية منها (كمجموعة «الأعداد الطبيعية» ١، ٢، ٣ … حيث تعني علاماتُ الحذف «…» الاستمرارَ إلى ما لا نهاية). نعلم جميعًا كيف يمكن أن نمتلك معرفةً عن أشياءَ كبيرةٍ على نحوٍ لا نهائيٍّ، كالأعداد الطبيعية؛ فالأمر مسألة مدًى فحسب. ستُضطر النسخ الأخرى من نظرية الأعداد التي حصرت نفسها في «الأعداد الطبيعية الصغيرة» إلى أن تُتخم بالقيود والحلول البديلة والأسئلة غير ذات الإجابة حتى تصبح تفسيراتٍ بالغةَ السوء، إلى أن تُعمَّم على الحالة التي تصحُّ فيها دون كلِّ تلك القيود الإضافية، وهي الحالة اللامتناهية. ولسوف نناقش الأنواعَ المتعددةَ للانهاية في الفصل الثامن.

عندما نستخدم نظرياتٍ عن الكميات الفيزيائية المنبثقة من أجل تفسير سلوك المياه في الغلاية، فإننا في الحقيقة نستخدم التجريدَ — في صورة النموذج «المثالي» للغلاية الذي يتجاهل معظمَ تفاصيله — باعتباره تقريبًا لنظامٍ فيزيائيٍّ حقيقي، في حين نفعل العكس عندما نستخدم الكمبيوترَ لدراسة الأعداد الأوَّلية؛ إذ نستخدم كمبيوتر — أيْ كيانًا ماديًّا ملموسًا — باعتباره تقريبًا لشيءٍ مجردٍ يصوغ الأعداد الأوَّلية بدقة. وعلى خلاف أي كمبيوتر حقيقي، فإن هذا الكمبيوتر لا يُخطِئ أبدًا، ولا يتطلَّب صيانةً، ويتمتَّع بذاكرةٍ ووقتٍ غير محدودَيْن لتشغيل برنامجه.

ولأن عقولنا هي بالمثل أجهزةُ كمبيوتر، يمكننا أن نعلم بها عن أمورٍ أبعد من العالم المادي، بما فيها التجريدات الرياضية المحضة. إن القدرة على فهم المجردات هي خاصية منبثقة لدى الإنسان، وقد حيَّرَتْ بشدةٍ الفيلسوفَ الأثيني القديم أفلاطون؛ إذ لاحَظَ أن نظريات علم الهندسة الرياضية — كنظرية فيثاغورس — تدور حول كياناتٍ لم يسبق لأحد اختبارُها، مثل خطوطٍ تامةِ الاستقامة بلا سُمْكٍ يتقاطع بعضها مع بعض على سطحٍ مستوٍ فترسم مثلثًا مثاليًّا. من الجلي أن هذه أمور لا يمكن ملاحظتها ماديًّا، ومع ذلك امتلَكَ عنها الناسُ معرفةً لا يمكن وصْفُها بالسطحية، بل إنها كانت حين ظهورها أعمقَ ما وصلَتْ إليه البشريةُ من معرفةٍ؛ فتُرى ماذا كان مصدر تلك المعرفة؟ استنتج أفلاطون أن مصدرها — هي وكل المعرفة البشرية — لا بد أن يكون الكيان الخارق.

كان أفلاطون مُحِقًّا في ظنه بأن مصدر تلك المعرفة لا يمكن أن يكون الملاحظة، وفي الحقيقة لم يكن البشر ليتوصَّلوا إلى تلك المعرفة حتى لو استطاعوا ملاحظةَ المثلثات المثالية مباشَرةً (كما بإمكانهم أن يفعلوا اليومَ بواسطة الواقع الافتراضي). للتجريبية كما أوضحتُ في الفصل الأول عدةُ أخطاءٍ كارثية، لكنَّ مصدرَ معرفتنا بالمجردات ليس بلُغزٍ غامض؛ فهي تأتي من الافتراض الذي هو مصدر كل المعرفة، إلى جانب النقد والبحث عن التفسيرات الجيدة. تسبَّبَتِ التجريبيةُ في أنْ سادَ الاعتقادُ بأن الوصولَ إلى المعرفة خارجَ العلم أمرٌ مستحيل، أما السبب في أن بَدَتْ تلك المعرفةُ أقلَّ «تبريرًا» من النظريات العلمية، فهو مفهوم الاعتقاد الصحيح المبرر، وهو مفهوم خاطئ.

