الفصل التاسع

التفاؤل

الإمكانات التي يحملها المستقبل لا متناهية، وحين أقول «واجبنا أن نظلَّ متفائلين»، فإن هذا لا يتضمَّن الانفتاحَ على المستقبل فقط، بل يتضمَّن أيضًا أننا جميعًا مساهمون في صُنعه بكلِّ ما نفعله؛ فنحن جميعًا مسئولون عمَّا يخبِّئه المستقبلُ بين طيَّاته. وعلى هذا، لا يكون واجبُنا هو التكهُّنَ بالشرِّ الآتي، بل — بالأحرى — النضال من أجل عالم أفضل.

كارل بوبر، «أسطورة الإطار» (١۹۹٤)

يعتقد مارتن ريس أن نجاة الحضارة من الاندثار في القرن العشرين كانت ضربةَ حظٍّ؛ فلقد لاحَتْ إمكانيةُ اندلاع حربٍ عالميةٍ جديدةٍ طوال فترة الحرب الباردة؛ حرب يكون القتالُ فيها هذه المرة بالقنابل الهيدروجينية، وتكون مطرقة تدمير الحضارة. يبدو أن ذلك الخطر قد انحسر، ولكن ريس خلص في كتابه «قرننا الأخير» — الذي نُشِر في عام ٢٠٠٣ — إلى نتيجةٍ مثيرةٍ للقلق مفادها أن فرصةَ الحضارة في النجاة والاستمرار بعد القرن الحادي والعشرين نسبتُها ٥٠ بالمائة فقط.

وهو يرى أن السببَ في ذلك أيضًا هو أن المعرفة التي سيتمُّ ابتكارُها ستكون لها تبعات كارثية. على سبيل المثال: اعتقد ريس أنه من المرجح أن أسلحةَ تدمير الحضارة — وبخاصةٍ البيولوجية منها — سرعان ما سيسهل تصنيعها بحيث يصبح من المتعذَّر منْعُ المنظمات الإرهابية — أو حتى الأشرار من الأفراد — من الحصول عليها. كما توجَّسَ من الكوارث العارضة، كهروب الكائنات المجهرية المعدلة وراثيًّا من معملٍ ما لتنشر مرضًا لا علاجَ له، وكتب ريس يقول إن الروبوتات الذكية وتقنية النانو (الهندسة على المستوى الذري) «قد تصير أكثرَ تهديدًا على المدى الطويل»، وإنه «ليس ببعيدٍ أن تصير الفيزياءُ خَطِرةً هي الأخرى»، وأشار مثلًا إلى أن مسرعات الجسيمات الأوَّلية — التي توجِد لفترةٍ وجيزةٍ ظروفًا تكون في بعض الجوانب أقسى من أي ظرفٍ حدث منذ الانفجار العظيم — قد تُقوِّض استقرارَ فراغ الفضاء نفسه وتُدمِّر الكونَ بأسره.

أشار ريس إلى أنه ليس من الضروري أن يكون وقوعُ أيٍّ من تلك الكوارث احتمالًا واردًا؛ فلا يلزم لوقوعها إلا أن يُجانبنا الحظُّ مرةً واحدةً فقط. إننا لَنجابِه الخطرَ من جديدٍ في كل مرةٍ يتحقَّق فيها التقدُّمُ في مجالاتٍ متنوعة، وشبَّهَ ريس الأمرَ بلعب الروليت الروسي.

بَيْدَ أن ثَمَّةَ اختلافًا جوهريًّا بين الحالة البشرية والروليت الروسي؛ فاحتمال الفوز في الروليت الروسي لا يتأثَّر بأي شيءٍ قد يعتقده اللاعبُ أو يفعله، فهي لعبة قائمة على الحظ المحض في نطاق قواعدها، وفي المقابل يعتمد مستقبلُ الحضارة برُمَّته على ما نعتقده وما نفعله. إذا انهارَتِ الحضارةُ، فلن يكون ذلك بمحض الصدفة، بل سيكون نتيجةً لاختيارات البشر، وإذا نجَتْ، فسيُعزَى ذلك إلى نجاحهم في حلِّ مشكلات النجاة والبقاء، وهو أيضًا ما لن يحدث بالصدفة.

لا يمكن التنبُّؤُ بمستقبل الحضارة ولا بنتيجة لعبة الروليت الروسي، ولكن شتَّان بين أسباب وحيثيات الحالتين. لعبة الروليت الروسي عشوائيةٌ بحتة، ومع أننا لا نستطيع التنبُّؤَ بنتيجتها، فإننا نعلم النتائجَ الممكنة واحتمالاتِ كلٍّ منها ما دام اللعبُ بحسب القواعد. أما مستقبل الحضارة، فلا سبيل إلى معرفته؛ لأن المعرفة التي ستؤثِّر عليه لم توجد بعدُ؛ وعلى هذا فالنتائج الممكنة لم تُعرَف بعدُ، دَعْ عنك احتمالاتِ هذه النتائج.

ونموُّ المعرفةِ لا يمكن أن يُغيِّرَ شيئًا من تلك الحقيقة، بل على العكس، إنه يسهم في ترسيخها؛ فقدرة النظريات العلمية على التنبُّؤِ بالمستقبل تعتمد على مدى تفسيراتها، لكن ليس لأيِّ تفسيرٍ مدًى كافٍ للتنبُّؤِ بمحتوى لاحقيه، ولا تأثيراتها، ولا تأثيرات الأفكار الأخرى التي لم تَرِدْ بعدُ على أي عقلٍ. وكما لم يكن لأحدٍ أن يتوقَّعَ في عام ١۹٠٠ عواقبَ الابتكارات التي شهدها القرن العشرون — بما فيها من مجالاتٍ كاملةٍ جديدةٍ كالفيزياء النووية وعلوم الكمبيوتر والتكنولوجيا الحيوية — فسوف يتشكَّلُ مستقبلنا بواسطة معرفةٍ لم نصل إليها بعدُ. لا نستطيع حتى التنبُّؤ بمعظم المشكلات التي سنواجهها، ولا معظم فُرَصِ حلِّها، دَعْ عنك الحلول ومحاولات الحلول وكيفية تأثيرها على الأحداث. لم يعتقد الناسُ في عام ١۹٠٠ أن الإنترنت والطاقة النووية احتمالان غير قائمين؛ إنهم لم يتخيَّلوا وجودَهما على الإطلاق.

لا يستطيع أيُّ تفسيرٍ جيدٍ أن يتنبَّأ بنتيجةِ ظاهرةٍ — أو احتمالاتِ نتيجةٍ — سيؤثِّر ابتكارُ معرفةٍ جديدةٍ على مسارها تأثيرًا جمًّا. إن ذلك أحدُ القيود الجوهرية التي تحدُّ من مدى التنبؤ العلمي، وهو أمر لا بد من استيعابه وتقبُّله عند التخطيط للمستقبل. سأحذو حذْوَ بوبر وأستخدم مصطلحَ «التنبؤ» للإشارة إلى الاستنتاجات عن الأحداث المستقبلية بواسطة تفسيراتٍ جيدة، ومصطلح «التكهُّن» للإشارة إلى أي شيءٍ يزعم معرفةَ ما لا يمكن معرفته بعدُ. تؤدِّي محاولةُ معرفةِ ما لا يمكن معرفته بعدُ بلا شكٍّ إلى الخطأ وخداع الذات؛ إذ تُوجِد — من ضمن ما تُوجِد — تحيُّزًا يرجِّح كفةَ التشاؤم. خُذْ على سبيل المثال ذلك التكهُّنَ الذي قدَّمَه الفيزيائي ألبرت مايكلسون في عام ١٨۹٤ عن مستقبل الفيزياء:

لقد تمَّ اكتشافُ كل قوانين وحقائق العلم الفيزيائي الأهم والأعمق، وهي الآن راسخةٌ بثباتٍ بحيث إن إمكانيةَ استبدالِ غيرها بها إثرَ اكتشافاتٍ جديدةٍ لَمُستبعَدةٌ للغاية … لا بد أن احتمالَ التوصُّلِ إلى اكتشافاتٍ جديدةٍ في المستقبل لا يزيد على نيف في المليون.

ألبرت مايكلسون
من خطابه في افتتاح مختبر رايرسون الفيزيائي
جامعة شيكاجو، ١٨٩٤

ماذا كان مايكلسون يفعل بالضبط حينما أصدَرَ حكمَه بأن فُرَصَ تغييرِ أُسُس الفيزياء كما يعرفها «مُستبعَدة للغاية»؟ كان يتكهَّن بالمستقبل. كيف هذا؟ بالاستناد إلى أفضل معرفةٍ متاحةٍ في ذلك الوقت. ولكن تلك المعرفة تمثَّلتْ في فيزياء عام ١٨۹٤! ومع دقتها وقوتها فيما لا حصرَ له من التطبيقات، فإنها لم تكن قادرةً على التنبؤ بمحتوى لاحقاتها، إنها حتى لم تكن ملائمةً لتصوُّرِ التغييرات التي ستأتي بها النسبية ونظرية الكم؛ لذا فاز مَن تخيَّلَهما من الفيزيائيين بجائزة نوبل. لم يكن مايكلسون ليضع تمدُّدَ الكون أو وجودَ الأكوان الموازية أو عدم وجود قوة الجاذبية في أيِّ قائمةٍ للاكتشافات الممكنة تكون احتمالاتُ وقوعِها «مُستبعَدة للغاية»، كل ما هنالك أنه لم يتخيَّلها على الإطلاق.

أشار عالم الرياضيات جوزيف لوي لاجرانج قبل ذلك بنحو قرنٍ إلى أن إسحاق نيوتن لم يكن أعظم عبقريٍّ شهده الزمان فحسب، بل الأوفر حظًّا أيضًا؛ إذ إن «نظام العالم لا يمكن اكتشافه إلا مرةً واحدة.» ما كان للاجرانج أن يعلم قط أن بعضًا من أعماله — التي كان ينظر إليها على أنها مجرد ترجمةٍ لأعمال نيوتن بلغةٍ رياضيةٍ أرقى — سيكون خطوةً نحو استبدال «نظام العالم» الذي اكتشفه نيوتن. عاش مايكلسون ليشهد سلسلةً من الاكتشافات التي دحضَتِ النظرياتِ الفيزيائيةَ التي كانت سائدةً في ١٨۹٤ — ومعها تكهُّناته الشخصية — دحضًا مذهلًا.

لقد ساهَمَ مايكلسون نفسه في النظام الجديد على غير علمٍ منه كما حدث مع لاجرانج، بواسطة نتيجةٍ تجريبيةٍ في حالته؛ فلقد لاحَظَ هو وزميله إدوارد مورلي في عام ١٨٨٧ أن سرعةَ الضوء بالنسبة إلى الملاحظ تبقى ثابتةً لا تتغيَّر حتى مع تحرُّكه. أضحت هذه الحقيقة المتعارِضة مع البديهة على نحوٍ كبيرٍ محورَ نظريةِ أينشتاين عن النسبية الخاصة فيما بعدُ، لكن مايكلسون ومورلي لم يدركَا أن ذلك كان ما لاحظاه حينئذٍ. إن الملاحظات مثقلة بالنظرية، وعندما نُقابل غرابةً تجريبية، فليس ثَمَّةَ وسيلةٌ للتنبؤ إذا ما كانت ستُفسَّر في وقتٍ ما من خلال تصحيحِ افتراضِ ضِيقِ أفقٍ بسيطٍ أم بحدوث ثورةٍ في العلوم بأسرها. لا سبيلَ إلى معرفة ذلك إلا بعد أن ننظر إليها في ضوء تفسيرٍ جديد، ولا خيارَ أمامنا في اللحظة الراهنة سوى أن نرى العالَمَ من خلال أفضل التفسيرات الموجودة، التي لا تخلو من مفاهيمنا الخاطئة الموجودة؛ بَيْدَ أن ذلك يخلق تحيُّزًا في بديهتنا، ويمنعنا — من ضمن ما يفعل — عن تصوُّر تغييراتٍ جوهرية.

