الفصل السادس

النُّبُوءَة

لمدة طويلة ظلَّ كتابُ «هكذا تحدَّث زرادشت» كتابَ نيتشه الأشهر. ولكنه لم يعد كذلك، وهذا حسب ظني تطورٌ يستحق الإشادة بصفة عامة. يعرض الكتاب بوضوح، من خلال كتابته في صورة أسطر قصيرة ملهمة، أسوأ دلالات تلك الحالة، على الرغم من أنه يحتوي أيضًا على بعض أفضل كتاباته. ما كان نيتشه يحاول عمله في هذا الكتاب هو إثبات نفسه بصفته شاعرًا فيلسوفًا، ولهذا الغرض استخدم مجموعة من العبارات الاصطلاحية التي تكشف على نحو مُفجِع فكرته عن الشعر. فهو يستخدم كمًّا كبيرًا من الصور المجازية والاستعارات، ولكنه يفعل ذلك في مواضع أخرى أيضًا، وبتأثير أفضل بكثير. والانطباع الأول الذي يتكوَّن لدى المرء هو عن المختارات الأدبية؛ فمعظمها يتضح أنه مختارات إنجيلية، تتنوع بين الأصداء المباشرة للإنجيل والمحاكاة الساخرة، ويسهل على القارئ الذي يتخدَّر نوعًا ما بسبب تكرار جملة «هكذا تحدث زرادشت» في نهاية كلِّ قسم أن يتغاضى عن تنوُّع الأمزجة. يحتوي الكتاب على قصائد، بعضها أصبح مشهورًا واستخدمه عديد من المؤلفين الموسيقيين، ولعل أنجحهم كان مالر وديليوس. ويمكن للمرء ملاحظة السبب وراء إعجاب هذين الموسيقيين بصفة خاصة بهذه القصائد؛ فهما رجلان يتمتعان بقوة إرادةٍ هائلة واستثنائية، وقضيَا معظم وقتهما في تصوير الحياة بكلِّ حيويتها وجمالها، وهما قادران على الصمود، بعكس حالة الزوال المحزنة التي تتسم بها الحياة الإنسانية القصيرة. إلَّا أن نجاحهما ينمُّ عن عنصرٍ موجود في شخصية زرادشت التي ابتدعها نيتشه، عنصر كان يحاول جاهدًا إنكاره، ألا وهو الحنين.

إنَّ النبرة الأصدق في «هكذا تحدث زرادشت»، والتي تلوح في مواضع مفاجئة، هي نبرة الندم. والنبرة الأقل إقناعًا هي نبرة الإجلال والإقرار، وهما سِمَتان يحاول زرادشت جاهدًا غرْسهما في الأذهان، بما أنهما ضروريتان لتمهيد الطريق أمام وصول «الإنسان الأسمى»، الذي يُعتبَر زرادشت نبيَّه. ولكنه نبيٌّ مصمِّم على ألَّا يكون له مريدون، وهي رغبة نَجِدُه شديدَ الاهتمام بالتركيز عليها، بما أنها تميِّزه عن بقية الأنبياء. ولكن قد يسأل المرء كيف يعزف شخص يقول الحقيقة عن أن يكون له أكبر عددٍ ممكن من المريدين. والإجابة فيما يبدو أن زرادشت ليس متأكدًا على الإطلاق من الحقيقة التي تجبره على ترك جبله و«النزول» أو «الهبوط»، وهو التباس في المعنى محسوب بعناية من جانب نيتشه. يعبِّر الساحر في الجزء الرابع عن الكآبة التي هي رفيق زرادشت الملازم له، عندما يغني: «لو ابتعدت عن الحقيقة، فسأكون أحمق! سأكون مجرد شاعرٍ!» ومرة ثانية، في القسم الأخير من الجزء الأول، «الفضيلة الواهبة»، يتحدث زرادشت إلى مريديه بكلماتٍ كان نيتشه فخورًا باختيارها لدرجة أنه يقتبسها في نهاية مقدمته لكتاب «هذا هو الإنسان»:

بصدق أنصحكم: انصرفوا عني واحترسوا من زرادشت! بل وأفضل من ذلك: اخجلوا منه! فلعله قد خدعكم … إنها لمكافأة رديئة للمعلم أن يظل المرء على الدوام مجرد تلميذ. فلمَ لا تريدون تمزيق إكليلي؟ … تقولون إنكم تؤمنون بزرادشت؟ لكن ما أهمية زرادشت؟ وإنكم تؤمنون بي، لكن ما أهمية كلِّ المؤمنين؟ أنتم لم تبحثوا بعد عن أنفسكم: هكذا وجدتموني. هكذا يفعل كلُّ المؤمنين، ولذلك ليس الإيمان بشيء ذي بال.