وكما شرحتُ في الفصل الأول من هذا الكتاب، فإنه حتى في العلم، تُنبَذ تقريبًا كلُّ النظريات المرفوضة لكونها تفسيراتٍ سيئةً دون حتى أن تُختبر؛ فالاختبار المعملي ليس سوى وسيلةٍ من وسائل النقد العديدة المستخدَمة في العلم، ولقد حقَّق التنويرُ التقدُّمَ بأن استخدم الوسائلَ الأخرى هذه في المجالات غير العلمية أيضًا. إن السبب الأساسي لإمكانية تحقيق هذا التقدُّم هو أن التفسيراتِ الجيدةَ في القضايا الفلسفية من الصعب الوصولُ إليها تمامًا كما هي الحال في العلم، والنقد له دور مؤثِّر أيضًا.

تلعب التجربة أيضًا دورًا في الفلسفة، وإن اختلَفَ عن دور الاختبار المعملي الذي تختصُّ به في مجال العلم؛ فهي مصدر المشكلات الفلسفية؛ فمثلًا: لو لم تتَّسِم قضيةُ كيفيةِ تحصيلِ المعرفة من العالم المادي بالإشكالية، لَمَا وُجِدتْ فلسفةُ العلم، ولو لم تنشب مشكلةُ كيفيةِ إدارةِ المجتمعات، لَمَا نشأَتِ الفلسفةُ السياسية. (ولِتجنُّب خلْطِ الفهم، اسمح لي أن أؤكِّد على أن التجربة تقدِّم المشكلات بواسطة الزجِّ بالأفكار الموجودة بالفعل إلى الصراع، وهي بالطبع لا تقدِّم أيَّ نظريات.)

أما في حقل فلسفة الأخلاق، فعادةً ما تُعبِّر القاعدةُ «لا يمكن استنتاجُ «ما ينبغي أن يكون» من «ما هو كائن بالفعل»» عن المفاهيم المغلوطة في كلٍّ من التجريبية والتبريرية (وتلك القاعدة هي إعادة صياغةٍ لملاحظةٍ للفيلسوف التنويري ديفيد هيوم)، وتعني أن النظريات الأخلاقية لا يمكن أن تُستنتج من المعرفة الواقعية. باتت تلك القاعدة حكمة بديهية، وتسبَّبتْ في نوعٍ من اليأس الفكري حول الأخلاق؛ فبموجبها لا يمكن تبرير الأخلاق بالعقل؛ مما يترك خيارين لا ثالثَ لهما: إما أن يعتنق المرءُ اللاعقلانية، وإما أن يحاول أن يحيا دون أن يُصدِر أحكامًا أخلاقية؛ وهما طريقان قد يؤدِّيان إلى اختياراتٍ أخلاقيةٍ خاطئةٍ مثلما يؤدِّي اعتناقُ اللاعقلانية أو عدم محاولة تفسير العالم المادي أبدًا إلى نظرياتٍ خاطئةٍ واقعيًّا (وليس إلى الجهل فحسب).

صحيح أنك لا تستطيع أن تستنتج ما ينبغي أن يكون ممَّا هو كائن بالفعل، لكنك كذلك لا تستطيع أن تستنتج نظريةً «واقعية» قائمةً على الحقائق مما هو كائن بالفعل؛ فليس هذا ما يقوم به العلم؛ فنمو المعرفة لا يتمثَّل في إيجاد طرقٍ لتبرير معتقداتنا، بل في إيجاد تفسيراتٍ جيدة. ومع أن الأدلة الواقعية والقواعد الأخلاقية مستقلة منطقيًّا، «فالتفسيرات» الواقعية والأخلاقية ليست كذلك؛ وعليه يمكن أن تفيد المعرفةُ الواقعية في نقْدِ التفسيرات الأخلاقية.

