الفصل الخامس

أساليب الاستفادة والوقاية من طاقة المد والجزر

مقدمة

تُعتبَر الطاقة التي تنقلها موجات المد والجزر هائلةً عندما تكون على المقياس الكبير. وقد تعدَّدت أشكال الاستفادة من طاقة المدِّ والجزر، فإما كانت تُستخدَم لتدوير طواحين الحبوب، وإما لتسيير حركة السفن. كما كانت هناك إجراءات احترازية وقائية تُتَّخذ للتحذير من ضرر حركة المد والجزر في البحار والأنهار على حركة الملاحة، كأن تُوضَع مؤشرات تُنبِّه البحارة على ذلك.

سنرى في هذا الفصل كيف أن العرب ربما كانوا أول من استفاد من طاقة المد والجزر وتحويلها إلى عملٍ مُفيد من خلال الطواحين المائية، وإذا تأكد ذلك فإنهم يكونون قد سبقوا الأوربيين في هذا التطبيق بنحو ثلاثة أو أربعة قرون.

في المسح الذي أجراه الباحث و. إ. منشنتون W. E. Minchinton لمعرفة إسهامات كل الحضارات في صناعة طواحين المد والجزر قال: «أخبرني جوزيف نيدهام أنه لم يكن لدى أهل الصين أو الهند معرفة بطواحين المد والجزر، بينما أكد لي ماريون جونسون بأنه ما من دليلٍ على وجود طواحين المد والجزر في أفريقيا. وأعرف أنه ما من دليل قبل الدليل الأوروبي عن شمال وجنوب أمريكا والكاريبي.»١

(١) المبحث الأول: طواحين طاقة المد والجزر

تُشير الوثائق إلى معرفة كلٍّ من العرب والأوربيين بطواحين المد والجزر. وقد كان للعرب السبق على الأوربيين في هذا المجال.

أولًا: العرب والمسلمون

يعود أقدم نصٍّ عربي وصلَنا عن الطواحين التي استخدمت طاقة المد والجزر إلى القرن العاشر للميلاد، وهذا يعني أن هذه الطواحين كانت موجودةً على الأقل منذ ذلك القرن، إن لم يكن أبكر من ذلك. فنحن نعلَم أن مدينة البصرة قد بناها الصحابي الجليل عُتبة بن غَزوان (توفي ١٧ﻫ/ ٦٣٨م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (توفي ٢٣ﻫ/٦٤٤م) سنة ١٤ﻫ وقيل ١٥ﻫ عند مُلتقى نهري دجلة والفرات،٢ أي منذ القرن السابع للميلاد.
يروي لنا محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي البشاري (توفي نحو ٣٨٠ﻫ/نحو ٩٩٠م) كيف استفاد أهل البصرة من ظاهرة المد والجزر واستغلُّوا طاقتها، من خلال وضع طواحين مائية عند مخرج المد، بحيث إنه يُديرها. ويُشير هذا إلى أن مستوى المد كان يصِل إلى مترَين.٣
قال المقدسي البشاري: «قل في البصرة ما شئتَ من مياهها وبِرَكها ومدِّها وجزرها … والجزر والمد أعجوبة على أهل البصرة ونعمة؛ يزورهم الماء في كل يومٍ وليلة مرتَين ويدخل الأنهار ويسقي البساتين ويحمل السفن إلى القرى، فإذا جزر أفاد أيضًا عمل الأرحية لأنها على أفواه الأنهار فإذا خرج الماء أدارها. ويبلغ المد إلى حدود البطائح وله وقت يدور مع دور الأهلة».٤
وقد ذكر مؤرِّخ التكنولوجيا المعروف ر. ج. فوربيس  R. J. Forbes أن: «البصرة تقع على الخليج العربي وقد كان فيها طواحين مدٍّ وجزر، معظمها من أجل طحن الذرة.»٥ طبعًا يمكن استخدام الطاحونة لطحن أي نوع من الحبوب، سواء قمح أو شعير، ولا يُمكننا الجزم بشكلٍ قاطع أنها استُخدِمت فقط من أجل الذرة.