فإذا كانت مُقرِّرات أحداث المستقبل غيرَ ممكنةٍ معرفتُها، فكيف ينبغي للمرء أن يستعِدَّ لها؟ وكيف يستطيع ذلك؟ وبما أن تلك المُقرِّرات خارج حدود مدى التنبؤ العلمي، فما الفلسفة الصحيحة للمستقبل غير المعلوم؟ وما الأسلوب الرشيد للتعامُل مع ما لا يمكن معرفته أو تخيُّله؟ ذلك هو موضوع هذا الفصل.

لطالما دارَ المصطلحان «التفاؤل» و«التشاؤم» حول ما لا يمكن معرفته، ولكنهما لم يشيرَا في الأصل إلى المستقبل على وجه الخصوص كما هي الحال اليومَ. كان «التفاؤل» في الأصل هو المذهبَ القائلَ بأن العالمَ — ماضيه وحاضره ومستقبله — في أفضل أحواله الممكنة. استُخدِم هذا المصطلح للمرة الأولى بغرض وصْفِ حجةِ لايبنتس (١٦٤٦–١٧١٦) بأن الرَّبَّ — باعتباره «كاملًا» — لا يمكن أن يخلق إلا «أفضل العوالم الممكنة». آمَنَ لايبنتس بأن هذه الفكرة تضع حلًّا ﻟ «مشكلة الشر» التي ذكرتُها في الفصل الرابع؛ فلقد اقترح أن كل الشرور البيِّنة في هذا العالم أتفهُ من عواقبها الخيِّرة التي هي أقصى من أن نعلمها. وبالمثل، فإن كل الأحداث الطيبة التي لم تحدث — بما فيها كل التحسينات التي يخفق البشرُ في تحقيقها — لم تحدث لأن تبعاتٍ سيئةً كانت ستلحقها وتمحق ما فيها من خير.

وبما أن قوانين الفيزياء تُحدِّد النتائجَ والتبعات، فلا بد أن الجزء الأكبر من زعم لايبنتس هو أن قوانين الفيزياء على أفضل حالٍ ممكنٍ هي الأخرى؛ فكلُّ القوانين البديلة التي سهَّلَتْ حدوثَ التقدُّم العلمي، أو جعلَتْ من المرض ظاهرةً مستحيلةً، أو حتى خفَّفَتْ وطأةَ مرضٍ واحدٍ — أو باختصارٍ أي بديلٍ كان بمنزلة تحسينٍ لتاريخنا الفعلي بما شابَهَ من أوبئةٍ وعذاباتٍ وطغيانٍ وكوارثَ طبيعية — كان سيرى لايبنتس أنها في حقيقة الأمر نقمة، وذلك بعد وضع كل الأمور في الاعتبار.

إن هذه النظرية تفسير سيئ سوءًا شديدًا؛ إذ يمكن على ذلك النهج وصْفُ أيِّ تتابُعٍ من الأحداث التي تتمُّ ملاحظتها بأنه «الأفضل». ليس هذا فحسب، بل كان يمكن لبديلٍ ما للايبنتس أن يزعم هو أيضًا بأننا نحيا في «أسوأ» العوالم الممكنة، وأن كلَّ حدثٍ جيدٍ يحدث بالضرورة لحجب الأفضل منه. وقد زعم بعض الفلاسفة ذلك بالفعل ومنهم آرثر شوبنهاور، ويُدعَى موقفهم ﺑ «التشاؤم» الفلسفي. أو قد يزعم المرءُ بأن العالم يقع بالضبط في نقطةٍ وُسطى بين أفضل الممكن وأسوأ الممكن، وهكذا. لاحِظْ أنَّ جميعَ تلك النظريات تشترك — على الرغم من اختلافاتها السطحية — في نقطةٍ مهمة، وهي: لو صحَّ أيٌّ منها، لَمَا كان للتفكير العقلاني أيُّ قدرةٍ على اكتشاف التفسيرات الحقيقية؛ إذ ما دام أننا نستطيع تصوُّرَ أوضاعٍ للأمور تبدو أفضل ممَّا نلاحظ، فسنخطئ دومًا بشأن كونها «أفضل»، مهما كانت جودةُ تفسيراتنا؛ وعلى هذا، فالتفسيرات الحقيقية للأحداث لا يمكن تخيُّلها أبدًا، في مثل ذلك العالم. في عالم لايبنتس «المتفائل» على سبيل المثال، سيُعزَى فشلُنا في كل مرة نحاول فيها حلَّ مشكلةٍ بلا جدوى إلى أن ذكاءً واسعًا لا يمكن تخيُّل هوْلِ ضخامته قد خذَلَنا لأنه قرَّرَ أنه من الأفضل لنا أن نفشل. وثَمَّةَ ما هو أسوأ؛ فحين يرفض أحدُهم المنطقَ ويقرِّر الاعتمادَ بدلًا منه على التفسيرات السيئة أو المغالطات المنطقية — أو حتى الشر الخالص — فسيحقِّق في كل الأحوال نتيجةً أفضل ممَّا قد يصل إليه الفكرُ العقلاني الخيِّر بوجهٍ عام. ليس ذلك من سمات عالمٍ قابلٍ للتفسير، وتلك أخبار بالغة السوء لنا باعتبارنا سكانَه. إنَّ كلًّا من «التفاؤل» و«التشاؤم» الأصليَّيْن أقربُ ما يكون إلى التشاؤم البحت كما سأُعرِّفه.

في الاستخدام اليومي قولٌ شائع، وهو أن «المتفائل يرى نصفَ الكوب الممتلئ، والمتشائم يرى نصفه الفارغ»، ولكني لا أقصد هذين الموقفين أيضًا؛ فهما من شئون علم النفس لا الفلسفة، أيْ إنهما آراء شخصية أكثر منهما تعبيرًا عن موقفٍ محدَّد. وقد يُعبِّر المصطلحان أيضًا عن الحالة المزاجية كالبهجة أو الاكتئاب، لكن الحالة المزاجية هي الأخرى لا تُملي موقفًا معيَّنًا عن المستقبل؛ فقد عانَى رجلُ الدولة وينستون تشرتشل من اكتئابٍ حاد، ولكنَّ رؤيته لمستقبل الحضارة وتوقعاته باعتباره قائدًا في زمن الحرب كانت إيجابيةً على نحوٍ غير متوقَّع، وعلى العكس شاع عن رجل الاقتصاد توماس مالتوس — الذي اشتُهر بتنبُّئه بالخراب المحتوم (الذي سنذكر المزيدَ عنه بعد برهة) — أنه كان شخصًا سعيدًا رائقَ المزاج كثيرًا ما أدمع عيونَ ضيوفه من الضحك في مآدب العشاء.

إن التفاؤل «الأعمى» موقفٌ من المستقبل، وهو يتمثَّل في المضي قدمًا وكأننا على يقينٍ من أن النتائج السيئة لن تحدث، أما المنهج المقابل وهو التشاؤم الأعمى — الذي يُدعَى في أغلب الأحيان «المبدأ الوقائي» — فيطمح إلى درء الكوارث عن طريق تجنُّب كلِّ أمرٍ لا يُعرَف عنه الأمان. لا يوجد مَن يؤيد أيًّا من هذين الموقفين بجديةٍ باعتباره سياسةً عمومية، لكن افتراضاتهما وحججهما شائعة، وكثيرًا ما تتسلَّل لخطط البشر.

يُعرَف التفاؤل الأعمى أيضًا ﺑ «الثقة الزائدة» أو «التهور»، وأحد الأمثلة الذي كثيرًا ما يُستشهَد به — ربما دون وجهِ حقٍّ — وصْفُ بُناةِ عابرةِ المحيطات تايتانيك لها بأنها «غيرُ قابلةٍ للغرق عمليًّا». غرقتْ أكبر سفينةٍ في عصرها في أول إبحارٍ لها في عام ١۹١٢. لقد صُمِّمتْ على نحوٍ يوفر لها سُبُلَ النجاة من أي كارثةٍ يمكن توقُّعها، واصطدمتْ بجبلٍ ثلجيٍّ بطريقةٍ لم يتوقَّعْها أحدٌ. يرى معتنق التشاؤم الأعمى أن هناك تبايُنًا متأصِّلًا بين التبعات السيئة والحسنة؛ إذ لا تقدر رحلةٌ بحريةٌ ناجحةٌ أن تجلب خيرًا يُضاهي الضررَ الذي قد تجلبه رحلةٌ كارثية. وكما يوضِّح ريس، يمكن لتبعةٍ كارثيةٍ واحدةٍ لابتكارٍ مفيدٍ أن تضع حدًّا نهائيًّا للتقدُّم البشري إلى الأبد؛ وعليه، يكون أسلوب التشاؤم الأعمى في بناء عابرات المحيطات هو الالتزامَ بالتصميمات الموجودة بالفعل، وتجنُّب أيِّ محاولاتٍ لتحقيق أي سبقٍ أو رقمٍ قياسي.

لكن التشاؤم الأعمى مذهبٌ أعمى في تفاؤله؛ إذ يفترض أن التبعات الكارثية غير المتوقَّعة لا يمكن أن تتبع المعرفة الموجودة بالفعل أيضًا (أو بالأحرى الجهل الموجود). لم تقتصر حوادثُ غرق السفن على تلك التي حقَّقَتِ السَّبْقَ، ولا يُشترَط أن تأتيَ كلُّ الكوارث الفيزيائية غيرِ المتوقَّعة إثرَ تجارِبَ فيزيائيةٍ أو تقنيةٍ جديدة، لكننا نعرف أمرًا واحدًا بالتأكيد، وهو أن حمايةَ أنفسِنا من أي كارثةٍ — متوقَّعةً كانتْ أم غيرَ متوقعة — أو التعافيَ منها إذا ما وقعَتْ، تحتاج إلى معرفةٍ لا بد من ابتكارها، والضرر الذي قد ينبع من أي ابتكارٍ والذي لا يدمر نموَّ المعرفة سيكون ضررًا متناهيًا على الدوام، أما النفع فسيكون لا محدودًا. إن كل تصميمات السفن الموجودة التي ينبغي الالتزام بها، وكل الأرقام القياسية التي لا ينبغي تجاوُزُها، لم تكن لترى النورَ لو لم يخرق أحدُ الأشخاص المبدأَ الوقائي.

يحتاج التشاؤم إلى مواجهةِ هذه الحجة بالردِّ ليتَّسِم بشيءٍ من الإقناع، ومن هنا جاءَتِ الفكرةُ المتكررة في النظريات التشاؤمية على مرِّ التاريخ، ومحورُها أنَّ ثَمَّةَ لحظةً وشيكةً مفعمةً بخطورةٍ رهيبة. يُعلِّل كتابُ «قرننا الأخير» كيف أن فترةَ ما بعد منتصف القرن العشرين كانت الأولى في التاريخ التي تصبح فيها التكنولوجيا قادرةً على تدمير الحضارة، لكن هذا غير صحيح. دمَّرَتْ تقنياتٌ بسيطة كالنار والسيف حضاراتٍ عديدةً على مرِّ التاريخ، بل إن الغالبية العظمى من حضارات التاريخ قد دُمِّرتْ إما مع سبق الإصرار وإما بفعل كارثةٍ طبيعيةٍ أو وباء؛ فلو امتلكَتْ تلك الحضاراتُ نزرًا يسيرًا من المعرفة الإضافية لَاجتنبَتْ كلُّها تقريبًا الكوارثَ التي قضَتْ عليها بأن طوَّرتْ، على سبيل المثال، من نُظُمها الزراعية أو العسكرية، أو حسَّنَتْ من نظامها الصحي، أو شيَّدَتْ مؤسساتٍ سياسيةً أو اقتصاديةً أفضل؛ في حين لم تكن الحيطةُ الأكبر ضد الابتكار لتنقذ إلا قلةً قليلةً من تلك الحضارات إنْ وُجِدت. في الواقع، نَفَّذَ أغلبُها المبدأَ الوقائي بحماس.