إنها فقرة قوية، ولكن على الرغم من كلِّ الحكمة التي تسترعي التأمل فيها، فإنه لمن الغريب أن تصدر عن نبيٍّ؛ لأن الأنبياء لا يجادلون، وإنما يُنبئون. وهكذا فبأي الطرق يستطيع المريدون اكتشاف ما هو حق وما هو باطل في تعاليم زرادشت؟ إن رفضه قبول المبايعة وتقديم فروض الولاء والطاعة — ذلك الرفض الذي لا تبرِّره المؤشرات المنفصلة للحق — هو أمر يثير الإعجاب، ومن الواضح أنه يهدف إلى أن يكون جزءًا من معركة نيتشه الدائرة مع المسيح. ولكنه يتركنا متحيِّرين حيال كيفية التأقلم مع تعاليم زرادشت، فبما أننا فاسدون، فإننا لسنا في موضعٍ يسمح لنا بالنقد.

مشكلة أن نبيًّا يشكِّك في نفسه، وينصح باتخاذ الحذر حيال كلِّ ما يقوله، كبيرة للغاية؛ فنحن بصدد اجتماع أمرين متناقضين متجسِّدين. لكن المخاطر الناجمة عن كونه نبيًّا، والتي لم يكن زرادشت أول من ينبهنا إليها، تُضخِّم فقط مشكلةَ كيفية التعامل مع فنَّان فيلسوف، والذي يبدو محل اشتباه على نحو متزايد. كلُّ ما يمكننا عمله في ظل هذه الظروف المشئومة أن نحاول مشاركة رؤى زرادشت، وأن نلاحظ إلى أيِّ مدًى تسيطر على مُخيِّلاتنا، شريطة أن نتذكر دائمًا أنها فاسدة. ولكن لو اتضح بعد ذلك أن الرؤية نفسها غامضة ومبهمة، فسيكون علينا أن نفعل ما أنا مقتنع في نهاية المطاف بأنه الشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يفعله بهذا الكتاب، وهو أن يتذوقه بأسلوب عبثي مراوغ.

يحتوي الكتاب على أمور ممتعة بما يكفي، على الرغم من جميع التحذيرات التي أقْحمتُها على نحو محبِط، لأجعل قراءته تجربة لا تُنسَى. وهو يبدأ بداية مثيرة للإعجاب، بنزول زرادشت عن جبله، وكتابة ما يمكن وصفه بأنه طقوس نزوله عن الجبل بإلهام صادق. ولكن سرعان ما ينتقل زرادشت إلى موضوعه المحوري: «اسمعوا! لقد أتيتكم بنبأ الإنسان الأسمى. إنه معنى هذه الأرض. فلْتتجهْ إرادتكم إلى جعل الإنسان الأسمى معنًى لهذه الأرض. أتوسل إليكم أيُّها الإخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم، فلا تصدقوا من يمنُّونكم بآمال تتعالى فوقها» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدِّمة، ٣). يقدم هذا الاقتباس أول مفهوم من المفاهيم الثلاثة الرئيسية لدى زرادشت. ووصيته لهم بأن يحتفظوا للأرض بإخلاصهم هي أحد موضوعات نيتشه العظيمة المتكررة، والتي أشعر نحوها بكثير من التعاطف. ولكن ما ننتظره الآن هو بعض التنوير حول كيفية جعْل الإنسان الأسمى معنًى لهذه الأرض، والخطوات التي يجب أن نتخذها لنضمن وصوله، والشكل الذي سيكون عليه عندما يصل. لكننا للأسف لا نحصل إلَّا على معلومات قليلة حول أيٍّ من هذه الأمور. ثمة سوء فهم بسيط يمكن توضيحه سريعًا، مثل أن الإنسان الأسمى سيصبح ظاهرة ارتقائية. وما من داعٍ للتفكير بأنه لن يكون في هيئة إنسان، ولكن هذا ليس واضحًا بالقدر الكافي. ويبدو أنه يُعرَّف عمومًا من خلال إعلان زرادشت الثاني المتعلق بالتكرار الأبدي: الإنسان الأسمى هو الكائن الذي يستطيع بابتهاجٍ أن يعتنق هذه العقيدة؛ لأن هذا هو حال العقيدة أو المبدأ. وثالث تعاليم زرادشت هي «إرادة القوة»، أو «الحقيقة الجوهرية للوجود». ومرة أخرى، يتجسَّد الإنسان الأسمى في أنقى صوره وأكثرها إثارة للإعجاب؛ بأنه متغلِّب على ذاته، مهما كان مؤدَّى ذلك.

تتضح إحدى النتائج المترتبة على ذلك خلال مسيرة زرادشت. ومما قد تجدر الإشارة إليه أن زرادشت هو بشير الإنسان الأسمى، ولكنه هو نفسه ليس كذلك. ومع هذا، فإنهما يشتركان في بعض الخِصال، ويبدو أن أفضل فهمٍ يمكن أن نتوصل إليه غالبًا بخصوص الإنسان الأسمى هو أنه صورة مُفخَّمة من زرادشت.

