كتاب وري الزند بالجزر والمد (يتيمة العصر في المد والجزر)
يُعَد هذا الكتاب أضخم عملٍ عثرنا عليه بين كل النصوص الأخرى والذي تناول ظاهرة المدِّ والجزر، لكن تُسيطر عليه الصبغة الدينية كون خلفيته الثقافية دينية.
(١) المبحث الأول: التعريف بالمؤلِّف
(٢) المبحث الثاني: أعماله
-
رسالة في الذَّبِّ عن مذهب الإمام أبي حنيفة.
-
يتيمة العصر في المد والجزر.
-
حاشية على تلويح السعد.
-
رسالة في التصريف.
-
رسالة في العروض.
-
رسالة في المنطق.
-
السيف المخذم.
(٣) المبحث الثالث: التعريف بالكتاب
يبدأ المؤلف بديباجة قصيرة يحمد الله فيها ويُثني عليه، ويصلي على النبي ﷺ. ثم ينتقل إلى مقدمة يعرف فيها القارئ بموضوع الكتاب وهو عن المد والجزر في البحر، ويُمهد للموضوع بالجانب اللغوي للفظ «البحر» وتصريفاته ومعانيها كما وردت في المعاجم العربية.
بعدها يسرد لنا بعض الأحكام الشرعية الإسلامية المتعلقة بركوب البحر، من ناحية متى يجوز ركوبه ومتى لا يجوز، ومدى طهر مياه البحار، والأحكام الفقهية للوضوء من ماء البحر والصلاة فيه على السفينة.
ثم أفرد صفحاتٍ كثيرة لأدعية الحفظ من شرور البحر والإبحار، ثم يُورد ما قاله العلماء والحكماء في البحار والجزائر التي تنتشِر فيها وما فيها من عجائب المخلوقات. بعدها يقوم بتعداد البحار الموجودة وتحديد مواقعها الجغرافية وأطوالها.
لم يُناقش موضع المدِّ والجزر إلا بعد ٣٣ صفحة. وهو يرتكز كثيرًا على الأدلة النقلية من آياتٍ قرآنية وأحاديث وأخبار عن السلَف الصالح. ويحاول أن يركز على الصحيح منها ليعتمده كدليلٍ يتطابق مع الظاهرة الطبيعية. إذْ يغلب على المؤلِّف التفكير الديني الصوفي.
أيضًا يستطرد كثيرًا جدًّا، فبين القول الأول والقول الثاني ٦٢ صفحة من الابتعاد عن صُلب الموضوع، إلى درجة ينسى فيها القارئ أنه يَطلع على كتاب عن المدِّ والجزر.
استخدم المؤلف بعض المُختصرات مثل كلمة «بط» في نسخة دائرة المعارف العثمانية ويعني بها «بطل». فقُمنا بوضعها بلفظها الصحيح «بطل» منعًا من التباس المعنى في السياق. كما أننا أعدنا الألف لكلمتي «صلوة وحيوة» لتُصبح «صلاة وحياة».
(٤) المبحث الرابع: توثيق النسخ المعتمدة في التحقيق
لم نعثر سوى على نُسختَين من هذا الكتاب؛ إحداهما من مُقتنيات دائرة المعارف العثمانية، والأخرى موجودة بالمكتبة البريطانية وهي نفسها الموجودة في مركز الملك فيصل ومكتبة المدينة المنورة.
وقد اعتمدنا نُسخة دائرة المعارف العثمانية؛ كونها الأكمل والأوضح بين النُّسختَين، ولكونها كما ذكر الناسخ مأخوذة عن تلميذ المؤلف.
-
(١)
نسخة دائرة المعارف العثمانية:
-
عنوان المخطوط: كتاب وري الزند بالجزر والمد.
-
عنوان شارح على الورقة الأولى: يتيمة العصر في المد والجزر.
-
رقم المخطوط: ق ع ١١/٤٢٣.
-
اسم الناسخ: سيد محمد مرتضى.
-
تاريخ نسخ المخطوط: النسخة الحديثة ١٩٣١م.
-
التملُّكات: لا يُوجَد.
-
عدد الورقات: ١٩٧ ورقة.
-
المسطرة: ١٧ سطرًا.
-
حالة الورق: جيدة.
-
ملاحظات:
يبدو أن دائرة المعارف العثمانية قد نَسخَتْها عن نُسخةٍ أخرى بخط اليد أيضًا عام ١٩٣١م، وقد سجل الناسخ الحديث اسمَه في آخرها.
-
-
(٢)
نسخة المكتبة البريطانية:
-
عنوان المخطوط: كتاب المد والجزر في البحر.
-
عنوان شارح على الورقة الأولى: لا يوجد.
-
رقم المخطوط: (OR 8395).
-
اسم الناسخ:
-
تاريخ نسخ المخطوط: جمادى الأولى ١٠٨٦ﻫ/يوليو (تموز) ١٦٧٥م.
-
التملُّكات: من تفضلات الله على عبده الفقير إليه، الفقيه النبيه الفاضل الأوحد الكاملي بدر الدين محمد بن محمد كاني حفظه الله ذاته، وقرن بالسعود والخير أحواله وأوقاته، ورزقه حفظ العلم والعمل، وبلَّغه أقصى غايات المرام والأمل بحق محمد وآل محمد ﷺ. في ملك العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد علي موسى، في ملك الحقير الفقير إلى الله تعالى محمد الحاج سليمان بن يوسف، ثم صار هذا الكتاب في ملك الفقير إلى الله محمد بن باقر الجبالي غفر الله له ولوالدَيه آمين.
-
عدد الورقات: ١١٦ ورقة.
-
المسطرة: ١٧ سطرًا.
-
حالة الورق: جيدة، فيه آثار تآكُل من الحشرات.
-
ملاحظات:
هذه النسخة مصورة محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض برقم (ب ٩٤٥٢-٩٤٥٤) وفي مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة (١٢ فلك). وهي ناقصة في آخِرها بعض الصفحات وتقف عند الفائدة العشرين «كلهم من العالين الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم».
وقد قُمنا بترميز النُّسَخ كما يأتي:- (١)
نسخة الهند (د).
- (٢)
نسخة بريطانيا (ط).
- (١)
-
(٤-١) كتاب المد والجزر٤ المُسمَّى بوري الزند عبد القادر بن أحمد بن ميمي نسخة قديمة كتب بخط تلميذ المؤلِّف٥
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
- أولًا: من بيان سبب المد والجزر وحصل الامتثال به.
- ثانيًا: طاعة لولي الأمر مع زيادات اقتضاها المقام، ومناسبات استطردها الكلام فجاء بحمد الله كتابًا يُرضي الوحِر٩ الغضبان، ويقصد زلال مُنهله الراوي والظمآن، سائلًا ممن حسن خيمه، وسلم من داء الحسد أديمه، إذا عثر على ما طغى به القلم وزلَّت به القدم، أن يدفع بالحسنة السيئة، فإن الحسود دأبه أن يحسب الحسنة وزرًا، ويعد المعجزة١٠ سحرًا، والعبرة بمُستبصر لا يصدُّه الحسد عن الحق، ولا يردُّه عن الاتباع ملاحظة الخلق.
قال الأصمعي: بحِر الرجلُ بالكسر يبحِر بحرًا، إذا تحيَّر من الفزع مثل بطِرَ، ويُقال أيضًا: بحرًا إذا اشتدَّ عطشه فلم يروَ من الماء. والبحر أيضًا داء في الإبل، وقد بحرت، والأطباء يسمُّون التغير الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحارة بحرانًا، يقولون هذا يوم بحران بالإضافة باحوري على غير قياس، وكأنه منسوب إلى باحور، وباحوراء مثل عاشور وعاشوراء، وهو شدة الحر في تموز وجميع ذلك مُولَّد. انتهى.
وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: صف لي البحر. فقال: يا أمير المؤمنين مخلوق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. فقال عمر رضي الله عنه: لا جرم، لولا الحج والجهاد لضربتُ من يركبه بالدرة. ثم منع من ركوبه ثم رجع عن ذلك بعد مدة، وكذلك وقع لعثمان ومعاوية، رضي الله عنهما.
- أولها: إذا٣٢ أدى لترك الفرائض أو نقضها.٣٣
- الثاني: إذا كان مخوفًا بارتجاجه من الغرق فيه، فإنه لا يجوز ركوبه؛ لأنه من الإلقاء للتهلكة، قالوا وذلك من دخول الشمس في العقرب إلى آخر الشتاء.
