رسالة في العلَّة الفاعلة للمد والجزر للكندي
(١) المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
(٢) المبحث الثاني: أعماله
(٣) المبحث الثالث: تعريف بالرسالة
في الواقع تُعَد رسالة الكندي هذه واحدةً من أهم رسائله. إذْ بدأ فيها الكلام عن المد وأنواعه — الطبيعي والعَرَضِي — واستطرد من ذلك إلى الكلام عن عيون الماء وأنواعها، وكيفية تكوينها، وعن أنواع المياه الظاهرة على وجه الأرض والباطنة فيها، وعن أحوالها وقوانين نشأتها واستحالتها، ثم تكلَّم عن بعض الأجرام السماوية وسُرعتها وأحجامها وبُعدها عن الأرض، وعن فعلها فيما على ظهر الأرض، ويتكلَّم عن المد وأنواعه وأنواع الاضطراب الناشئة في المياه البحرية والبرية بسبب التعفُّن والنَّتَن، وينتهي بالكلام عن المد والجزر بمعناهما العادي.
(٤) المبحث الرابع: توثيق النسخة المعتمدة في التحقيق وأوصافها
لقد حصلنا على نسخةٍ مخطوطة من هذه الرسالة من مكتبة آيا صوفيا، وهي موجودة ضمن مجموع من الصفحة (١٥٣ظ-١٥٧و).
-
عنوان المخطوط: رسالة يعقوب بن إسحاق الكندي إلى بعض إخوانه في العلَّة الفاعلة للمدِّ والجزر.
-
رقم المخطوط: (AYASOFYA-4832).
-
اسم الناسخ: حرَّره الفقير أحمد شيخ زاده المُفتش بأوقاف الحرمَين الشريفين غفر الله له.
-
تاريخ نسخ المخطوط:
-
التملُّكات: صار لابن الحمامي أبي زيد بن علي في التاسع عشر من رجب سنة ثمانٍ وستين وخمس مائة، وقد وقف هذه النسخة سلطاننا الأعظم والخاقان المُعظم مالك البرَّين والبحرَين، خادم الحرمَين الشريفين السلطان بن السلطان بن السلطان الغازي محمود خان وقفًا صحيحًا شرعيًّا.
-
عدد الورقات: ٤ ورقات.
-
المسطرة: ٣٢ سطرًا.
-
حالة الورق: جيدة.
-
ملاحظات: المخطوطة ليست واضحة كثيرًا، وإنما يُعاني مَن يُحاول قراءتها.
(٥) رسالة يعقوب بن إسحاق الكندي إلى بعض إخوانه في العلَّة الفاعلة للمد والجزر
سدد الله خطاك لدرِّ الحق، وأعانك على نَيل مستوى عراته. سألت، أسعفك الله بمطالبك عن العلة الفاعلة للمد والجزر، وقد كنتُ أظنُّ أنه قد تقدَّم عندك من أكثر الأقاويل التي سمعتَ منَّا ما فيه الكفاية في إيجاد ذلك.
-
إحداهما استحالة الماء من صِغَر الجسم إلى عِظمه، وهو المد الطبيعي.
-
والأخرى زيادة الماء بانصباب مواد فيه، وهو المد العَرَضي؛ وهذا المد العَرَضي كثير في الأنهار والأودية والفيوض التي أصلُها من الأنهار.
فأما البحار فإن المواد التي تُصَبُّ فيها لا تظهر بها زيادة فيها، لصغر قدر المواد عند قدْر البحر، وأن الأول فالأول مما يفيض منها في البحار يُحلله الجو بدور الشمس والأشخاص العالية، أولًا أولًا، فيصير بخارًا، وينعقد سحابًا؛ ويصير مطرًا وثلجًا وبَرَدًا عائدًا إلى الأرض، سائلًا إلى البحار، دائمًا بهذا الدور أبدًا ما بقِيَ العالَم.
فأما المنصبُّ من المواد من هذه الأشياء التي حدَّدْنا، الآتية من العلو، مما ارتفع من الأرض والبحار، فظاهر في الزيادة في الأنهار والأودية والفيوض والعيون والأحساء.
-
إحداهما أن هذه [المواد] النازلة من العلوِّ تصير إلى الأرض، فتقبلها بطون الأرض، وأن لها بطونًا، أعني أودية في باطنها، كالعروق في أبدان الحيوان، التي يجري فيها الدم، ثم تظهر في بعض المواضع بإحدى حالتين:
-
إما أن ترشح إلى تربة ظاهرة أو باطنة؛ فإن كانت ظاهرة سُمِّيت عينًا مُتوشِّلة، وإن كانت باطنة، فانتهى الحفر بالمهنة إليها، سُمِّيت قليبًا، وإن كان ظهور الماء فيها رشحًا بريًّا سُميت حسيًا. وهذا الحسي أيضًا على حالتين (كذا):
-
إما قريب من وجه الأرض، فيُسمى حِسيًا، ولا يُعبر عن اسمه، وإما أن يكون بعيدًا من وجه الأرض، فيُسمى ركيًا، وهذه الركايا أيضًا: إما أن تكون مفردة أو حادًا، فتُسمَّى بأسمائها: ركايا فقط.