لقد افتقرَتْ هذه المجتمعات — بوجهٍ أعم — إلى تركيبةٍ معينةٍ من المعرفة المجردة والمعرفة المجسدة في منتجاتٍ تقنية، أو ما يُسمَّى ﺑ «الثروة» الكافية، دَعْني أُعرِّفها تعريفًا يربأ عن ضيق الأفق على أنها ذخيرةُ التحوُّلات المادية التي كان باستطاعتها التسبُّبُ فيها.

من أمثلة السياسات التي تتصف بالتشاؤم الأعمى محاولةُ جعْلِ كوكبنا غيرَ ملحوظٍ ولا مزعجٍ للمجرة بقدر الإمكان، مخافةَ الاتصال بحضاراتٍ خارج كوكب الأرض، وقد نصح بذلك ستيفن هوكينج مؤخرًا في حلقات برنامجه التليفزيوني «في الكون»؛ إذ قال: «إذا زارونا (الفضائيون)، فإني أعتقد أن النتائج ستُشبه ما أعقب رُسُوَّ كريستوفر كولومبس على سواحل أمريكا للمرة الأولى، وهو ما لم يجلب خيرًا على سكان أمريكا الأصليين.» وحذَّر من احتمال وجود حضاراتٍ رحَّالةٍ تجوب الفضاءَ قد تَنتزع من الأرض مواردَها، أو حضاراتٍ محتلةٍ تستعمِرها. كتب كاتب الخيال العلمي جريج بير عدةَ رواياتٍ مشوِّقةٍ تقوم على فرضية أن المجرة تعجُّ بحضاراتٍ إما مفترسة وإما فريسة، وكلٌّ منهما مختبئة من الأخرى. قد يحلُّ ذلك لغزَ مشكلةِ فيرمي، لكنه لا يرقى إلى التصديق باعتباره تفسيرًا جدِّيًّا؛ فهو يعتمد على اقتناع الحضارات بوجود حضاراتٍ أخرى مفترسةٍ في الفضاء؛ ومن ثَمَّ إعادة ترتيب نفسها بحيث تختبئ منها حتى لا تلاحظها تلك الحضارات؛ أيْ حتى قبل اختراع اللاسلكي مثلًا.

تغفل فرضيةُ هوكينج عن أخطارٍ عدةٍ تتبع عدم تعريف المجرة بوجودنا، كأنْ تسحقنا عن غير قصدٍ حضاراتٌ حسنة النوايا بإرسالها روبوتاتٍ إلى مجموعتنا الشمسية ربما للبحث عمَّا تظنُّه نظمًا غير مأهولة، كما أنها تستند إلى مفاهيمَ خاطئةٍ أخرى إلى جانب نقيصة التشاؤم الأعمى التقليدية هذه، ومنها فكرةُ الأرض سفينة الفضاء على نحوٍ أوسع نطاقًا؛ أيِ الزعم بأنَّ تقدُّمَ تلك الحضارات الافتراضية الشريرة يحدُّه تناقُصُ المواد الخام وليس نقص المعرفة. ما الذي ستأتي لتنهبه بالضبط؟ الذهب؟ البترول؟ ربما مياه كوكبنا؟ ليس أيًّا من ذلك بالتأكيد؛ فحضارةٌ قادرةٌ على نقل نفسها إلى هنا، أو على العودة بموادَّ خام إلى مسقط رأسها قاطعةً مسافاتٍ شاسعةً عبر المجرات؛ لا بد أنها تملك بالفعل ولا ريب تحوُّلًا زهيد التكلفة؛ ومن ثَمَّ فهي لا تأبه للتركيب الكيميائي لموادها الخام؛ إذنْ فلا مورد ذا نفعٍ لها في مجموعتنا الشمسية غير الكمية الهائلة من المادة المتوافرة في الشمس. لكنَّ المادةَ متوَافرةٌ في كل نجم! ربما كانت تجمع نجومًا كاملة بالجملة لتخلق ثقبًا أسود كبيرًا كجزءٍ من مشروعٍ هندسيٍّ عملاق، لكن لو كان الأمرُ كذلك، لَمَا كلَّفَها شيئًا أن تتغاضى عن المجموعات الشمسية المأهولة بالسكان (فمن المفترض أنها أقلية، وإلا كان الاختباءُ بلا داعٍ في كل الأحوال)؛ أتراها تمحو مليارات البشر من الوجود بتلك السهولة؟ هل نبدو لها كحشرات؟ قد يبدو ذلك معقولًا فقط إذا تناسينا أنه لا يوجد غير نوعٍ واحدٍ من الأشخاص؛ المفسرين والبنَّائين العموميين. أما فكرة وجود كائناتٍ نبدو لها كما تبدو لنا الحيواناتُ، فهي بمنزلة الإيمان بالقوى الخارقة.

أضِفْ إلى ذلك أن الطريقة الوحيدة لتحقيق التقدُّمِ هي الافتراض والنقد، وأن القِيَم الأخلاقية الوحيدة التي تسمح باستمرار التقدُّمِ هي نفسها القِيَم الموضوعية التي كان التنويرُ قد بدأ في كشف النقاب عنها. لا شك أن أخلاقيات الفضائيين ستختلف عن أخلاقياتنا، ولكن ليس لأن أخلاقياتهم أخلاقياتُ غُزاةٍ. ولا يحيق بنا خطرُ صدمةٍ ثقافيةٍ جدِّيٌّ جرَّاء الاتصال بحضارةٍ متقدمة؛ فهي ستعرف كيف تُعلِّم أطفالَها (أو روبوتاتها)، وعلى هذا ستعرف كيف تُزوِّدنا بالتعليم، وتُعلِّمنا بوجهٍ أخص كيفيةَ استخدام أجهزة الكمبيوتر خاصتها.

من المفاهيم الخاطئة الأخرى ما يرسمه هوكينج من مقارنةٍ بين حضارتنا وحضارات ما قبل التنوير؛ إذ يوجد — كما سأشرح في الفصل الخامس عشر — اختلافًا نوعيًّا بين هذين النوعين من الحضارات، فلا ينبغي لحضارةِ ما بعد التنوير أن تخشى خطرَ التعرُّض لصدمةٍ ثقافيةٍ.

بنظرةٍ على حضارات الماضي الغابرة الفاشلة، سنرى كَمْ كانوا فقراء وكَمْ كانت تكنولوجياتهم هزيلة، وتفسيراتهم للعالم غيرَ مترابطةٍ ومليئةً بالمفاهيم الخاطئة؛ فكان حذرهم ضد الابتكار والتقدُّم في حمقه كالإبحار في منطقةٍ خطرةٍ بعينين معصوبتين. يؤمن المتشائمون بأن الحالة الراهنة لحضارتنا استثناءٌ من ذلك النمط، لكن ما رأيُ المبدأ الوقائي في «هذا» الزعم؟ هل من الممكن أن نوقن أن معرفتنا الحالية لا تشوبها — هي أيضًا — فجواتٌ خَطِرةٌ ومفاهيمُ خاطئة؟ وأن ثروتنا الحالية ليست هزيلةً على نحوٍ مثيرٍ للشفقة ولا قِبَلَ لها بمواجهة المشكلات غير المتوقعة؟ بما أن اليقين من ذلك غير ممكن، أَفَلا يتطلَّب منَّا المبدأُ الوقائي أن نُلزِم أنفسَنا بالسياسة التي دائمًا ما أثبتت فائدتها في الماضي؛ وهي الابتكار، بل التفاؤل الأعمى أيضًا — في حالة الطوارئ — حيال فوائد المعرفة الجديدة؟

هذا علاوة على أن المبدأ الوقائي يُلغي نفسَه بنفسِه في حالة حضارتنا؛ فهي لم تتبعه؛ ومن ثَمَّ سيعقب اعتناقَه كبحٌ للتقدُّم التقني السريع الجاري. ولأن مثل ذلك التغيير لم يحقِّق نجاحًا من قبلُ، فسيتعيَّن على المتشائم الأعمى أن يعارضه مبدئيًّا.

قد يبدو ما أقول وكأنه نوع من المجادلة الفارغة، ولكنه ليس كذلك. يكمن السببُ وراء كل أوجه التشابه والاختلاف تلك بين التفاؤل الأعمى والتشاؤم الأعمى في أن النهجين متشابهان جدًّا على المستوى التفسيري؛ فكلاهما يقوم بالتكهُّن؛ إذ يزعم كلٌّ منهما معرفةَ أشياءَ عن المستقبل لا يمكن العلمُ بها. وبما أن أفضل ما لدينا من معرفةٍ يحتوي في أي وقتٍ على الحقائق جنبًا إلى جنبٍ مع المفاهيم الخاطئة، إذنْ فالتشاؤم التكهُّني حيالَ أي جانبٍ منها يماثل دومًا التفاؤلَ التكهُّني حيال أي جانبٍ آخَر منها. على سبيل المثال: تعتمد أسوأ مخاوف ريس على الابتكار السريع سرعةً غيرَ مسبوقةٍ لتكنولوجيا قويةٍ قوةً غيرَ مسبوقةٍ مثل الأسلحة البيولوجية المدمرة للحضارات.

لو صحَّ زعم ريس بأن القرن الحادي والعشرين فريد في خطورته، ثم نجتْ منه الحضارةُ مع هذا، لَكانت تلك نجاةً بصعوبةٍ مروعة. يذكر كتاب «قرننا الأخير» مثالًا واحدًا آخَر عن النجاة البالغة الصعوبة وهو الحرب الباردة، إذنْ نجَتِ الحضارةُ لمرتين على التوالي بِشِقِّ الأنفس. إلا أن الحضارة — بهذا المقياس — لا بد أنها قد أفلتَتْ من الاندثار بأعجوبةٍ إبَّان الحرب العالمية الثانية؛ إذ اقتربت ألمانيا النازية حينئذٍ مثلًا من تطوير أسلحةٍ نووية، ونجحَتِ الإمبراطورية اليابانية في التسلُّح بالطاعون الدبلي وجرَّبتْه بالفعل في الصين مخلِّفةً آثارًا مدمِّرة، وكان من خططها أن تستخدمه ضد الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد تخوَّفَ الكثيرون من أن يؤدِّيَ انتصارُ قُوَى المحور إلى دمار الحضارة، حتى إنْ تمَّ بالطرق العادية، وحذَّرَ تشرتشل من بزوغ «عصرٍ مظلمٍ جديدٍ يجعله العلم الضار أكثرَ شرًّا، وربما أكثر امتدادًا في الزمن»، مع أنه قد جاهَدَ لكونه متفائلًا ليمنع ذلك من التحقُّق. وعلى النقيض من ذلك، انتحر كلٌّ من الكاتب النمساوي شتيفان تسفايج وزوجته في عام ١۹٤٢ في قلب أمان البرازيل المحايدة؛ لأنهما كانا يريان أن الحضارةَ خرابُها محتومٌ لا محالة.