يبدو أن هذا النوع من الطواحين قد انتشر واستُخدِم بكثرة في البصرة لكُلفته الرخيصة وكفاءته العالية طوال أيام السنة، مقارنةً بالطواحين المائية التي تعتمد على حركة التيار المائي فقط التي تتأثر بين الصيف والشتاء. وهو ما قد يفسر لنا لماذا حظيت البصرة فقط بظهور هذا النوع من الطواحين دون غيرها من المدن العراقية أو حتى العربية الأخرى التي تقع على ضفاف الأنهار.

fig1
شكل ٥-١: لم يكن هناك تفصيل كافٍ في رواية المقدسي البشاري حول الطاحونة ومبدأ عملها؛ لذلك فإننا نُرجِّح أن البصريين استخدموا طريقة التدفق السفلي كونها أسهل في البناء وتأمين عودة مياه الجزر.
كما تحدث سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي (توفي ٨٥٢ﻫ/١٤٤٧م) عن تحكُّم أهل البصرة بالمدِّ والجزر عن طريق حاجز (غالبًا خشبي) فقال: «وقال الحافظ في المد والجزر بالبصرة: ما قولكم وظنُّكم بقومٍ يأتيهم الماء صباحًا ومساء فإن شاءوا أذِنوا له وإن شاءوا حجبوه.»٦

ونستدلُّ من كلام ابن الوردي على أمرٍ آخر هو أن اختيار موقع طاحونة المد والجزر كان يتمُّ اختياره بعنايةٍ كبيرة، خصوصًا من ناحية صلابة الأرضية التي ستُوضَع عليها.

fig2
شكل ٥-٢: بناءً على المعلومة التي أضافها إلينا ابن الوردي، فإننا نتوقع أن يكون تصميم طاحونة المد والجزر في البصرة وفق هذا الشكل التخيُّلي. حيث: (١) حاجز مياه المد. (٢) قناة تصريف فرعية لتصريف الماء الفائض. (٣) الناعورة ذات العنفات. (٤) مكان الطاحونة. (٥) جدار استنادي لمحور الناعورة. (٦) قناة تصريف مياه المد بعد خروجها من الناعورة.
fig3
شكل ٥-٣: أحد أشكال الطواحين المائية التي كانت تُستخدَم لطحن القمح في مدينة مرند في أذربيجان، كما وصفها ورسمها لنا شيخ الربوة. ويبدو أن المبدأ نفسه قد تمَّ تطبيقه في حالة طواحين المد والجزر. (مصدر الصورة: الدمشقي، شمس الدين أبو عبد الله، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، طبعة فرين وأغسطس بن يحيى مهرن، كوبنهاجن، ١٨٦٥م، ص١٨٨.)
لا تزال ظاهرة المد والجزر تحدث عند شط العرب في البصرة كما يقول أَنِسْتاس ماري الألياوي الكَرْمِلي: «ومن أجلِّ نِعَم الله تعالى على البصريين هي وجود «المد والجزر» في شط العرب فإن ماء «المد» يزورها كل أربع وعشرين ساعة مرتَين فيسقي النخيل والأراضي (بدون استعمال آلات السقي أو نصب الكرود) وبعد أن تأخذ تلك البقاع قسطها من الري بفضل تلك النعمة الجليلة يرجع الماء من حيث أتى ثم يعود بعد اثنتي عشرة ساعة وأربع وعشرين دقيقة، فسبحان من تحيرت في صنعه العقول.»٧

ويبدو من كلام الكرملي أنه في أواخر القرن ١٩م لم يعُد هناك أي ذِكر لأي طاحونة تُدار أو تستفيد من طاقة المد والجزر المهدورة هناك.

ثانيًا: الأوربيون

بحسب الوثائق التي وصلتنا فقد تأخَّرت أوربا في الاستفادة من طاقة المد والجزر حتى القرن ١٢م.