- الثالث: إذا خيف فيه الأسر واستيلاء العدو في النفس أو المال بخلاف ما إذا كان معهم أمن والحُكم للمسلمين لقوة أيديهم وأخذ رهائنهم وما في معنى ذلك.
- الرابع: إذا أدى ركوبه للدخول تحت أحكامهم والتذلُّل لهم ومشاهدة مُنكرهم مع الأمن على النفس والمال بالاستيثاق منهم.
- الخامس: إذا خاف بركوبه عورة، كركوب المرأة في مركب صغير لا يقع٣٤ لها به سترة، بخلاف ما إذا اختصَّت بموضعٍ في مركب كبير.
قيل ويستحبُّ أن يقول في السفينة ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا، حسبي الله ونعم الوكيل، لا إله إلا أنت سبحانك إني كُنتُ من الظالمين، يا غيَّاث المُستغيثين أغثني.
وأخرج عنه عن وهب قال: إنها سبعة أبحر وسبع أراضين، والأرض على ظهر الحوت واسم الحوت بهموت.
وأخرج عن ابن عمر — رضي الله عنهما — قال: تحت بحركم هذا بحر من نار، وتحت ذلك البحر بحر من ماء، وتحت ذلك البحر بحر من نار، حتى عد سبعة أبحر من نار وسبعة أبحر من ماء.
وأخرج علي بن حاتم عن كعب الأحبار قال: إنما يفضل البحر الأرض بحر بمربط ثور. وأخرج عنه عن سفيان قال: بلغني أن البحر يخرج من زق. وأخرج عن عبد الله بن عمر — رضي الله عنهما — قال: بلغني أن البحر زق بيد ملك لو يفضل منه الملك لطمى على الأرض.
ومنها جزيرة بيضاء واسعة كثيرة الأشجار والأنهار بها قوم وجوههم في صدورهم للواحد منهم فرجان فرج امرأة وفرج رجل، يتكلَّمون بمِثل كلام الطير وطعامهم نبات يُشبه القطن والكمأة.
ومنها جزيرة النمل وهم خلق كثير ذوو أجنحةٍ وشعور وخراطيم يمشون على رجلَين كمشي الناس، وعلى أربعٍ كمشي البهائم ويَطيرون في الهواء مع الطيور.
ومنها جزيرة فيها أقوام رءوسهم كرءوس الكلاب العظام بادية الأنياب يخرج من أفواهها مثل لهب النار.
حكى الإمام فخر الدين عن الكسائي وغيره من العلماء أن البحور المعروفة خمسة: الأول بحر الهند وهو الذي يُقال له بحر الصين، الثاني بحر المغرب، الثالث بحر الشام وهو اليوم بحر الروم، الرابع بحر نيطش، الخامس بحر جرجان.
فبحر الهند مُتصل بالمحيط من المشرق وليس على وجه الأرض بحر أكبر منه إلا المحيط، وهو كثير الموج عظيم الاضطراب فيخرج من المحيط ثم يمر أولًا بالصين ثم بالهند ثم بالسند ثم يمر على جنوب اليمن وهناك ينتهي إلى باب المندب فتكون مسافته من المحيط في المشرق إلى باب المندب في المغرب أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ.
- الأول: عند أرض الحبشة، قال الفخر ويمتد٨٨ إلى ناحية البربر ويُسمَّى الخليج البربري وطوله مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل.
- الثاني: خليج بحر آيلة وهو بحر القلزم، ومبدؤه من باب المندب فيمر في جهة الشمال مُغربًا قليلًا فيتصل بغربي اليمن ويمرُّ بتمامه والحجاز، وينتهي إلى مدينة القلزم وإليها ينسب، وهذا البحر الذي أغرق الله فيه فرعون، وهو بحر مُظلم وحش لا خير فيه، ثم ينعطف راجعًا في جهة الجنوب فيمر بشرقَي بلاد الصين إلى عيذاب إلى الجزيرة سواكن إلى زيلع من٨٩ بلاد البجة التي بلاد الحبشة ويتصل بالبحر الهندي، وطوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه سبعمائة ميل، قال الفخر وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن وعلى غربيه أرض الحبشة.
- الثالث: بحر فارس ويُسمَّى الخليج الفارسي والخليج الأخضر فيخرج من بحر الصين إلى أن ينتهي إلى عبادان ثم ينعطف راجعًا إلى جهة الجنوب فيمر ببلاد البحرين واليمامة ويتَّصِل بعمان وأرض اليمن، وهناك اتصاله بالبحر الهندي وهو بحر مبارك كثير الخير، دائم السلامة، وطيء الظهر، قليل الهيجان، قال الإمام الفخر وهو بحر البصرة وفارس، وطوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه خمسمائة. قال وبين هذين الخليجين — أعني خليج آيلة وخليج فارس — أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب فيما بين مسافة ألف وخمسمائة ميل.
- الرابع: خليج يخرج إلى أرض الهند يُسمَّى خليج الأرض طوله ألف وخمسمائة ميل. قال الفخر وفي بحر الهند من الجزائر العامرة ألف وثلاثمائة وسبعون جزيرة، وفي الخريدة أن في هذا البحر جزائر كثيرة قيل إنها تزيد على عشرين ألف جزيرة وفيها من الأُمَم ما لا يعلمها إلا الله تعالى، فأما ما يصِل إليه الناس فأقل قليل، فمنها أيضًا في بحر الصين اثنتا عشرة ألف جزيرة عامرة مسكونة وفي بعض جزائره ينبت الذهب.
ومنها جزيرة الروح، هي ثلاثة جزائر متجاورات وهي أقرب جزائر الهند إلى جزائر اليمن، وفيها كثير من الفلفل واللبان والزنجبيل، وفيها جبال الياقوت الأبيض، وفيها جبال الحيَّات كل حية قدر النخلة.
ومنها الجزائر الثلاثة، قال صاحب تحفة الغرائب: في إحداهن برق الليل كله، وفي الأخرى تهب رياح شديدة الليل كله، وفي الأخرى تمطر السماء الليل كله صيفًا وشتاءً على ممر الأيام والليالي.
ومنها جزيرة أرض سرنديب قد أحاط بها البحر من كل جانبٍ، يسير بها الراكب نحو الشهر والشهرين، وفيها الجبل الذي نزل عليه آدم عليه السلام عليه نور شعاعي كلَون قوس قزح لا يخلو منه ليلًا ولا نهارًا، له رائحة تفوق رائحة المسك، وعليه الصخرة التي نزل عليها آدم عليه السلام، وفيه أثر قدَمِه. وذكر ابن الجوزي في كتاب أعاجيب الأرض أن في هذا الجبل شجرة لها أوراق للورقة وجهٌ أحمر وباطن أخضر مكتوب في الحمرة بالبياض لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي الخضرة مكتوب بالحمرة سبحان الله العظيم. وفي هذه الشجرة أطيار على قدر اليمامة تُسبح الله بألسنةٍ عربية وسريانية، فإذا أخذ منها طائر لم ينطق، ولم يتكلم، ولم يمكث أكثر من يومَين ويموت، ولهذه الأطيار أصوات حسنة يبكي السامع لها تشوُّقًا وخيفة عند سماعها.
ومنها جزيرة السحاب. قال في الخريدة: سُمِّيت بذلك؛ لأنه يطلع عليها سحاب أبيض ويعلو على المراكب في البحر، ويخرج منه لسان طويل رقيق مع ريح عاصف حتى يلتصق ذلك اللسان بالبحر فيغلي كالقدر حين يغور ويضطرب كالزوبعة الهائلة، فإن أدركت المراكب ابتلعتها. وبهذه الجزيرة تلول إذا أضرمت فيها النار سالت منها الفضة الخالصة.
ومنها جزيرة الواق الواق المشهورة. يُوجَد عندها سمكة تزيد على خمسمائة ذراع، وإذا رفعت جناحها كان كالجبل العظيم، يُخاف على السفن منها فإذا رأوها صاحوا وضربوا الطبول حتى تهرب عنهم. وذكروا أن بجزائر الهند شجر إذا عمل منه دُهْن ودُهِنَ به أحد لم يقطع فيه الحديد. وفيها شجرة إذا أُخِذ دهنها وشُرِب على حالة مخصوصة استُغني به عن الغذاء ولا يناله سقم ولا مرض ولا يموت لذلك وطوَّل حيوته أبدًا. فهذا وأنواعه من الأسرار والخواص التي أودعها الله في العالم. انتهى ما أردنا نقله من بهجة الناظرين.