كان ذلك إِذَنِ الإفلاتَ الصعب الثالث على التوالي، لكن أَلَمْ يوجد آخَر أقدم من تلك الحالات؟ جادَلَ مالتوس في عام ١٧۹٨ في مقالٍ نافذِ التأثيرِ بعنوان «عن السكان» بأن القرن التاسع عشر سيشهد نهايةَ التقدُّمِ البشري القاطعة؛ إذ انتهَتْ حساباتُه إلى أن النموَّ السكاني المتضاعِف في زمنه — الذي نتج عن تطوُّراتٍ تقنيةٍ واقتصاديةٍ عدة — كان قاب قوسين أو أدنى من أقصى قدرةٍ لكوكبنا على إنتاج الغذاء. ولم يكن ذلك محضَ سوءِ حظٍّ عابر؛ فلقد اعتقد أنه اكتشف قانونًا للطبيعة موضوعه السكان والموارد؛ أولًا: أن صافي الزيادة السكانية — في كل جيل — يكون متناسبًا مع عدد السكان الفعلي، وعلى هذا تكون الزيادة السكانية زيادةً أُسيَّةً (أو زيادةً «وفق متواليةٍ هندسية» على حدِّ وصفه). ثانيًا: أن زيادة معدل إنتاج الغذاء — عندما تحدث نتيجة مثلًا لابتكار وسيلةٍ لاستصلاح الأراضي البور — لا تختلف عمَّا إذا كان ذلك الابتكارُ قد تمَّ في أي وقتٍ آخَر؛ فهي لا تكون متناسِبةً مع عدد السكان أيًّا كان، وقد أطلق مالتوس على هذه الزيادة زيادةً «وفق متواليةٍ حسابية» (وهي تسمية غريبة بعض الشيء)، وذهب إلى أن «النمو السكاني يزيد وفق متواليةٍ هندسية — إذا أُطلِق له العنان — في حين لا تتزايد مقوماتُ الإعاشة إلا وفق متواليةٍ حسابية. لا يلزم سوى معرفةٍ سطحيةٍ بالأعداد للدلالة على ضخامة الأول مقارَنةً بالثاني.» وخلص إلى أن حالةَ الرفاهية النسبية التي تتمتَّع بها البشريةُ في ذلك الحين ظاهرةٌ مؤقتة، وأنه كان يعيش في لحظةٍ في التاريخ فريدةٍ في خطورتها. أما عن حالة البشرية على المدى البعيد، فستكون حالة توازنٍ بين مَيل السكان إلى الزيادة من جهة، والمجاعة والمرض والقتل والحرب من جهةٍ أخرى؛ تمامًا كما يحدث في المحيط الحيوي.

في تلك الحالة — وعلى مرِّ القرن التاسع عشر — تحقَّقَ بالفعل الانفجارُ السكاني كما تنبَّأ به مالتوس، أما توقُّعه بانتهاء التقدُّم البشري، فلَمْ يصحَّ، ومن أسباب ذلك أن إنتاج الغذاء زاد بمعدلٍ أسرع ممَّا زاد به تعداد السكان، ثم زادَتْ سرعةُ كليهما في القرن العشرين.

تنبَّأ مالتوس تنبؤًا صحيحًا بإحدى الظاهرتين، وأخفَقَ في الأخرى تمامًا. تُرى لماذا؟ بسبب التحيُّز التشاؤمي المنهجي الذي يميل إليه التكهُّن. كانت الزيادة السكانية المرتقَبة في عام ١٧۹٨ أكثرَ قابليةً للتنبؤ بها من الزيادة الأكبر التي تحقَّقتْ في موارد الغذاء؛ ليس لأن احتمالات الأولى أعلى على أيِّ نحوٍ، بل ببساطةٍ لأن اعتمادها على ابتكار المعرفة كان أقل. حينما أغفل مالتوس ذلك الفارق البنيوي بين الظاهرتين اللتين كان يحاول المقارَنةَ بينهما، انزلق إلى شَرَك التكهُّن الأعمى بدلًا من التخمين المستنير، ولقد اعتقد واهمًا مع كثيرٍ من معاصريه أنه اكتشف تفاوُتًا موضوعيًّا بين ما سمَّاه «قوة السكان» و«قوة الإنتاج»، وهو ما لم يزد عن كونه خطأً ضَيِّقَ الأفق، وهو نفس الخطأ الذي ارتكبه كلٌّ من مايكلسون ولاجرانج؛ فلقد اعتقدوا جميعًا أنهم يصوغون تنبؤاتٍ رزينةً تقوم على أفضل معرفةٍ متاحةٍ لهم، بينما كانوا في واقع الأمر يسمحون لأنفسهم أن تخدعهم حقيقةٌ حتميةٌ تتَّسِم بها الحالةُ البشرية؛ وهي «أننا لا نعرف بعدُ ما لم نكتشفه بعدُ».

لم يتكهَّن مالتوس ولا ريس عمدًا؛ إذ كانا يحذران من أنَّ اندثارنا محتومٌ ما لم نحلَّ مشكلاتٍ بعينها في الوقت المناسب. بَيْدَ أن هذا كان حقًّا على الدوام وسيظل كذلك؛ فالمشكلاتُ حتميةُ الحدوث، ولقد اندثرتْ كما قلت حضارات عديدة. وحتى قبل فجر الحضارة، انقرضَتْ كلُّ الأنواع القريبة للإنسان — كإنسان النياندرتال — إثرَ تحدياتٍ كانت ستستطيع التعايُشَ معها بسهولةٍ لو توافَرَتْ لها المعرفةُ بكيفية تحقيق ذلك. تقترح الدراسات الجينية أن نوعنا قد دنا من الانقراض قبل ٧٠ ألف سنة بفعل كارثةٍ غير معروفة، قلَّصت من تعداده تاركةً بضعة آلافٍ فقط؛ قد يبدو الضحايا في غمرة مثل تلك الكوارث وغيرها وكأنهم مجبورون على لعب الروليت الروسي. بعبارةٍ أخرى: قد «يبدو» لهم الأمرُ وكأنهم لم يملكوا خياراتٍ (ربما باستثناء الاجتهاد في التضرُّع إلى الآلهة لكي تتدخَّل) قد ترجح كفتهم في النجاة، لكن ذلك كان خطأً ضيق الأفق. هلكت الحضارات قبل مالتوس بوقتٍ طويلٍ بسبب ما اعتقدتْ أنه «كوارث طبيعية» من مجاعةٍ وقحط، بَيْدَ أن السبب الحقيقي كان ما يمكن أن نُطلِق عليه أساليبَ الزراعة والري الرديئة، أو بتعبيرٍ آخَر: نقص المعرفة.

قبل أن يتعلَّم أسلافنا كيف يُشعلون النارَ اصطناعيًّا (ومرات عديدة حتى بعد ذلك)، لا بد أنهم قد هلكوا بفعل البرد وهم راقدون على الأدوات التي كانت ستُنقذ حياتهم إذا هم أشعلوا بها نارًا؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون كيف السبيل إلى ذلك. لقد هلكوا — بتفسيرٍ ضيق الأفق — بفعل الطقس، ولكن التفسير الأعمق هو نقص المعرفة. لا بد أن الكثير من مئات الملايين من ضحايا الكوليرا عبر التاريخ قضَوْا نحبهم بالقرب من المواقد التي كان من الممكن أن تقوم بغلي مياه شُربهم وتُنجِّيهم من الهلاك، ولكنهم — مرةً ثانية — لم يعرفوا ذلك. بصفةٍ عامة، إن التمييز بين الكارثة «الطبيعية» والكارثة التي سببها الجهل تمييزٌ ضيق الأفق. إننا نرى في يومنا هذا كيف أن كل كارثةٍ طبيعيةٍ ظنَّ الناس في حينها أنها «واقعة لا محالة» أو أنها قضاءٌ قدَّرته الآلهة، قد سبقتها خيارات عدة فَشِلَ الضحايا في اللجوء إلى أيٍّ منها أو بالأحرى في ابتكارها. كل تلك الخيارات تُمثِّل الخيارَ الشاملَ الذي فشلوا في ابتكاره، وهو بناء حضارةٍ علميةٍ وتقنيةٍ مثل حضارتنا؛ أيْ تقاليد النقد والتنوير.

لو دنا كويكبٌ قطْرُه كيلومتر واحد من كوكب الأرض بحيث يصطدم به في أي وقتٍ من التاريخ البشري قبل بدايات القرن الحادي والعشرين، لَقضى على نسبةٍ هائلةٍ من البشر على أقل تقدير. إننا نحيا إذنْ في حقبةٍ آمنةٍ غير مسبوقةٍ على هذا الصعيد؛ فالقرن الحادي والعشرون هو أول لحظةٍ في التاريخ نعرف فيها كيف ندافع عن أنفسنا إزاء صداماتٍ كتلك التي تحدث مرةً كلَّ حوالي ٢٥٠ ألف سنةٍ أو نحو ذلك. قد تبدو هذه أندرَ حدوثًا من أن نكترث بها، إلا أنها تحدث عشوائيًّا. إن نسبة احتمال وقوع أحد هذه الصدامات البالغة واحد إلى ٢٥٠ ألفًا، تعني أن فرص الشخص العادي على الأرض في أن يلقى مصرعَه إثر اصطدام كويكبٍ بالأرض، تفوق احتمالات وفاته في حادث تحطُّم طائرة. إن الكويكبَ التاليَ الذي ينوي الاصطدامَ بالأرض متأهِّب بالفعل في هذه اللحظة، آخِذٌ في المسارَعةِ نحونا، ولا يَحُول دون اصطدامه بنا إلا المعرفة البشرية. وتحيق بالحضارة عدة أنواعٍ أخرى من الكوارث بمستوياتٍ مماثلةٍ من الخطورة؛ تحلُّ العصور الجليدية مثلًا بمعدلٍ أعلى من ذلك، و«العصور الجليدية الصغرى» بمعدلٍ أعلى، ويعتقد بعض علماء المناخ أنها قد تحدث بسابق إنذارٍ لا يتعدَّى أعوامًا قليلة. باستطاعة بركانٍ هائلٍ كالقابع أسفل متنزه يلوستون الوطني أن يحجب الشمس عنَّا لسنواتٍ عدةٍ في المرة الواحدة؛ لو حدث ذلك غدًا، فقد ينجو نوعنا بواسطة زراعة الغذاء باستخدام الإضاءة الاصطناعية، وستنجو الحضارة، لكنَّ أرواحًا كثيرة ستُزهق، وستبلغ المعاناة من الشدة ما يجعل أحداثًا كتلك تستحقُّ أن تُبذَل لدرئها الجهودُ الوقائية مثلها مثل خطر الانقراض تمامًا. ومع أننا لا نعلم احتمالات انتشار وباءٍ عضالٍ انتشارًا تلقائيًّا، فإننا نستطيع التخمينَ بأنها واردة بنسبةٍ عاليةٍ لا يمكن قبولها؛ فلقد بيَّنَتْ لنا الأوبئة المتفشية من قبلُ مثل الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر ما قد يحدث على مرِّ قرون. إذا حدث أيٌّ من تلك الكوارث، فلدينا الآن على الأقل فرصةٌ لابتكار المعرفة الضرورية للنجاة في الوقت المناسب.

إننا نملك فرصةً كهذه لأننا قادرون على حل المشكلات. المشكلات حتمية الحدوث، ستواجهنا دومًا مشكلةُ كيفية التخطيط للمستقبل غير المعلوم، ولن يتسنَّى لنا أبدًا أن نتكاسل ونأمل أن يحدث الأفضل، وحتى لو انتقلَتْ حضارتنا إلى الفضاء لتأمين فرصها في البقاء — وهو ما نصَحَ به كلٌّ من ريس وهوكينج على نحوٍ صحيح — فيَقدر انفجار أشعة جاما على محْوِ كلِّ أثرٍ لنا من الوجود. إنَّ حدثًا مثل هذا أندرُ آلافَ المرات من اصطدام كويكبٍ بالأرض، لكنه حينما يقع، فلن نملك حياله دفاعًا دون نموٍّ كبيرٍ في المعرفة العلمية وزيادةٍ ضخمةٍ في ثروتنا.

لكنْ سيتعيَّن علينا أولًا أن ننجوَ من العصر الجليدي القادم، وكذلك — من قبْلِه — من التغيُّرات المناخية الخطيرة الأخرى (التلقائية منها والناتجة عن سلوك الإنسان)، ومن أسلحة الدمار الشامل، ومن تفشِّي الأوبئة، وممَّا لا حصرَ له من أخطارٍ مجهولةٍ ستحيق بنا. إن مؤسساتنا السياسية، وأساليب معيشتنا، وطموحاتنا الشخصية، وأخلاقياتنا كلها صورٌ أو تجسيداتٌ للمعرفة، وسيلزم تطويرُها جميعًا لو كان للحضارة — أو للتنوير على وجه الخصوص — أن تنجوَ من كل الأخطار التي وصفها ريس، ومن غيرها التي ربما لم نُحِطْ بها علمًا.