في الجزء الرابع، على سبيل المثال، عندما يخبر العرَّاف زرادشت بخطيئته الأخيرة، يتضح أنها شفقته على الإنسان. وسيفهم المرء أن الإنسان الأسمى سيُدرِك دون إغواء أن هذه هي الفتنة الأخيرة. وسيكون قادرًا على قبول معاناة الإنسان، لكن لن يدفعه هذا إلى المعاناة، ولو شعر بها، فإلى أية درجة؟ لقد امتلأنا بالمعاناة من منطلق أنها العنصر الأصعب في استئصاله من الوجود، وهي بالفعل كذلك بالنسبة إلينا، وننظر إليها باعتبار أنها أعمق حالة موجودة. وبما أن السعادة دائمًا سريعة الزوال، فإننا نعتبرها سطحية أيضًا، أو نعتبر أنها الإغواء. والسعادة الوحيدة الأبدية التي سمعنا عنها هي السعادة الموجودة في العالم الآخر، الذي لم نصل إليه بعد. ولأسباب بيولوجية مفهومة، فإننا نعتبر السعادة، أو المتعة، نهاية لعملية ما، ومن ثَمَّ تكون السعادة في غير موضعها بمجرد أن تبدأ العملية التالية، أو المرحلة التالية من نفس العملية. وإلى هذه الدرجة نُعتبَر جميعًا صورة مُعدَّلة من شوبنهاور، بما أن شوبنهاور تبنَّى الاتجاه المتطرف بأن المتعة «ليست» إلَّا توقُّفًا مؤقتًا للألم. وبحلول هذه المرحلة في حياة نيتشه المهنية، كان معارضًا تمامًا لشوبنهاور، الذي كان — إلى جانب معبوده السابق فاجنر — أحد الشخصيات السخيفة إلى حدٍّ ما التي تنكرت على نحو سهل اكتشافه في «هكذا تحدث زرادشت». إنها تعاليم زرادشت — وهل يريد من مريديه أن يعارضوه؟ — التي تقول بأن السعادة أعمق من المعاناة، مثلما نعرف في فصل من الجزء الرابع بعنوان «نشيد الثمل» (هذا، بأي حال من الأحوال، ما يظهر في الترجمة الإنجليزية The Drunken Song، أما العنوان الألماني في الطبعة النقدية الجديدة فهو Das Nachtwandlers-Lied، أو «نشيد السائر أثناء النوم»):
إن العالم عميق،
فهو أعمق مما كان يظن النهار. وآلامه عميقة،
واللذة، أعمق من الآلام؛
يقول الألم: مُرَّ يا هذا وانقضِ!
ولكن ليس من لذة لا تطلب الخلود؛
خلودًا لا نهاية له.
هذا ليس شعرًا مميَّزًا، ولا حتى في النسخة الألمانية. ولكن عاطفته الأساسية مؤثرة، وهي بالنسبة إلى زرادشت الأقرب صلةً بالتكرار الأبدي. وفي موضع سابق من نفس القسم أوضح زرادشت ذلك قائلًا:

هل قلتم يومًا نعم للَذَّة واحدة؟ يا أصدقائي، إذن فقد قلتم نعم ﻟ «جميع» الآلام! فجميع الأشياء متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة. أفما اشتهيتم أن تعود المرَّة مرتين فهتَفْتُم: «رجاءً أيتها اللَّذة، ابْقَيْ لحين من الدهر!» إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود الأشياء «جميعها»، مجددًا وللأبد، متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة، وهكذا «أحببتم» العالم. أيها الخالدون، كان حبكم أبديًّا لا نهاية له. قلتم للآلام أن تنقضي ولكنكم دعوتموها لتعود! لأن «كلَّ لذَّة تطلب الخلود».

هذا هو تناول نيتشه الغنائي والفيَّاض بالمشاعر لرأيه الذي عبَّر عنه على نحو أكثر تشددًا في مواضع أخرى، والذي يدور حول أنَّ تمنِّي شيءٍ واحد يعني تمنِّي كلِّ شيء، بما أن الشبكة السببية تعتمد فيها أية حالة على بقاء بقية حالات الطبيعة على وضعها. وهذا هو رأيه، على الأقل في البداية، عن التكرار الأبدي الذي يروِّج له. الإنسان الأسمى هو الكائن المستعِدُّ لأن يقول نعم لأيِّ شيء؛ لأن اللَّذة والألم لا ينفصلان، كما يعبِّر نيتشه على الدوام، بدايةً من الفردية البدائية في كتاب «مولد المأساة» وما يليه. ولهذا، على الرغم من هول الوجود حتى الآن، فإنه مُستعِدٌّ لإقرار هذا كله. وهذا، على أية حال، فهمي للأمر، وله.

ولكن ليست هذه إلا بداية لتفسير الإنسان الأسمى؛ لأنه بعد أن عبَّر عن قبوله غير المشروط للوجود إلى الدرجة التي يطلب فيها أن يتكرر كلُّ شيء مثلما كان تمامًا، في دورات أبدية، ما زالت هناك مسألة ما يفعله الإنسان الأسمى بوقته. من المحتمَل أن يكون شيئًا مختلفًا تمامًا عما يفعله الإنسان العادي، الذي تمَّ تعريفه من قبل بوصفه «حبلًا مشدودًا بين الحيوان والإنسان الأسمى؛ حبلًا مشدودًا فوق هوة سحيقة» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدِّمة، ٤). سيكون مختلفًا عنَّا مثلما نختلف نحن عن الحيوانات. وأيًّا كان ما يفعله فسيفعله بروح القبول والإقرار، ولكن ماذا سيكون شكله؟ نعلم الهيئة التي يُنتفَى أن يكون عليها؛ أي شيئًا ضئيل الحجم، وتفاعليًّا، وممتعِضًا. وثمة لمحة من نقض القوانين لدى زرادشت تشير إلى أنك إذا كنت صاحب الموقف الأساسي الصحيح فبإمكانك أن تفعل ما تريد. ويظهر هذا بوضوح في الفصل الذي يحمل عنوان «عن العفَّة»، حيث كتب يقول:

