تفسير ظاهرة المد والجزر عند العلماء العرب والمسلمين
مقدمة
من المعروف حاليًّا أن المد والجزر ظاهرة جغرافية-فلكية طبيعية تنشأ من عدم تساوي جاذبية كلٍّ من القمر والشمس للأرض في أجزائها المختلفة وأن النصف المُواجِه للقمر ينجذب ماؤه أكثر من النصف الآخر؛ وذلك لأن القمر أقرب إلى الأرض من الشمس البعيدة، ويتأرجح المد والجزر وفقًا لتغيُّر مواقع الشمس والقمر من الأرض بالتباعُد أو التلاقي أو الانحراف على مدار الشهر. وعند تلاقي القمر والشمس على مستوٍ واحد من الأرض — كما يحدث في أول الشهر ومُنتصفه — يحدُث المد الأعظم.
ويبدو من خلال أشعار عرب الجاهلية أنهم عرفوا ظاهرة المدِّ والجزر، كما سجَّلوا لنا ذلك؛ فقد قال سهم بن حنظلة الغنوي (نحو ٧٠ﻫ/نحو ٦٩٠م):
- (١)
فريق اعتمد نظرية جاذبية القمر والشمس.
- (٢)
فريق اعتمد نظرية تمدُّد الهواء بتأثير الحرارة.
- (٣)
فريق اعتمد نظرية الرياح.
والواقع أنهم كلهم كانوا على حق؛ إذْ إنها عوامل وجدَها العلماء العرب في أثناء دراستهم للظاهرة، لكن بعضهم اعتقد بتأثير أحد هذه العوامل أكثر من غيره.
- (١)
على الحركة الرأسية للمياه، المقصود بها ارتفاع مستوى سطح البحر وانخفاضه في اليوم والليلة مرَّتَين.
- (٢)
وعلى الحركة الأفقية للمياه بمعناها الواسع ويقصد بها التيارات البحرية بشكلٍ عام.
من الناحية العملية؛ كانوا يجدون أنه يتوجَّب على الملَّاح أن يعرف حركات المدِّ والجزر الخاصة بكل منطقةٍ سيُبحر إليها؛ إذ بدون معرفتهما تتعرَّض سفينتهم لأخطار الارتطام بالصخور كما لا يستطيع تعيين وقت دخوله المرافئ.
نشير أخيرًا إلى أنه في حين تمَّ وضْع جداول (أزياج) فلكية خاصة بحركات الكواكب والأجرام السماوية، وإقرار معظم الفلكيين والبحَّارة العرب بوجود تأثيرٍ مُتبادل بين المد والجزر وظهور القمر؛ إلا أننا لم نجدهم قد قاموا بوضع جداول بمواعيد حدوث المد والجزر على مدار الشهر العربي، حتى في الرسائل والكتُب المُخصصة لدراسة هذه الظاهرة. لكن أبو معشر البلخي وضع طريقةً فلكية عامَّة يمكن من خلالها معرفة مواقيت المد والجزر.
ربما لم تظهر مثل هذه الجداول؛ لأن السبب يعود إلى عدم عمومية الظاهرة وكون معظم البلاد العربية والإسلامية لا تتأثَّر بهذه الظاهرة، كما أنها لا تؤثر كثيرًا على الواجبات الدينية، اللهم فقط بالنسبة للبلدان التي يرغب أهلها بالحج عن طريق البحر.
في حين أننا سنجد ظهور هذا النوع من الجداول في دولةٍ مثل بريطانيا كونها محاطة بالمُحيط الأطلسي وبحر الشمال والقنال الإنكليزي وما يُسمَّى بالبحر الأيرلندي؛ إذْ هناك حاجة ماسة وكبيرة لوضع جداول للمد والجزر تُساعد في حركة الملاحة البحرية النشطة جدًّا.
(١) المبحث الأول: علماء القرن (٣ﻫ/٩م)
تأسَّست في القرن (٣ﻫ/٩م) أولى النظريات العلمية العربية التي حاولت تفسير ظاهرة المد والجزر. فقد حاول كلٌّ من الكندي وأبي معشر الفلكي، وضع أُسس تفسير هذه الظاهرة والذي سيكون له أثر لعدَّة قرون لاحِقة. وقد كتب عن هذه الظاهرة في هذا القرن تسعة علماء بين مُجدِّد ومُقلد.
(١-١) محمد بن عبد الملك الزيات
(١-٢) علي بن ربن الطبري
(١-٣) الجاحظ
قد يكون الجاحظ (توفي ٢٥٥ﻫ/٨٦٩م) من أوائل العلماء الذين تناولوا موضوع نقد ما يتناقله عامة الناس من تفسير لظاهرة المد والجزر في البحار، وذلك في رسالته «التربيع والتدوير». فهو يريد أن يصِل لسببٍ عقلي مُقنع بعيدًا عن المقترحات الغيبية. ويصِل في النهاية إلى أن للقمر دورًا فاعلًا ورئيسًا في الظاهرة.