كيف إذن؟ كيف يمكن أن نصوغ سياساتٍ لغير المعلوم؟ ومن أين نستمدُّها إن لم يكن من أفضل المعارف المتاحة، ولا من أحكام الخبرة المتحيزة كالتفاؤل أو التشاؤم الأعمى؟ لا تُستمَد السياساتُ من أي شيء، شأنها في ذلك شأن النظريات العلمية؛ إنها افتراضات، وعلينا الاختيار من بينها تبعًا، لا لأصل منشئها، ولكن لمدى جودتها باعتبارها تفسيرات؛ أي يصعب التغيير فيها.

وكما هي الحال بالنسبة إلى رفْض التجريبية ورفْض وصْف المعرفة بأنها شكل من أشكال «الاعتقاد المبرر والصحيح»، يستتبع استيعابَ أن الخطط السياسية افتراضات رفضٌ لافتراضٍ فلسفيٍّ كان من قبلُ افتراضًا مطلقًا لا جدالَ فيه. كان بوبر — مرةً أخرى — من أهم أنصار هذا الرفض؛ فكتب يقول:

دائمًا ما جرى السؤال عن … مصادر معرفتنا على نحو: «ما أفضل المصادر التي نستقي منها معرفتَنا؛ أيْ أوثقها التي لن تقودنا إلى الخطأ، والتي نستطيع اللجوء إليها — بل يتعيَّن علينا ذلك — في حالة الشك لتكون آخِرَ ما يحسم الأمور؟» إني أقترح أن نفترض — عوضًا عن هذا — أنه لا توجد مصادر مُثلَى — تمامًا كما لا يوجد حكام مثاليون — وأن كل المصادر عرضة لأنْ تقودنا إلى الخطأ في بعض الأحيان. وعلى هذا، أقترح أن نستبدل بالسؤال عن مصادر المعرفة سؤالًا مختلفًا تمامًا، هو: «كيف نستطيع أن نأمل في الكشف عن الخطأ وفي استبعاده؟»

من كتاب «معرفة بلا سلطة» (١۹٦٠)

إن صدى السؤال: «كيف نستطيع أن نأمل في الكشف عن الخطأ وفي استبعاده؟» يتردَّد في ملاحظة فاينمان التي يقول فيها: «العلم هو ما تعلَّمناه عن كيفية الامتناع عن خداع أنفسنا.» إن الإجابة عن هذا السؤال واحدة في جوهرها، سواءٌ بالنسبة إلى صناعة القرار البشرية أم بالنسبة إلى العلم؛ فهي تتطلَّب تقليدًا للنقد؛ حيث يتمُّ السعْيُ وراء تفسيراتٍ جيدة، مثل تفسيراتٍ لما وقع من خطأ، وما قد يكون أفضل، ولما للسياسات المتنوعة من تأثيراتٍ سالفة أو واردة الحدوث في المستقبل.

لكن ما فائدة التفسيرات إن لم تستطع التنبُّؤَ؛ ومن ثَمَّ يتعذَّر اختبارُها بالتجربة، كما يمكن أن تكون الحال في العلم؟ إن السؤال في الحقيقة هو: كيف يكون إحرازُ التقدُّم في الفلسفة ممكنًا؟ وهو يتحقَّق — كما ناقشتُ في الفصل الخامس — بواسطة السعي وراء تفسيراتٍ جيدة. ثَمَّةَ مفهوم خاطئ من مخلفات التجريبية يرى أن الدليل لا يمكن أن يقوم بأي دورٍ منطقيٍّ في الفلسفة. إن التقدُّمَ الموضوعي ممكن بالفعل في السياسة، كما هو ممكن في الأخلاق بوجهٍ عامٍّ وفي العلم.

ركَّزَتِ الفلسفة السياسية عادةً على مجموعةٍ من الموضوعات سمَّاها بوبر سؤالًا «لِمَن ينبغي الحكم؟» مَن الذي ينبغي أن تكون له السلطة؟ هل للملك، أم النبلاء، أم القساوسة، أم دكتاتور، أم مجموعةٍ صغيرة، أم «الشعب»، أم نوَّابه؟ ينبثق عن ذلك أسئلة مثل: «كيف يجب أن تكون تربية الملك؟» «مَن الذي ينبغي أن يكون له حقُّ الانتخاب في أي ديمقراطية؟» «كيف يمكن ضمان وعي ومسئولية الناخبين؟»

بيَّنَ بوبر كيف أن جذور هذه الشريحة من الأسئلة تكمن في نفس المفهوم الخاطئ الذي يحوي جذورَ السؤال الذي يُحدِّد التجريبية، وهو: «كيف تستنتج النظريات العلمية من البيانات الحسية؟» تسعى تلك الأسئلة إلى نظام «يستنتج» أو يبرر الاختيار الصحيح للقائد أو الحكومة من البيانات الموجودة كالملكية المتوارثة، أو رأي الأغلبية، أو الطريقة التي نال بها الحاكم تربيته، وهكذا. ينطوي التفاؤل أو التشاؤم الأعميان على نفس المفهوم الخاطئ؛ فكلاهما يتوقَّع للتقدُّم أن يتمَّ بواسطة تطبيق قاعدةٍ بسيطةٍ على المعرفة الموجودة، للاستقرار على أيُّ الإمكانات المستقبلية ينبغي تجاهُلها وأيُّها ينبغي الاعتماد عليه. يرتكب الاستقراء، والذرائعية، وحتى اللاماركية، الخطأَ ذاته؛ فكلها تتوقَّع «تقدُّمًا بلا تفسير»، تتوقَّع أن تُبتكَر المعرفةُ بالأمر، وبأخطاءٍ قليلة، وليس بواسطة عمليةٍ للتغيير والانتقاء تصنع تيارًا متواصلًا من الأخطاء وتُصحِّحها.

شكَّكَ المدافعون عن الملكية الوراثية في أن يتطوَّر أيُّ منهجٍ لانتقاء القائد بواسطة التفكير العقلاني أو الحوار بِناءً على معيارٍ ثابتٍ تلقائي. إن هذا مثالٌ على المبدأ الوقائي، وقد أتى بمفارقاتٍ معتادة؛ فمثلًا حينما كان يزعم المطالبون زيفًا بالعرش في أنفسهم أحقيةً وراثيةً أقوى ممَّا يملك الجالس عليه، كانوا بهذا يستشهدون بالمبدأ الوقائي باعتباره تبريرًا لتغييرٍ مفاجئٍ وعنيفٍ وغير متوقَّع. بعبارة أخرى: تبريرًا للتفاؤل الأعمى. ينطبق نفس الوصف على الملوك حينما يُفضِّلون بأنفسهم التغييرَ الجذري. وَلْنتأمَّلْ أيضًا المثاليِّيِن الثوريِّيِن، الذين لا يُحقِّقون شيئًا في العادة سوى الدمار والكساد؛ فمع أن تفاؤلهم أعمى، فإن تشاؤمهم هو ما يُحدِّد هويتهم المثالية؛ إذ يظنون أن مدينتهم الفاضلة المزعومة — أو مساعيَهم العنيفة لتحقيقها وترسيخها — لا يمكن أبدًا أن يوجد ما هو أفضل منها؛ وعلاوةً على ذلك، فهم ثوريون في المقام الأول بسبب تشاؤمهم وعدم إيمانهم بأن من الناس الكثير ممَّن سيقتنع بالحقيقة النهائية التي يعتقدون أنهم على علمٍ بها.

للأفكار عواقب، وتناوُلُ الفلسفة السياسية من منظورِ «لِمَن ينبغي الحكم؟» ليس خطأَ تحليلٍ أكاديميٍّ فحسب؛ فلقد كان جزءًا من كل مذهبٍ سياسيٍّ سيئٍ في التاريخ بالفعل. لو نُظِر إلى العملية السياسية باعتبارها أداةً لتولية الحكام المناسبين مقاليدَ السلطة لكانت مبررًا للعنف؛ إذ لن يتمتع أيُّ حاكمٍ بالشرعية إلا حين ينصِّب هذا النظامَ الصحيح في مكانه، وبمجرد أن يحدث ذلك ويتقلَّد الحكمَ الحكامُ الذين يمليهم هذا النظامُ، تصبح أيُّ معارضةٍ لهم بمنزلة معارضةٍ للحق؛ حينئذٍ تصبح المشكلة هي كيفيةَ التخلُّصِ من أي مناهضٍ للحكام أو لسياساتهم. وبالمنطق ذاته، يستنتج كلُّ مَن يعتقد في فساد الحكام الموجودين أو السياسات الحالية أنَّ الإجابةَ عن السؤال «لِمَن ينبغي الحكم؟» كانت إجابةً خاطئة؛ وعلى هذا، فالحكام متولُّو السلطة ليسوا شرعيين، وإن معارضتهم شرعية، ويمكن أن تكون بالقوة لو لزم الأمر. نرى في هذا الإطار كيف أن ذلك السؤال في حد ذاته يستتبع إجاباتٍ استبداديةً وعنيفة، وكثيرًا ما حدث هذا. إنه يدفع مَن في السلطة نحو الطغيان، كما يدفع إلى ترسيخ الحكام الفاسدين والسياسات الفاسدة؛ وهو يؤدِّي بمعارضيهم إلى التدمير العنيف والثورة.

عادةً ما يظن مؤيدو العنفِ أنه لا ضرورةَ لوقوع كل ذلك لو اتفق الجميعُ وحسب على مَن يجب أن يحكم، لكنَّ ذلك معناه الاتفاق على ما هو صحيح، وهو ما لو تحقَّقَ لما بات هناك عملٌ للحكَّام لينجزوه. وهذا الاتفاق — على أي حال — غيرُ ممكنٍ ولا مرغوب؛ فالناس مختلفون، ولكلٍّ أفكارُه المتفردة، كما أن المشكلات حتمية الحدوث، ولبُّ التقدُّمِ هو حلُّها.

ولهذا يطبِّق بوبر تساؤلَه الأساسي «كيف يمكن أن نكتشف الأخطاءَ ونستبعدها؟» على الفلسفة السياسية في صورة: «كيف نتخلَّص من الحكومات السيئة بلا عنفٍ؟» فتمامًا كما يسعى العلمُ نحو تفسيراتٍ قابلةٍ للاختبار تجريبيًّا، على النظام السياسي الرشيد أن ييسِّر بقدر الإمكان اكتشافَ الحاكم السيئ أو السياسة السيئة، وإقناع الآخرين بهذا الاكتشاف، وعزْل أولئك من دون عنفٍ لو كانوا كذلك. وكما تُبنَى مؤسساتُ العلم بناءً يتجنَّب تحصين النظريات، بل يضعها أيضًا تحت مجهر النقد والاختبار، يتعيَّن على المؤسسات السياسية ألَّا تعسر معارضة الحكام والسياسات بلا عنفٍ، وأن تُجسِّد ثقافةَ الحوار النقدي السلمي حولها، وحول كل شيء؛ وبهذا ينبغي ألَّا يُحكَم على نُظُم الحكم من منظور قدرتها التكهُّنية على اختيار وتحصين الحكام الصالحين والسياسات الجيدة، بل على قدرتها على التخلُّص من الحكام الفاسدين والسياسات السيئة الموجودين بالفعل.

ذلك الموقف تطبيق عملي لمذهب اللامعصومية؛ إذ «يفترض» أن الصواب سيُجانب الحكامَ والسياساتِ دومًا؛ أيْ إن المشكلات حتميةُ الحدوث، لكنه يفترض أيضًا أن التغلُّبَ عليهم أمرٌ ممكن؛ فالمشكلات قابلة للحل. لا يسعى هذا الموقف نحو الاعتقاد بأن خطأً غيرَ متوقَّعٍ لن يحدث؛ بل الاعتقاد بأنه إنْ حدث فسيكون فرصةً لإحراز المزيد من التقدُّم.