وذكر أن من جزائره جزيرة الطورشان قال: وهي جزيرة خصبة ذات أشجار وأثمار وأعين وأنهار وبها قوم أبدانهم أبدان الآدميين ورءوسهم رءوس الكلاب والسباع، وبها نهر شديد البياض وعلى شطه شجرة عظيمة تُظِلُّ خمسمائة رجلٍ، فيها من كل ثمرة طيبة مُشرقة بأنواع الألوان، وكل ثمرها أحلى من الشهد والعسل، وطعم كل ثمرة لا تُشبه الأخرى، وتلك الثمار أليَنُ من الزبد وأزكى من رائحة المسك، وورقها كحلل الحرير والديباج، وهذه الشجرة تسير بسير الشمس وترتفع من الغداة إلى الزوال وتنحطُّ من الزوال إلى الغروب حتى تغيب بغيبوبة الشفق.
وذكر منها جزيرة الحكماء. قال: وهي جزيرة عامرة وصل إليها الإسكندر فرأى بها قومًا لباسهم ورق الشجر وبيوتهم كهوف في الصخور، فسألهم مسائل في الحِكمة فأجابوا؛ فقال: سلوا حوائجكم فقالوا نسألك الخُلد في الدنيا، فقال وأنَّى به لنفسي، قالوا: فصحَّة الأبدان؟ قال: وهذا لا أقدر عليه، قالوا: فمعرفة ما بقي من أعمارنا، فقال لا أعرف ذلك لروحي، فقالوا دعْنا نطلُب ذلك ممن يقدر على ذلك، وجعلوا ينظرون إلى كثرة جيوشه وبينهم شيخ صعلوك لا يرفع رأسه، فقال له الإسكندر: ما لك لا تنظر إلى ما ينظرون إليه؟ قال: ما أعجبني المُلك الذي رأيته قبلك حتى أنظر إليك وإلى مُلكك، قال: وما ذاك؟ قال: كان عندنا ملك وصعلوك ماتا في يومٍ واحد، فغبتُ عنهم مدةً ثم جئتُ فما عرفت الملك من الصعلوك. فتركهم الإسكندر وانصرف.
قال: وفيه سمكة تطفو على وجه الماء فإذا رأت سمكةً أو حيوانًا من دواب البحر قد فتح فاه دخلت فيه وصارت غذاء له. قال: وفيه حيوان يخرج من البحر إلى البر ويرتع والنار تخرج من فيه ومنخرَيه فتحرق ما حولها من النبات. قال: وفيه سمكة طيارة تطير ليلًا من البحر إلى البر فتأكل الحشيش إلى طلوع الشمس ثم تعود طائرة إلى البحر. قال: وفي هذا البحر العطب الذي يُسمَّى بالدردور إذا وقع فيه المركب يدور ولا يخرج منه طول الأزمان والدهور. قال: والدردور في ثلاثة أبحُر؛ في هذا البحر، وفي بحر الصين، وبحر الهند.
وذكر أن في بحر عمان جزيرة بها شجرة تحمل ثمرًا كاللوز في صفته وقدره ويؤكَل بقشره وهو أحلى من العسل، فيقوم مقام كل دواءٍ ومن أكله من الرجال والنساء يزداد نضرةً وشبابًا ولا يهرم ولا يشيب أبدًا، وإن أكله طاعن في السن ذهبت قوته وأبيضَّ شعره، عاد في الحال إلى قوته ونضارته وأسودَّ شعره.
وذكر أن في بحر القلزم سمكة طولها نحو عشرين ذراعًا تلِد كالآدمية وتُرضع، وفيه سمكة تُصاد وتُخيف فيبقى لحمُها مثل القطن ويُتَّخذ منه غزلٌ ويُنسج ثيابًا فاخرةً.
ولَكم وجدْنا في نهرٍ واحد ماءً مشرقًا وماء مغربًا وهما مُتلاصقان عرضًا، وكم من عينٍ عذبة في بحر لا يُمازجها ماؤه لبرزخ من القدرة جعله الله بينهما.
وقد حكى لي من أثِق به أنه كان في بحر فارس فوجد قطعةً من الماء العذب جاء بها الجزْر من نهر البصرة فاستقَوا منها فسبحان القادر الحكيم المدبر لملكه.
فلعلَّها عينان أو يراد بجمعهما مجمعهما في المحيط فإنهما ينشعِبان منه كما ذكره البيضاوي في تفسير سورة الرحمن لا مجمعهما بأنطاكية كما يدلُّ عليه ما نقلناه من البهجة انتهى.
قلت: قد أخرج ابن كثير في تفسيره عن ابن جرير حدَّثنا أبو كريب حدَّثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيٍّ من أحياء الملائكة يُقال لهم الجن خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنًا من خُزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارجٍ من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت، قال: وخلق الإنسان من طين فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جندٍ من الملائكة وهم هذا الحي الذين يُقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال … الحديث.
فإن قلت في سياق الحديث الثاني غرابة كما ذكر ابن كثير في آخره، قلت: وفي متن الأول إشكال فإن قوله «فإنك رجْس وغضب.» ينافي قوله ﷺ في البحر هو الطهور ماؤه والحل ميتتُه.
(٤-٢) فوائد
- الأولى: أخرج السيوطي في الهيئة عن أبي الشيخ عن ابن عباس قال: قال رسول١٥٨ الله ﷺ: ما أنزل الله كفًّا من الماء إلا بمكيال، إلا يوم نوح فإن الماء طغى على الخزان. قال الله تعالى: إِنَّا لَما طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ.١٥٩
- الثانية: أخرج السيوطي عن ابن أبي زمنين في أصول السنة بسنده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: تحت هذه السماء بحر ماء يطفح فيه الدواب مثل بحركم هذا، ومن ذلك البحر أغرق الله قوم نوح، وهو ماء أسكنه الله للعذاب وسينزله قبل يوم القيامة فيُغرق به ما يشاء ويعذب من يشاء.
- الثالثة: الحكمة في كون البحر مِلحًا أجاجًا لا يُذاق ولا يشاع؛ لئلا ينتن من تقادُم الدهور والأزمان وعلى ممَرِّ الأحقاب والأحيان فيهلَك من نتنِه العالَم الآدمي، ولو كان حلوًا لكان كذلك حكمة منه تعالى. ألا ترى أن العين لمَّا كانت شحمة، والشحم لا يُصان إلا بالمِلح جعل الله الدمع مالحًا وكانت مغمورة به حكمةً منه وفضلًا.
قلت ولعل هذا حكمة المد والجزر، فإن الماء الدائم يتسارع إليه النتن بخلاف الجاري المُتحرِّك فإنه لا ينتن أبدًا.
فرع اختلف أصحابنا في وجوب الحج إذا كان الطريق بحرًا، ففي الطيبي — بفتح الطاء ونسبة إلى طيبة لمحمد بن الحسين خليفة — أنه لا يجب، وفي الشمني ولو كان الطريق بحرًا لا يجب الحج، ولو كان نهرًا كسيحون والفرات يجب، وقال الكرماني: إن كان الغالب فيه السلامة يجب.
ولنشرع الآن فيما نحن بصددِه فنقول وبالله التوفيق.
اختلف الناس في سبب المد والجزر على أقوال: أحدُها ما قاله أرسطاطاليس إن علة ذلك من الشمس إذا حركت الريح، فإذا زالت الرياح كان منها الجزر وهو باطل من وجوه:
- الأول: أنه لا شيء منها مقره ذلك، ولم يقم دليل من نقل أو عقل عن ذلك.