على سبيل المثال: لو ألَّفَ عبدٌ أمريكيٌّ في القرن التاسع عشر كتابًا فحقَّق أعلى المبيعات، لَمَا ألغى ذلك الحدثُ «منطقيًّا» الافتراضَ السائد حينها، وهو: «قدَّرَتِ العنايةُ الإلهية للزنوج أن يكونوا عبيدًا.» لا تَقدر أيُّ تجربةٍ على تغيير تلك الفكرة؛ لأنها نظرية فلسفية، لكن كان من شأن حدثٍ كهذا أن يُقوِّض التفسيرَ الذي فهم الكثيرُ من الناس بواسطته ذلك الافتراضَ. ولو نتج عن ذلك التقويض أنْ وجَدَ الناسُ أنفسَهم غيرَ قادرين على الوصول إلى تفسيرٍ يُرضيهم بحيث يجيب عن التساؤل: «كيف يكون من العناية الإلهية أن يعود مؤلف مثله إلى رق العبودية؟» فلربما شكَّكوا حينئذٍ في المفهوم الذي اعتادوا قبولَه عن حقيقة الإنسان الأسود، بل حقيقة الإنسان بوجهٍ عام، وعمَّا يجعل الإنسان صالحًا، وعمَّا يجعل المجتمع صالحًا، وهكذا.

وعلى الجانب المعاكس، نجد مناصري المذاهب الفائقة اللاأخلاقية يعتنقون الأكاذيبَ المرتبطة بتلك المذاهب بنفس الكيفية. لننظرْ إلى المثال التالي: يعتقد ملايينُ الأشخاص حول العالم منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة الأمريكية أن تلك الهجمات كانت من تدبير وتنفيذ الحكومة الأمريكية أو المخابرات الإسرائيلية. هذا اعتقاد مغلوط بشدة، لكنه يحمل طابعَ الخطأ الأخلاقي على نحوٍ واضحٍ كما تحمل حفريةٌ — من مادةٍ غير عضويةٍ تمامًا — طابعَ الحياةِ القديمة. تكمن حلقةُ الوصل في الحالتين في التفسير؛ إذ يحتاج المرء إلى تفسيرٍ يقوم على حقائق، يؤكِّد أن الغرب مختلف عمَّا يدَّعِيه، لكي يختلق تفسيرًا أخلاقيًّا لاستحقاق الغربيين للقتل العشوائي، ويتطلَّب ذلك قَبولًا بلا نقدٍ لنظريات المؤامرة ولإنكار التاريخ ولغيرها الكثير.

وبوجهٍ عام، لفهم المشهد الأخلاقي في ضوء مجموعةٍ معينةٍ من القِيَم يحتاج المرء إلى أن يفهم بعض الحقائق، والعكس صحيح؛ فكما أشار الفيلسوف جاكوب برونوفسكي مثلًا، فالنجاح في تحقيق الاكتشافات العلمية القائمة على حقائق يستتبع الْتزامًا تجاه كل أشكال القِيَم الضرورية لتحقيق التقدُّم. ينبغي على كل عالم أن يؤمن بقيمة الحقيقة والتفسيرات الجيدة، وأن يكون منفتحًا للأفكار الجديدة والتغيير، وينبغي على المجتمع العلمي، بل على الحضارة بأسرها — إلى حدٍّ ما — أن تؤمن بقِيَم التسامُح والنزاهة والحوار.

يجب ألا تفاجئنا تلك الصلات؛ إذ للحقيقة وحدةٌ بنيوية بالإضافة إلى ما لها من تماسُكٍ منطقي، وأعتقد أن لكل تفسيرٍ حقيقيٍّ علاقةً بكل التفسيرات الحقيقية الأخرى. وبما أن الكون قابلٌ للتفسير، فمن المؤكَّد أن القِيَم الصائبة أخلاقيًّا ترتبط بالنظريات الواقعية الحقيقية بنفس الطريقة، وأن القِيَم الخاطئة أخلاقيًّا ترتبط بالمثل بالنظريات الخاطئة.