-
وإما أن تكون كثيرة، تنبعث من بعضها إلى بعض لقُربها، حتى تجتمع بمائها أجمع في رَكيٍ، فتُسمَّى فقيرًا. وهذا الفقير، وهذه الفُقُر، إنما أُسيحت على وجه الأرض، إذا كانت مُبتدَأُ ركاياها من مواضع أعلى، وحُطَّت إلى مواضع أسفلَ وأهبد، وكان من الأرض شيءٌ أهبط وجهًا من وجه الماء، الذي في الفقير الأعظم، الذي يفيض إليه ماء الركايا.
وربما لم تكن إساحته على وجه الأرض، فيُنزع بالدلاء، فما كان منها غزير الماء غير منقطع في دور السنة كلها سُميت السُّدُم والأعداد. وقد تُسمى سوائل هذه الرشوح عيونًا بالاسم المستعار.
-
أما إحدى الجهتين فما حددنا من [الماء] النازل من العلو والواصِل إلى بطون الأرض بالنشف؛ والثاني الداخل من وجه الأرض من خروق المغارات التي في بطونها، أعني الأودية التي في بطونها. وكذلك خروجها لمعنَيين اثنين:
-
أما أحدهما فبالرشح.
-
والآخر بانفجارٍ من الخروق التي حدَّدنا، تسيل وتسيح على وجه الأرض، وهذه هي المُسمَّاة عيونًا فوَّارة؛ لأن الفائر منها [ما] كان على وجه الأرض سيله.
-
-
أما أحدهما فالجاري من علٍ، كما وصفنا.
-
وأما الآخر فالمُستحيل في بطون الأودية.
فإن ظاهر الأرض، إذا حَميَ، برد باطنها لاقتسام الكيفيات المواضع المُتضادة، كما حدَّدنا في غير مَوضع من أقاويلنا وأثباتنا، فتبرد بردًا شديدًا، فيستحيل الهواء الذي في الأودية ماء؛ لأن الهواء والماء مُشتركان في الكيفية المُنفعلة، أعني الرطوبة، مُتضادَّان في الكيفية الفاعلة، أعني الحرارة والبرودة؛ فإذا استحال الهواء باردًا، وعدم الحرارة، صار عنصرًا باردًا رطبًا، وهذا هو الماء.
وقد يعرض في القُلُب البعيدة العُمق مثل ذلك؛ فإنه إذا صادف الحفر موضعًا رملًا عذبًا أو حجريًّا غير مُستحيل الكيفية إلى الكبريتية أو الشبوية أو ما أشبه ذلك من الكيفيات الدالة على الحرارة أو ما أشبه ذلك، أو انتهى إلى طينة عذبة حرة، واشتدَّ برد الموضع الذي انتهى إليه الحفر، استحال فيه ماء.
وقد يُعْلَم ذلك حِسًّا بأن يُوضَع في القليب، في قراره، طرجهار أو إناء قريب من ذلك الشكل. فإن أصبت الإناء، إذا اجتمع الماء في البئر، غَرِقًا، علمتَ أن الماء حدث من استحالة الهواء؛ لأنه استحال من باطنه كما استحال من خارجه.
وإن أصبت الإناء طافيًا على الماء، فاستدل بذلك على أن الماء تُوشَّل ورشح تحته، فأعلاه فوقه، فبقِيَ عليه طافيًا، ولم يستحِل في باطنه شيء.
وإن أصبت الإناء قد استحال في باطنه شيء من الماء، وهو طافٍ فوق الماء، والماء في البئر أكثر من سُمك الإناء، فاعلم أنه من العلَّتين جميعًا، أعني أن ماء البئر توشَّل حسيًّا واستحال هواه معًا؛ لأن توشُّله أكثر من استحالته.
وقد يمكن أن يُوجَد حسًّا على وجه الأرض كيف يستحيل الهواء ماء لشدة البرد، بأن تأخُذ زجاجة قنينة أو ما أشبه ذلك، فتحشوها بالثلج حشوًا تامًّا، ثم تستوثق من سدِّ رأسها، ثم تزِنه وتعرف وزنها، ثم تضعها في قدحٍ تقرب أرجاؤه من ظاهرها، فإن الهواء يستحيل على ظاهر القنينة كالرشح على القلال، ثم يجتمع منه شيء له قدْر في باطن القدح، ثم يُوزن الإناء والماء والقدح معًا، فيوجد وزنهما زائدًا على ما كان قبل.