- والثاني: أن١٦٧ ما مقره ذلك أنى للشمس التأثير فيه؟ وها
نحن نجد من غاص١٦٨ في شدة حرِّ الشمس في ماءٍ عُمقه عشرة أبواع١٦٩ أو أقل ووصل إلى قعره يخرج ينتفض من شدة
البرد، بل احتاج إلى التدثير،١٧٠ بل من غاص في ثلاثة أبواع ووصل إلى
القعر لا يجد للشمس أثر وإن كان في الرابع والعشرين
من تموز، فكيف بماء قعره مائتا باع بل ألوف أبواع؛
فإن قلت فأين مقر الرياح؟ قلت: هي مختلفة حسبما١٧١ وردت به السنة النبوية والآثار، ففي
الهيئة السنية للحافظ السيوطي أخرج ابن أبي حاتم عن
عبد الله بن عمرو — رضي الله عنهما — قال: قال رسول
الله
ﷺ الريح مسجونة في الأرض الثانية،
فلمَّا أراد الله أن يُهلك عادًا أمر الله خازن
الريح أن يرسل عليهم ريحًا يهلك عادًا. قال: يا رب أرسل١٧٢ من الريح قدر منخر الثور؟ قال له
الجبار: لا، إذن تكفي الأرض ومن عليها، ولكن أُرسل
عليهم بقدر الخاتم.
وأخرج أبو الشيخ عن كعب، قال: ساكنة الأرض الثانية الريح العقيم، لمَّا أراد الله أن يهلك قوم عاد أوحى إلى خزنتها١٧٣ أن يفتحوا منها بابًا قالوا: يا ربنا منخر الثور؟ قال: إذن تكفي الأرض بمن عليها، افتحوا منها مِثلَ١٧٤ حلقة الخاتم. وأخرج ابن جرير وابن مرذويب في تفسيرهما وابن أبي الدنيا في كتاب السخا وأبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة — رضي الله عنه — سمعت رسول الله ﷺ يقول: ريح الجنوب من الجنة وهي من اللواقح وفيها منافع للناس، والشمال من النار تخرج وتمر بالجنة فتصيبها لفحة من الجنة فبردها من ذلك.وأخرج ابن راهوية وابن أبي شيبة في سنديهما والبخاري من تاريخه١٧٥ والبزار وأبو الشيخ عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال: إن الله خلق في الجنة ريحًا بعد الريح سبع سنين من دونها باب متعلق وإنما يأتيكم روح الريح من خلال ذلك الباب، ولو فتح ذلك الباب لأذرت ما بين السماء والأرض، وهي عند الله الأزيب وعندكم الجنوب.وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس — رضي الله عنهما — قال: الجنوب سيد الأرواح واسمها عند الله الأزيب وعندكم الجنوب،١٧٦ ومن دونها سبعة أبواب وإنما يأتيكم منها ما يأتيكم من خلالها، ولو فتح منها باب واحد لأذرت ما بين السماء والأرض.
وأخرج أبو الشيخ عن أنسٍ — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله ﷺ الجنوب من ريح الجنة. وأخرج أبو الشيخ عن عثمان الأعرج قال: إن مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة العرش فتهيج فتقع بعجلة الشمس فتعين الملائكة على جرِّها، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع في البحر، ثم تهيج من البحر فتقع برءوس الجبال، ثم تهيج من رءوس الجبال فتقع في البر. فأما الشمال فإنها تمر بجنة عدن فتأخذ من عرف طيبها، ثم يأتي الشمال حدها من كرسي بنات نعشٍ إلى مغرب الشمس، وتأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، وتأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، ويأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش، فلا تدخل هذه في حدِّ هذه ولا هذه في هذه. قال الفخر الرازي وما بين كل واحدٍ من هذه الأمهات، أي من هذه الرياح الأربع فهي نكباء انتهى.
فقد علمت ما سمعت أن محالَّها مختلفة ولا شيء منها محله١٧٧ قعر البحر. فإن قلت: فما تدفع المعارضة الثانية بين حديث ابن١٧٨ عمرو السابق، وبين حديث أبي هريرة وما أخرجه أبو االشيخ عن عثمان الأعرج، فإن حديث ابن عمرو بإطلاقه يقتضي أن مقرَّ الكل في مقر الأرض الثانية، والآخران يُخالفانه، وحديث أبي هريرة يقتضي أن الشمال مقرها النار والجنوب مقرها الجنة والآخر يُخالفه.قلت: أما حديث ابن عمرو١٧٩ فمحمول على الريح العقيم كما صرح به حديث كعب، وأما حديث عثمان فمحمول على أن الأجنحة المذكورة مسكنها بعد خروجها من مقرهما، وأما بقية الرياح فلا مانع من حمل مسكنها تحت الأجنحة على مقرها ابتداء خلقها؛ إذْ لا مُعارض فاندفعت المعارضة بين هذه الأخبار.فإن قلت: فما جوابك عما أخرجه السيوطي في الهيئة عن أبي عبيد وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن أبي الدنيا وأبي الشيخ عن ابن عمر — رضي الله عنهما — قال: الرياح ثمانٍ أربعٌ منها رحمة وأربع عذاب؛ فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإنه معارض لما ذكرته فإنه صريح في أن أرواح العذاب مقر اثنَين منها البر واثنين منها البحر، وإذا ثبت أن البحر مقر اثنين منها جاز أنْ يكون الشمس تحركهما فيحصل المد.
قلت: لمَّا ذكر العقيم منها ومقرها في الأرض الثانية كما جاء في الحديثَين االسابقين، تبيَّن١٨٠ أن المراد بكونهن فيها١٨١ أنهما مَهبَّهن؛ فالبحر مهبُّ العاصف والقاصف والبر مهبُّ١٨٢ الصرصر والعقيم. وأيضًا القاصف والعاصف ريحا عذاب والمد ليس من آثار العذاب، وأيضًا لو كان المد إنما يحصل منهما لهلك وعذب في كل مدٍّ خلق ممن يركب البحر؛ لأن شأنهما العذاب، قال تعالى أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا منَ الريحِ فَيُغْرِقَكُم،١٨٣ وقال تعالى حَتىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُل مَكَانٍ.١٨٤ وليس فليس.
فوائد
- الأولى: أخرج أبو داؤد في سُننه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الريح من روح الله؛ فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرَها، واستعيذوا من شرها. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة — رضي الله عنها — أن رسول الله ﷺ كان إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرَها وخير ما فيها وخير ما أُرسِلت به، وأعوذ بك من شرِّها وشر ما فيها وشر ما أُرسِلت به. ولفظ الترمذي كان إذا رأى السحاب.
- الثانية: تُسَن الصلاة فرادى للريح الشديدة كالخسوف والظلمة والفزع والزلازل والصواعق وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل والثلج والأمطار الدائمة وعموم الأمراض والخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من الأفزاع والأهوال؛ لأن ذلك كله من الآيات المخوفة، والله تعالى يخوف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعته التي فيها فوزهم وخلاصهم فأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه١٨٥،١٨٦ الصلاة كذا في البحر.
- الثالثة: ذكر بعضهم لكلٍّ من الرياح الأربع خاصَّة؛ فالجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة، والصبا حارة يابسة، والدبور باردة ورطبة.
وأخرج السيوطي في الهيئة عن أبي الشيخ وابن مردويه في التفسير من حديث ابن عباس أنها إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش، فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع، ثم يُنطلَق بها ما بين السماء السابعة، وهي أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدِر جبال المشرق من سماءٍ إلى سماء … الحديث.
وأخرج السيوطي في الهيئة عن أبي حاتم وأبي الشيخ كليهما عن عكرمة قال: إن الشمس إذا غربت دخلت بحرًا تحت العرش فتُسبح الله حتى إذا هي أصبحت استعفت ربها من الخروج. قال: ولم قالت إني إذا خرجت عُبِدت من دونك، قال لها: اخرجي فليس عليك من ذلك شيء حسبهم جهنم.
فهذه الأحاديث والأخبار دالة على أن الشمس إذا غربت فارقت فلكها وذهبت نحو العرش إما بواسطة الملائكة كما هو ظاهر حديث ابن عباس، وإما بنفسها كما هو ظاهر بقية الأحاديث.
ومما يُبطل الثاني أيضًا ما أخرجه السيوطي في الهيئة عن ابن أبي شيبه وابن المنذر وأبي الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لا تطلع الشمس حتى ينخسها ثلاثمائة وستون ملكًا كراهية أن تُعبَد من دون الله.
وأخرج عن الطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه عن أبي إمامة الباهلي — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله ﷺ وكل بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم، ولولا ذلك ما أصابت شيئًا إلا أحرقته.
(٤-٣) فوائد
قال الفلاسفة: هي اجتماع أجزاء نارية يدفعها البخار والصحيح الأول. وقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس عن النبي ﷺ أن الله تعالى لمَّا أبرم خلقَه فلم يبقَ من خلقه غير آدم شمسين من نور عرشه؛ فأما ما كان في سابق عِلمه أنه لا يطمسها فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وأما ما كان في سابق عِلمه أن يطمسها ويُحوِّلها قمرًا، فخلقها دون الشمس في العِظم ولكن يرى صغرها من شدة ارتفاع السماء. الحديث.