(١-٤) الكندي
لكننا في الحقيقة سبق وأن وجدنا في الفصل الأول من هذا الباب كيف أن أرسطو كان مُتخبطًا في آرائه وتفسيره لهذه الظاهرة؛ فمرة كان يَنسبها للرياح، ومرة للكُتَل الصخرية الساحلية. دون أن يأتي على ذِكر أي دورٍ للقمر. باستثناء الرسالة المُزيفة المنسوبة إليه، والتي لا يُمكننا اعتبارها تُجسِّد أفكار أرسطو؛ لذلك فإننا نُرجح رأي سزكين حتى تظهر دلائل وقرائن مُغايرة لذلك.
- الأول: المد الطبيعي: وعرفه بأنه: «استحالة الماء من صغر الجسم إلى عظمه.»٢٠
- والثاني: المد العَرَضِي وعرَّفه بأنه: «زيادة الماء بانصباب مواد فيه»،٢١ كما في حالة الأنهار والأودية والفيوض التي أصلها من الأنهار، وأشار إلى أن مثل هذا المد لا تظهر فيه زيادة، وذلك لصغر كمية المياه المضافة إليه من الأنهار وغيرها، بالمقارنة مع مياه البحار، وكذلك بسبب البخر الواقع لها.
- الأول: المد السنوي: وهو الزيادة في مياه البحار في وقتٍ مُحدَّد من السنة في موضعٍ دون موضع، حسب حركة الأجرام السماوية.٢٢
- والثاني: المد الشهري: وهو يحدث حسب تغيُّر أوضاع القمر في دورانه حول الأرض.٢٣
- والثالث: الثالث المد اليومي: وهو واقع لتأثير ضوء القمر عليه، فيبتدئ مدُّه مع طلوع القمر عليه، ويبتدئ جزرُه حين يبتدئ زوال القمر عن سمت رءوس أهله.٢٤
ونظرًا لأهمية رسالة الكندي فقد وضعنا نصَّها بالكامل في الباب الثاني من هذا الكتاب.
(١-٥) حنين بن إسحق
(١-٦) أبو معشر البلخي
درس العالم الفلكي أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي (توفي ٢٧٢ﻫ/٨٨٦م) ظاهرة المد والجزر في البحار بشكلٍ مُفصل، وذكر الأنواع والأسباب المختلفة لها، وقد أودع ذلك في خمسة فصول محاولًا تقديم نظريةٍ مُتكاملة وشاملة تُفسر كل ما يتعلق بظاهرة المدِّ والجزر من وجهة نظره كعالِم فلك.
ما يميز بحث أبي معشر في الفصول التي ناقش فيها المد والجزر أنه لم يتطرَّق إلى الأسباب الغيبية الخارقة للعادة التي طرحَها بعض المؤلِّفين الذين ناقشوا هذه الظاهرة؛ وإنما حاول تفسيرها وفق الأسباب والمُعطيات الفيزيائية التي كانت في عصره، خصوصًا أثر القمر وحركته ومدى اكتماله ونقصانه خلال الشهر.
- (١)
حالة موضع الماء: إذ يجب أن يكون المَوضع عميقًا وعريضًا وطويلًا، وفيه جبال تُمكِّن الرياح من الاجتماع والقيام بدورٍ في المد.
- (٢)
حالة الماء نفسه: إذ يجب أن تكون كمية المياه كثيرةً وساكنة، لا تدخُل أو تخرج منها المياه.
- (٣)
تحريك القمر للماء: بمعنى انتقال القمر في أطواره خلال اليوم أو الشهر.
وهكذا وباجتماع العوامل الثلاثة يحدث لدَينا المد والجزر.
وفي حال أردْنا معرفة ساعة المدِّ وحدَه أو الجزْر وحدَه فيُمكننا تقسيم الناتج على الرقم ٢.
وهذا يعني أن أبا معشر قد تنبَّه إلى تأثُّر المدِّ بعامل خط الطول والعرض وزاوية شروق وغروب القمر. وقد تكون هذه أول مُعالجة حسابية مُقنَّنة لظاهرة المد والجزر؛ إذْ أننا لم نعثر على أي معاجلة أو طرح من هذا النوع لدى أي عالِم سبق أبو معشر.
- (١)
بُعد القمر من الشمس وزيادته في الضوء ونقصانه منه.
- (٢)
زيادة تعديل القمر عن وسطه أو نقصانه منه.
- (٣)
موضع القمر من فلك الأوج أو قُربه من الأرض.
- (٤)
صعوده أو هبوطه الفلك المائل وجهة عرضه.