وقد يظن بعض الأغبياء أنه ترشح الثلج من الزجاج، والماء الذي هو ألطف من الثلج وأدق مسلكًا وأحمى من مسِّ الثلج يعسر نفاذُه من الخزف المُتخلخل منه الجديد؛ فأما الزجاج فلا حيلة في إظهاره منه أبدًا، فكيف ينفذ منه الجسم الغليظ البارد المنحصر؟
فقد بيَّنا المد الذي يعرض بالمواد، والمد الطبيعي الذي ليس بمواد، أعني زيادة جسم المادة زيادة طبيعية، لا بمادةٍ مُنصبَّة فيه، بل بالاستحالة.
وهذا طبيعي يكون بحمي الأجسام أولًا، فإن كل جسم حمِي احتاج إلى مكانٍ أوسع منه، وهذا موجود حسًّا بآلة تتَّخِذها، تُوجِد ذلك عيانًا؛ [و] هو أن تكبَّ قنينةً أو ما أشبهها من زجاجٍ كهيئة المساقي التي تُتَّخذ للحمام بقدْر ما يترك رأس القنينة على وجه سطح الماء وترصدها؛ فإنه كلما ازداد الهواء حرًّا نشَّ الماء بما يخرج من الهواء الذي في القنينة، إذا تغير الهواء إلى الحرارة بالإضافة إلى ما كان عليه أولًا، أعني عند نصب الآلة، وعظم جسمه لذلك، فاحتاج إلى مكان أوسع، فزحم الماء الذي في الإناء وخرقه خارجًا، وكان لخرقه، نفاخات الكنشيش صغار بقدْر تغيُّره إلى الحرارة، فإذا برد الهواء بالإضافة على ما كان عليه في وقت حَمْيه انقبض واحتاج إلى مكانٍ أضيق، فصغر جسمه في الإناء، فاحتاج إلى أن يجذب الماء ليملأ المَواضع التي كان فيها قبل حميِهِ الجزء الذي خرج خارقًا للماء، فرُئي الماء عيانًا صاعدًا في عنق القنينة جائزًا وجه سطح الماء علوًّا، إذْ ليس في العالَم فراغ من جسمٍ، فمتى زال جسم عن موضع، جُذِب إليه الجسم المُماسُّ له إلى خلاف جهة حركته الطبيعية، أعني الفراغ من أحد الجسمَين لا الفراغ المُطلَق.
وأيضًا فإنا نرى الأشياء المتحركة حركة سريعة، سيما حركة الذي يَحمى حميًا ظاهرًا للجسم، ويَحمى من الهواء ما قرب منها، كما نرى ذلك في الآلات التي تُسمَّى الخذاريف، أعني الفلك المُستديرة ذوات الثقبَين المنظوم في ثقبها خيط واحد موصول الطرفَين، إذا وضع في الخيط أصبع من إحدى جهتي الفلكة، ومن الجهة الأخرى أصبع من اليد الأخرى ومُد، حتى يستغرق المد طول الخيط الموصول الطرفَين، ثم حُرِّكَ حركةً تُدير الفلكية، ثم جُذب باليدَين، فإذا انتشر الأقل أُرخيَ بعض الإرخاء، ثم جُذِب، يُفعل به ذلك مرارًا مُتواترة، فإذا أُدني من بعض الجلد من غير أن يُماسَّه، حسَّ العضو الذي دنا منه حرارة بيِّنة.
وقد ذكر أرسطوطاليس، فيلسوف اليونانيين، أن نصول السهام، إذا رُمي بها في الجو، ذاب الرصاص المُلصق بها، الموصول بالنصول.
فأما نحن فإنَّا ظننا أنَّ الحكاية عنه زالت بعض الزوال؛ لأن ذوب الرصاص المُمسِك لأجزاء الحديد المولِّد لها لا يذوب، إذا كان في نار المدة التي للسهم أن يخرق بها الجو حفزًا، وليس يمكن أن يَحمى الهواء بقدرٍ أشدَّ من [أن] يصير نارًا. وأيضًا إن السهم بخرقه، للهواء في كل حال، يماسُّه هواء جديد.
وقد جرَّبنا هذا القول؛ لأنه كان عندنا مُمكنًا، لكن لنصنع التجربة بهاته المِحنة، فإن الشيء إذا كان خبرًا عن محسوس، لم يكن نقضه إلَّا بخبر عن محسوس، ولا تصديقه إلَّا بخبرٍ عن محسوس.