لماذا قد يرغب أيُّ شخصٍ في جعْل حكَّامه وسياساته المفضلين أكثر عرضةً للاستبعاد والعزل؟ بل دَعْني أسأل أولًا: لماذا قد يرغب أي شخصٍ في استبدال الحكام الفاسدين والسياسات السيئة بالمرة؟ قد يبدو هذا تساؤلًا عبثيًّا، لكن ربما يبدو كذلك فقط من منظور حضارةٍ ترى التقدُّمَ أمرًا مسلَّمًا به؛ فإذا كنَّا لا نتطلَّع إلى التقدُّم، فلماذا نتوقَّع أن يكون الحاكم الجديد أو السياسة الجديدة، أيًّا كانت الطريقة المختار بها، أفضلَ مِن سابقيه؟ على العكس، علينا أن نتوقَّع حينها ألَّا يزيد نفع أي تغييراتٍ في المتوسط عن ضررها؛ وينصحنا المبدأ الوقائي عندئذٍ بأن: «شرٌّ معروفٌّ خير من شرٍّ مجهول.» ثَمَّةَ دائرة فكرية مفرغة هنا؛ فعلى فرض أن المعرفة لن تنمو، يكون المبدأ الوقائي على صواب، وعلى فرض أن المبدأ الوقائي على صواب، لا يسعنا السماح للمعرفة بالنمو. سيناضل المجتمع لتحصين سياساته ومؤسساته الحالية ضد التغيير ما لم يتطلَّع لأنْ تكون اختياراته المستقبلية أفضلَ من نظيراتها الحالية؛ وعلى هذا، لا يقدر على استيفاء المعيار الذي حدَّده بوبر سوى المجتمعات التي تتوقَّع لمعرفتها أن تنمو — نموًّا غير متوقَّع — والتي تتوقَّع أن يكون هذا النمو — إذا حدث — مفيدًا لها.

هذا التوقُّع هو ما أُسمِّيه أنا تفاؤلًا، وأستطيع أن أصوغه — في أعمِّ صوره — على النحو التالي:

مبدأ التفاؤل

نقْص المعرفة أصل كل الشرور

إن التفاؤل — في المقام الأول — أسلوب لتفسير الفشل، لا للتكهُّن بالنجاح؛ فهو يرى أنه ما من حاجزٍ، ولا قانون طبيعة، ولا حكمٍ لقوًى خارقةٍ يحجب التقدُّمَ، ومتى حاولنا تقويمَ أمورٍ وفشَلْنا، لا يُعْزَ ذلك إلى أنَّ آلهةً ناقمةً (أو خيِّرة على نحوٍ يفوق إدراكنا) تعوقنا أو تُعاقبنا على المحاولة، أو لأننا وصلنا إلى أقصى حدود قدرة العقل على التطوير، أو لأنَّ من الأفضل أن نفشل، وإنما يُعزَى ذلك الفشل دائمًا إلى أننا لم نملك حينئذٍ المعرفةَ الكافية. غير أن التفاؤل هو كذلك موقفٌ من المستقبل؛ إذ إن كلَّ فشلٍ وكل نجاحٍ تقريبًا لم يأتِ بعدُ.

يأتي التفاؤل من قابلية العالم المادي للتفسير، وذلك كما أوضحتُ في الفصل الثالث. لا يمنع أمرًا تسمح به قوانين الفيزياء من أن يكون ممكنًا تقنيًّا إلا عدمُ المعرفة بكيفية تحقيق ذلك. يفترض التفاؤل أيضًا أن المحاذير التي تفرضها قوانينُ الفيزياء ليسَتْ شرورًا بالضرورة؛ فالنقص في المعرفة التكهُّنية المستحيلة مثلًا ليس بعائقٍ منيعٍ يعوق التقدُّمَ، لا هو ولا المشكلات الرياضية غير القابلة للحل، وذلك كما شرحتُ في الفصل الثامن.

يعني ما سبق أنه لن يكون هناك ما يستحيل تذليلُه من شرورٍ على المدى البعيد، أما على المدى القريب فما يوجد منها ليس إلا شرورًا ضيقة الأفق. لا يمكن أن يوجد شيء كمرضٍ يستحيل اكتشافُ علاجٍ له باستثناء أنواعٍ معينةٍ من تلف المخ التي تبدَّدَتْ فيها المعرفةُ المكونة لشخصية المريض. إن الشخص المريض هو في واقع الأمر شيء مادي، ومهمة تحويل هذا الشيء إلى الشخص نفسه في صحةٍ جيدةٍ مهمةٌ لا يحظر تنفيذَها أيُّ قانونٍ فيزيائي؛ ومن ثَمَّ توجد طريقةٌ لتحقيق ذلك التحوُّل؛ أيِ العلاج. كلُّ ما علينا فعله هو اكتشاف الكيفية. إذا كنَّا لا نعلم — في اللحظة الراهنة — كيف نقضي على شرٍّ بعينه، أو نعلم نظريًّا ولكنْ لا يتوافر لنا القدرُ الكافي من الوقت أو الموارد (كالثروة مثلًا)، تكون الحقيقة العمومية — مع هذا — إما أن قوانين الفيزياء تمنع القضاءَ عليه في زمنٍ محدَّدٍ بالموارد المتاحة، وإما أنَّ ثَمَّةَ طريقةً للقضاء عليه في ذاك الزمن وبواسطة تلك الموارد.

ولا بد أن يصحَّ القولُ نفسه — بنفس البساطة — على شر الموت؛ أيْ هلاك البشر من جرَّاء المرض أو الشيخوخة. إنَّ لمشكلة الموت صدًى هائلًا في سائر الثقافات؛ في آدابها، وفي قِيَمها، وفي أهدافها ما عظم منها وما صغر، كما أنَّ لها سمعةً لا تُضاهَى باعتبارها مشكلةً لا يمكن حلُّها (إلا فيما بين المؤمنين بالقوى الخارقة)؛ إذ يُنظَر إليها باعتبارها النموذجَ المطلقَ للعقبات المستحيلة التذليل، لكن لا يوجد أساسٌ عقلانيٌّ يعلِّل تلك السمعة. من عبثِ ضِيقِ الأفق أن نقرن أيَّ معنًى عميقٍ بهذا الفشل خصوصًا من بين كل حالات فشل المحيط الحيوي في دعم الحياة البشرية، أو تلك الخاصة بالطب على مرِّ العصور في علاج الشيخوخة. تندرج مشكلة الشيخوخة تحت نفس نوع مشكلات المرض العام، ومع أنها مشكلة معقدة بمقاييس العصر الحالي، فإن تعقيدها متناهٍ ومحدَّدٌ في نطاقٍ ضيقٍ نسبيًّا قد تمَّ إلى حدٍّ كبيرٍ فهْمُ مبادئها الأساسية، وفي الوقت نفسه تتضاعف المعرفةُ في المجالات ذات الصلة بها.

وأحيانًا يُنظَر إلى «الخلود» (في هذا السياق) باعتباره مكروهًا؛ إذ ينشب مثلًا الجدالُ إزاء تفاقُم الزيادة السكانية، إلا أنه مثالٌ على مغالطة مالتوس التكهُّنية؛ فمن السهل حسابُ احتياجات كل ناجٍ من الشيخوخة ليحيا طبقًا لمستوى المعيشة في يومنا هذا، لكنْ لا سبيلَ إلى توقُّع المعرفةِ التي سيتقدَّم بها هذا الناجي ليُسهم في حلِّ المشكلات الناتجة عن نجاته. يبرز الجدال كذلك حول الهجوم على المجتمع لاتجاهه إلى الإبقاء على كبار السن في مراكز السلطة، لكن تقاليد النقد السارية في مجتمعنا متمرِّسة في حلِّ هذا النوع من المشكلات، حتى إنه من الشائع اليومَ في بلدان الغرب أن يتمَّ تنحيةُ الساسة ذوي النفوذ والمديرين التنفيذيين من مناصبهم وهم لا يزالون في صحةٍ جيدة.

ثَمَّةَ قصة مأثورة عن التفاؤل تجري أحداثها كما يلي: بطلُ القصة سجينٌ حَكَمَ عليه بالإعدام ملكٌ طاغية، لكنه حظي بمهلةٍ قبل تنفيذ الحكم إثرَ وعدِه بأنْ يعلِّمَ حصانَ الملك المفضَّل الكلامَ في غضون عام، فسأله ليلتَها سجينٌ آخَر عمَّا حلَّ بعقله ليعقد صفقةً كتلك، فأجاب بطلنا: «ما أكثر ما قد يحدث في غضون عام؛ لعل الحصان ينفق، أو يقضي الملك نحبه، أو أموت أنا، أو ينطق الحصان!» لقد تفهَّمَ السجينُ — مع أن مشاكِلَه المباشِرة تكمن في قضبان السجن والملك وحصانه — أنه في نهاية المطاف يواجه شرًّا سببُه نقصُ المعرفة، وهذا هو ما يجعله متفائلًا؛ فهو يعلم أنه لو كان للتقدُّم أن يحدث، فلا بد أن بعض الفرص وبعض الاكتشافات لن يمكن تصوُّرها مقدَّمًا. يستحيل تحقيقُ التقدُّم دون انفتاحٍ واستعدادٍ لإمكاناتٍ لا يمكن تصوُّرها. قد يكتشف السجينُ طريقةً يُعلِّم بها الحصانَ النطقَ، وقد لا يفعل، لكن ربما يكتشف شيئًا آخَر، وربما يُقنِع الملكَ بإبطال القانون الذي خرقه فاستحَقَّ القتل، أو ربما يتعلَّم خدعةً سحريةً مُقنِعةً يبدو بها الحصانُ وكأنَّه يتكلَّم، أو قد يهرب، أو يتفتق ذهنه عن مهمةٍ ممكنةٍ قد تسرُّ الملكَ أكثر من تعليم الحصان النُّطق. إن قائمة الإمكانيات لا متناهية، وحتى إنْ بَدَتْ كلُّ إمكانية فيها بعيدةَ الاحتمال، لا يلزم إلا أن تتحقَّق واحدةٌ منها فقط لتحلَّ المشكلة بأسرها. أما لو كان سجيننا ينوي الهربَ بواسطة ابتكار فكرةٍ جديدة، فليس بمقدوره أن يكون عالِمًا بها اليومَ؛ لذا لا يسعه أن يَدَع الافتراضَ بأن تلك الفكرة لن توجد أبدًا يتحكَّم في خططه.

تكمن في التفاؤل كلُّ الظروف الأخرى الضرورية لنمو المعرفة، ولاستمرار الحضارات المبتكرة للمعرفة؛ ومن ثَمَّ لبداية اللانهاية. إنَّ من واجبنا — كما يقول بوبر — أن نكون متفائلين، سواءٌ أكان ذلك بصفةٍ عامة، أم حيال الحضارة بصفةٍ خاصة. قد يذهب المرء إلى أن إنقاذ الحضارة سيكون مهمةً عسيرة. لا يعني ذلك أن احتمال حلِّ المشكلات المرتبطة بالأمر سيكون ضعيفًا. إنَّ قولنا بأن حل مسألةٍ رياضيةٍ ما عسيرٌ لا يعني أن احتمال حلها «ليس قائمًا». تُحدِّد عواملُ عدة أيُّ المسائل سيعكف الرياضيون على محاولات حلها، وبأيِّ قدر من الجهد. إذا لم تكن المسألة السهلة شائقةً أو نافعة، فقد تُترَك بلا حلٍّ إلى الأبد، فيما تُحَلُّ المسائلُ العسيرة طوالَ الوقت.

عادةً ما تكون صعوبةُ المشكلة أحدَ العوامل التي تؤدِّي إلى حلها؛ لذا قال الرئيس جون إف كينيدي في عام ١۹٦٢ في مثالٍ شهيرٍ على التعامُل المتفائل مع المجهول: «إننا نختار أن نسافر إلى القمر. إننا نختار أن نسافر إلى القمر في هذا العقد، وأن نفعل أشياءَ أخرى، ليس لسهولتها وإنما لصعوبتها.» لم يكن كينيدي يقصد أن مشروع السفر إلى القمر — نظرًا لصعوبته — غيرُ محتملٍ نجاحُه؛ على العكس، لقد آمَنَ بأنه سينجح، كان ما يقصده بالمهمة الصعبة هو المهمة التي تعتمد على مواجهة المجهول، وكانت الحقيقة البديهية التي يركن إليها أن الصعوبة وإنْ كانت دائمًا عاملًا مثبطًا وسلبيًّا حال الاختيار بين وسائل تحقيق هدف معين، فإنها عامل إيجابي عند اختيار الهدف ذاته؛ لأننا نتوق إلى الانشغال بمشروعاتٍ من شأنها خلق معرفةٍ جديدة. إن المتفائل يتوقَّع أن يؤدِّيَ ابتكارُ المعرفة إلى التقدُّم، بما في ذلك عواقبه غير المنظورة.