- (٥)
كون القمر في البروج الشمالية والجنوبية.
- (٦)
الأيام التي يُسمِّيها البحريون الذين هم في ناحية المغرب ومصر أيام زيادة الماء ونقصانه.
- (٧)
معرفة قوة المد وضعفه من طول النهار والليل وقصرهما من خاصة دلالة الشمس.
- (٨)
معرفة الرياح المُقوِّية للمدِّ والجزر.
- الأول: لا يكون فيه مدٌّ ولا جزْر.
- الثاني: لا يتبيَّن فيه المد والجزر.
- الثالث: ما يتبيَّن فيه المدُّ والجزر.
كثيرًا ما كان يَستخدم أبو معشر ألفاظًا مثل «سألنا»؛ لتدلَّ على أنه كان يُواكب بين النظرية والتجربة.
بالمقارنة بين طروحات أبي معشر والكندي نجد أن أبي معشر قد فصَّل في حالات المد والجزر وما يتعلق بها من عوامل، كما كانت صياغته منطقيةً أكثر بكثيرٍ من صياغة الكندي.
(١-٧) أبو القاسم بن خرداذبة
نقل لنا الجغرافي عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة (توفي نحو ٢٨٠ﻫ/نحو ٨٩٣م) عن أصحاب الخبرة العملية في البحار مُلاحظتهم لتغيُّر المد والجزر مع حركة القمر خصوصًا المد السنوي.
(١-٨) أبو العباس السرخسي
(١-٩) سليمان التاجر السيرافي
(٢) المبحث الثاني: علماء القرن (٤ﻫ/١٠م)
ناقش في هذا القرن ظاهرة المد والجزر ثمانية علماء، وقد بدا على مُناقشاتهم تأثُّرهم بما سبق وأن طرحه الكندي وأبو معشر البلخي.
(٢-١) ابن الفقيه الهمذاني
(٢-٢) أبو الحسن المسعودي
ما طرحه الكندي وأبو معشر البلخي من تفاسير لظاهرة المدِّ والجزر تبنَّاها أبو الحسن المسعودي (توفي ٣٤٦ﻫ/٩٥٧م)، وقد ناقش موضوع المد والجزر في كتابَيه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» و«التنبيه والإشراف» مناقشةً مُوسَّعة. حيث قدَّم لنا المسعودي تعريفه لظاهرتَي المدِّ والجزر بشكلٍ علمي، ثم دعم ذلك التعريف بأمثلةٍ من الطبيعة. ثم قدم أنواع المدِّ والجزر حسب الاهتزاز المدِّي.
بعدَها انتقل للتفصيل في أسباب عدم ظهور المد والجزر في بعض البحار وظهوره في البعض الآخر.
بعدها يتناول المسعودي مختلف الآراء التي طرحت في عصره، وناقشت سبب حدوث هذه الظاهرة، وكيف انقسم الناس إلى فرقٍ حول ذلك. فمنهم من قال إن سبب المد والجزر هي الحرارة التي يُسخِّن بها القمر المياه، وهي نظرية الكندي.
ثم يستعرض رأي مجموعةٍ أخذت بالرأي القائل إن الأبخرة المُحتقنة بباطن الأرض هي السبب في توليد الظاهرة.
وترى جماعة أخرى أن سبب المد والجزر هو البنية المادية لمياه البحر، التي تتراوح بين القوة والضعف.
وتأخذ الفرقة الأخيرة بالرأي القائل إن الهواء المُحيط بالبحار هو السبب في تشكيل المد والجزر؛ كون الهواء يخضع لدورةٍ تبادلية دائمة التحرُّك بينه وبين مياه البحر.
بعدها يُحدثنا المسعودي عن الذي وصلَه من أصحاب الخبرات العملية من البحارة. فقد وجد هؤلاء أن المد والجزر يحدث بشكلٍ سنوي في المحيط الهندي وبحر الصين.
ثم يذكر المسعودي وبأمانةٍ علمية أن الرأي الذي عرضه كان رأي الكندي والسرخْسِي وليس رأيه الخاص. ويبدو أنه حاول أن يربط بين التفسير النظري والواقع الذي شاهده في بلاد الهند.
كما ناقش حديث الملَك الشائع بين الناس لتفسير الظاهرة، وقد اتخذ في البداية موقفًا مُحايدًا. فهو لا يُصدِّق ولا يُكذِّب، وإنما يوكل ذلك إلى علم الله.
ثم يعود للحديث عن المد والجزر السنوي الشهري الذي يحدث في البحار والمُحيطات.