فعَمِلنا آلة كالسهم، موضع نصلِها كرة من قرن، وثقبناها ثقبًا خارقة إلى الكرة موازية لطول السهم، وأمكنَّا بواطن الثقب برصاصٍ رقيق، ثم رَمَيناها في الهواء عن قوسٍ شديدة، فوقعت السهام إلى الأرض، ولا رصاص فيها. وليس بمدفوع أن يكون جرى الهواء في تلك الثُّقُب بالحفْز الشديد، فقشَّر الرصاص، وقلَعَه من غير إذابة، لأنَّا وجدنا رائحة ما حول تلك الثُّقُب، رائحةَ القرن الذي مسَّته النار.
فتبين بما قلنا — وأشياء كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها فيما قُلنا من الكفاية عن إبانة ما أردنا إبانته — أن الحركة مُحدثة حرارة، أعني حركة الأشخاص العالية على الجرم الأوسط، أعني الأرض والماء، وأن إحدى المُتحرِّكات على الجرم الأوسط، بإحمائه، أعظم الأشخاص المُتحركة عليه وأسرعها عليه حركةً وأقربها منه، وأحرى المواضع من الجرم الأوسط بشدَّة الحَمْي الدائرة منه العظمى، التي هي الدائرة التي يرسمها الجرم المتحرك عليه في سطح واحد.
فأما القمر فأقرب المتحركات على الجرم الأوسط من الجرم الأوسط؛ لأن كُرته نهايةُ الجرم الأقصى، المُتحرك حركةً مُستديرة، من جهة الجرم الأوسط. فأما سرعته في الحركة على الجرم الأوسط، فإنه يدور عليه دورة كاملة، ٣٧٣ زمانًا ودقائق بالحركة الوسطى، أعني بالزمان من هذه الأزمان ما يطلع منه جزء من ٣٦٠ من دائرة معدل النهار.
فأما الشمس فتدور على الجرم الأوسط دورةً كاملة ٣٦٥ زمانًا ونط [] دقيقة وح [] ثوانٍ، بالحركة الوسطى من هذا الزمان، فهي أسرع حركة عليه من حركة القمر. وأما زحل فإنه يتحرَّك على الجرم الأوسط دورة كاملة ٣٦٥ زمانًا ودقيقتَين، بالحركة الوسطى من هذه الأزمان.
فزحل أسرعها حركةً إلا أن بُعده من الأرض، في بُعده الأبعد، على ما أتى به علم المساحة، مثل نصف قطر [الأرض] عشرين ألف مرة.
فأما القمر فإذا كان في بُعده الأبعد، كان بُعده من الأرض مثل نصف قطر الأرض ٦٦٠ مرة ودقائق.
فأما الشمس فإذا كانت في بُعدها الأبعد، فإن بُعدها من الأرض مثل نصف قطر الأرض ١٢٦٠ مرة.
فأما جسم القمر فقريب من جزءٍ من ٤٠ [جزءًا] من الأرض. وأما جسم الشمس فمِثل الأرض ١٦٦ وثلاثة أثمان. وأما جسم زحل فأقلُّ من ٩٠ مرة.
فأما القمر فلِشدَّة قُربه من الأرض وائتلاف نِسبته إلى نسبة كرة الماء والأرض، كما أوضحنا في أقاويلنا التأليفية، فإن نسبة موضع كرة القمر من العدد إلى كرة الماء والأرض [واحدة]، إلا أن فعله في الماء أظهر لسَيَلانه وانقياده للحركة، فأما في الأرض، فإنه وإن كان بينًا جدًّا فيما يظهر من نمو الناشئات منها في الحرث والنسل، عند تفقُّد ذلك، فإن فعله في الماء أبيَنُ كثيرًا.
فأما أفعال الشمس فإنها في الهواء والنار أوضح؛ لأن كرة الشمس من كرة النار في نسبة التضاعُف لا تتبيَّن. فأما القمر من كرتهما [فنسبته] هي نسبة الزائد جزءًا لثلاثين.
فالشمس أشد ائتلافًا بكرتيهما من القمر كثيرًا، وأفعال القمر في الجرم الأوسط، مع ما يلحقه من فعل الشمس، أزيد؛ فإنه يفعل أفعاله زمان غيبة الشمس، وظهور بدؤه على الجرم الأوسط.
ولذلك ما قال كثير من الحكماء، الذين وصفوا تأثيرات الأشخاص العالية في الجرم الأوسط: إن القمر مُتصل بالماء والأرض، مُشاكِلٌ لهما، دالٌّ على أحوالهما والكائنة الفاسدة التي في الماء والأرض.
ولذلك أيضًا ما قال بعضهم: إن القمر مائي، عند حاجته إلى الدلائل على كون الأمطار. وقال بعضهم: أرضي، عند حاجته إلى الدلائل على كون الحرث والنسل الكائن على الأرض وبالأرض ومن الأرض، إذا كانت أقوالهم في ذلك خبرية مُجملة.
