مقدمة

تندرج ظاهرة المد والجزر Tides في البحار تحت راية علم المحيطات الفيزيائي Physical Oceanography. وتُعبر هذه الظاهرة الطبيعية عن التفاعل بين جاذبية الأرض والقمر والشمس.

وهي من الظواهر التي رصدَها الإنسان وسجَّل تغيراتها منذ أن سكن بجوار شواطئ البحار. وقد اهتمَّ بتفسير هذه الظاهرة الكثير من الحضارات القديمة، كما كانت محطَّ أنظار وأفكار العلماء العرب والمسلمين. إلا أن ما يُميز دراسة العلماء العرب والمسلمين للظاهرة أنها كانت تمتدُّ في إطار الحقل الهيدروغرافي، بحيث إنها تشمل الأنهار والبحار. وهذا ما جعلنا نُفرد فصلًا خاصًّا بأرصادهم للمدِّ والجزر في البحار والمحيطات والأنهار.

في الحقيقة إن ما دفعني وشجَّعني للاهتمام والبحث في هذا الموضوع هو ما عثرتُ عليه من مجموعة المخطوطات١ كان من شأنها أن تُساعدنا على القيام بمشروعٍ تخصُّصي من هذا النوع، وقد وجدتُ أن للمادة من الغِنى ما يُمكننا من إفراد كتابٍ كامل عن تاريخ دراسة هذه الظاهرة وكيف تم تفسيرها عبر كل الحضارات، مع التركيز الشديد على ما قدَّمه العلماء العرب والمسلمون من نظرياتٍ وأفكار وإسهامات جديدة تستحقُّ الوقوف عليها وإبرازها.

قبل الشروع بالعمل كان يتوجَّب علينا القيام بخطوةٍ بحثية بديهية لا بد منها، وهي تفحُّص كل الدراسات العربية والأجنبية السابقة في هذا الموضوع، فرجعنا إلى أضخم وأفضل مرجعٍ في ذلك وهي سلسلة «الجغرافية الإسلامية» التي أصدرها مؤرخ العلوم فؤاد سزكين وهي تتألف من ٢٥٩ مجلدًا، حيث إنه حصر فيها كل ما نُشِر من دراسات وأبحاث ومخطوطات مُحقَّقة وغير مُحقَّقة عن الجغرافيا الإسلامية الوصفية على مدى ٣٠٠ سنة، أي منذ القرن ١٨م وحتى نهاية القرن ٢٠م. وبعد إجراء مسحٍ شامل لها وللمئات من المصادر (المخطوط منها والمطبوع) والدراسات والمراجع العربية المتعلقة بعلوم البحار والجغرافيا والملاحة البحرية وتاريخها، لم نعثر على أي دراسةٍ أو بحثٍ عربي أو أجنبي درس موضوع المد والجزر في البحار في التراث العلمي العربي والإسلامي حتى وقت كتابتنا لهذا العمل. الأمر الذي أكسَبَنا زخمًا إضافيًّا للمُضي قدمًا في هذا المشروع.

لذلك تكمن أهمية هذا العمل في أنه يسلط الضوء — ربما لأول مرة — على النظريات العلمية العربية التي تُفسر ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار، وكيف كان العرب من أوائل الحضارات التي استفادت وسخَّرت طاقة المد والجزر، والأماكن التي كانت تَحدث فيها هذه الظاهرة.

كما أن العمل يُعرِّف القرَّاء بكل ما وصلنا إليه من مخطوطاتٍ علمية عربية مُخصَّصة لمعالجة هذا الموضوع. وبالتالي فإنه يؤسِّس لقاعدة تاريخية علمية عربية يُمكن للباحثين في المستقبل الارتكاز عليها لدى دراسة تاريخ السواحل في البلاد العربية والإسلامية، ومدى تأثُّرها بظاهرة المد والجزر خلال ١٥٠٠ سنة.

ينقسم العمل إلى بابَين؛ حيث إننا تناولنا في الباب الأول الدراسات العلمية لظاهرة المد والجزر ومحاولات تفسيرها والاستفادة منها منذ أقدم العصور وحتى نهاية القرن ١٩م، ويركز الباب الثاني على تحقيق المخطوطات التي وصلَتْنا وفق أصول التحقيق.

يمثل هذا العمل الجزء الثالث٢ من مشروع الموضوعات العلمية المُتخصِّصة التي سنقوم بمعالجتها في التراث العلمي العربي، والتي ندرس ونحُقق ونكشف من خلالها ما قدَّمه العلماء العرب والمسلمون من أعمالٍ علمية مُتخصصة في جانبٍ علمي مُحدد كانت غائبة عنا لزمنٍ طويل.

والله الموفق.

الدكتور سائر بصمه جي
حلب، ٢٠٢٠م
١  وهي:
  • رسالة في العِلة الفاعلة للمدِّ والجزر، لمؤلِّفها الكندي.

  • المد والجزر في كتاب المدخل الكبير، لمُؤلفه أبي معشر الفلكي.

  • كتاب المد والجزر المُسمَّى بوري الزند، لمؤلِّفه عبد القادر ميمي.

٢  كان الجزء الأول بعنوان: ذوات الأذناب (المُذنبات والنيازك والشهب) في التراث العلمي العربي. أما الجزء الثاني فهو بعنوان: «خرائط النجوم عبر العصور».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