ثم عاد وناقش موضوع الملك مرةً أخرى، وقد كان واضحًا من كلام المسعودي انتقاده الضِّمني لمن يُحاول أن يفسر ظاهرة المد والجزر اعتمادًا على الغيبيات؛ لأن ذلك لا يجعلنا نفهم الحقيقة، وقد أراد أن يُحول الأنظار والأفكار نحو التفكير العلمي، فذكر تنازُع الفلاسفة حول سبب الظاهرة الفعلي، فقال ثمة جدل بينهم هل ينشأ المد من تأثير القمر أم الشمس، ويحاول أن يقدم تفسيره بذكاءٍ ليتجنَّب أي صراعٍ فكري مُستقبلي مع أي شخصٍ كان، فيُشير إلى أن القمر هو المؤثر، ويقدِّم ذلك على أن له تأثيرًا آخر على أجساد الكائنات الحية، سبق وأن ذكرها أهل العِلم والطب.
(٢-٣) المطهر بن طاهر المقدسي
(٢-٤) أبو نصر القمِّي
(٢-٥) ابن حَوْقَل
حاول محمد بن حوقل البغدادي المَوصلي (توفي بعد ٣٦٧ﻫ/بعد ٩٧٧م) أن يردَّ على مزاعم وخرافات الناس بطريقةٍ عقلية ومنطقية. إذْ يُحدثنا عن بئرٍ يفيض ماؤها إذا أقسم أي شخصٍ عليها، فقام وأقسم عليها ولم تَفُر ولم تتحرك، فتتبع منبعها، ووجده مُتِّصلًا بالمياه التي تتأثر بحركة المد والجزر مرتَين في اليوم.
(٢-٦) التميمي المقدسي الترياقي
(٢-٧) شمس الدين المقدسي البشاري
(٢-٨) إخوان الصفا (القرن ٤ﻫ/١٠م)
ناقش إخوان الصفا وخلان الوفا (القرن ٤ﻫ/١٠م) ظاهرة المدِّ والجزر مُعتمِدين على ما سبق وطرحه الكندي.
(٣) المبحث الثالث: علماء القرن (٥ﻫ/١١م)
في هذا القرن ناقش خمسة علماء ظاهرة المد والجزر. فمنهم من ربط بين الظاهرة وحركة القمر، ومنهم من اعتمد على نظريتَي الكندي وأبي معشر.
(٣-١) أبو علي المرزوقي
(٣-٢) أبو الريحان البيروني
(٣-٣) ابن حزم الأندلسي
(٣-٤) ناصر خسرو
طرح أبو معين الدين ناصر خسرو الحكيم المروزي (توفي ٤٨١ﻫ/١٠٨٨م) مجموعة من الدلائل عن المد والجزْر اليومي الذي يحدُث في بحر عُمان ونهري الفرات ودجلة التي تُشير إلى تأثُّرها بحركة القمر.
(٣-٥) أبو عبيد البكري
ثم ينتقل البكري لطرح مختلف الآراء التي قالها العلماء حول تفسير الظاهرة دون أن يُضيف لها أي رأيٍ جديد.
بعدها ينقل لنا أقوال المسعودي (الذي رمز إليه بالحرف س) وأبو معشر. حيث قال:
«قال س: وقد زعم قوم من نواتية (رؤساء السفن) البحر الفارسي أن المدَّ والجزر لا يكون فيه إلا مرتَين في العام، فإذا كان الصيف كان الماء في مشارق البحر بالصين وما والاه وفي الشتاء بالضد.
قال س: رأيت بمدينة كنباية من أرض الهند، وهي مملكة البلهرى، وكانت على خليج من البحر أعرض من النيل، فيجزر الماء في هذا الخليج حتى يبدو الرمل وقعر الخليج ويبقى فيه اليسير من الماء. فرأيتُ الكلب على هذا الرمل الذي نضب ماؤه وصار كالصحراء، وقد أقبل المدُّ وأحس به الكلب فأقبل يشتدُّ ليفوت الماء، فلحق الماء بشدَّة دفعت الكلب فغرقته.
(٤) المبحث الرابع: علماء القرن (٦ﻫ/١٢م)
ناقش في هذا القرن ظاهرة المد والجزر اثنان من العلماء العرب. أحدهما رجع إلى النظريات اليونانية، والآخر اعتمد نظرية الكندي دون أية إضافةٍ جديدة.
(٤-١) الشريف الإدريسي
استعرض محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الإدريسي (توفي ٥٦٠ﻫ/١١٦٥م) في بداية تفسيره لظاهرة المد والجزر في البحار آراء الفلاسفة اليونانيين السابقين فقط، دون أن يأتي على ذِكر ما طرحه الكندي أو أبو معشر. وهذا أمر مُستهجَن؛ لأن الأفكار التي طرحها الكندي أو أبو معشر كانت منتشرةً وشائعة بشكلٍ كبير منذ أن نشراها في أعمالهم في القرن (٣ﻫ/٩م).