فتبين إذن أن حركة القمر الدليل الأول على زيادة الجرم الأوسط السائل ونُقصانه، لحركته ومُسامَتَتِه العلُو. وقد يعرض لذلك عارضٌ من المكان، وذلك أنا نجد الأشياء المُستحيلة لنتونيته تَحمى حَمًا شديدًا، ويَحمى ما لاقت من ماءٍ وهواء. وقد يُحَسُّ ذلك حسًّا في الآبار والبلاليع.
فإن الماء إذا قدم فيها أماع التربة إلى حَمئة ولَطَّف أجزاءها، وشدَّد تلزيجها. فإذا بطَنت الحرارة في الأرض، عند ظهور البرد على وجه الأرض، باقتسام الكيفيات على المواضع المتضادة بالوضع، حدث فيها استغراء واستحالة إلى العلكية والدهنية.
فإذا تغيَّر فحَمِي ظاهر الأرض وبطن البرد، أجمد تلك اللزوجات والدهانة، وحدث النتن، انحصار تلك الدهنية والمائية في جسم تلك الطينة. فإذا عادت عليها حرارة، أحالته إلى شدة الإحماء، فقبلت من الحَمي أكثر مما قبلت أولًا.
ولا تزال كذلك تزداد في كل دَوْر حتى يكمل عفَنُها ونتنُها وحميُها، فيرتفع بخارها عظيمًا مُغالبًا للماء الذي عليها، خارقًا له، حتى ربما أهلكت تلك الأبخرة بغلظها وشدة نتنها وحَميها وضعف القلوب عن تنسُّمها من داخل تلك الآبار.
فإذا ارتفعت تلك الأبخرة علا الماء الذي فيها عن سمت وجهه قبل علوِّها، وظهر فيها غليانٌ، يُغلَب الهواء له، ظاهرٌ للحسِّ، وهذه الحال تُسمى الخِب، في كل ما عرضت فيه من نقائع المياه، صغُرَت أو عظُمَت، فيعرض في لجج البحار، التي قد عرض لِطينها هذا العرض، غليان شديد، وموج مُتلاطم سيَّال. ويعلو سطح الماء فيها علوًّا شديدًا، مع تلاطُم الأمواج وشدة الدويِّ والنتن، نتنه لانبثاثه في الجو الواسع غير مهلك، كما يُهلك نتن المواضع المحصورة في الجو كالآبار والبلاليع.
وهذا العرض مشهور عند من يسلك البحار، كما حدَّدنا الخِب، وهو نوع من أنواع ظهور الماء وزيادته.
فإذا قدَّمنا ما قدَّمنا فلنقُل الآن على المد السنوي، وهو الزيادة في ماء البحار في وقتٍ محدود من السنة، في مَوضع دون موضع، بحركة الأشخاص العالية، فنقول: إنا قد ذكرنا في غير موضع من أقاويلنا الطبيعية أن الريح الجارية بحركة الأشخاص العالية ريحان هما الهابَّتان من الأقطاب: إحداهما الهابَّة من جهة القطب الشمالي، تُسمى الشمال، والأخرى الهابَّة من جهة القطب الجنوبي، [و]تُسمَّى الجنوب.
فإذا كانت الشمس في الجهة الشمالية سال الهواء إلى الجهة الجنوبية، فيسيل ماء البحر بحركة [الهواء] إلى جهة البحر الجنوبية؛ فلذلك تكون البحار في جهة الجنوب في الصيف بهبوب الرياح طامية عالية، فيُسمَّى ذلك مدًّا سنويًّا، وتقلُّ المياه في جهة البحر الشمالية لسيلانه إلى الجنوب، فيُسمَّى ذلك جزرًا سنويًّا.
فإذا صارت الشمس في جهة الجنوب سال الهواء بالجنوب إلى جهة الشمال للعلة التي قدَّمنا ذِكرها، فسالت جهة ماء البحر الجنوبية إلى جهة الشمال، فطمت الجهة الشمالية وعلا الماء فيها، وسُمِّي ذلك مدًّا سنويًّا، وقلَّت المياه في جهة البحر الجنوبية ونقصت، فسُمِّي ذلك جزرًا سنويًّا.
فإذا وافق بعض الكواكب السيارة الشمس، وهي في أحد البيوت الجنوبية أو الشمالية، واشتدَّ حموها، واشتدَّ لذلك سيلان الهواء، فكان المد السنوي في خلاف جِهتها أشدَّ وأكبر، وكان الجزر أيضًا أشدَّ وأكبر.
فأما المد الشهري فإنه يعرض في كل شهر، في الاجتماع والامتلاء، بحالَين مُختلفتَين. أما الاجتماع فإنه لمقارنة الشمس يزيد في المد السنوي، ويضعف عن زيادة مثل ذلك [في المد الشهري] لاضمحلال نوره وانعكاسه إلى العلوِّ؛ أعني إلى جهة الشمس.