إذْ لم يتم استكشاف تاريخ طواحين مدِّ وجزر فرنسا بالتفصيل، إنما يُذكر بأنه في القرن الثاني عشر كانت تُوجَد مطاحن مدِّ وجزر في جوار نانتيس Nantes عند بياون Bayonne (١١٢٠–١١٢٥م) وفي منطقة لابورد Labourd، وفي «بارثيس burthes» لأدور أو النيف Nive، حيث قيل بأن طاحونة موفيل Mufel يعود تاريخها بين عامي (١١٢٥–١١٣٣م)، وعند إسبوك Esbouc قبل ١٢٥١م وسانت بيرنارد في القرن الثالث عشر، بينما في بيرتاني، وفي قنال كويمياك Quimiac، واستحوذت تيمبلارس Templars على طاحونتَين بحريتَين بين ماريل Marel (ميركويل Merquel) وميسكوير Mesquer في عام ١١٨٢م. في القرن الثالث عشر كانت تُوجَد طواحين مدٍّ وجزر تعود إلى دير فيكامب Fecamp عند فيوليس Veules (١٢٣٥م) وعند بونت دوف Ponte d’Ouve قرب كارينتان Carentan (١٢٧٧) حيث استغلت، كما ذُكر، حتى عام ١٦١٩م، بينما رئيس أساقفة روين Rouen كان لدَيه طاحونتَين دي ماري de maree عند ديب Dieppe في القرن الرابع عشر وواحدة عند لا روشيل La Rochelle قبل ١٣٢٥م. ولا يزال بعدُ المعلومات عن هذه الفترة حول تأريخ طواحين المد والجزر في فرنسا سرًّا.٨
وقد وضع المهندس الفرنسي برنارد فورست دي بليدور (توفي ١٧٦١م) B. F. de Bélidor في كتابه «العمارة الهيدروليكية»،٩ رؤيته حول الطاقة المفقودة من حركات المد والجزر. ومنذ أن صدر الكتاب في منتصف القرن ١٨م ظهرت عدة كتابات حول الاستفادة من هذه الطاقة، وقد قامت بعدَها عدة منشآت صغيرة لهذا الغرض. وأكثر هذه المنشآت شهرة، والتي ما زالت تعمل حتى اليوم، هي السد المقام على نهر لارانس في شمال فرنسا، والذي يولِّد طاقة كهربائية استطاعتها ٢٤٠ ميجاواط.١٠
بالنسبة إلى بريطانية فقد ظهرت طواحين المد والجزر بشكلٍ مؤكد في ووتون Wootton (الجزيرة البيضاء)، والتي يعود تاريخها إلى سنة ١١٣٢م، هذا ما تم افتراضه؛ وفي بروميلي بمُحاذاة بو Bromely-by-Bow سنة ١١٣٥م؛ وفي وودبريج Woodbridge الجسر الخشبي (سوفولك Suffolk) سنة ١١٧٠م؛ وفي بياردس كاسيل-قلعة ساحات الخليج  Bayards Castle (لندن) سنة ١١٨٠م. وقيل بأن ستة طواحين مدٍّ وجزر أخرى بُنِيت في القرن الثاني عشر، وصُنع إحدى عشرة طاحونة بحلول ١٢٠٠م. في القرن الثالث عشر، بُنيت سبع وعشرون طاحونة؛ في القرن الرابع عشر ثمانٍ، وفي القرن الخامس عشر، ست، بينما كان يُوجَد سبع لكن لا يمكن إعطاء تاريخ لها بدقَّة أكثر من العصور الوسطى. في القرن السادس عشر بُنِيَت ثلاثون أخرى. وهكذا فإن حاصل طواحين المد والجزر تسعة وثمانون شُيِّدت في إنكلترا بحلول القرن السابع عشر.١١
ومع عدم جدوى حصول الأوربيين على مُحركات دائمة الحركة Perpetual motion، إلا أن هؤلاء الباحثين قد قاموا بدورٍ مُفيد بجعل الآخرين يصِلون إلى قانون حفظ الطاقة.١٢ وأوحت تصميماتهم بإمكانية الاستفادة من مصادر جديدة في الطبيعة، إذ أصبحت ظاهرة المدِّ والجزر شكلًا من أشكال الساعات الكونية. يقول الباحث كرومبي: «في عام ١٥٨٢م، زُوِّدت لندن بالمياه، عن طريق مضخَّةٍ دافعة تعمل بوساطة دولاب يُحرِّكه المد، أقامه بالقُرب من جسر لندن، المهندس الألماني بيتر موريس (توفي ١٥٨٨م) P. Morice١٣