بعدها حاول الإدريسي أن يؤكد صحة الأفكار أو بعضها من خلال ما شاهده لدى زيارته لبعض الدول الساحلية في أوربا، مثل البرتغال وبريطانية اللتَين تُطلان على المحيط الأطلسي. حيث يكون المد والجزر واضحًا تمامًا هناك لدى رصده.
(٤-٢) ابن رشد
(٥) المبحث الخامس: علماء القرن (٧ﻫ/١٣م)
ناقش موضوع المد والجزر في هذا القرن خمسة من العلماء العرب.
(٥-١) نور الدين البطروجي
(٥-٢) ابن ميمون
(٥-٣) ياقوت الحموي
رفض ياقوت الحموي (توفي ٦٢٦ﻫ/١٢٢٩م) ما طرحه أصحاب القصص الخرافية والعجائبية من العرب والمسلمين حول ظاهرة المد والجزر، كما نبَّه إلى أنه ليس مؤمنًا بصدقها.
وقد رد عليه ياقوت مؤكدًا صحة كلامه؛ لأنه تحقق من ذلك بنفسه، وشاهده معاينةً.
(٥-٤) سبط بن الجوزي
يبدو أن أبا المظفر سبط بن الجوزي (توفي ٦٥٤ﻫ/١٢٦٥م) كان يُناصر الرأي الديني في تفسير ظاهرة المد والجزر. فبعد أن استعرض ما سبق وطرحه أبو معشر البلخي من أنواع المياه التي يحدث فيها المد والجزر، انتقل للبحث في الأسباب المختلفة للظاهرة. حيث قال: «فأما المد فمُضي الماء بجريته، والجزر رجوعه عن ذلك، وقال علماء الهيئة: البحار ثلاثة أصناف:
ثم رد على أصحاب الآراء المختلفة حتى أولئك الذين يربطون بين حركة القمر والمد، فكل ما يتكلَّمون به عارٍ عن الصحة.
«فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الجزر والمد في جميع البحار، قُلنا: قد ذهب قوم إلى هذا، وإنما لم يظهر في غير بحر البصرة لوجهَين: أحدهما: لبُعد المسافة واتِّساع البحار، ومن لجَجَ من المسافرين في البحار يذكُر أنه شاهدَه، والثاني: فلأن مكان المد والجزر في البصرة تحت خطِّ الاستواء واعتدال الليل والنهار وعليه الكواكب الثابتة، وهذا المعنى لا يُوجَد في غيره.
وأما قول من علل بزيادة القمر ونقصانه، فغير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لتعلق بزمانٍ مخصوص، فإن القمر يزيد في أول الشهر وينقص في آخره، والمد والجزر يكون في كل يومٍ وليلة فافترقا.
موقف غريب من شخصٍ مثل ابن الجوزي؛ فالكل مؤمن بقدرة الله — عز وجل — على فعل ما يريد وكيف يريد، لكن الله لم يُحرِّم على عباده التفكير والبحث في الأسباب المادية الكامنة وراء الظواهر، ولو أنه عطلوا عبادة التفكر التي أمر بها بالقرآن لتعطَّلت الحياة نفسها، وهذا ما لا يريده الخالق بكل تأكيد. فنحن نعلَم اليوم وجود خاصية الجاذبية في الشمس والقمر والفعل المُتبادل بينهما وبين المياه في البحار والمحيطات، فهل ما توصَّل إليه التفكير العلمي يُناقض أو يتعارَض مع إيماننا بقدرة الله الذي أودع هذه الخصائص في هذه الأجرام؟!
بكل تأكيد لا يتعارَض ولا بأي صورة من الصور، إذْ أمكنت هذه المعرفة من أن تجعل الناس يدرءون عن أنفسهم خطر المد والجزر، ويُحوِّلونه إلى أحد مصادر الطاقة التي استفادوا منها بمختلف الأشكال.
(٥-٥) زكريا القزويني
تناول المؤرخ والجغرافي زكريا بن محمد القزويني (توفي ٦٨٢ﻫ/١٢٨٣م) في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» ظاهرة المد والجزر وعزاها إلى القمر.
ويبدو أنه وقع في الفخ نفسه الذي وقع فيه دارون من قبل، بأن اعتبر طرح القزويني مُمثلًا وحيدًا عن النظريات العربية في المد والجزر.
(٦) المبحث السادس: علماء القرن (٨ﻫ/١٤م)
ناقش موضوع المد والجزر في هذا القرن أربعة من العلماء العرب دون أية إضافات جديدة.
(٦-١) شيخ الربوة
يُحدثنا شمس الدين أبو عبد الله محمد الدمشقي (توفي ٧٢٧ﻫ/١٣٢٧م) عن المد والجزر الذي يحدث عند الأنهار التي تتفرَّع عن شط العرب، مُلتقى الفرات ودجلة، وهو من النوع نصف النهاري.