وبِناءً على ذلك، أشار كينيدي إلى كيف أن مشروع السفر إلى القمر سيتطلب مركبةً «تُصنَع من سبائكَ معدنيةٍ جديدةٍ بعضُها لم يُخترَع بعدُ، تكون قادرةً على تحمُّل حرارةٍ وضغطٍ لم يُخبَر مثلهما قطُّ، وأن تجمع بدقةٍ أفضل من أدق ساعة يد، حاملةً كلَّ المعدات اللازمة للتسيير والاسترشاد والتحكُّم وإجراء الاتصالات والمؤن والنجاة.» كانت تلك هي المشكلات المعروفة، وقد تطلَّبَ حلُّها معرفةً كانت عندئذٍ غيرَ متوافرةٍ بعدُ. كان في عبارة «في مهمةٍ غير مسبوقةٍ إلى جِرْمٍ سماويٍّ مجهول» إشارةٌ إلى المشكلات المجهولة التي جعلَتِ الاحتمالاتِ والنتائجَ غيرَ ممكنٍ حسابُها على الإطلاق، غير أن أيًّا من ذلك لم يمنع العقلانيين من توقُّع إمكانية نجاح المهمة. لم يكن هذا التوقُّع بمنزلة تقدير الاحتمالات؛ إذ إن أحدًا لم يستطع التنبُّؤَ بذلك حتى وصل المشروعُ إلى مرحلةٍ متقدِّمة؛ لأنه كان يعتمد على حلولٍ غير مكتشفةٍ لمشكلاتٍ غير معروفةٍ بعدُ. حينما كانت تُجرَى مساعي إقناع الناس بالعمل في المشروع — والتصويت له — وما إلى ذلك، كان يتمُّ إقناعهم أنَّ التزامنا بكوكبٍ واحدٍ لَهو شر، وأنَّ من الخير استكشافَ الكون، وأن مجالَ جاذبية الأرض ليس بعائقٍ وإنما مشكلة فحسب، وأن حلَّها وحلَّ كلِّ ما يتعلَّق بالمشروع من مشكلاتٍ مسألةُ توصُّلٍ إلى كيفية الحل، وأن طبيعةَ تلك المشكلات تجعل من اللحظة الآنيَّة أنسبَ وقتٍ لحلها. لم تكن هناك حاجة إلى الاحتمالات ولا التكهُّنات في ذلك النقاش.

لطالما انتشَرَ التشاؤمُ في كل مجتمعٍ تقريبًا على مرِّ التاريخ؛ فلقد تمثَّلَ في المبدأ الوقائي، وفي الفلسفة السياسية «لِمَن ينبغي الحكم؟» وفي كل صور المطالبة بالتكهُّن، والقنوط من القدرة على الإبداع، وتفسير المشكلات تفسيرًا خاطئًا على أنها عوائق لا يمكن تخطِّيها؛ ولكن كانت توجد دائمًا قلة قليلة تنظر إلى العوائق باعتبارها مشكلاتٍ، والمشكلات باعتبارها قابلةً للحل، وبهذا تكرر وجود أماكنَ ولحظاتٍ بعينها شهد فيها التشاؤمُ نهايةً مؤقتة. صحيح أنه لم يدرس أيُّ مؤرخ — بقدر علمي — تاريخَ التفاؤل، لكني أُخمِّن أنه كلَّما ظهر في حضارة صاحبه عصر تنويرٍ مصغَّر؛ أيْ تقليد نقد، نتج عنه ازدهارٌ في العديد من أنماط التقدُّم البشري المألوفة لنا كالفنون، والآداب، والفلسفة، والعلم، والتكنولوجيا، ومؤسسات المجتمع المنفتح. إن نهاية التشاؤم هي غالبًا بداية لِلَّانهاية، غير أنني أُخمِّن كذلك أنه في كل مرةٍ — باستثناءٍ وحيدٍ هائلٍ (حتى الآن) هو عصر تنويرنا الحالي — انتهَتْ حالةُ التفاؤل واستعاد التشاؤم ملكه لزمام الأمور.

لعل أشهرَ عصرِ تنويرٍ صغيرٍ هو تقليد النقد الفكري والسياسي الذي ساد في اليونان القديمة، والذي بلغ أوجَهُ إبَّان ما يُسمَّى «العصر الذهبي» للمدينة الدولة أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. كانت أثينا من أوائل مَن طبَّقوا نظام الحكم الديمقراطي، وكانت موطنًا لعددٍ مدهشٍ من الأشخاص هم حتى يومنا هذا بمنزلة أهم الرموز في تاريخ الفكر، كالفلاسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، والكُتَّاب المسرحيين أسخيلوس وأرسطوفانيس ويوربيديس وسوفوكليس، والمؤرخين هيرودوت وثوسيديديس وزينوفون. كان التقليد الفلسفي الأثيني استمرارًا لتقليدٍ نقديٍّ منذ عهد طاليس الملطي الذي سبق ذلك بما يزيد على قرنٍ من الزمان، والذي كان من بين فلاسفته زينوفانيس من كولوفون (٥٧٠–٤٨٠ قبل الميلاد) الذي كان أول مَن شكَّكَ في النظريات البشرية التمركُز التي دارت حول الآلهة. اكتسبت أثينا ثروةً كبيرةً بفضل التجارة، واجتذبَتِ المبدعين من أرجاء العالم المعروف، وباتَتْ إحدى أقوى القوى العسكرية في عصرها، وشيَّدتْ بناءً يُنظَر إليه حتى اليوم باعتباره واحدًا من أعظم الإنجازات المعمارية على مرِّ الزمان وهو البارثينون. ولما بلغ العصر الذهبي أوْجَه، حاوَلَ القائد الأثيني بريكليس أن يفسِّر سرَّ نجاحِ أثينا، ومع أنه قد اعتقد بلا شكٍّ أن الإلهة الراعية للمدينة — الإلهة أثينا — تساندهم، فقد كان من الجلي أنه لم يَرَ التفسيرَ «هذا من فعل الإلهة» تفسيرًا وافيًا لنجاح الأثينيين؛ لقد قدَّمَ بدلًا من ذلك قائمةً بسماتٍ معيَّنةٍ تختصُّ بها الحضارةُ الأثينية، ولا نعلم بدقةٍ أيٌّ ممَّا ذُكِر بالضبط كان محضَ إطراءٍ أو أمنيات، لكن من الضروري — عند تقييم تفاؤل حضارةٍ ما — أن يكون ما تتطلَّع تلك الحضارةُ لأنْ تكون عليه أهمَّ ممَّا نجحَتْ حقًّا في تحقيقه من حال.

كانت أول سمةٍ تطرَّقَ إليها بريكليس هي ديمقراطية أثينا، وفسَّرَ سببها، الذي لم يكن أن «الشعب هو مَن يجب أن يحكم»، وإنما أن الديمقراطية تشجِّع على «الفعل الحكيم»؛ فهي تحثُّ على النقاش المتواصل، وهو الظرف اللازم لاكتشاف الإجابة الصحيحة، التي هي بدورها ظرفٌ ضروريٌّ لإحراز التقدُّم:

إننا لا ننظر إلى النقاش باعتباره عقبةً في طريق الفعل، وإنما باعتباره تمهيدًا لا غنى عنه لأيِّ فعلٍ حكيم.

بريكليس، «خطبة الجنازة»،
عام ٤٣١ قبل الميلاد تقريبًا
كما أشار إلى سمة «الحرية» باعتبارها أحد أسباب النجاح. إن ممارسة الأساليب غير المجرَّبة مرارًا من قَبْلُ عملٌ تراه الحضارةُ المتشائمة غيرَ أخلاقي؛ لأنها تعمى عن إمكانية تعويض فوائد القيام بذلك لمخاطره، فتكون بهذا متحجِّرةَ الفكر ومتزمِّتة. لكن أثينا سلكت المنهجَ المعاكس. قارَنَ بريكليس كذلك بين انفتاحِ مدينته للزائرين الأجانب والموقف الدفاعي المنغلق للمدن المنافسة؛ إذ كان يتوقَّع لأثينا أن تستفيد من التواصُل مع الأفكار الجديدة غير المتوَّقعة، حتى إنْ أتاحَتْ هذه السياسة — كما اعترف — منفذًا يتسلَّل منه جواسيسُ الأعداء للمدينة أيضًا. يبدو حتى أنه رأى أن معاملة الأطفال برفقٍ هي مصدر للقوة العسكرية:

في التربية، يسعى منافسونا إلى الرجولة منذ المهد بالتنشئة القاسية، بينما نعيش نحن في أثينا كما يطيب لنا، ونبقى مع ذلك على قدم السواء في استعدادنا لمواجهة كلِّ خطرٍ ممكن.

تزهو الحضارة المتشائمة بالتزام أطفالها بأنماط السلوك الملتزمة وتشجب كلَّ تجديد، حقيقيًّا كان أم خياليًّا.

كانت إسبرطة نقيضًا تامًّا لأثينا على كافة الأصعدة السابقة، ولكونها نموذجًا للحضارة المتشائمة فقد اشتُهرت بأسلوب حياة مواطنيها «الإسبرطي» الصارم، وبقسوة نظامها التربوي، وإضفاء الطابع العسكري على مجتمعها بالكامل. كان كلُّ رجلٍ إسبرطي جنديًّا بدوامٍ كاملٍ تجب عليه الطاعة المطلقة لرؤسائه، الملتزمين بدورهم باتباع التقاليد الدينية، وكان العبيدُ يقومون بكلِّ ما عدا ذلك من أعمال؛ لقد قلَّصت إسبرطة شأنَ مجتمعٍ مجاورٍ بأسره — هم الميسينيون — إلى مرتبة العبيد. لم يكن في إسبرطة فلاسفة ولا مؤرخون ولا فنَّانون ولا معماريون ولا كُتَّاب، ولا أي أناسٍ مبتكرين للمعرفة من أي نوعٍ باستثناء بعض أصحاب المواهب من العوام؛ وبهذا كُرِّسَتْ جهودُ المجتمع بأسره تقريبًا للحفاظ على نفسه في الحالة التي كان عليها، أو بعبارة أخرى: لمنع أي تطوُّر. في عام ٤٠٤ قبل الميلاد، وبعد خطبة الجنازة التي ألقاها بريكليس بسبعةٍ وعشرين عامًا، هزمت إسبرطة أثينا هزيمةً ساحقةً في حربٍ بينهما، وفرضت حكمًا استبداديًّا عليها، وسرعان ما استعادَتْ أثينا استقلالها وديمقراطيتها — عن طريق تقلُّبات السياسة الدولية — وواصلَتْ إنتاجَها للفن والأدب والفلسفة لأجيالٍ عدةٍ تلَتْ، إلا أنها لم تَعُدْ قطُّ إلى حالتها الأولى باعتبارها حاضنةً للتقدُّم السريع اللامتناهي. لم تَعُدْ أثينا مميَّزة، لماذا؟ أعتقد لأن تفاؤلها قد اختفى.