أما في إيطاليا فقد وضع الإيطالي مارينو تاكولا (توفي حوالي ١٤٥٨م) M. Taccola في كتابه «الآلات»١٤ تصميمًا لطاحونة تعتمِد على حركة المد والجزر بحلول عام ١٤٣٠م (انظر الشكل٤)، التي تدور وفق الطريقة الآتية: لنفترِض بأنه يُوجَد بِركة طبيعية أو حوض ماء يمكن أن يتدفق وينحسِر، قُرب المحيط أو على طول الأنهار إنما بالقُرب من المحيط إلى حدٍّ كبير. إذا لم يكن هناك بركة طبيعية، فلنفترِض بأنه تُوجَد بركة صناعية لها قناتان؛ إحداهما تسمح للماء أن يدخل في البركة عندما يرتفع البحر، والأخرى عندما ينخفِض ماء البحر، ندع الفتحة مُغلقة ببوابة مناسبة، ومن ثَم نترك القناة الأخرى مفتوحةً كمخرج، يمكن بعد ذلك للماء أن يمضي إلى دواليب الطاحونة كما هو واضح في تصميم الطاحونة المذكورة أعلاه. وهذه العمليات يمكن تكرارها من حينٍ إلى حين.» ويذكر مُحرِّر التعليقات أن حركات المد والجزر كانت «القوى المُدهشة كثيرًا في ذلك.» وقد «قِيسَت» جُزئيًّا في اعتمادها على أطوار القمر، وبطريقةٍ يستحيل فهمها. وقد «كانت موثوقة بما يكفي لاستخدامها وأيضًا بحجمٍ كبير بشكلٍ كافٍ.» ويُواصل: «على الأقل في بحر الأدرياتيك، مع أنه ليس مثل بحر ليجوريان Ligurian Sea قرب سينا، لاستخدامها بشكلٍ اقتصادي جدير بالاهتمام.» ربما استمدَّ تاكولا معلومات هذا الفصل من المنطقة الأدرياتيكية؛ كما يحدث في أحيانٍ كثيرة، حيث تكون قنوات المعلومات ومصادرها مجهولة. أيضًا عُرِف بأن حالات المدِّ والجزر الموجودة في الأنهار يمكن للطواحين الوصول إليها نِسبيًّا، هذه الحقيقة كانت قد سُجِّلت جزئيًّا من قبل (ظهرت على سبيل المثال عند غروستيست Grosseteste في أوائل القرن الثالث عشر).١٥
fig4
شكل ٥-٤: تصميم مارينو تاكولا لطاحونة تستفيد من طاقة المدِّ والجزر. (مصدر الصورة: Prager, Frank D; Scaglia, Gustina, Mariano Taccola and his book De ingeneis, Cambridge, Mass., MIT Press, 1972, p. 86.)
وبعد تاكولا بقرنَين تقريبًا وضع الإيطالي فاوستو فيرانزيو (توفي ١٦١٧م) F. Veranzio تصميمًا آخر في كتابه «علم الميكانيك الجديد»، يحصر من خلاله مياه المدِّ ويُوجهها نحو عنفات الطاحون بشكلٍ أفضل من تصميم تاكولا. وقد طرح فيرانزيو سؤالًا: «هل من المُمكن حتى هذه الساعة وضع رباطٍ على البحر يُمكنه أن يُدير الرحى، ويخدم في عملياتٍ أخرى تحتاج إلى الحركة؟ ثم ردَّ على مسألته البلاغية: نحكُم بأنه من المُمكن إنجاز هذا، مع أنه ليس في كل مكان، بل فقط في الأماكن الضيقة والمحصورة.» يقول الباحث كيلير Keller بأن فكرة فيرانزيو في وضع طاحونة على مضيق ساحلي ضيق بشكلٍ مُفترض اقترحته طواحين المدِّ والجزر الأخرى. ويقترح فيرانزيو أن المُستودَع المُتشكِّل والذي يملؤه المد ويُفرغه الجزر، يُدير دواليب الطاحونة كلَّما قام بذلك. ويُتابع فيرانزيو قائلًا: «من الممكن تطبيق هذا بشكلٍ مُناسب على المحيط [يعني الأطلسي، كما يقترح كيلير]، حيث يكون المد والجزر أكبر ما هو في البحار الداخلية.» وقد تقدَّم بهذا المقترح كفكرةٍ مُتأخِّرة في مشروعه لتكون «في صدع جرفٍ ما، حيث تكون قوى الماء بحدِّ ذاتها عنيفةً جدًّا (في مياه البحر المقابل). والطاحونة بحد ذاتها سيكون لديها عجلة مائية ذات رِيَشٍ مِفصلية.»١٦
fig5
شكل ٥-٥: تميز تصميم فاوستو فيرانزيو بقُدرته على الاستفادة القصوى من طاقة المد والجزر. (مصدر الصورة: Veranzio, Fausto, Machinae novae Favsti Verantii siceni, Venice, p. 132.)
نُشير هنا إلى أنه في حالتي تصاميم تاكولا وفيرانزيو لا نعرف فيما إذا كانت قد نُفِّذت أم أنها كانت مجرد اقتراحات وحبر على ورق، على غرار الكثير من التصاميم التي كان يضعها ليوناردو دافنشي (توفي ١٥١٩م) L. da Vinci. خصوصًا وأنه لم يُوثِّق انتشارًا لمطاحن المد والجزر في إيطاليا كون حركة المد والجزر ضعيفة فيه.