هل أشير عليكم بقتل حواسِّكم؟ إن ما أُوجِبه إنما هو طهارة هذه الحواس. هل أشير عليكم بالعفَّة؟ إنها لو كانت فضيلة عند البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة عند الكثيرين. ولعل هؤلاء يُمسِكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلَّى في كلِّ حركة من حركاتهم. إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الزاهدين حتى إلى ذُرى فضيلتهم، فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوِّش عليه سكينته. ولكلاب الشهوة من المرونة ما تتوسل به لنيل قطعة من العقل المُفكِّر إذا مُنِعت عنها قطعة من اللحم.

ثمة مسحة من التزمُّت هنا، ولكنها قاسية، خصوصًا الجملة الأخيرة، وهي بالنبرة الآمِرة بوجه عام في «هكذا تحدث زرادشت» تمثِّل نوعًا من الراحة. ولكنْ ثمة سطر مهيمن، بعيدًا عن تلك النبرة، يدفع في الاتجاه المضاد، وهو ليس ذا طبيعة قمعية، ولكنه يؤكِّد على الاستحالة والصعوبة، مع النفس قبل كلِّ شيء. هذا ما نتوقعه، بما أن اهتمام نيتشه الأول ينصبُّ على العظمة. أما الراحة والرضا والإشباع الجسدي، فهي أمور معادية للعظمة. وبأية طريقة ستُنسَب العظمة إلى الإنسان الأسمى؟ يوجه نيتشه دائمًا بعض الاهتمام على الأقل إلى الإنجاز الفني الإبداعي، ومن ثَمَّ قد يتوقَّع المرء منه أعمالًا فنية مذهلة، ولكن في هذا الشأن، كان كتاب «هكذا تحدث زرادشت» خاويًا تمامًا. من غير المجدي بالطبع تأمُّل أعمالٍ فنية لم تُبدَع بعدُ، بعكس تناول الإنجازات العلمية التي لم تتحقق بعدُ، بما أننا في الحالة الثانية نعلم ما نريد من إجابات عنه. ولكن في حالة الفن لا توجد أسئلة بهذا المعنى. علاوةً على ذلك، فإن فكرة وجود مجموعة من «البشر السامين» كلهم من الفنانين تبدو بالفعل سخيفة. ولكن ماذا سيكون شكلهم؟ لا فائدة من التخمين أكثر من هذا؛ لأن نيتشه لا يقدِّم لنا أية إشارات بهذا الخصوص. في واقع الأمر، يبدو أنه كان عاجزًا عن إحراز أيِّ تقدُّم في هذا الشأن، وعلى الرغم من أنه اشتُهر بصياغته المصطلح مثلما اشتُهر بأمور أخرى، فإن هذا لا يتكرر في أعماله، باستثناء الاحتفاء بالذات في «هذا هو الإنسان»، حيث يُفرِد لحديثه عن «هكذا تحدث زرادشت» وقتًا أطول من بقية كتبه الأخرى، قائلًا: «هنا يجري في كلِّ لحظة تخطي الإنسان، وهنا أصبح مفهوم الإنسان الأسمى الحقيقة العظمى» («هذا هو الإنسان»، «هكذا تحدث زرادشت»، ٦).

لكنَّ هذا تفكير مُحْزِن قائم على التمني. لقد خضع نيتشه للإغواء المُحدِق به من جانب صناع المُثُل؛ والمثل الأعلى بعيد كلَّ البعد عن الواقع البائس لدرجة أن كلَّ ما يمكن عمله هو التفكير في هول الواقع والتفوُّه بأن المثل الأعلى ليس هكذا. وهنا يتذكر المرء تجسيد سويفت، في روايته «رحلات جاليفر»، لمعشر الياهو المقززين (نحن) ومعشر الهونينم المستحِقِّين للتقدير، الذين يعلِّق عليهم ليفيز عن استحقاق بأنهم «قد يتمتعون بالقدرة الكاملة على التفكير، ولكن معشر الياهو يتمتعون بالحياة … البشرة النظيفة لدى الهونينم، باختصار، مشدودة فوق فراغ؛ أما الغرائز والمشاعر والحياة، التي تعقِّد مشكلة النظافة والاحتشام، فمتروكة لمعشر الياهو بقذارتهم وعدم احتشامهم.» ثمة تشابه غريب هنا بين الإنسان والإنسان الأسمى، على الرغم من أنه قد لا يكون مفاجئًا؛ نظرًا للصعاب التي سيصادفها حتمًا أيُّ شخص يحاول الإشارة إلى مثل أعلى يسمو على الإنسانية ويرفضها.

