تُشير الوثائق إلى معرفة كلٍّ من العرب والأوربيين بطواحين المد والجزر. وقد كان
للعرب السبق على الأوربيين في هذا المجال.
أولًا: العرب والمسلمون
يعود أقدم نصٍّ عربي وصلَنا عن الطواحين التي استخدمت طاقة المد والجزر إلى
القرن العاشر للميلاد، وهذا يعني أن هذه الطواحين كانت موجودةً على الأقل منذ
ذلك القرن، إن لم يكن أبكر من ذلك. فنحن نعلَم أن مدينة البصرة قد بناها
الصحابي الجليل عُتبة بن غَزوان (توفي ١٧ﻫ/ ٦٣٨م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب
(توفي ٢٣ﻫ/٦٤٤م) سنة ١٤ﻫ وقيل ١٥ﻫ عند مُلتقى نهري دجلة والفرات،
٢ أي منذ القرن السابع للميلاد.
يروي لنا محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي البشاري (توفي نحو ٣٨٠ﻫ/نحو
٩٩٠م) كيف استفاد أهل البصرة من ظاهرة المد والجزر واستغلُّوا طاقتها، من خلال
وضع طواحين مائية عند مخرج المد، بحيث إنه يُديرها. ويُشير هذا إلى أن مستوى
المد كان يصِل إلى مترَين.
٣
قال المقدسي البشاري: «قل في البصرة ما شئتَ من مياهها وبِرَكها ومدِّها
وجزرها … والجزر والمد أعجوبة على أهل البصرة ونعمة؛ يزورهم الماء في كل يومٍ
وليلة مرتَين ويدخل الأنهار ويسقي البساتين ويحمل السفن إلى القرى، فإذا جزر
أفاد أيضًا عمل الأرحية لأنها على أفواه الأنهار فإذا خرج الماء أدارها. ويبلغ
المد إلى حدود البطائح وله وقت يدور مع دور الأهلة».
٤
وقد ذكر مؤرِّخ التكنولوجيا المعروف ر. ج.
فوربيس
R. J. Forbes أن: «البصرة تقع على الخليج العربي وقد كان فيها
طواحين مدٍّ وجزر، معظمها من أجل طحن الذرة.»
٥ طبعًا يمكن استخدام الطاحونة لطحن أي نوع من الحبوب، سواء قمح أو
شعير، ولا يُمكننا الجزم بشكلٍ قاطع أنها استُخدِمت فقط من أجل الذرة.
يبدو أن هذا النوع من الطواحين قد انتشر واستُخدِم بكثرة في البصرة لكُلفته
الرخيصة وكفاءته العالية طوال أيام السنة، مقارنةً بالطواحين المائية التي
تعتمد على حركة التيار المائي فقط التي تتأثر بين الصيف والشتاء. وهو ما قد
يفسر لنا لماذا حظيت البصرة فقط بظهور هذا النوع من الطواحين دون غيرها من
المدن العراقية أو حتى العربية الأخرى التي تقع على ضفاف الأنهار.
كما تحدث سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي (توفي ٨٥٢ﻫ/١٤٤٧م) عن
تحكُّم أهل البصرة بالمدِّ والجزر عن طريق حاجز (غالبًا خشبي) فقال: «وقال
الحافظ في المد والجزر بالبصرة: ما قولكم وظنُّكم بقومٍ يأتيهم الماء صباحًا
ومساء فإن شاءوا أذِنوا له وإن شاءوا حجبوه.»
٦
ونستدلُّ من كلام ابن الوردي على أمرٍ آخر هو أن اختيار موقع طاحونة المد
والجزر كان يتمُّ اختياره بعنايةٍ كبيرة، خصوصًا من ناحية صلابة الأرضية التي
ستُوضَع عليها.
لا تزال ظاهرة المد والجزر تحدث عند شط العرب في البصرة كما يقول أَنِسْتاس
ماري الألياوي الكَرْمِلي: «ومن أجلِّ نِعَم الله تعالى على البصريين هي وجود
«المد والجزر» في شط العرب فإن ماء «المد» يزورها كل أربع وعشرين ساعة مرتَين
فيسقي النخيل والأراضي (بدون استعمال آلات السقي أو نصب الكرود) وبعد أن تأخذ
تلك البقاع قسطها من الري بفضل تلك النعمة الجليلة يرجع الماء من حيث أتى ثم
يعود بعد اثنتي عشرة ساعة وأربع وعشرين دقيقة، فسبحان من تحيرت في صنعه العقول.»
٧
ويبدو من كلام الكرملي أنه في أواخر القرن ١٩م لم يعُد هناك أي ذِكر لأي
طاحونة تُدار أو تستفيد من طاقة المد والجزر المهدورة هناك.
ثانيًا: الأوربيون
بحسب الوثائق التي وصلتنا فقد تأخَّرت أوربا في الاستفادة من طاقة المد
والجزر حتى القرن ١٢م.