أخيرًا، فإن السؤال المشروع الذي يحقُّ لنا طرحه الآن — في ضوء ما وصلَنا من وثائق حتى الآن: إذا كانت طواحين المد والجزر في البصرة هي الأولى من نوعها، فكيف انتقلت إلى أوربا؟ هل تمَّ ذلك عن طريق السُّفراء أم الرحَّالة والتجار، أم عن طريق الأندلس، كما هو الحال في طواحين الهواء؟ قد تكون الإجابة صعبةً حاليًّا، ولكن ربما تكشف لنا الوثائق عمَّا نجهله حاليًّا.

(٢) المبحث الثاني: الوقاية من أثر المدِّ والجزر

على الجانب الآخر، فإن الناس الذين لم يُفكروا في الاستفادة من طاقة المدِّ والجزر ركَّزوا جهودهم على حماية أنفسهم من أضرارها. وقد تراوحَت هذه الطرائق بين الخُرافية وتلك التي تعتمد على وضع الحواجز والموانع.

أولًا: الهنود

في الواقع لم نعثُر على محاولات التحكم بحركة المدِّ والجزر عند الحضارات القديمة سوى عند الهنود. فقد ذكر لنا محمد بن مسعود بن علي بن أحمد بن المجاور البغدادي (توفي ٦٩٠ﻫ/١٢٩١م) طريقةً خرافية كان الهنود يعتقدون بها للتخلُّص من المد، حيث قال: «وفي أجه وجميع أعمال الهند والسند إذا زرع أحد قصب السكر يَنذر للصنم نذرًا؛ إذا طلع قصبه جيدًا فُدِي بإنسان، فإن صحَّ قصبه احتال على بعض قصار الأعمال يَذبحه ويرشُّ بدمِه أصول قصب السكر في يوم عيدٍ لهم يُسمَّى الديواني، وإذا زاد شط السند في الأخذ على المدِّ والحد يُؤخَذ خشَف غزالٍ يُجلَّل بثوب أحمر ويُعطَّر ويُبخَّر ويُطلَق في أغزر موضعٍ وأقوى جريان في السَّيل وأشد سوار، فحينئذٍ ينقص الماء بإذن الله تعالى.»١٧
وبعيدًا عن الأساطير والخرافات؛ فإن أول استخدامٍ مُوثق للتحكُّم بظاهرة المد والجزر في الهند يعود إلى عام ٢٤٥٠ قبل الميلاد، وقد أبلغ عنه في منطقة أحمد آباد الهندية، حيث بنى الهارابانيون Harappans (تقع في باكستان حاليًّا) أحواض بناء سُفن للمدِّ والجزر، وأحواض مَدِّية كبيرة على جانب الجدار مع مدخلٍ ضيق للبحر، بحيث يمكن إغلاقها بواسطة بوابة السد. على الرغم من أنهم كانوا قادرين على بنائها واستخدامها، ومن ثم فهم مدى انتظام المد والجزر وإمكانية التنبُّؤ به، إلا أنه لا يُوجَد توثيق حول معرفتهم بالعلاقة بين المد والجزر والقمر والشمس.١٨