الثانية اختلفوا في شكلها فقيل إنه بمنزلة صحفة عريضة وقيل كالصحفة المكفوفة، وقيل إنها كالكرة المدحرجة.
وأخرج السيوطي عن أبي الشيخ عن أبي صالح من طريق الكلبي عن ابن عباس إن رجلًا قال: كم طول الشمس؟ وكم عرضها؟ قال تسعمائة فرسخ في تسعمائة فرسخ، وطول الكواكب اثنَي عشر فرسخًا.
وأخرج عنه عن عكرمة قال: الشمس على قدر الدنيا وزيادة ثلث، والقمر على قدر الدنيا. وأخرج عن قتادة قال الشمس طولها ثمانون فرسخًا في عرض ثمانين فرسخًا.
الرابعة معنى غروب الشمس في العين الحمئة ليس غيبوبتها في نفس العين حقيقة، وإنما ذلك في رأي العين كراكب البحر يعتقد أن الشمس قد غربت في الماء، وإلا فأي عين في الأرض تسع ما هو أكبر منها بأضعافٍ مضاعفة.
وأخرج عن أبي حاتم وأبي الشيخ عن كعب قال: إن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن وجعل ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض، وجعل كثفها مثل ذلك، وجعل ما بين كل أرضَين كما بين السماء والأرض، وكثف كل أرض مثل ذلك، وكان العرش على الماء فرفع الماء حتى جُعل عليه العرش، ثم ذُهِب بالماء حتى جعله تحت الأرض السابعة.
وأخرج عن أبي المنذر في تفسيره وعمر بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية، وأبي الشيخ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماءين خمسمائة عام، وبصر كل سماء وأرض — يعني غلظ ذلك — مسيرة خمسمائة، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه.
قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يُعلَم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظًا من الشياطين انتهى.
قال بعضهم إنه حديث صحيح وهو موافق لما دلَّ عليه علم الهيئة بأنَّ ما بين السماء والأرض ثمانون سنة مسافة كل يومٍ ثلاثون ميلًا إذا صعدت على استواء. قال: فما يذكر أن بينهما خمسمائة عام لا صحة ولا دليل عليه انتهى.
(٤-٤) تنبيه
(٤-٥) فوائد
الأولى أخرج السيوطي في الهيئة عن ابن راهويه في مُسنده والطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن المُنذر عن الربيع بن أنس قال: السماء الدنيا مَوج مكفوف، والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء، زاد ابن أبي حاتم وما فوق ذلك صحاري من نور، ولا يعلم ما فوق ذلك إلا الله وملك مُوكل بالحجب يُقال له ميطاطروس.
وقيل إن الذي نراه هو البخار الطالع بحكم الطبيعة من يبوسة الأرض ورطوبة الماء صعد بها حرارة الشمس إلى الهواء فملأت الجو الخالي بين الأرض وبين السماء، ولهذا تراها تارةً زرقاء، وتارةً شمطاء، وتارة غبراء، كل ذلك على حكم البخار الصاعد من الأرض، وعلى قدر سقوط الضياء بين ذلك البخار. فهي باتصالها بسماء الدنيا تُسمَّى سماء، وأما سماء الدنيا نفسها فلا يقع عليها النظر لشدَّة البُعد واللطافة، ولولا أن الكواكب يسقط شعاعها إلى الأرض لما شُوهِدت ولا رُؤيت. وكم في السماء من نجمٍ مضيءٍ لا يسقط شعاعه في الأرض فلا تراه لبُعده ولطافته.
والثانية من فضة بيضاء واسمها أرقلون.
والثالثة من ياقوتة حمراء واسمها قيدوم.
والرابعة من دُرةٍ بيضاء واسمها ماعونا.
والسادسة من ياقوتة صفراء واسمها دفنا.
والسابعة من نور واسمها أربيا.
[الفائدة] الثانية ورد في حديث المِعراج أنه — عليه السلام — رأى آدم في السماء الدنيا، وعيسى ويحيى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وإبراهيم في السادسة مُسندًا ظهره إلى البيت المعمور، كذا في مُسلم وفي البخاري، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى — صلواته وسلامه عليهم أجمعين. والظاهر أن وجود كل واحدٍ في الفلك الذي هو فيه إنما هو لمناسبة ما بينه وبين ذلك الفلك.
وأما الثالث وهو كون كل مَن في السماوات والأرض كروي الشكل فيشتمل على ثلاث مسائل: كون الأرض كرة وكونها واحدة؛ لأن القائلين بهذا، وهم أهل الهيئة، لم يُثبتوا غير هذه الأرض التي نحن عليها، وكون السماوات أُكَرٌ محيطةٌ بالأرض والكل باطل.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله ﷺ: كثف الأرض مُسيرة خمسمائة عام، وكثف الثانية مثل ذلك، وما بين كل أرضَين مثل ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ إن الأراضين بين كل أرضَين إلى التي تليها مسيرة خمسمائة عام الحديث.
وأخرج أبو الشيخ عن الديناري قال: الريح العقيم في الأرض الثانية والثالثة فيها حجارة النار، والرابعة فيها عقارب النار، والخامسة فيها حيات النار، والسادسة فيها كبريت النار، والسابعة فيها إبليس.
وفي بعض التواريخ أنه قيل لعيسى عليه السلام يا روح ما تحت هذه الأرض؟ قال: بحر من ماء، قيل فما تحت البحر؟ قال: أرض. قيل فما تحت الأرض؟ قال: بحر ماء حتى بلغ سبع أراضين وسبعة أبحر. قيل: فما تحت الأرض السابعة؟ قال: صخرة مجوَّفة. قيل: فما تحت الصخرة؟ قال: هي على منكب ملك قائم. قيل: فما تحت الملك؟ قال: هو على ظهر ثور. قيل: فما تحت الثور؟ قال: هو قائم على ظهر حوت، وقد التقى طرفاه تحت العرش. قيل: فما تحت الحوت؟ قال: الماء. قيل: فما تحت الماء؟ قال: الريح. قيل: فما تحت الريح؟ قال: هواء وظلمة. قيل: فما تحت ذلك؟ قال: إلى هنا انتهى علمي وعلم العلماء.
(٤-٦) فوائد
ولأهل الهيئة وغيرهم اختلاف واضطراب في تعيين هذه الأقاليم السبعة. وذكر أن الأقاليم؛ الأول أطول أيامًا وأعدلُ ساعاتٍ من الثاني، والثاني أعدل من الثالث ثم كذلك إلى آخرها. وإن ما وراء السابع لا يسكن ولا يعيش فيه حيوان ولا يُدْخل إذا كانت الشمس في آخر الأبراج الشمالية في رأس السرطان. وزعم الفلاسفة أن الشموس شموس كثيرة، والأقمار أقمار كثيرة، ففي كل إقليم شمس وقمر ونجوم كذا في بهجة الناظرين.
وأخرج عن ابن أبي حاتم عن القاسم بن أبي بزة قال: ليست السماء مربعة ولكنها مُقبَّبة يراها الناس خضراء.
وأخرج عن أبي الشيخ عن إياس بن معاوية قال: السماء مُقبَّبة على الأرض مثل القبة.
قلت: فلك الثوابت والفلك الأطلس فلَكان مُحيطان بالسماوات للسبع والأراضين السبع، والثور والصخرة والهواء والظلمة كما سنقِف عليه في تمثيل الشيخ الأكبر قُدس سِرُّه وهما المُعبَّر عنهما بلسان أهل الشرع بالعرش والكرسي على ما في شرح المواقف ففلَك الثوابت هو الكرسي والفلك الأطلس هو العرش وسُمي أطلسًا؛ لأنه غير مكوكب.
قال المُحقق الشمس الفناري رحمه الله في المصباح، عن المُحقق الفرغاني قُدِّس سرُّه كما نقله شيخنا قُدِّس سِرُّه عنه في قصده أن كلًّا من العرش والكرسي اعتبر صورتهما المثالية تارة بحكم المرتبة التي ظهرت الهيئة فيها. فسُمِّيا العرش والكرسي واعتبر صورتهما الجسمانية المُركبة من الطول والعرض والعمق فيُسمَّى العرش باعتبارها فلك الأفلاك والفلك الأطلس والمُحدَّد ويُسمَّى الكرسي باعتبارها فلك الكواكب والمنازل.