وما وصفه لنا شيخ الربوة هو ما يُسمَّى بالدورة المدِّية، وفترة السكون التي تكون بعد المد، وكيف أن وقت المد يتأخَّر في كل يوم عن سابقه بالمدة نفسها التي يتأخَّر فيها ظهور القمر في المكان نفسه كل يوم.
(٦-٢) أبو الفداء الحموي
(٦-٣) شهاب الدين النويري
(٦-٤) ابن كثير
(٧) المبحث السابع: علماء القرن (٩ﻫ/١٥م)
ناقش موضوع المد والجزر في هذا القرن اثنان من العلماء.
(٧-١) تقي الدين المقريزي
وقد ضرب — من باب تبسيط الفكرة — مثالًا على أن النور الذي يخرج من المصباح يسخن المنطقة المقابلة له الهواء، وهذا ما يفعله القمر بالمنطقة المقابلة له من البحار، فكلَّما زادت كمية الشعاع الواصلة لقاع البحر، زاد مقدار المد.
ومع انضمام أشعة الشمس والكواكب لأشعة القمر يُصبح المد أعظميًّا. وقد خلص المقريزي إلى السبب الرئيس في الزيادة الحاصلة في نهر النيل؛ هو مد البحر الذي يتصل به.
(٧-٢) سراج الدين بن الوردي
(٨) المبحث الثامن: علماء القرن (١١ﻫ/١٧م)
- (١)
- (٢) كما رفض أن يكون منشأ المد والجزر هو تسخين أشعة الشمس لقاع البحار، وتوليد الرياح بداخلها والتي تدفع بالماء وتُمدِّده.١٢٧
- (٣) وجد أن الرياح الساكنة تترافق مع المد، وأن المد يزداد عندما تنقص والعكس صحيح.١٢٨
- (٤) رفض أطروحة البعض بأن المد والجزر يكونان فقط في الحالة التي يكون فيها القمر بدرًا فقط، وإنما نشاهد المد والجزر يوميًّا.١٢٩
- (٥) اتفق مع القائل بأن سبب المد والجزر هو طلوع القمر وغروبه. وهنا يشير إلى أنه لابد وأن في القمر خاصية «الجاذبية» حيث قال: «ولا مانع من أن يكون قد جعل الله في القمر خاصية جذب الماء وارتفاعه كما جعل في المغناطيس خاصية جذب الحديد.»١٣٠ وهي الفكرة التي سيعود لها الفيزيائي البريطاني وليم جيلبرت (توفي ١٦٠٣م) W. Gilbert، ويفسر ظاهرة المد والجزر على أساس أن الأرض تعمل مثل مغناطيسٍ كبير.١٣١
- (٦)
- (٧) كما أنه وقف مُحايدًا من الأقوال العجيبة والغريبة التي وصلته، فهو لم يُصدقها ولم يُكذِّبها. مثل قول البعض إن سمكة أو دابة كبيرة جدًّا تمتصُّ ماء البحر فيحصل الجزر، وتلفظه فيحصل المد.١٣٤
(٩) المبحث التاسع: علماء القرن (١٤ﻫ/١٩م)
حاول الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي (توفي ١٣٥٤ﻫ/١٩٣٦م) أن يقدم لنا نظرية علمية جديدة مُختلفة تمامًا عما قد طرحه العلماء العرب السابقون. فقد حاول الزهاوي من خلال أطروحته الجديدة في الجاذبية الثقالية والتي أودعها في كتابه «الجاذبية وتعليلها»، تفسير ظاهرة المد والجزر، مُعتمدًا بذلك بالأساس على نظريته في تفسير الجاذبية، والتي أراد أن يُخالف فيها نظرية نيوتن في الجاذبية العامة.
وسنورد فيما يأتي تفسيره لظاهرة المد والجزر الذي نشره في مجلة العلم عام ١٩١٠م اعتمادًا على نظريته السابقة. ونستشف من هذا الرأي عدم معرفته أو قراءته للتراث العلمي العربي بشكلٍ دقيق؛ فهو ينفي عنهم تفسيرهم للظاهرة، ويعتبر أن المُعاصرين له بين القرنين التاسع عشر والعشرين كانوا على خطأ في تفسيرها. ويظن أن تفسيره هو الصحيح ضاربًا بالكثير من الأدلة عرض الحائط، ومتمسكًا بنظريته في الدفع.
قال الزهاوي: «إن المد الذي يشاهد على وجه البحر يصح أن يُسمَّى ظاهرة طبيعية وفلكية في وقتٍ معًا، فإن ظهوره في الأرض وسببه في السماء.