إذْ لم يتم استكشاف تاريخ طواحين مدِّ وجزر فرنسا بالتفصيل، إنما يُذكر بأنه
في القرن الثاني عشر كانت تُوجَد مطاحن مدِّ وجزر في جوار نانتيس
Nantes عند بياون
Bayonne (١١٢٠–١١٢٥م) وفي منطقة لابورد
Labourd، وفي «بارثيس
burthes» لأدور أو النيف
Nive، حيث قيل بأن طاحونة موفيل
Mufel يعود تاريخها بين عامي (١١٢٥–١١٣٣م)، وعند إسبوك
Esbouc قبل ١٢٥١م وسانت بيرنارد في القرن الثالث
عشر، بينما في بيرتاني، وفي قنال كويمياك
Quimiac، واستحوذت تيمبلارس
Templars على طاحونتَين بحريتَين بين ماريل
Marel (ميركويل
Merquel) وميسكوير
Mesquer
في عام ١١٨٢م. في القرن الثالث عشر كانت تُوجَد طواحين مدٍّ وجزر تعود إلى دير
فيكامب
Fecamp عند فيوليس
Veules (١٢٣٥م) وعند بونت دوف
Ponte d’Ouve قرب كارينتان
Carentan (١٢٧٧) حيث استغلت، كما ذُكر، حتى
عام ١٦١٩م، بينما رئيس أساقفة روين
Rouen كان
لدَيه طاحونتَين دي ماري
de maree عند
ديب
Dieppe في القرن الرابع عشر وواحدة
عند لا روشيل
La Rochelle قبل ١٣٢٥م. ولا يزال
بعدُ المعلومات عن هذه الفترة حول تأريخ طواحين المد والجزر في فرنسا سرًّا.
٨
وقد وضع المهندس الفرنسي برنارد فورست دي بليدور (توفي ١٧٦١م)
B. F. de Bélidor في كتابه «العمارة الهيدروليكية»،
٩ رؤيته حول الطاقة المفقودة من حركات المد والجزر. ومنذ أن صدر
الكتاب في منتصف القرن ١٨م ظهرت عدة كتابات حول الاستفادة من هذه الطاقة، وقد
قامت بعدَها عدة منشآت صغيرة لهذا الغرض. وأكثر هذه المنشآت شهرة، والتي ما
زالت تعمل حتى اليوم، هي السد المقام على نهر لارانس في شمال فرنسا، والذي
يولِّد طاقة كهربائية استطاعتها ٢٤٠ ميجاواط.
١٠
بالنسبة إلى بريطانية فقد ظهرت طواحين المد والجزر بشكلٍ مؤكد في ووتون
Wootton (الجزيرة البيضاء)، والتي يعود تاريخها
إلى سنة ١١٣٢م، هذا ما تم افتراضه؛ وفي بروميلي بمُحاذاة بو
Bromely-by-Bow سنة ١١٣٥م؛ وفي وودبريج
Woodbridge الجسر الخشبي (سوفولك
Suffolk) سنة ١١٧٠م؛ وفي بياردس كاسيل-قلعة ساحات الخليج
Bayards Castle
(لندن) سنة ١١٨٠م. وقيل بأن ستة طواحين مدٍّ وجزر أخرى بُنِيت في القرن الثاني
عشر، وصُنع إحدى عشرة طاحونة بحلول ١٢٠٠م. في القرن الثالث عشر، بُنيت سبع
وعشرون طاحونة؛ في القرن الرابع عشر ثمانٍ، وفي القرن الخامس عشر، ست، بينما
كان يُوجَد سبع لكن لا يمكن إعطاء تاريخ لها بدقَّة أكثر من العصور الوسطى. في
القرن السادس عشر بُنِيَت ثلاثون أخرى. وهكذا فإن حاصل طواحين المد والجزر تسعة
وثمانون شُيِّدت في إنكلترا بحلول القرن السابع عشر.
١١
ومع عدم جدوى حصول الأوربيين على مُحركات دائمة الحركة
Perpetual motion، إلا أن هؤلاء الباحثين
قد قاموا بدورٍ مُفيد بجعل الآخرين يصِلون إلى قانون حفظ الطاقة.
١٢ وأوحت تصميماتهم بإمكانية الاستفادة من مصادر جديدة في الطبيعة، إذ
أصبحت ظاهرة المدِّ والجزر شكلًا من أشكال الساعات الكونية. يقول الباحث
كرومبي: «في عام ١٥٨٢م، زُوِّدت لندن بالمياه، عن طريق مضخَّةٍ دافعة تعمل
بوساطة دولاب يُحرِّكه المد، أقامه بالقُرب من جسر لندن، المهندس الألماني بيتر
موريس (توفي ١٥٨٨م)