(٤-٧) تنبيه٢٧٩
قال الإمام فخر الدين: الفلك في كلام العرب كل شيءٍ دائر، وجمعُه أفلاك، وفيه قولان: فقيل أجسام تدور عليه النجوم قاله أكثر المُفسرين، وقيل إنه ليس بجسمٍ وإنما هو مدار النجوم، فإذا قُلنا بالقول الأول ففي كيفية اختلاف فقيل: إن الفلك موج مكفوف تجري فيه الكواكب. وقال جمهور الفلاسفة وأهل الهيئة هي أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام.
وإنما أشبعنا القول في هذا المقام وخرجنا عن المقصد الذي نحن بصدد بيانه؛ لأن كثيرًا من الناس، بل كثيرًا من فُضلاء زماننا، يعتقدون مذهب أهل الهيئة غاية الاعتقاد، ويعتمدون عليه غاية الاعتماد ويرتكبون التويل البعيد إذا سمعوا ما يُخالف مشربهم من نصوص الكتاب والسنة، ويخبطون خبطَ من به جِنة، ولعمري أن لا سبيل إلى معرفة السماوات والأرض إلا بالخبر؛ لأنها غيب لا يُدرَك إلا بالوحي والمشاهدة والعيان لا بالقياس والتخمين والحسبان، والعجب العجيب العُجاب أنهم يسلمون لائمة الدين والسلف ما نقلوه من الأحاديث وبيان الأحكام وتفاسير القرآن التي لا تُخالف مشربهم مما له تعلق بالدين ويدينون الله بالتعبُّد بأقوالهم وأفعالهم، وإذا رأوا منهم ما يخالف مذهب الحكماء والفلاسفة رفضوه وراء ظهورهم، فما مثلهم إلا مثل من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أعاذنا من مذاهب الحكماء والفلاسفة.
والبطين ثلاثة كواكب خفية على هيئة مُثلث متساوي الأضلاع وبينهم وبين الشرطين قدْر رمح في رؤية العين.
والثريا ستة كواكب وقيل سبعة صغار مجتمعة كعنقود عنب.
والهقعة ثلاثة كواكب خفية مجتمعة كنقطة الثاء كأنها لطخة سحاب.
والهنعة كوكبان أحدهما صغير والآخر أنور منه ويتصل بها أنجم فترى الجميع كصورة الصولجان وقيل كباءٍ منكوسة الرأس.
والنثرة وهي كواكب صغار مجتمعة سحابية كأنها لطخة غيم.
والجبهة أربعة كواكب على أثر الطرف كالنعش إلا أن فيها اعوجاجًا، وهي معترضة بين الشمال والجنوب، والجنوبيان منهما أحمران.
والزبرة كوكبان نيران مُعترضان بين الشمال والجنوب.
والصرفة كوكب أبيض نير عنده كواكب صغار وتُسمَّى الصرفة لانصراف الحر عند طلوعه بالعشاء.
والغفر ثلاثة كواكب مُعترضة من الجنوب إلى الشمال على خطٍّ فيه تقوُّس بسبب بروز الأوسط منها عن استواء الخط إلى جهة الغرب وهي خفية وأنوَرُها الأوسط.
والزبانا كوكبان صغيران في الشمال والجنوب بينهما قدْر رمح.
والإكليل ثلاثة كواكب خفية على سطر مقوسة.
والقلب كوكب نيِّر مُحمَّر لمَّاع بين كوكبَين؛ شرقي وغربي.
والشولة كوكبان صغيران مُتقاربان بينهما قدْر فترٍ في رأي العين.
والنعائم ثمانية كواكب؛ أربعة منها في المجرة وتُسمَّى النعائم الصادرة وكأنها هذه قد صدرت من الماء، ووردت تلك لتروى من المجرة؛ لأن المجرة عند العرب مُشبَّهة بالنهر.
والبلدة رقعة في السماء ليس فيها كواكب وسُمِّيت أيضًا المفازة وهي خلف القلادة.
والقلادة ستة كواكب؛ ثلاثة شمالية وثلاثة جنوبية، صورة دائرة غير تامَّة الاستدارة تُشبَّه بالقوس وحيالهن كوكب يُقال له سهم الرامي وهو عصا الراعي.
وسعد بلع ثلاثة كواكب مُعترضة بين الشمال والجنوب على خطٍّ فيه تقويس جذبته إلى المغرب وأوسطها أخفاها.
وسعد السعود ثلاثة كواكب على خطٍّ فيه تقويس بين الشمال والجنوب جذبته إلى الغرب والشمالي أنوَرُ من أخويه، وسُمِّي بذلك؛ لأنه يُتمنى به إقبال الربيع وانكسار حرِّ البرد وتليين الزمان.
وسعد الأخبية أربعة كواكب ثلاثة منها على شكل مُثلث والرابع في وسطه.
والفرغ المقدم بالغين المُعجمة كوكبان نيران مُعترضان بين الشمال والجنوب بينهما قدْر رمح، والمؤخَّر مثله والأربعة على صورة مُربَّع متساوي الأضلاع.
والبطين يطلع مع الفجر في سابع أيار ويتوسط سعد بلع، وتغرب الزبانا وتكون الصرفة قبلة وقت صلاة المغرب.
الثريا تطلع مع الفجر في عاشر أيار ويتوسط سعد السعود ويغرب الإكليل وتكون العواء قبله وقت صلاة المغرب.
والدبران يطلع مع الفجر في ثاني حزيران ويتوسَّط سعد الأخبية ويغرب القلب ويكون السماك قبلة وقت المغرب.
والهقعة تطلع مع الفجر في خامس حزيران ويتوسط الفرغ المُقدم وتغرب الشولة ويكون الغفر قبلة وقت المغرب.
والهنعة تطلع مع الفجر في ثامن عشر حزيران ويتوسط الفرغ المؤخَّر وتغرب النعائم وتكون الزبانا قبلة وقت المغرب.
والذراع يطلع مع الفجر في حادي عشر تموز ويتوسط الرشا وتغرب البلدة ويكون الإكليل قبلة وقت المغرب.
والجبهة تطلع مع الفجر في تاسع عشر من آب ويتوسط الثريا ويغرب سعد السعود وتكون النعائم قبلة وقت المغرب.
والصرفة تطلع مع الفجر خامس عشر أيلول ويتوسط الهقعة ويغرب الفرغ المُقدم وتكون سعد الذابح قبلة وقت المغرب.
والعواء تطلع مع الفجر في ثامن عشر أيلول وتتوسَّط الهقعة ويغرب الفرغ المؤخَّر ويكون سعد بلع قبلة وقت المغرب.
والسماك يطلع مع الفجر في حادي تشرين الأول ويتوسط الذراع ويغرب بطن الحوت ويكون سعد السعود قبلة وقت المغرب.
والغفر يطلع مع الفجر في رابع عشر تشرين الأول ويتوسط النثرة ويغرب الشرطان ويكون سعد الأخبية قبلة وقت المغرب.
والشولة تطلع مع الفجر في خامس عشر كانون الأول ويتوسط الصرفة ويغرب الهقعة ويكون الشرطان قبلة وقت المغرب.
والنعائم تطلع مع الفجر في ثاني عشر كانون الأول ويتوسط العواء ويغرب الهنعة ويكون البطين قبلة وقت المغرب.
والبلدة تطلع مع الفجر في عاشر كانون الثاني وتتوسط السماك ويغرب الذراع وتكون الثريا قبلة وقت المغرب.
وسعد السعود يطلع مع الفجر في ثامن عشر شباط ويتوسط الإكليل وتغرب الجبهة وتكون الهنعة قبلة وقت المغرب.
والفرغ المؤخَّر يطلع مع الفجر في الثلاثين من آذار وتتوسط النعائم وتغرب العواء ويكون الطرف قبلة وقت المغرب.
والرشا يطلع مع الفجر في حادي عشر نيسان ويتوسط البلدة ويغرب السماك وتكون الجبهة قبلة وقت المغرب.
وأما بيان الشامي واليماني
فاعلم أن هذه المنازل تنقسِم إلى شامي ويماني وإن شئتَ قلتَ شامي وجنوبي فالشامية من الشرطين إلى السماك واليمانية من الغفر إلى بطن الحوت.