بعدَها يُحاول الزهاوي أن يؤكد على صحة رأيه فيقول: «اغتر المُحدثون بالظواهر فأخطئوا في تعليل المَدَّين بأن القمر يجذب ماء الأرض الأقرب كثيرًا، ويجذب الأرض تحته أقل. والصواب أن القمر أو الشمس لا يجذب ماء الأرض بل المد ظاهرة كهربائية تتولَّد من دفع القمر أو الشمس لوجه الأرض الأقرب ومن جذبه لوجه الأرض الأبعد، فتهبط الأرض من الوجهَين ويعلو الماء عليهما وذلك هو المدَّان المُتقابلان.
(١٠) المبحث العاشر: مؤلفون مجهولون
تناول عدد من المؤلفين العرب والمسلمين المجهولين ظاهرة المدِّ والجزر في البحار. وقد وجدنا أن نُفرد لهم مبحثًا خاصًّا نُناقش فيه آراءهم التي تدور في مُجملها حول آراء من سبقَهم دون أن يُقدموا الجديد فيها.
(١٠-١) مؤلف مجهول
يعرض هذا المؤلف عدة وجهات نظر حاولت أن تُفسر ظاهرة المد والجزر؛ فالبعض يعتبر أن كوكب الأرض كله مخلوق هائل كبير، ولدى تنفُّسه يحدث المدُّ والجزر. وبعضهم يرى أن السبب هو انصباب مياه الأنهار في البحار ورجوعها عنه، واقترح ثالث أن السبب هو وجود فتحة هائلة كبيرة تحت البحر، واقتراح رابِع أن البحر من خصائصه أن تغور المياه فيه وتمد، ويختم في النهاية أنه يعتقد بأن القمر هو السبب في ذلك، وذلك بفعل «حقل جاذبيته» المؤثر على الأرض كلها وليس البحار. ولعل هذا الرأي هو أحد أقرب التفاسير دقةً وقُربًا من تفسيرنا العلمي الحالي. والذي سبق وأن وجدنا ظهور هذه الفكرة عند عبد القادر بن أحمد بن ميمي البصري.
إن «الذي يُحير العقل ويُصيِّر اللبيب متحيرًا في الفكر هاتان الحركتان العجيبتان، أعني المد والجزر، وقد اختلف العلماء النظار والحكماء الشطار في إدراك سبب المد والجزر؛ فالبعض منهم قال إن العالَم هو حيوان مركب من الأربعة عناصر، مُتصفٌ بالعقل والحياة، ومنخراه تحت البحر فإذا تنفَّس واجتذب الهواء اجتذب ماء البحر، ومتى أطلق النفَس امتدَّ الماء وهو المد.»
وقال البعض إن السبب في المد والجزر هو جريان الأنهار وانصبابها في البحر وعَودها عنه، فإذا جرت المياه النهرية إلى البحر تزايد ماء البحر، وزيادة المياه تقتضي سعة المكان واتساعه، وهكذا يكون المد، وفي رجوع تلك المياه إلى أماكنها من القنايات وتجاويف الأرض عاد البحر إلى حاله وهو الجزر.
وقال البعض إن تحت البحر هُويةً عظيمة في غاية الاتساع، فإذا جرت المياه من البحور وأسرعت في الخرير بثقلها من شدة الجريان، صدر امتداد البحر؛ لأن المياه تتَّسِع بكثرة الحركة، ويكون المد. وفي ضعفها تعود إلى حالها الأول وهو الجزر كما شُوهد في المياه الجارية من رءوس الجبال، لأنها تعود صاعدة إلى العلو في نزولها إلى السفال بشدة الانصدام، ثم ترجع مُنعكسة، وهو كالمد، وبضعف الصدمة ورجوع المياه إلى حالها يكون كالجزر، وهذا رأي أفلاطون.
والبعض قالوا عن المدِّ والجزر إنه من كيفيات البحر التي بتأثيرها يغيض ويغور، وبضعف تأثيرها يعود إلى حاله ويحصل الجزر، ويجري ذلك في مدةٍ محدودة كما هو مشهود في بدن المحموم متى أصابته الحُمى، وكما تجتمِع الطبائع في مدة محدودة وباجتماعها يتحرَّر البدن أو يبرد ثم تفترق الطبائع وتعود إلى درجة الاعتدال في مدةٍ أخرى وتزول الحُمى. هكذا البحر في زمنٍ مخصوص تغيض مياهه باجتماع كيفياته المؤثرة ويفعل المد، وفي حين معلوم تعود الكيفيات إلى درجة الاعتدال فيسكن البحر ويعود إلى حاله وهو الجزر.
- أولًا: من اختلاف نظر الشمس إلى القمر، وذلك مجرب أنه متى كان القمر بدرًا واشتدَّ تأثير الشمس فيه من الوجه الذي يلينا تزايد المدُّ والجزر في ذلك الحين.