ثانيًا: العرب والمسلمون

ذكر لنا خمسة من الجغرافيين والمؤرخين العرب ملاحظاتهم لوجود مؤشرات ومقاييس كانت تُستخدَم في العراق لمُراقبة حالة المد والجزر منذ القرن (٤ﻫ/١٠م). كما أنه كانت تُتَّخذ إجراءات وقائية للحيلولة دون ضرر المد والجزر.

أبو إسحاق الإصطخري

أشار إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري (توفي ٣٤٦ﻫ/٩٥٧م) إلى اعتماد طريقة الخشبات كمقياسٍ على ارتفاع المد في نهر دجلة، وقد خُصِّص لها شخص يُراقبها ويشعل النار بالليل ليُحذِّر السفن. حيث قال: «بحر فارس وهو عريض البطن جدًّا في جنوبه بلدان الزنج وفي هذا البحر هوارات كثيرة ومعاطف صعبة ومن أشدِّها ما بين جنابة والبصرة فإنه مكان يُسمَّى هور جنابة وهو مكان مَخوف لا تكاد تسلَم منه سفينة عند هيجان البحر، وبها مكان يُعرَف بالخشبات من عبادان على نحوٍ من ستة أميال على جري ماء دجلة إلى البحر ويرقُّ الماء حتى يُخاف على السفن الكبار إن سلكَتْه أن تجلس على أرضٍ إلا في وقت المد. وبهذا المَوضع خشبات منصوبة قد بُني عليها مِرقب يسكنه ناظور يوقِد بالليل ليُهتدى به ويُعلَم به المدخل إلى دجلة وهو مكان مخوف إذا ضلَّت السفينة فيه خيف انكسارها لرقَّة الماء.»١٩

أبو الحسن المسعودي

تحدث أبو الحسن المسعودي (توفي ٣٤٦ﻫ/٩٥٧م) عن موقع اسمه الجرارة (الحدارة)٢٠ أيضًا كانت تُتَّخذ فيه إجراءات احترازية للوقاية من ضرر المدِّ والجزر، حيث قال: «وللبصرة أنهار كبار: مثل نهر شيرين، ونهر الرس، ونهر ابن عمر، وكذلك ببلاد الأهواز فيما بينها وبين بلاد البصرة، أعرضنا عن ذكر ذلك، إذ كُنا قد تقصَّينا الأخبار عنها وأخبار مُنتهى بحر فارس إلى بلاد البصرة والأبلة وخبر المَوضع المعروف بالجرارة وهي دجلة من البحر إلى البر تقرب من نحو بلاد الأبلة، ومن أجلها ملح الأكثر من أنهار البصرة، ولهذه الجرارة اتُّخِذت الخشبات في فمِ البحر مما يلي الأبلة وعبادان، عليها أناس يُوقدون النار بالليل على خشباتٍ ثلاث كالكرسي في جوف الليل خوفا على المراكب الواردة من عمان وسيراف وغيرها أن تقع في تلك الجرارة وغيرها، فتعطب، فلا يكون لها خلاص، وقد ذكرنا ذلك فيما سلف من كُتبنا، وهذه الديار عجيبة في مصبَّات مياهها واتصال البحر بها، والله أعلم.»٢١