P. Morice.»
١٣
أما في إيطاليا فقد وضع الإيطالي مارينو تاكولا (توفي حوالي ١٤٥٨م)
M. Taccola في كتابه «الآلات»
١٤ تصميمًا لطاحونة تعتمِد على حركة المد والجزر بحلول عام ١٤٣٠م
(انظر الشكل٤)، التي تدور وفق الطريقة الآتية: لنفترِض بأنه يُوجَد بِركة
طبيعية أو حوض ماء يمكن أن يتدفق وينحسِر، قُرب المحيط أو على طول الأنهار إنما
بالقُرب من المحيط إلى حدٍّ كبير. إذا لم يكن هناك بركة طبيعية، فلنفترِض بأنه
تُوجَد بركة صناعية لها قناتان؛ إحداهما تسمح للماء أن يدخل في البركة عندما
يرتفع البحر، والأخرى عندما ينخفِض ماء البحر، ندع الفتحة مُغلقة ببوابة
مناسبة، ومن ثَم نترك القناة الأخرى مفتوحةً كمخرج، يمكن بعد ذلك للماء أن يمضي
إلى دواليب الطاحونة كما هو واضح في تصميم الطاحونة المذكورة أعلاه. وهذه
العمليات يمكن تكرارها من حينٍ إلى حين.» ويذكر مُحرِّر التعليقات أن حركات
المد والجزر كانت «القوى المُدهشة كثيرًا في ذلك.» وقد «قِيسَت» جُزئيًّا في
اعتمادها على أطوار القمر، وبطريقةٍ يستحيل فهمها. وقد «كانت موثوقة بما يكفي
لاستخدامها وأيضًا بحجمٍ كبير بشكلٍ كافٍ.» ويُواصل: «على الأقل في بحر
الأدرياتيك، مع أنه ليس مثل بحر
ليجوريان
Ligurian Sea قرب سينا، لاستخدامها بشكلٍ اقتصادي جدير
بالاهتمام.» ربما استمدَّ تاكولا معلومات هذا الفصل من المنطقة الأدرياتيكية؛
كما يحدث في أحيانٍ كثيرة، حيث تكون قنوات المعلومات ومصادرها مجهولة. أيضًا
عُرِف بأن حالات المدِّ والجزر الموجودة في الأنهار يمكن للطواحين الوصول إليها
نِسبيًّا، هذه الحقيقة كانت قد سُجِّلت جزئيًّا من قبل (ظهرت على سبيل المثال
عند غروستيست
Grosseteste في أوائل القرن
الثالث عشر).
١٥
وبعد تاكولا بقرنَين تقريبًا وضع الإيطالي فاوستو فيرانزيو (توفي ١٦١٧م)
F. Veranzio تصميمًا آخر في كتابه «علم
الميكانيك الجديد»، يحصر من خلاله مياه المدِّ ويُوجهها نحو عنفات الطاحون
بشكلٍ أفضل من تصميم تاكولا. وقد طرح فيرانزيو سؤالًا: «هل من المُمكن حتى هذه
الساعة وضع رباطٍ على البحر يُمكنه أن يُدير الرحى، ويخدم في عملياتٍ أخرى
تحتاج إلى الحركة؟ ثم ردَّ على مسألته البلاغية: نحكُم بأنه من المُمكن إنجاز
هذا، مع أنه ليس في كل مكان، بل فقط في الأماكن الضيقة والمحصورة.» يقول الباحث
كيلير
Keller بأن فكرة فيرانزيو في وضع
طاحونة على مضيق ساحلي ضيق بشكلٍ مُفترض اقترحته طواحين المدِّ والجزر الأخرى.
ويقترح فيرانزيو أن المُستودَع المُتشكِّل والذي يملؤه المد ويُفرغه الجزر،
يُدير دواليب الطاحونة كلَّما قام بذلك. ويُتابع فيرانزيو قائلًا: «من الممكن
تطبيق هذا بشكلٍ مُناسب على المحيط [يعني الأطلسي، كما يقترح كيلير]، حيث يكون
المد والجزر أكبر ما هو في البحار الداخلية.» وقد تقدَّم بهذا المقترح كفكرةٍ
مُتأخِّرة في مشروعه لتكون «في صدع جرفٍ ما، حيث تكون قوى الماء بحدِّ ذاتها
عنيفةً جدًّا (في مياه البحر المقابل). والطاحونة بحد ذاتها سيكون لديها عجلة
مائية ذات رِيَشٍ مِفصلية.»
١٦
نُشير هنا إلى أنه في حالتي تصاميم تاكولا وفيرانزيو لا نعرف فيما إذا كانت
قد نُفِّذت أم أنها كانت مجرد اقتراحات وحبر على ورق، على غرار الكثير من
التصاميم التي كان يضعها ليوناردو دافنشي (توفي ١٥١٩م) L. da
Vinci. خصوصًا وأنه لم يُوثِّق انتشارًا لمطاحن المد
والجزر في إيطاليا كون حركة المد والجزر ضعيفة فيه.
أخيرًا، فإن السؤال المشروع الذي يحقُّ لنا طرحه الآن — في ضوء ما وصلَنا من
وثائق حتى الآن: إذا كانت طواحين المد والجزر في البصرة هي الأولى من نوعها،
فكيف انتقلت إلى أوربا؟ هل تمَّ ذلك عن طريق السُّفراء أم الرحَّالة والتجار،
أم عن طريق الأندلس، كما هو الحال في طواحين الهواء؟ قد تكون الإجابة صعبةً
حاليًّا، ولكن ربما تكشف لنا الوثائق عمَّا نجهله حاليًّا.