فأما في الامتلاء فيحمى الجوُّ حمْيًا شديدًا، وتظهر زيادته في المد الشهري ظهورًا بينًا. وكذلك يعرض إذا ربع الشمس من الشمس من الجهتَين جميعًا؛ أعني من يمين الشمس ويسارها فإنه في ذلك الأوان ينقص بالدنوِّ وشدة الهبوط إلى الأرض. فإن وافق في ذلك الأوان أن يكون في فلك حضيض تدويره،؛ كان المد الشهري أزيد، وإن اتفق أن يكون في ذروة فلك تدويره، كان أقلَّ من ذلك.
فأما المواضع من الفلك الفاصلة أبعاد ما بين الاجتماع والتربيع [الأول] وما بين التربيع [الأول] والمقابلة، وما بين المقابلة والتربيع الثاني، وما بين التربيع الثاني والاجتماع، بنصفين نصفين، فإنه المواضع التي إذا حلَّها القمر، كان نقص الماء وجزره الشهري أشدَّ ما يكون وأكبره، إلا أن الفاصل ما بين التربيع الأول والامتلاء، و[الامتلاء] والتربيع الثاني، بنصفين نصفين، أفضل جزرًا من الفصلين الآخرين، أعني المتوسِّطين بين الاجتماع والتربيع الأول، والتربيع الثاني والاجتماع؛ لأن القمر في الفصلين اللذين يليان الامتلاء أكثر ضوءًا منه في الفصلين الآخرين اللذَين يليان الاجتماع.
وقد يُغير ذلك مشاهدة الزهرة وعطارد للقمر أو غيبتهما عنه ومُخالفتهما له في الجهة، لمشاكلتهما للجرم الأوسط، أعني الأرض والماء، فإنهما ظاهرا الأثر فيهما، لمِثل العلة التي قدَّمْنا من مشاكلة القمر للأرض. فإن العدد الأول التأليفي المنسوب إلى كُرتَيهما وهي الرابعة من الأكر من العدد المنسوب إلى كرة الأرض والماء، وهي الكرة الأولى من السفل من نسبة المضاعف الاثنيني، كما بينا ذلك في كتابنا «في نضد العالم ومشاكلةِ أُكره».
فنقول إن فلك معدل النهار وفلك البروج دائرتان عظيمتان، تقاطعان على أنصافهما. وميل دائرة فلك البروج على دائرة معدل النهار في جهة الشمال مساوٍ مَيل دائرة فلك البروج عن دائرة معدل النهار في جهة الجنوب. فالمُنقلبان اللذان هما نهاية الميل في الجهتَين جميعًا بالطبع مُتفقان، وأما بالعرض فمُختلفان، أعني أنهما جميعًا مُنقلبان، إلا أن أحدهما تُقبِل منه [الشمس] من الشمال إلى معدل النهار، والآخر تُقبِل منه من الجنوب إلى معدل النهار.
وكذلك الاعتدالان بالطبع واحد، إلا أن أحدهما تخرج منه المُتحركات السماوية إلى جهة الشمال، والآخر تخرج [منه] إلى جهة الجنوب.
وكذلك الحرُّ المتوسط بين المُنقلب والاعتدال متساوٍ بالطبع ونظيره، مُتضادان بالعرض؛ لأن أحدهما يخرج منه إلى ضدِّ الجهة التي يخرج من الآخر إليها.
وأرض كريَّة، فنهايات المواضع المُتباعدة فيها جدًّا، حتى تعرض فيها نهايات الأفعال ومَباديها، أربعة مواضع، وهي: سمت الرأس من فوق الأرض، وهو الذي يُسمِّيه القدماء من المُنجِّمين وتد السماء، ومقابل ذلك من تحت الأرض، وهو الذي يُسمِّيه القدماء من المُنجمين وتد الأرض، وأفق المشرق والمغرب، وهو الذي يُسميه القدماء من المنجمين وتد [المشرق ووتد] المغرب.
وأما الأفعال التي تكون في الانقلابات والاعتدالات فهي المنسوبة للشمس والشهرية للقمر.
ولكل كوكب من [الكواكب] سنته؛ إذْ لكل كوكبٍ سنة من دوره وشهر من مقارنته الشمس.
فأما الانفعالات التي تكون في دائرة معدل النهار والدائرة الموازية لها في الأوتاد الأربعة [ﻓ] هي على الانفعالات اليومية؛ لأن الدور في الدور في الدوائر المتوازيات يتمُّ في يومٍ وليلة.