ناصر خسرو

أشار ناصر خسرو الحكيم المروزي (توفي ٤٨١ﻫ/١٠٨٨م) إلى وجود مقياس على شكل عمود أو جدار طوله حوالي ٥ أمتار ليكون بمثابة مؤشرٍ على حدوث المد أو الجزر. حيث قال: «يحدُث المد ببحر عمان عادة مرتَين كل أربع وعشرين ساعة، فيرتفع الماء بمقدار عشرة أذرع، وحين يبلغ الارتفاع أقصى مداه يبدأ الجزر بالتدريج فينخفض الماء عشرًا أو اثنتي عشرة ذراعًا، ويعرف بلوغ ارتفاع الماء مقدار الأذرع العشر بظهوره على عمود أُقيم هناك أو على حائط ولو كانت الأرض مستويةً وغير عالية لعظم امتداد البحر إليها، ويسير النهران دجلة والفرات بغاية البطء حتى يتعذَّر في بعض الجهات معرفة اتجاه التيار فيهما، وحين يبدأ المد بدفع البحر ماءهما مسافة أربعين فرسخًا حتى يُظَن إنهما يرتدان إلى منبعيهما. أما في الأماكن الأخرى التي تقع على شاطئ البحر فإن امتداد المد إليها يتوقف على ارتفاعها وانخفاضها فحيثما استوت الأرض ازداد المد وحيثما ارتفعت قل.»٢٢

ابن المجاور الشيباني

ذكر لنا يوسف بن يعقوب بن محمد بن علي الشيباني الدمشقي (توفي ٦٩٠ﻫ/١٢٩١م) طريقة للتخلُّص من المد الزائد، لكن من غير الواضح هل هي من عنده أم أنه أخذها عن الهنود، حيث قال: «وإذا زاد شطُّ السند في الأخذ على المد والحد يُؤخَذ خشف غزال أحمر ويُعطر ويبخَّر ويُطلَق في أغزر موضع وأقوى جريان في السيل وأشد سوار فحينئذٍ ينقص الماء بإذن الله تعالى.»٢٣

عبد الغني بن أحمد المصري

قدم لنا عبد الغني بن أحمد المصري (توفي ٨٥٤ﻫ/١٤٥٠م) مخططًا لمدينة المهدية (وهي مدينة في المغرب أسَّسها الأمير المهدي) مُحاطة بسور وبداخلها ثلاثة قصور، وحولها خندق. ويُحدد على المخطط المسافة بين المهدية وغيرها من المدن والجُزُر. وقد رُوعيَ في تصميم هذا الخندق مد وجَزْر البحر بحيث لا يدخله.٢٤
fig6
شكل ٥-٦: مخطط مدينة المهدية كما هو مرسوم في المخطوطة، ونُلاحظ من الرسم السُّفلي كيف أن باب المدينة مُرتفع لا تصِل إليه مياه المد، كما هو موضَّح إلى يسار الرسم. (مصدر الصورة: المصري، عبد الغني، غرائب الفنون ومُلَح العيون، مخطوطة مكتبة بودليان رقم (MS. Arab. c. 90)، ص٣٤و.)

ابن عبد المنعم الحِميري

تكلم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحِميري (توفي ٩٠٠ﻫ/١٤٩٥م) عن وادٍ يقع بالقُرب من مدينة سلا الأندلسية، حيث إن «هذا الوادي يدخله المدُّ والجزر مرتَين في كل يوم، فإذا كان المد دخلت المراكب به إلى داخل الوادي وكذلك تخرج في وقت خروجها.»٢٥ وهذا يعني أن الملاحة في النهر كانت تستفيد من حركة المد والجزر التي كانت تحدُث مرتَين في اليوم.