- ثانيًا: ازدياد المد والجزر تابع لازدياد القمر وانمحاقه حتى إنه قد يتقدَّم ويتأخر في كل دورٍ اثنتي عشرة درجة. مثلًا: لو قدَّرنا إن ابتداء المد كان وقت الزوال في يومِنا هذا، فإنه يتأخَّر غدًا اثنتَي عشرة درجة بعد الزوال؛ لأن القمر في كل دورٍ يتأخر محله اثنتَي عشرة درجة. وأيضًا بازدياد القمر في نوره المُكتسب من الشمس يتزايد المد وفي المُحاق ينقص.
- ثالثًا: هو حكم القمر على الأجسام الرطبة حتى إن جالينوس ومن يَليه من الحكماء خصُّوا الأمراض الصادرة من ازدياد البلغم للقمر، وقالوا إنه بتأثيره يتزايد البلغم في الأبدان، ومن هنا نسبوا الجزر والامتداد للقمر، وكما أن القمر يقع بتأثيره في البلغم المتصف بالبرد والرطوبة هكذا يقع تأثيره في البحر المُتصف بتلك الكيفيتَين.
وإن سألَنا أحد بقوله كيف القمر يفعل المد والجزر؟ فالجواب: إنه يفعل ذلك ببعض كيفياته الذاتية لا بِضيائه، ولو قرَّرنا بأن القمر يؤثر شيئًا بضيائه لا بحركته كما زعم البعض من الحكماء، لأننا لو فرَضْنا بأن الأمر كذلك، لاقتضى عدم المد والجزر في انمحاق القمر؛ لأنه حينئذٍ يتعرَّى من النور، وقد شُوهِد وجود المدِّ والجزر في مُحاقه، وشوهد أيضًا متى كان القمر مُحتجبًا بكرة الأرض، واتَّضح حينئذٍ أن حركة القمر لا يُمكنها التأثير في البحر لمقابلة الأرض بينهما. وأقول لهذا الدليل إن المد والجزر من كيفية موجودة في القمر وبها يُحرك البحر، وبالحركة يكون المد والجزر من ضعفها، وإن قال أحد كيف يمكن ذلك متى كان القمر مُحتجبًا بكرة الأرض؟
(١٠-٢) مؤلف مجهول (القرن ٣-٤ﻫ/٩-١٠م)١٤٣
«قال أفلاطون: وعند انتدابك في العمل فاستعن في التحليل بالقمر، وفي التصعيد بالشمس إلى أن قال: فإن أثرهما يظهر.
قال أحمد: الذي أنبأك به قول له فيه وفي سائر آرائه مذهب أنا مخرج لك جُمَله، فلنبدأ ببعض ما أتي به بعض تلامذة الشيخ أفلاطون: فمنهم غلوقن.
فيقول: إن من رأي الأوائل أن ما بين الاجتماع والاستقبال القوة للقمر، وبين الاستقبال والاجتماع القوة للشمس. فكل أمرٍ من الأمور التي يستولي عليها هذان الكوكبان يكون الأثر للكوكب في أوان قوَّته واستيلائه أكثر.
إذن الغاية من هذه الحوارية الخيالية بين أحمد وأفلاطون القول: إن ظاهرة المد والجزر تزداد عندما يحدُث ما يُسمَّى بعِلم الفلك (الاجتماع) بين جرمَين وأكثر مع الأرض، كأن تُصبح الشمس والقمر والأرض على خطٍّ مستقيم واحد، عندها، وهذه حقيقة صحيحة، يُصبح المد أعظميًّا فيجذب مياه البحار والمحيطات للأعلى على أحد طرفي كوكب الأرض، في حين أنه يُحدث جزرا أعظميًّا على الطرفَين المقابلَين، وهو ما يؤكد فعل الجاذبية على الأرض.
(١٠-٣) مؤلف مجهول (٤ﻫ/١٠م) أو (٥ﻫ/١١م)
يرى مؤرخ العلوم فؤاد سزكين أن أوسع مُعالجة لظاهرة المد والجزر قد وصلت إلينا هي تلك التي وضعها مؤلف مجهول في مخطوطة موجودة في مكتبة الإسكوريـال (١٦٣٦/٢، ١٠٠ظ-١١٧ظ، ٥٨٨ﻫ). حيث حاول المؤلف أن يُوضِّح كلامه بأشكالٍ فلكية ورسوم جغرافية. تتألف هذه الرسالة من ثلاثين بابًا تُغطي كافة جوانب ظاهرة المد والجزر. وقد أورد فيها آراء كل من سبقه في الظاهرة ثم ناقشها، وهو يعتقد أنه لا يُوجَد رأي قد أحاط علمًا بكل ظواهر المد والجزر.