وأما انقسامها على الفصول فاعلم أن لكل فصلٍ من فصول السنة سبع منازل؛ فللربيع من الشرطين إلى الذراع، وللصيف من النثرة إلى السماك، وللخريف من الغفر إلى البلدة، وللشتاء من الذابح إلى الرشا.
ومن الشولة إلى النعائم عشرون درجة، ومن النعائم إلى البلدة تسع درجات وهن أوسط الأبعاد، ومن البلدة إلى سعد الذابح إحدى عشرة درجة، ومن الذابح إلى سعد بلع عشر درجات، ومن سعد بلع إلى سعد السعود مثل ذلك، ومنه إلى سعد الأخبية كذلك، ومنه إلى الفرغ المُقدَّم كذلك، وهذه الأربعة متساوية الأبعاد، ومنه إلى الفرغ المؤخَّر تسع عشرة درجة، ومنه إلى بطن الحوت عشر درجات، ومن بطن الحوت إلى الشرطين ست عشرة درجة.
فالأول من الأنواء البدري وهو تسعة وثلاثون يومًا من سبعة أيام خلَون من أيلول إلى ثمانية عشر خلون من تشرين الأول ونوءُه سقوط الفرغ المقدم والفرغ المؤخَّر والحوت.
والثاني الوهي وهو اثنان وخمسون يومًا، ومبدؤه من ثلاثة عشر يومًا بَقِين من تشرين الأول إلى تسعة أيام تمضي من كانون الأول، ونوءُه سقوط الشرطين والبطين والثريا والدبران.
الثالث الؤلآ وهو مائة وثلاثون يومًا ومبدؤه من تسعة أيام تمضي من كانون الأول إلى ثمانية عشر تمضي من نيسان، ونوءُه سقوط الهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك.
الخامس النهري وهو ستة وعشرون يومًا ومبدؤه من تسعة أيام تمضي من حزيران إلى خمسة أيام تمضي من تموز، وتُسمِّيه العامة النفاخ؛ لأنه يكبر فيه البلح فيصير بسرًا، وكذلك الفواكه والسمك ونوءُه سقوط الشولة والنعائم.
السابع أحراف الهوى وهو تسعة وعشرون يومًا من ثلاثة عشر يومًا من آب إلى ثلاثة أيام من أيلول ونوءُه سقوط سعد السعود وسعد الأخبية.
(٤-٨) تنبيه
والصيف حار يابس وطبيعته المرة الصفراء يُتوقَّى فيه كل حار يابس، ويُؤكل فيه كل بارد رطب ويُقلل فيه اللبث في الحمام والحركة والجماع، وأجود ما كان القيء من أيام السنة فيه.
والخريف بارد يابس وطبيعته المرة السوداء، ويُتوقَّى فيه البارد اليابس، ويُؤكل فيه كل حار رطب كطبيخ الحنطة، ويستعمل الأدهان المرطبة ويُجتنَّب إخراج الدم إلا في الضرورة والقيء فإنه يثير الحُمَّى.
والشتاء بارد رطب وطبيعته البلغم يُستعمل فيه الأغذية الحارة كالعصافير والجزر واللحوم الوحشية والحركة والاستجماع والاستحمام ويُجتنَّب فيه الإسهال.
(٤-٩) إلحاق٣٢٥
واعلم أن هذه البروج تنقسم إلى منقلبٍ وثابتٍ ومجدٍ فهي تدور على هذه الأدوار؛ فالأول منقلب والثاني ثابت والثالث مجد، والرابع منقلب والخامس ثابت والسادس مجد، وهكذا فهي منقلب ثابت مجد منقلب ثابت مجد إلى الآخر؛ فالمُنقلب الحمل والسرطان والميزان والجدي، والثابت الثور والأسد والعقرب والدلو، والمجد الجوزاء والسنبلة والقوس والحوت.
(٤-١٠) إرشاد
فإن قلت ما تشرين ونيسان وكانون وآذار؟
ونظم ذلك بعضهم فقال:
فعلى هذا يكون مبدأ التاريخ القبطي موافقًا لتاسع عشر آب الرومي، وقال فيها قبل هذا بيسير.
وأما الروم فإنهم جعلوا شهورهم على مدار الشمس وحركاتها مختلفة في أرباع السنة، فبعضها أكثر أيامًا من البعض على ما تعلقت به الأرصاد القديمة والحديثة؛ ولهذا جعلوا بعض الشهور ثلاثين وبعضها واحدًا وثلاثين، وبعضها ثمانية وعشرين، فأعطَوا كل شهر ما يَستحقه حتى صار مجموع أيام سنتِهم ثلاثمائة وخمس وستِّين يومًا وربع يوم، الأجزاء من ثلاثمائة جزء من يوم؛ لأن في هذه المدة تقطع الشمس دائرة الفلك. وهذا في البسيطة من سِنيهم، وأما الكبيسة منها فهي ثلاثمائة وستة وستِّين يومًا وذلك؛ لأن شباط عندهم كما سيأتي ثمانية وعشرون يومًا وربع يوم، غير أنهم يجعلون ثلاث سنين كل سنة ثمانية وعشرين يومًا وفي السنة الرابعة تسعة وعشرين يومًا وهم يتيمَّنون بالعام الذي تكبس فيه السنة حتى يتفاءلوا بمن يُولد أو يقدم فيه انتهى.
فمهما مضت ثلاث سنين فالرابعة كبيسة وهي:
وتشرين الثاني: وفيه يشتد البرد يومًا فيومًا والحرارة الغزيزية تتمكن في باطن البدن والأغذية فيه هريسة ولحم الشوي وكراع الغنم وكل طعام طبعه حار، والحذَر من الماء البارد وكل ما طبعه بارد، والفصد والحجامة فيه مُضِران.
(٤-١١) تنبيهان
- الأول: معنى سقوط الجمرات الثلاث أن الناس كانوا يتخذون في قديم الزمان أخبية ثلاثة في الشتاء بعضها محيط بالبعض، وكانت دوابهم الكبار كالإبل والبقر والخيل في البيت الأول، ودوابهم الصغار كالغنم في البيت الثاني٣٧٠ وهم في البيت الثالث وكانوا يُشعلون النار في كل بيت ويتخذون الجمر للاصطلاء فإذا كان السابع من شباط أخرجوا دوابهم الكبار إلى الصحراء وجعلوا الصغار مكانها في البيت الأول، وهم يسكنون مكان الدواب الصغار في البيت الثاني فحينئذٍ سقطت من الجمرات الثلاث واحدة، فإذا مضى أسبوع آخر أخرجوا الغنم أيضًا إلى الصحراء وهم سكنوا مكانها فسقطت جمرة أخرى، فإذا مضى أسبوع آخر خرجوا إلى الصحراء بأنفسهم وتركوا إشعال النار؛ لقلة البرد وطيب الهواء فسقطت الجمرات الثلاث. وفي بعض رسائل إخوان الصفا أن الجمرة هذه ليست بلفظة عربية بل رومية وإن كانت عربية فمعناها الحرارة إطلاقًا للسبب على المسبب أو المحل على الحال؛ لأن الجمرة سبب ومحل للحرارة المأخوذة من كرة النار إلى كرة الهواء السفلى المتصلة٣٧١ بكرة الأرض انتهى.
- الثاني: أيام الحسوم الثمانية المذكورة في القرآن العزيز في قوله تعالى سَخرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيامٍ حُسُومًا٣٧٢ هي ثلاثة أيام من شباط وأربعة من آذار وأربعة من شباط وثلاثة من آذار، كذا نقله الصلاح الصفدي وفيه أن مجموع ما ذكر سبعة لا ثمانية، سُمِّيت بذلك من الحسم وهو القطع لأنها حسمتهم.
وحُكي أن الكسائي سأله الرشيد عن سببها فقال: كانت امرأة من العرب قد اهتزت، وكان لها سبعة أولاد فقالت لهم زوجوني وهم يُضربون عنها ولا يكترثون لها، فأنشأت تقول:
ويروى الفاضحة قيل أراد بالوامحة الواحمة أي المشتهية من قولهم وحمت المرأة تُوحِم وحمًا فهى وَحْمى. فقالوا لها تبيتين لنا سبع ليال على ثَنِيَّة هذا الجبل، لكل ابنٍ ليلة لنُزوجك، بعد ذلك فجاءوها بعد السابعة فوجدوها قد هلكت.