سِباهي زاده

ويُحدثنا محمد بن علي البرسوي سِباهي زاده (توفي٩٩٧ ﻫ/١٥٨٩م) عن كيفية اتخاذ الإجراءات الاحترازية من المد والجزر التي كانت تُتَّخذ في مدينة عبادان أو عبدان التي تقع حاليًّا في محافظة خوزستان جنوب غرب إيران على جزيرة عبدان ضفاف نهر شط العرب. وهي مدينة عرفت في العصر العباسي على أنها ميناء رئيس. «وفي جنوبي عبادان وشرقيها الخشبات، وهي علامات في البحر للمراكب تنتهي إليها ولا تتجاوزها خوفًا من الجزْر لئلَّا تلحق الأرض.»٢٦
١  Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, Vol. 20, No. 4 (Oct., 1979), The Johns Hopkins University Press and the Society for the History of Technology, p. 777.
٢  العباسي، عبد القادر باش أعيان، البصرة في أدوارها التاريخية، مطبعة دار البصري، بغداد، ١٩٦١م، ص١٤.
٣  Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, p. 777.
٤  المقدسي البشاري، أبو عبد الله محمد بن أحمد، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص١٢٤-١٢٥.
٥  Singer, Charles, et al., A History of Technology, volume 2, Oxford, Oxford University Press, 1957, p. 614.
٦  ابن الوردي، سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر، خريدة العجائب وفريدة الغرائب، ص٣٦٨.
٧  مجلة لغة العرب، العدد ٢٦، ج٣، صاحب امتيازها: أَنِسْتاس ماري الألياوي الكَرْمِلي، وزارة الإعلام، الجمهورية العراقية، مديرية الثقافة العامة، مطبعة الآداب، بغداد، ١٩١٣م، ص٥٩.
٨  Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, p. 781-780.
٩  العنوان الأصلي للكتاب: L’architecture hydraulique, ou l’art de conduire, d’élever et de ménager les eaux pour les différents besoins de la vie, (1737-1753).
١٠  رايس، إ. إ.، البحار والتاريخ تحدِّيات الطبيعة واستجابات البشر، ترجمة: عاطف أحمد، سلسلة عالم المعرفة، العدد ٣١٤، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ٢٠٠٥م، ص٩٩.
١١  Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, p. 781.
١٢  لانداو، ل. وكيتايجورودسكي، أ، الفيزياء للجميع، تُرجِم بإشراف: داود المنير، ط٣، دار مير، موسكو، ١٩٧٨م. ص١١٨.
١٣  تويلييه، بيير، العالم الصغير، ترجمة: لطيفة ديب غرنوق، سلسلة العلوم-١٦، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٩٥م. ص٧٩.
١٤  العنوان الأصلي: De Ingeneis.
١٥  Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, p. 782-783.
١٦  Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, p. 783-784.
١٧  ابن المجاور، محمد بن مسعود، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز (تاريخ المُستبصر)، راجعه: ممدوح حسن محمد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ٢٠١٨م، ص١٣٣.
١٩  الإصطخري، أبو إسحاق، المسالك والممالك، دار صادر، بيروت، ٢٠٠٤م، ص٣٢.
٢٠  هكذا يُسمِّيها المؤلف الشيخ عبد القادر باش أعيان العباسي، في كتابه البصرة في أدوارها التاريخية، ص٩.
٢١  المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج١، ص٣٩.
٢٢  خسرو، ناصر، سفرنامة، تحقيق: يحيى الخشاب، ط٣، دار الكتاب الجديد، بيروت، ١٩٨٣م، ص١٤٩.
٢٣  الشيباني، ابن مجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المُسمَّى تاريخ المُستبصر، تحقيق: أو. لوفغرين، ليدن، ١٩٥١م، ص٤٤.
٢٤  المصري، عبد الغني، غرائب الفنون ومُلَح العيون، مخطوطة مكتبة بودليان رقم (MS. Arab. c. 90)، ص٣٤و.
٢٥  الحِميري، محمد بن عبد الله بن عبد المنعم، الروض المعطار في خبر الأقطار، ص٣١٩.
٢٦  سباهي زادة، محمد بن علي البرسوي، أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك‏، ص٤٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