ومن نماذج عصور التنوير القصيرة ما حدث في المدينة الدولة فلورنسا الإيطالية في القرن الرابع عشر. كانت تلك هي بدايات عصر النهضة، وهي حركة ثقافية أنعشَتْ آدابَ اليونان وروما القديمة وفنونهم وعلومهم بعد أكثر من ألف عام من الركود الفكري في أوروبا. أصبح العصرُ عصرَ تنويرٍ حينما بدأ الفلورنسيون في الاعتقاد بأنهم قادرون على تطوير تلك المعارف القديمة. تلك الحقبة المتميِّزة بالابتكار المذهل التي عُرِفت بالعصر الذهبي لفلورنسا كانت برعاية آل ميديتشي — حكَّام المدينة الفعليين آنذاك — وبخاصةٍ لورنزو دي ميديتشي المعروف ﺑ «لورنزو الرائع»، الذي حكم فلورنسا من عام ١٤٦۹ حتى عام ١٤۹٢. على خلاف بريكليس، لم يكن آل ميديتشي من المتحمسين للديمقراطية؛ إذ لم يبدأ تنويرُ فلورنسا في السياسة وإنما في الفن، ثم الفلسفة، والعلم والتكنولوجيا، واتَّسَمَتْ في تلك المجالات بنفس الترحاب بالنقد والرغبة في الابتكار في كلٍّ من الفكر والفعل. تحرَّرَ الفنانون من قيد الالتزام بالموضوعات والأساليب التقليدية، فصوَّروا ما رأوه جميلًا وابتكروا أساليبَ جديدةً، وتبارى أغنياء فلورنسا، بتشجيعٍ من آل ميديتشي، في رعاية إبداعات الفنَّانين والعلماء من أمثال ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وبوتيتشيلي. كانت فلورنسا في ذلك الوقت أيضًا وطنًا لأول فيلسوفٍ سياسيٍّ علمانيٍّ في التاريخ هو نيكولو مكيافيلي.

وسرعان ما روَّجَ آل ميديتشي لفلسفةٍ جديدةٍ هي «الإنسانية»، التي أعْلَتْ من قيمة المعرفة مقابل العقيدة، ومن قيمة فضائلَ كالاستقلال الفكري، والفضول، والذوق الرفيع والصداقة مقابل التديُّن والقنوت، وأرسلوا أشخاصًا إلى أرجاء العالم المعروف لاستقدام نُسَخٍ من الكتب القديمة، التي لم يَعُدْ يُرَى كثيرٌ منها في الغرب منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية. نسخت مكتبةُ آل ميديتشي الكتبَ ووفَّرَتْها للدارسين في فلورنسا وفي كل مكان، وأصبحت فلورنسا منهلًا للأفكار؛ ما بُعِث منها بعدَ جمودٍ، وما فُسِّر تفسيرًا جديدًا، وما استجدَّ بالكامل.

غير أن ذلك التقدُّمَ السريع لم يَدُمْ إلا لجيلٍ واحدٍ أو نحو ذلك؛ إذ بدأ راهبٌ ذو شعبيةٍ كبيرةٍ يُدعَى جيرولامو سافونارولا يُلقي العظاتِ المتنبئةَ بخراب العالم والمناهِضة للفلسفة الإنسانية وكلِّ ركيزةٍ من ركائز التنوير الفلورنسي، ولقد تنبَّأ بهلاك فلورنسا إذا استمرَّتْ في طريقها الذي اتخذته، مُلِحًّا على ضرورةِ العودة إلى الْتزامِ ثوابتِ القرون الوسطى وإلى نكران الذات. اقتنع كثيرٌ من المواطنين بادِّعاءاته، وفي عام ١٤۹٤ استطاع سافونارولا أن يتولَّى السلطة؛ فأعاد فرْضَ كافةِ القيود التقليدية على الفن، والأدب، والفكر، والسلوك، ومُنِعت الموسيقى العلمانية، واقتصر الملبس على العادي والبسيط، وأصبح الصوم المتكرر إجباريًّا، وحُظِر كلٌّ من الشذوذ والدعارة حظرًا عنيفًا، وطُرِد يهود فلورنسا خارجها، وطافت بالمدينة جماعاتٌ وحشية بإيعازٍ من سافونارولا باحثةً عن أي أغراضٍ محظورةٍ كالمرايا، ومستحضرات التجميل، والآلات الموسيقية، والكتب العلمانية، وكل شيء جميل تقريبًا؛ أُحرِقت كومةٌ هائلة من مثل تلك الكنوز في احتفاليةٍ سُمِّيتْ زيفًا «محرقة الباطل» أُقِيمتْ في قلب المدينة. يقال إن بوتيتشيلي ألقى ببعض لوحاته بنفسه في نيران المحرقة. كانت تلك المحرقة محرقةَ التفاؤل.

ومع الوقت، تمَّ التخلُّصُ من سافونارولا نفسِه وأُعدِم حرقًا على العمود، ومع أن آل ميديتشي استعادوا السيطرةَ على فلورنسا، فإن التفاؤل لم يَعُدْ إلى سابق عهده. وكما حدث في أثينا، استمرَّت تقاليدُ الفن والعلم لفترةٍ، حتى إن جاليليو قد ظهر بعد قرنٍ ورعاه آل ميديتشي (على الرغم من أنهم تخلَّوْا عنه بعد ذلك)، لكن بحلول ذلك الوقت كانت فلورنسا مجرد مدينةٍ دولةٍ في عصر النهضة تترنَّح بين الأزمات تحت حكم الطغاة، ولحسن الطالع، لم ينطفِئ ذلك التنوير الصغير تمامًا، وإنما بقي متأجِّجًا في فلورنسا وعدة مدنٍ دولٍ إيطاليةٍ غيرها، إلى أن أنار شعلةَ عصرِ التنوير الحقيقي في شمال أوروبا.

ربما شهد التاريخُ عصورَ تنويرٍ كُثُرًا أقصر عمرًا وأخفت سطوعًا من تلك التي ذكرناها، ربما في ثقافاتٍ فرعيةٍ أو عائلاتٍ أو أفرادٍ أقل شهرةً. على سبيل المثال: عُرِف عن الفيلسوف روجر بيكون (١٢١٤–١٢۹٤) نَبْذُه للأفكار الجامدة وتأييدُه للملاحظة باعتبارها وسيلةً لاكتشاف الحقيقة (وإنْ كان ﺑ «الاستقراء»)، وتوصُّلُه إلى عدة اكتشافاتٍ علمية. تنبَّأ بيكون كذلك باختراع المجاهر والتلسكوبات، والمركبات الذاتية الدفع والآلات الطائرة، وأنَّ الرياضيات ستكون مفتاحَ الاكتشافات العلمية في المستقبل. كان بذلك متفائلًا، لكنه لم يكن جزءًا من أي تقليد نقد، فمات تفاؤلُه بموته.

درس بيكون أعمالَ العلماء اليونانيين القدماء، بالإضافة إلى أعمال علماء «العصر الذهبي للحضارة الإسلامية» مثل الحسن بن الهيثم (۹٦٥–١٠٣۹) الذي قدَّمَ عدةَ اكتشافاتٍ أصليةٍ في الفيزياء والرياضيات. شاع أثناء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (ما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلاديين على وجه التقريب) تقليدٌ معرفيٌّ قدَّرَ العلومَ والفلسفةَ الأوروبيةَ القديمةَ واستفاد منها. لم يقطع المؤرخون بعدُ ما إذا كان تقليدٌ للنقد في العلم والفلسفة قد ساد آنذاك أيضًا، لكنه حتى لو وُجِد لَكان أُخمِدَ كالباقين.

ربما «حاول» التنوير أن يحدث مراتٍ لا تُحصَى، وربما ترجع محاولاته إلى ما قبل التاريخ، وفي هذه الحالة تضع تلك التنويرات الصغرى كلَّ حوادث «النجاة بضربة حظٍّ» الأخيرة في موقفٍ لا تُحسَد عليه؛ ربما كان الأمرُ أن التقدُّمَ قد حدث حقًّا في كل مرة — نهاية وجيزة للركود، وومضة وجيزة تشي باللانهاية، ثم تنتهي كلتاهما نهايةً مأساويةً، وتُخمَد دائمًا دون أن تخلف عادةً أثرًا؛ إلا هذه المرة.

قد نسامح مواطني فلورنسا عام ١٤۹٤، أو مواطني أثينا عام ٤٠٤ قبل الميلاد، على ما انتهَوْا إليه حول التفاؤل من أنه ليس بحقيقةٍ واقعة؛ فهم لم يعرفوا أيَّ شيءٍ من أمورٍ كمدى التفسيرات أو قوة العلم أو حتى قوانين الطبيعة كما نفهمها اليومَ، دَعْ عنك التقدُّمَ الأخلاقيَّ والتكنولوجيَّ الذي آنَ له أن يُتبع بمجرد أن أخَذَ التنويرُ مجراه. في لحظة الهزيمة، لا بد أنه قد بَدَا للأثينيين المتفائلين سابقًا أنَّه من المعقول على الأقل أن الإسبرطيين ربما كانوا على حقٍّ، وكذلك بَدَا للفلورنسيين عن سافونارولا. وككلِّ وَأْدٍ للتفاؤل، سواءٌ أكان في حضارةٍ بأكملها أم في فردٍ وحيد، لا بد أن تلك كانت بمنزلة الكوارث التي يعجز عن وصفها اللسانُ في نظر مَن جرءوا على توقُّع التقدُّم؛ بَيْدَ أنه علينا أن نشعر بما يفوق التعاطُفَ مع حال أولئك، علينا أن نأخذ ما حدث على محملٍ شخصي؛ إذ لو كان أيٌّ من تجارب التفاؤل المبكرة تلك قد نجح، لَكان نوعنا اليومَ يستكشف النجومَ، ولَكُنَّا أنا وأنت خالدَيْن.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • تفاؤل أعمى (تهوُّر وثقة زائدة): المضي قدمًا وكأنَّ المرءَ على يقينٍ من أن التبعات السيئة لن تحدث.
  • تشاؤم أعمى (المبدأ الوقائي): تجنُّب أيِّ شيءٍ لا يُعرَف عنه الأمان.
  • مبدأ التفاؤل: نقص المعرفة أصل كل الشرور.
  • الثروة: ذخيرة التحوُّلات المادية التي يقدر الإنسان على التسبُّبِ فيها.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • التفاؤل (ونهاية التشاؤم).

  • تعلُّم كيفية التوقُّف عن خداع أنفسنا.

  • التنويرات الصغرى كتنويرَي أثينا وفلورنسا كانت بدايات محتملة للانهاية.

ملخص هذا الفصل

التفاؤل (بالمعنى الذي سقتُه) هو نظريةٌ ترى أن كل الإخفاقات — كل الشرور — سببُها نقصُ المعرفة. هذا هو مفتاح الفلسفة العقلانية لما لا سبيلَ إلى معرفته، التي ستكون خاويةَ المضمون إذا كانت هناك قيودٌ أساسيةٌ تحدُّ ابتكار المعرفة، ولكنَّ تلك القيود غير موجودة. وستكون تلك الفلسفة باطلةً إذا كانت هناك مجالاتٌ — وبخاصةٍ مجالات فلسفية كالأخلاق — تخلو ممَّا يُدعَى التقدُّم الموضوعي؛ فالحقيقة موجودة في كل تلك المجالات، ويتحقَّق التقدُّمُ نحوها بواسطة البحث عن تفسيراتٍ جيدة. المشكلات حتمية الحدوث؛ لأن معرفتنا ستكون دومًا أبعد ما يكون عن الكمال. تتَّسِم بعضُ المشكلات بالصعوبة، لكنْ من الخطأ أنْ نخلط بين هذه وبين تلك التي لن تُحلَّ على الأرجح. المشكلات قابلة للحل، وكلُّ شرٍّ بمنزلة مشكلةٍ يمكن حلُّها. الحضارة المتفائلة منفتحة لا تخشى الابتكار، وتقوم على تقاليد النقد. إن مؤسساتها تُطوِّرُ من نفسها دائمًا، وأهم معرفةٍ تمثِّلها هي معرفةُ كيفيةِ الكشف عن الأخطاء واستبعادها. ربما شهد التاريخُ عدةَ تنويرات صغرى قصيرة المدى، ولكنَّ عصرَ تنويرنا فريدٌ في طول بقائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