تدور فلسفة الأخلاق أساسًا حول مشكلة ما ينبغي فعله بعد ذلك، أو بوجهٍ أعم، حول نوع الحياة التي ينبغي أن نحياها، ونوع العالم الذي ينبغي أن نريده. يقصر بعض الفلاسفة المصطلحَ «أخلاقي» على المشكلات المرتبطة بكيفية معاملة الآخرين، لكنَّ تلك مشكلاتٌ ملازِمة لمشكلات الأفراد إبَّان اختيارهم نوعَ الحياة التي يعيشونها، ولهذا السبب أميل إلى اختيار التعريف الأكثر شمولًا. وبعيدًا عن المصطلحات، إذا وجدتَ نفسك فجأةً آخِر إنسانٍ على الأرض، فستتساءل عن نوع الحياة التي يجب أن تريدها؛ فلو كان قرارك هو «ينبغي عليَّ أن أفعل ما يحلو لي»، فهو قرار لا يقدِّم لك الكثيرَ من المعلومات؛ لأن «ما يحلو لك» يعتمد على حكمك الأخلاقي على ما تتألف منه الحياة الجيدة، وليس العكس.

يُبيِّن لنا هذا أيضًا خواءَ الاختزالية في الفلسفة؛ لأني إذا سألتُكَ النصيحةَ عمَّا يجب أن أسعى إليه في الحياة من أهداف، فلا فائدةَ من نُصحي بأن أفعل ما ترغمني قوانينُ الفيزياء على فعله؛ لأني سأفعل ذلك على كل حال. كما أنه لا فائدةَ تُرجَى من نُصحي بأن أفعل ما أفضِّل أن أفعل؛ لأني لن أعرف ما أفضِّلُ قبل أن أقرِّرَ نوعَ الحياة الذي ينبغي أن أرغب فيه، وعلى أيِّ نحوٍ يجب أن أرغب في أن يكون العالم. وبما أن تفضيلاتنا تتشكَّل على هذا المنوال — على الأقل جزئيًّا — بواسطة تفسيراتنا الأخلاقية، فليس من المنطقي إذنْ أن نُعرِّفَ الخطأ والصواب فقط على أساس نفعهما في تحقيق تفضيلاتنا. كانت محاولةُ تطبيق هذه الفكرة هي مشروعَ الفلسفة الأخلاقية الواسعة التأثير التي عُرِفت باسم «النفعية»، والتي لعبت تقريبًا نفسَ الدور الذي لعبتْه التجريبية في فلسفة العلم؛ إذ كانت بمنزلة بؤرة الحرية للثورة على الفكر التقليدي المتعصب، في حين لم يشتمل محتواها إلا على قدرٍ قليلٍ من الحقيقة.

لا سبيلَ إذنْ لتجنُّب مشكلاتِ ما ينبغي علينا فعله بعد ذلك، وحيث إن أفضل التفسيرات التي تحاول معالجة هذه المشكلات تتطرَّق إلى التمييز بين الصواب والخطأ، يجب أن نُقِرَّ بواقعية هذا التمييز؛ بعبارةٍ أخرى، يوجد فرق موضوعي ما بين الصواب والخطأ؛ فهما سمتان حقيقيتان للأهداف والسلوكيات. وسأذهب في الفصل الرابع عشر إلى أن الأمر نفسَه ينطبق بالمثل في مجال فلسفة الجمال؛ فهناك جمال موضوعي.

الجمال، والصواب، والخطأ، وأوَّلية الأعداد، والمجموعات اللامتناهية؛ كلها موجودة على نحوٍ موضوعي، لكنها ليست أشياءَ ماديةً. ما معنى هذا؟ يمكنها أن تؤثِّر عليك بالتأكيد — كما في مثال هوفستاتر — لكن تأثيرها يختلف عن تأثير الأشياء المادية عليك. لا يمكن أن تتعثَّر بأحدها في الشارع مثلًا، لكنه اختلاف أقل كثيرًا مما يَفترض فهمنا المتحيز للتجريبية. بدايةً، يعني «تأثير» شيءٍ ماديٍّ عليك أن أحد جوانب ذلك الشيء قد سبَّبَ تغيُّرًا بواسطة قوانين الفيزياء (أو أن قوانين الفيزياء قد أحدثَتْ تغيُّرًا بواسطة ذلك الشيء). لكن السببية وقوانين الفيزياء ليست أشياءَ ماديةً في حد ذاتها؛ إنها عبارة عن تجريدات، تأتي معرفتنا عنها — وعن كل التجريدات الأخرى — من حقيقة أن أفضل تفسيراتنا تستدعي وجودها. يعتمد التقدُّم على التفسير؛ ومن ثَمَّ لا يتأتَّى من محاولة فهم العالم باعتباره تسلسُلَ أحداثٍ بانتظاماتٍ لا تفسيرَ لها إلا التخلِّي عن التقدُّم.