فإذا كان لا تضاد لكل دائرة من الدوائر المتوازية، [لا] بالطبع ولا بالعرض، فليس يختلف الفعل فيها من جهة ما حلَّ فيها من الأشخاص العالية.
فإذن أيضًا يختلف الفعل فيها من جهة الموضوع لقبول الانفعال منها، أعني الأرض وما عليها من الكائنات الفاسدة؛ وإنما يختلف الموضوع للانفعال بوضعه من الفاعل؛ إذ هو أيضًا بالطبع أحدٌ، وإنما يختلف بعرض، أعني أن كلَّ مَوضع من الأرض هو بالطبع واحدٌ، إلا أنه يعرض له أن يكون مَشرقًا لمَوضع ومَغربًا لآخر، ومُسامِتًا وسط السماء لآخر، ومُسامتًا وتد الأرض لآخر.
فإذن للمُنفعل أن يقبل من الفاعل فيه، إذا كان في مَشرقه ضدَّ ما يقبل في وسط سمائه، وإذا كان في مغربه ضدَّ ما يقبل منه، إذا كان في وسط سمائه، وإذا كان في وتد أرضه ضدَّ ما يقبل منه، إذا كان في مَغربه، وإذا عاد إلى مشرقه ضدَّ ما يقبل، إذا كان في وتد أرضه، وإذا كان في مشرقه أو مغربه، قبل منه ضدَّ ما يقبل منه، إذا كان في وسط سمائه أو وتد أرضه.
فإذا كان في مشرقه أو مغربه قبل منه قبولًا واحدًا؛ فلذلك ما تعرض الأحداث في كل موضعٍ من الأرض، في جوه ومائه وأرضه، إذا حلَّت الأشخاص العالية الفاعلة في أحد الأوتاد الأربعة، مُضادة ما كانت عليه قبل ذلك، في الأكثر أعني ما لم يكن بعض الأشخاص العالية المُشتركة في الفعل مناقضًا لبعض.
فأما إذا كان الواحد منها منفردًا وأقواها فعلًا، فإنه يفعل، متى صار في أحد الأوتاد، ضد ما فعل في الوتد الذي قبله. وإن كان أقوى الفاعلة فيه وكان غيره مُناقضًا له، رُئيَ فعله أنقص بقدر قوةِ مُناقِضِه.
وإن كان المشارك له في الفعل أضعف منه، وهو موافق له في الفعل غير مُناقض له، رُئيَ فعله أقوى.
والمد والجزر اليومي، كما حدَّدنا، أكبر الفعل فيه للقمر. فإذا كان القمر يتحرك حركة اليوم والليلة، التي هي حركة الدوائر المُتوازية، ففعله واحد من قبله. وليس يمكن أن يكون المد أبدًا لحركة القمر اليومية، فيكون لا نهاية له، وينطبق وجه الأرض كله بالماء، بل يصير مواضع العناصر كلها وما فوقها، وتبطل العناصر وما فوقها.
وليس يمكن أن تستحيل العناصر بكُلِّيتها إلى عنصرٍ واحد. ولا يمكن أن يستحيل الذي لا ضدَّ له مما فوق العناصر؛ فإذن يكون ما لا يكون، إن كان مدٌّ بلا نهاية، وتكون أجرام العالم كلها ليس إلا ماء فقط.
فإذن باضطرار أن يكون مدا وجزر، لتكون الأشياء ثوابت على سرحٍ واحد ونظمٍ واحد وتدبيرٍ واحد، أيام مدَّتها التي قسم لها مبدع الكل، تبارك وتعالى. فما أعجب ما هيَّأت حكمته الجليلة اللطيفة في سبلها، من التقدير في الغرض، من جهة المُنفعل؛ إذْ كان الفاعل واحدًا غير مُتبدِّل. فإنها صيَّرت هذه المواضع الأربعة، المُسمَّاة أوتاد العالَم، لكل موضعٍ من الأرض وما عليها من الكائنة الفاسدة، أسبابًا لقبول اختلاف الفعل من الفاعلة الحالَّة لها.
فإن القمر إذا صار في مشرق موضعٍ كان أول وقوع ضوئه عليه، فابتدأ في الحَمي وقبول الزيادة في الأجزاء، إلَّا أن [ذلك] أظهر ما يكون في الماء، فكلما علا، كان حَمي ذلك الموضع له أشد، حتى يَصير في وتد سمائه، فهو نهاية قبول ذلك [الموضع] للحرارة، لحركة القمر، ونهاية مدهِ؛ لأن الأجرام، كلما حَمِيَت احتاجت إلى مكانٍ أوسع، كما قُلنا مُتقدِّمًا.
ولذلك ما قُلنا إن حلوله في كل وتدٍ يُضاد الوتد الذي قبله، لأن النهاية فيه في البُعد في الدور، أعني [نهاية] التصعُّد ونهاية الهبوط.