في جزء سابق من «هكذا تحدث زرادشت» ظهر بديل، أو ربما كان هدفه هو تقديم تفسير تكميلي لتقدُّم ما يُسمَّى في هذا الكتاب «الروح». إنها أولى خطب زرادشت، التي لم يزل فيها حتى هذه المرحلة غير مُرتاح إلى اللغة البلاغية، التي نحكم عليها من ركاكة هذه الفقرة التي تستحِثُّ، حسبما يعلق إيريك هيلر، «نوعًا من الإزعاج الروحي والحيواني المفرط» («هيلر»، ١٩٨٨: ٧١). تبدأ الروح هنا في صورة جَمَل، والذي يقصد به الإنسان العصري، أرهقه تراكمُ القِيَم التي يحملها فوق ظهره، وهو تراث قمعي من الالتزامات والإحساس بالذنب المرهون بحتمية انتهاك الذنوب. يترنَّح الجمل وهو يمضي مسرعًا في الصحراء، ولكنه يتمرَّد في نهاية المطاف ويتحول إلى أسد، بنيَّة محاربة التنين. يُسمَّى التنين «يجب عليك»؛ وهو لذلك سبب العبء الثقيل الذي لا يُحتمَل فوق ظهر الجمل. وهو يدَّعي أن «جميع القيم خُلِقت منذ أمدٍ بعيد، وأنا كلُّ القيم التي خُلِقت.» يقاوم الأسد، مصمِّمًا على استبدال «يجب عليك» ﺑ «أريد». ولكن على الرغم من قدرة الأسد على القتال، فإن كلَّ ما يستطيع أن يحققه هو الحصول على الحرية من أجل إبداع قِيَمٍ جديدة؛ فهو لا يستطيع أن يصنع القيم نفسها. إنه يقول «لا» على نحو غير قابل للجدل، وتكون هذه نهايته؛ فقد حقَّق الغاية الوحيدة التي كان يستطيعها. وهذا واضح حتى الآن. لكن التحوُّل الأخير مفاجأة؛ لأنه يصير طفلًا:

لماذا يجب أن يتحوَّل الأسد المفترس إلى طفل؟ ذلك أن الطفل براءةٌ ونسيان، بدءٌ جديد، لعب، عجلةٌ تدفع نفسها بنفسها، حركة أولى، عقيدة مقدسة. إن لعبة الابتكار، أيُّها الإخوة، تستلزم عقيدة مقدسة، فالروح الآن تطلب إرادتها، ومَنْ هو غريب في العالم لا يشعر بالانتماء إليه، يريد الآن أن يجد عالمه الخاص.

يجب أن يكون هذا، من بين أمور أخرى، نسخة نيتشه من قول المسيح: «إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلادِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماواتِ» (إنجيل متَّى، الإصحاح الثامن عشر، الآية الثامنة عشرة). وفي مواضع أخرى يستخدم نيتشه عبارة «براءة التحوُّل». في اللحظات التي كان يعتريه فيها الإجهاد أثناء الكتابة، كان يلجأ أحيانًا إلى صيغ لفظية متناقضة أو عاطفية لأقصى درجة؛ لأنه يعلم أن عنصرًا واحدًا في التركيب مترسِّخ بعمق داخلنا لدرجة يصعب معها صرفه، في حين أن الآخر هو ما كان سيحرره، على الرغم من تعارضه الواضح. لهذا فمنذ «مولد المأساة» نسمع عن «سقراط الذي يعزف الموسيقى»، في حين أن نيتشه يصوِّر سقراط في جوهره بأنه معادٍ للموسيقى. وفي ملاحظة لم تُنشَر كتب عن «القيصر الروماني الذي يحمل روح المسيح».

هل هذه مجرد محاولات مؤثِّرة لتغيير المألوف وتحقيق المستحيل، أم تراها تعني شيئًا؟ ثمة أسباب مقنعة لاختيار الحالة الأولى؛ لأن نيتشه كان رجلًا منقسمًا على نحو يائس. ولم يسَعْه إلَّا أن يُعجَب بأمور عن سقراط أكثر ممَّا كان يجب عليه. وكما سنرى، فإن كتاب «نقيض المسيح» يخرج تقريبًا عن نطاق السيطرة بعد أن اتَّخذ تصويره ﻟ «الفاسد المثالي» المزعوم منحًى غنائيًّا. وإذا عُدنا إلى «هكذا تحدث زرادشت»، فإن موقفه العام تجاه الحياة كان على غرار ما تسمِّيه نوادي الفيديو الآن «للكبار فقط»، ومع هذا فهو مُفتتَن بفكرة طفل مستغرق كليةً في اللعب، فيكون منشغلًا ومنهمكًا؛ بريئًا وفي الوقت نفسه أيضًا جاهلًا. هل من الجائز أنه كان يريد أن يصبح الإنسان الأسمى مثل شخصية سيجفريد في أوبرا فاجنر، تلك الشخصية التي تربَّت دون معرفة بالعالم، ومُنيَت بالفشل لرغبتها إياه؟ يبدو هذا أمرًا مستبعدًا. فهذه العبارة «بدءٌ جديد» خطيرة؛ لأن نيتشه عادةً ما يتميَّز — بوصفه خبيرًا بالفساد — بإدراك أن التغاضي عن عثرات الماضي وأخطائه وبدء صفحة جديدة بيضاء ليس من بين الخيارات المطروحة أمامنا. إذ يجب أن تكون لدينا ذاتٌ لنتغلب عليها ونكبح جماحها، وهذه الذات ستكون ثمرة الفِكر الغربي كله، التي ستستطيع بطريقة ما «الإلغاء»، وهي كلمة يمقت نيتشه استخدامها، بسبب انتمائها الفعلي إلى هيجل، والتي تعني في الوقت نفسه «المحو»، و«الاستبقاء»، و«الصعود». أليس هذا ما يُطالَب به الإنسان الأسمى، أو إذا أسقطناه، ما يتعيَّن علينا عمله في أثناء انتقالنا من حالتنا الحالية لكي نتمكن من الوصول إلى «الخلاص»؟ تتسم فكرة الطفل، أو صفة الطفل، بعيدًا عن ارتباطاتها المسيحية، بجوانب رومانسية، وهو أمر نستغرب أن يوافق نيتشه عليه. أما العنصر الذي يريد التأكيد عليه، وأزعم تيقُّني منه، فهو حالة عدم الوعي بالذات التي يتسم بها الأطفال. أما بالنسبة إلينا، أو ما يُعتبَر تقدمًا بالنسبة إلينا، فإن تحقيق ذلك الآن أمرٌ يصعب تخيُّله مطلقًا.