بَيْدَ أن هذه الحجة الخاصة بوجود المجردات لا تُنْبِئنا بالنحو الذي توجد عليه؛ فنحن مثلًا لا نعلم أيُّها مجرَّدُ جوانبَ منبثقةٍ من أخرى، وأيُّها يوجد على نحوٍ مستقلٍّ عن سواه. هل كانت قوانين الأخلاق ستبقى كما هي لو اختلفت قوانينُ الفيزياء؟ ولو نصَّتْ على أن أفضل تحصيلٍ للمعرفة لا يكون إلا بالخضوع التام للسلطة، لَكان لزامًا على العلماء — ليتمكَّنوا من تحقيق التقدُّم — أنْ يتجنَّبوا ما نعتقد اليومَ أنه قِيَم البحث العلمي. أعتقد أن الأخلاق أكثر استقلالًا من هذا؛ لذا فمن المنطقي أن نقول إن قوانين الفيزياء في تلك الحالة ستكون «لا أخلاقية»، كما سيكون من المنطقي (كما ألمحتُ في الفصل الرابع) أن نتخيَّل قوانينَ فيزيائيةً أفضل أخلاقًا من القوانين الحقيقية.

إن المدى الذي تصل إليه الأفكار في عالم المجردات هو خاصية في المعرفة التي تحتوي عليها الأفكار، وليس في العقل الذي تسكن فيه تلك الأفكار. يمكن للنظرية أن تحظى بمدًى غيرِ محدودٍ حتى لو لم يُدرِك الشخصُ الذي وضعها ذلك؛ ومع ذلك فالأشخاص مجردات أيضًا. ويوجد من أنواع المدى اللامتناهي ما يختصُّ بالإنسان، وهو مدى القدرة على فهم التفسيرات، وهذه القدرة في حد ذاتها هي حالة من حالات ظاهرة العمومية الأوسع، وهي ما سأنتقل إليه بالحديث في الفصل التالي.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • مستويات الانبثاق: مجموعات من الظواهر يمكن تفسير بعضها بواسطة بعضٍ جيدًا دون تحليلها إلى الكيانات المكوِّنة لها كالذرات.
  • الأعداد الطبيعية: الأعداد الصحيحة ١، ٢، ٣ وهكذا.
  • الاختزالية: المفهوم الخاطئ بأن العلم يجب أو ينبغي دائمًا أن يفسِّر الأشياءَ بتحليلها إلى مكوناتها (لذا لا يمكن للتفسيرات ذات المستوى الأعلى أن تكون تفسيراتٍ أساسيةً).
  • المذهب الكلي: المفهوم الخاطئ بأن كلَّ التفسيرات المهمة تتضمَّن تفسيرَ الجزء في ظل الكل، وليس العكس.
  • فلسفة الأخلاق: تعالج مشكلة تحديد نوع الحياة الذي ينبغي أن نريده.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • وجود ظواهر منبثقة، وحقيقة قدرتها على احتواء معرفةٍ عن ظواهرَ منبثقةٍ أخرى.

  • وجود مستويات من التقريب للتفسيرات الصحيحة.

  • القدرة على فهم التفسيرات.

  • قدرة التفسير على الهروب من ضيق الأفق، عن طريق «أن نَدَع نظرياتنا تموت بدلًا منَّا».

ملخص هذا الفصل

الاختزالية والمذهب الكلي كلاهما خطأ. التفسيرات في الحقيقة لا تكون تسلسلًا يجعل من أدنى المستويات أكثرها أساسية، بل في الواقع يمكن للتفسيرات أن تكون أساسيةً على أي مستوًى من الانبثاق. والكيانات المجردة حقيقية، ويمكن أن تلعب دورًا في التسبُّب في حدوث الظواهر الفيزيائية. والسببية نفسها كيان مجرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