فإذن وسط السماء يُضاد المشرق في الفعل، والمغرب يُضاد وسط السماء في الفعل، ووسط السماء يضاد المغرب في الفعل، والمشرق يضاد وتدَ الأرض في الفعل.
فإذن المشرق والمغرب يُضاد كلُّ واحدٍ منهما وسط السماء، ووتد الأرض ووسط السماء يُضاد كل واحدٍ منهما المشرق والمغرب.
فإذن عندما ابتدأ المدُّ في الموضع، حين صار القمر في المشرق من ذلك الموضع، ابتدأ في مُقابلته التي تُسمَّى وتد الأرض.
وحين ابتدأ الجزر في الموضع، حين زال عن مُسامَتَتِه الثمر، ابتدأ الجزر في مقابلة المُسمَّى [سمت] وتد الأرض.
وكذلك إذا صار في مغربه، ابتدأ المد في الموضع المُسمَّى وتد الأرض؛ فابتدأ المد أيضًا في مقابلة الذي هو الموضع الذي فرضنا أولًا.
وحين انتهى القمر إلى وتد الأرض، كانت نهاية المد في الموضع المقابل له الذي فرضنا، وهو سمت وسط السماء.
وحين زال القمر عن سمت وتد الأرض ابتدأ الجزر في الموضع المُسمَّى وتد الأرض وفي الموضع المقابل له الذي فرضنا، الذي هو سمت وتد السماء.
وحين صار القمر إلى مشرق الموضع الذي فرضنا ثم صار الموضع المُسمَّى وتد الأرض ومقابله الذي فرضنا الذي هو سمت وتد السماء، وحين زال القمر عن مشرق [الموضع] الذي فرضنا، عاد المدُّ مُبتدئًا في الموضع الذي فرضنا ومُقابله، للعِلل التي فرضنا ذكرها، حين ذكرنا الأوتاد المُتضادة الأفعال فيها، مع أن المد الذي يكون في نهار القمر أكبر وأغزر من المد الذي يكون في ليله، والجزر الذي يكون في نهار القمر أضعف من الجزر الكائن في ليله من جهة القمر.
فصيَّرت حِكَم الباري، جل ثناؤه، ولُطفُ سُبلها وجلال قوتها المواضعَ المتقابلة مُتفقةً، لتساوي الأفعال فيها؛ فإن المطالع وسعة المشرق فيها واحدة أبدًا، [و] كذلك كل ما يعرض فيها.
فأما التي ليست مُتقابلة بالوضع، كأوساط السماء والآفاق فمختلفة الأفعال في جلائل أمورها ولطائفها، فإن أقدار مطالع البروج فيها مختلفة، وسعة الميول، لاختلاف الأقطاب [و] الآفاق، [فإن] القِسي المحدودة لكل واحدةٍ من الدوائر المتوازية ومعدل النهار من فلك البروج، في دوائر الآفاق ودوائر أنصاف النهار مختلفة، لاختلاف وضع الآفاق.
فكل موضع من الأرض يظهر فيه المد والجزر اليومي، فإنما يظهر حين يبتدئ طلوع القمر [عليه]، ويبتدئ جزرُه حين يبتدئ زوال القمر عن سمت رءوس أهله، ويتم الجزْر حين يصير القمر في مغربه، ثم يبتدئ المد [فيه] حين يزول القمر عن مغربه ذاهبًا إلى وتد الأرض، ويتم حين يُسامِت وتد أرضه، ثم يبتدئ الجزر فيه، حين يزول القمر عن وتد أرضه، ذاهبًا إلى مَشرقه، ويتم، إذا صار في نقطة مَشرِقِهِ، كما قدَّمنا.
فدور الأشخاص العالية السيارة مع ما سامَت من موضعه من الثابتة، إذا كانت السيارة في القدر مِن الميل على ما لا تُجاوزه، فإذا خرجت عنه، كانت منه قريبة فاعلة من أوله إلى آخره في كل يومٍ وليلة، وهو مع ذلك في الموضع القابل للحَمي، وقليل ما يعرض فيه من الزيادة، ويكون في هذه الأنهار التي يظهر فيها المدُّ بينًا كبيرًا.
فهذه، كان الله لك مُسدِّدًا، العِلل الدالة على أنواع المد والجزر، التي حدَّدنا. وهي مأخوذة من أقاويل شتَّى غير واحد؛ لأن كل صناعةٍ ذات أوائل، وأوائلها المُوضحات لها خاصة بصناعةٍ أخرى، وليس إيضاح الأشياء جميعًا من جهةٍ واحدة ولا بمعنى واحد من التثبيت.
فهذا فيما سألت كافٍ، كفاك الله المُهم من جميع أمورك وحاطك بالصُّنع في جميع دهرك.