وهكذا نعود إلى الإنسان الأسمى باعتبار أنه يتبنَّى التكرار الأبدي. وقد ثبت أن هذا الأمر هو الأكثر غموضًا في جميع آراء نيتشه. فهل يُنظَر إليه ببساطة كاحتمال، أم كفرضية جادة حول طبيعة الأكوان؟ بالتأكيد هي الحالة الأولى، حسبما يتضح في القسم قبل الأخير من الكتاب الرابع في «العِلم المَرِح». ولكن في دفاتر ملاحظاته، بما في ذلك على وجه الخصوص تلك التي نُقِّحَت بعد موته بعنوان «إرادة القوة»، فإنه يحاول إثباتها كنظرية عامة، بناءً على واقع أنه لو كان عدد الذرات في الكون محدودًا، فإنها يجب أن تأخذ شكلًا كانت عليه قبلًا، وهذا سيؤدي حتمًا إلى أن يُكرِّر تاريخ العالم نفسَه. ويُعَدُّ هذا من أقل الجوانب فائدة في تأمُّلاته، وفشلُه في نشر هذه الأفكار التجريبية مَدْعاة للابتهاج، أو كان سيصبح كذلك لو لم يصمِّم الباحثون على دراستها بدقة؛ بحثًا عن تلميحاتٍ حول ما كان يفكر فيه بالفعل. وقد شجَّعهم واستحثَّهم على ذلك انفعاله بالفكرة التي خطرت له في وادي إنجادين السويسري، «ستة آلاف قدم فوق الإنسان والزمان» والتي اعتبرها، فيما يبدو، إحدى تلك الرؤى الحدسية التي يقتنع المرء بعمقها وصدقها، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يحدِّد ماهيَّتها بدقة.

لم يُنظر عمومًا إلى الرؤية الكونية للمذهب باستحسان. ومع هذا فقد أثار حماسُ نيتشه تجاه المذهبِ إعجابَ المفسِّرين كثيرًا، أو حتى اسمه بأية حال، لدرجة أنهم يعتمدون على براعتهم في شرح ما كان يقصده به فعلًا. وكلُّ ما يسعني قوله هنا أنهم في أثناء محاولتهم شرح هذا المذهب وتقديمه باعتباره فكرةً مثيرة للإعجاب، فإن ما ينتجونه يجعل المرء يتساءل عن السبب الذي دفع نيتشه إلى إعطائه تلك التسمية المضلِّلة. باختصار: إذا لم يكن يقصد ﺑ «التكرار الأبدي» تكرارًا أبديًّا، فلماذا لم يسمِّه بما كان يعنيه بالفعل؟

وهكذا نجد أنفسنا مع نظرية الاحتمال. كان ردُّ فعلي الأوَّلي التصريح بأنني لا أكترث بالارتقاء على نحو مفاجئ إلى حالة الإنسان الأسمى، بناءً على الدليل التالي: إذا كانت كلُّ دورة، كما يجب أن تكون، هي بالضبط مثل سابقتها ومثل تاليتها، إذن فلن تكون لدينا معرفة بما حدث، وخصوصًا بما فعلناه، في آخر تكرار، ومن ثمَّ لا نستطيع أن نخطو خطوة نحو تفادي تبعات ما كان كارثيًّا، ولا أن نفكر بفزع أو فرح فيما ينتظرنا تاليًا. لو كان التكرار الأبدي صحيحًا، فستكون هذه المرة اللانهائية التي أكتب فيها هذا الكتاب، ولكن لن يُحدِث هذا فارقًا يدفعني إلى تغيير محتوياته! هكذا سيبدو الأمر. ولكن بالنسبة إلى الكثيرين ممن ناقشتُ الفكرة معهم، على الرغم من أنهم يوافقون على أنها لا تستطيع أن تُحدِث فارقًا في أيِّ شيء، فإنهم ما زالوا يرفضون التصريح بأنها لا تؤثر على شعورهم تجاه الأشياء. وحسبما سألني أحدهم مؤخرًا: أيهما أسوأ، كَوْنٌ يقع فيه معسكر أوشفيتز مرةً، أم كَوْنٌ يقع فيه المعسكر عددًا لا نهائيًّا من المرات؟ يبدو أن الأمر يحتاج إلى شخص عديم الشعور ليقول إنه لا يهم، وهذا أقل ما يقال. فالتكرار، حتى لو لم يكن مهمًّا من الناحية العملية، فإنه لم يزل يستثمر بعبءٍ شديدٍ ما يحدث «بالفعل».

لقد جعل كونديرا من هذا المذهب — فيما يُعتبر الآن فقرة شهيرة نسبيًّا في بداية روايته «الخفة غير المحتمَلة للكينونة» — جوهرَ أفكاره المختصرة، والثرية في الوقت نفسه، عن الموضوع:

دعونا لهذا السبب نتفق على أن فكرة التكرار الأبدي توحي بمنظورٍ تَظهَر من خلاله الأشياء بخلاف ما نعرفها؛ فهي تظهر من دون الظروف الملطِّفة التي تتسم بها طبيعتها العابرة. وتمنعنا هذه الظروف الملطِّفة من التوصُّل إلى حكم. فكيف يمكننا أن نُدين شيئًا عابرًا وسريع الزوال؟ ومع غروب الانحلال وأفوله، يشِعُّ كلُّ شيء بهالة الحنين، حتى المِقْصَلة.

كونديرا، ١٩٨٤: ٤

إنَّ المفتاح، أو العبارة الكاشفة هنا، هي العبارة الأولى. والسبب في سيطرة هذه الفكرة على خيالات الناس أنهم يتبنون منظورًا خارج نطاق أية حلقة تكرارية، لكي يستطيعوا أن يتصوروه وهو يتكرر مرات ومرات. وقد يكون الانتقال من رؤية النفس محبوسة في الحلقة التكرارية، ورؤية الكل من منظور إلهي، هو ما يولِّد الحماس، وإحساس العبء المفرط، أو نشوة الرجوع، إن كان المرء مقرًّا بوجوده في عالم الصيرورة وأنه لا مفر منه.

ما زلت أنزع إلى الشك. فكلاهما لا يحقق لي شيئًا، على الرغم من أنني أستطيع أن أقدِّر الإلهامَ الذي قدَّمه إلى كثير من الفنانين العظماء، مثل ييتس في قصيدته «حوار الذات والروح»:

أنا راضٍ بأن أعيشها كلَّها مجددًا،
ومراتٍ ومرات …
أنا راضٍ بأن أتعقَّب كلَّ حدث
حتى منبعه بالفعل أو بالتفكير؛
أقيس الكثير، وأسامح نفسي على الكثير!
عندما أطرد الندم
تسري عذوبة هائلة في القلب
علينا أن نضحك وأن نغني،
نحن مُبَارَكون بكلِّ شيء،
كل شيء ننظر إليه مُبَارَك.

هذه الأبيات، التي لم يكن ييتس ليَنْظِمَها لولا قراءته لنيتشه وتأثره به كثيرًا، هي أيضًا مثال جيد يبيِّن مدى التأثير الذي يمكن أن يتركه نيتشه حتى فيمن لا يملكون سوى فكرةٍ غامضة وغير دقيقة عما يقوله، وذاك أمر يشكُّ المرء في وجوده لدى نيتشه نفسه. كما تحوي هذه الأبيات الكثير مما يُبدِي نيتشه حماسًا شديدًا للدفاع عنه، ولا سيَّما فكرة طرد الندم. ولكنه يتوصل إلى وجهة النظر هذه في كتاباته اللاحقة، ليس عن طريق التكرار الأبدي، وإنما عن طريق التحليلات النفسية المتعمِّقة لآثار الندم والنظر إلى الماضي بصفة عامة.

ثمة أمر آخر يستحق ذكره باختصار عن التكرار الأبدي؛ لأنه يجعله نوعًا من المزاح، على الرغم من أنه لا يُعتبَر بأية حال من الأحوال من أفضل أفكار نيتشه. وهذا الأمر هو أن التكرار الأبدي محاكاةٌ ساخرة لجميع معتقدات عالمٍ آخر تتسم علاقته بهذا العالم — هذا العالم «الحيواني البراجماتي غير المعقول»، إذا اقتبسنا ييتس مجددًا — بالاستعلاء الأكسيولوجي والأنطولوجي. وبدلًا من الجنة والنار، أو عالم الصور الأفلاطونية اللامتغيرة، فإنه يوحي بأن هذا العالم أصبح خالدًا من خلال التكرار اللاهادف. وبينما تزعم معتقداتٌ من عالم آخر أن هذا العالم يكتسب قيمته فقط من واقع كونه مرتبطًا بعالم آخر، يقترح التكرار الأبدي على نحو مُستفِز أن هذا العالم مُجرَّدٌ من القيمة من خلال عملية مماثلة لتلك التي تتكرر فيها جملةٌ ما إلى أن تصبح مجردَ سلسلة جعجعات مزعجة. إذا عدنا إلى كونديرا: ينبع العبء المرتبط بالأحداث من منطلق أنها تحدث أكثر من مرة، في حين أن «المرة تساوي لا شيء» (أو الأفضل من هذا، «جرِّب أيَّ شيء مرتين»). لكن العبء شيء، والقيمة شيءٌ آخر. يتمكَّن كونديرا، وهو في هذا الشأن من مريدي نيتشه المخلصين، من عقد جدال ذكيٍّ بين الخفة والثِّقَل؛ أي بين المعنى أو القيمة من جانب والجدوى من جانب آخر. هل نقدِّر، أو هل يجب علينا أن نقدِّر، أو هل سيكون منطقيًّا لو سألنا إن كان علينا أن نقدِّر، شيئًا على نحو أكبر بسبب تفرُّده أم لأنه نموذج يتكرر بحدود تسلسل لا نهائي؟ الإجابة الأقصر هي أن الأمر يعتمد على حالتك المِزاجية. وقد كان نيتشه، بمِزاجه المتقلِّب للغاية، ميَّالًا إلى الإجابة بإقرار «كلا الأمرين» وأيضًا بنفي «أيٍّ منهما».

تدور ثالث تعاليم زرادشت الأساسية حول «إرادة القوة»، التي ترِدُ لأول مرة في فصلٍ بالجزء الأول يحمل عنوان «عن ألف هدف وهدف»، الذي يروي كيف زار زرادشت كثيرًا من الشعوب، ووجد أن كلًّا منها بحاجة إلى تقديرٍ يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب. ومن ثمَّ، يقول:

علَّق كلُّ شعب فوق رأسه لوحَ شريعته، وسطَّر فيه ما اجتاز من عقبات وما تُضْمِر إرادته من قوة. فما تراءى له صعبَ المنال فهو موضوع تمجيده والمحمود لديه، وما خيرُه إلا حاجة ملحة عزَّ مطلبها، فهو يقدس كلَّ وسيلة تمكِّنه من الظفر بهذه الحاجة.

لاحقًا في نفس الفصل، يركِّز على علاقة القوة بالقيمة: «ما التقدير إلا الإبداع بعينه، فأصغوا إليَّ أيُّها المبدعون! ما الكنوز إلا أشياء أرادها تقديركم كنوزًا. عبر التقدير فقط تغدو هناك قيمة، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا قشورًا لا نواة فيها.» ولكن في نهاية الفصل يقول: «لم تعرف البشرية حتى اليوم لها هدفًا، ولكن أخبروني أيُّها الإخوة إذا كانت الإنسانية تفتقر بعدُ إلى الهدف، أفلا تفتقر أيضًا إلى ذاتها؟» سنناقش لاحقًا على نحو تفصيلي ارتباط «إرادة القوة» بالقيمة. لكن لم يزل هذا أوضح من الذكر المختصر «لإرادة القوة» في موضع آخر، في فصلٍ بالجزء الثاني بعنوان «الانتصار على الذات»، وفيه يقول زرادشت: «في الواقع، لم يُصِبِ الحقيقةَ ذلك الذي قال ﺑ «إرادة الوجود»؛ فهذه الإرادة لا وجود لها [وهذه ضربة عنيفة إلى شوبنهاور] … ولا إرادة إلا حيث توجد حياة، ولكن ما أدعو إليه إنْ هو إلا إرادة القوة، لا إرادة الحياة.»

هذا كلُّ ما يقوله نيتشه بالفعل عن هذا الأمر في «هكذا تحدث زرادشت». ومرةً ثانية، نجد — بعبارة أخرى — أن زرادشت نبيٌّ محكوم بإبلاغِ ما سيكتبه مؤلِّفه لا بإبلاغ شيء صِيغ من قبلُ ويمكن مناقشته على نحوٍ جاد. ومشكلته أنه يعارض بإصرار وعزم الأنظمة وواضعي الأنظمة، مثلما تُبَيِّن العديد من الملاحظات. إلَّا أنه من غير الواضح كيف يمكنه تفادي نظامٍ لو أراد نشرَ جدولٍ جديد للقيم. وتدفعه هذه المعضلة إلى ارتكاب أسوأ الأمور قاطبة؛ فهو يقدم تلميحات صعبة ممتنعة تجعله مستباحًا لتفسيرات عدة ومعرَّضًا لكثيرٍ من سوء الفهم. ولكن على الرغم من أن التلميحات تُوحِي بثراءٍ فكريٍّ مُستتِر، فإنها تُحرَّم علينا ونُعلَم بأننا يجب أن نعارِض، إن استطعنا، الأفكارَ المُعبَّر عنها أمامنا على نحو مُتقطِّع يجعلنا لا نعلم حتى ما نعترض عليه. هذا هو التقييم الأشد قسوة ﻟ «هكذا تحدث زرادشت». وثمة تقييمات أخرى أقل قسوة ومُبرَّرة يمكن الدفاع عنها. ولكني أفضِّل الانتقال إلى ما ألَّفه نيتشه من أعمالٍ بعد «زرادشت»، حيث بلغت قوتُه عنفوانَها، ولم يعد مضطرًّا إلى أن يتأقلم مع الظهور بمظهر مبجل في عباءته النُّبُوئية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