وقال أبو سعيد الضرير: سُمِّيت أيام العجوز لأن العرب تجزُّ الأصواف والأوبار فيها مُؤذِنة بالصيف، وقالت عجوز منهم: لا أجزُّ حتى تنقضي هذه الأيام فإني لا آمَنُها فاشتدَّ البرد وأضر بمن قدم جزَّه وسلمت العجوز بمالها.
وقال ثعلب: الصحيح أن العجوز عجَّلت بجزِّ صوفها لحاجتها إليه وثقتها بالجز في البرد فموَّتَت غنمها. وكانت سبعة فماتت كل يومٍ واحدة فمن جعلها سبعة فلهذه العلة، وإلا فبرد العجوز ربما بقي عشرة أيام فأكثر، وهذه الأيام لا تخلو عن برد أو رياح أو كدورة.
ونيسان: بفتح النون وكسرها وقيل لا يجوز فيه غير الكسر. وفيه يكون لابن آدم الفرح ويزيد في المياه، ويقوي فصل الربيع الغذاء فيه البريان والقلايا ولحم الخرفان ولحم الصيد والأدهان الطيبة والطعام الذي يعمل بالخل والروائح الطيبة، وعند الصباح يُشرَب الماء البارد ويُحترز من لحم البقر ومن الحلويات ومن الأطعمة الحارة اليابسة ومن الفجل والرشاد.
وحُزيران: بضم الحاء المُهملة وفتح الزاي وسكون المثناة التحتية وبالراء على المشهور على الألسنة. وضبطه الجاذيري بفتح الحاء وكسر الزاي، وهو أول شهر من فصل الصيف وتكون فيه الصفراء غالبة، ويُوجد في البدن حُمَّى، وينفع فيه شرب الماء البارد على بكرة قبل الفطور. الغذاء فيه لحوم الجدايا والأطعمة الباردة والفواكه السريعة الهضم ويحترز من الرياضة من الطعام الحار اليابس ويحترز فيه من كثرة الأكل ومن كثرة الجماع، ومن كثرة شم المسك والزعفران.
وآب: ككتاب، ثالث شهر من فصل الصيف، وفيه يحصل للدماغ قوة وفيه تكثر الأخلاط ويكثر تَحلُّل البدن والزكام وتتحرَّك الرياح الشمالية، والأغذية فيه شرب الرمان ولحم السخل وقلية اليقطين، ويشم فيه ماء الورد وسائر الرياحين لأنها نافعة، وإيَّاك من الحمام وشرب المُسهلات ومن الجوع فيه ولا تُكثر الحركة.
وأيلول: بفتح الهمزة وسكون التحتية وضم اللام الأولى. وهو أول شهر من فصل الخريف وفيه يعتدل الرياح وتكثر السودة في الدماغ ويقع في بعض الخلق أوجاع، والأغذية فيه لحم الشاة الذي كمل سنتَين والحلويات والجلوس على الماء فيه مُفيد، والحذَر من لحم البقر والمعز ومن كثرة الدخول للحمام.
فالشهور الثلاثينية منها أربعة: تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول، والباقية واحد وثلاثون ما عدا شباط؛ فإنه ثمانية وعشرون كما تقدم وضبط بعضهم ذلك بقوله: فإن ضيف هنا نزل فما كان في مُقابلة حرف معجم منقوط من فوق من هذا التركيب فهو واحد وثلاثون يومًا، وما كان في مقابلة حرف مُهمل فهو ثلاثون، وما كان في مقابلة الياء المنقوطة من تحت فهي ثمانية وعشرون فنفس كل حرفٍ عبارة عن ثلاثين والنقطة زيادة يوم إن كانت فوقية ونقص يوم إن كانت تحتية؛ فالفاء تشرين الأول والألف تشرين الثاني وهكذا إلى آخر. وقد نظم ذلك بعضهم بقوله:
(٤-١٢) القول الثاني٤١٤
قاله بعض المُنجمين زعموا بأن المد بامتلاء القمر والجزر بنقصانه وهذا ظاهر البطلان؛ لأن كلًّا من المد والجزر يكون مع امتلائه ونقصانه؛ فإنه في كل يوم من أيام الشهر مد وجزر، ولو كان كما زعموا لكان النصف الأول من الشهر القمري كله مدَّان، أو أرادوا بامتلائه أخذه بالزيادة كما يدل عليه ظاهر مُقابله، أو في أيامٍ منه إن أرادوا كِبَره وانتفاخه، أو استكماله بدرًا، والنصف الثاني كله جزرًا إن أرادوا بنقصانه أخذه بالنقصان، أو أيامًا منه كلها إن أرادوا ظهور النقص ظهورًا تامًّا، أو يومًا كله إنْ أرادوا بلوغه فيه حدًّا مُعينًا، واللازم باطل لِما علمتَ أنه لا بد في كل يومٍ من مدٍّ وجزر.
(٤-١٣) القول الثالث
(٤-١٤) فائدة
ذكر بعض المُحقِّقين من أهل الكشف ممن يرى كروية الأفلاك أن دور فلك القمر، وهو سماء الدنيا، أحد عشر ألف سنةٍ وهو أصغر أفلاك السموات دورًا، فيقطع القمر دور هذا الفلك في أربعةٍ وعشرين ساعة مُعتدلة يقطع في كل ساعةٍ مَسيرة أربعمائة وثمانية وخمسين سنة ومائة وعشرين يومًا. وإن قطر هذا الفلك أربعة آلاف عام وخمسمائة عام، وإن للقمر فلكًا في نفس الفلك، وكذلك كل كوكب فإن له فلكًا صغيرًا يدور بنفسه في الفلك الكبير؛ فالفلك الكبير بطيء الدورة وذلك الفلك الصغير سريع الدورة، وما تراه من خنس الكواكب — وهو رجوعها — فإنه لاختلاف دورها في دوران الفلك فيسبقه الدور يَحسبها الشخص راجعةً ولم ترجع.
(٤-١٥) تنبيهات
الثالث اختُلف في فلك القمر الذي هو فيه؛ فقيل: البحر دون السماء وقيل إنه سماء الدنيا.
الخامس السواد الذي يرى في القمر هو أثر المحو كما دل عليه حديث ابن عباس السابق. وسُئل علي بن أبي طالب عن السواد الذي في القمر فقال ذلك آية الليل مُحِيت فذلك أثر المحو.
السادس على القول بأن القمر في ابتداء خلقه كان شمسًا فمُحِيَ ضوءه وبقي نوره كما تقدم مُقتضى القياس أنْ ينقص من حرِّه بمقدار ما نقص من نوره؛ لأن الشمس حارة وهو لا حر له أصلًا. والجواب أنه خُلق ابتداءً بلا حر وإن حرَّه ذهب مع الطمس، والأول أرجح كذا ذكره بعضهم.
السابع مقتضى حديث ابن عباس السابق أن يكون القمر دون الأرض في المقدار، وقيل إنه بمقدار الأرض ثمانين مرة.
(٤-١٦) فائدتان
- الأولى: معنى قوله تعالى وَالْقَمَرَ قَدرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ٤٣٩ قدَّرنا منازله وهي ثمانية وعشرون منزلًا، وهي مواقع النجوم التي تَنسِب العرب إليها الأنواء٤٤٠ وهي: الشرطان وبقية المنازل التي مرَّ ذكرها، فإن القمر ينزلُ كل ليلةٍ منزلًا منها ويسير سيرًا من غير تفاوت، ويستتر ليلتَين إنْ كان تامًّا وليلة إنْ كان ناقصًا، وإذا نزل تلك المنازل دق وتقوَّس في رأي العين حتى عاد كالعرجون القديم وهو العذق الذي فيه الشماريخ٤٤١ إذا عتق ويبس وتقوَّس واصفرَّ شُبهَ به القمر في دِقَّته وصفرته.
- الثانية: معنى قوله تعالى لَا الشمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ٤٤٢ لا يصلح لها ولا يمكن أن تدركه؛ لأن فلكها غير فلكه، ولأنها تقطع فلكها في كل سنة مرةً وهو يقطع فلكه في كل شهرٍ مرة فلا سبيل أن تُدركه. وقال عكرمة: لكل واحد منهما سُلطان؛ فسُلطان القمر الليل وسلطان الشمس النهار والمعنى على هذا لا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه ولا النهار على الليل قبل انقضائه وهذا معنى قوله وَلَا اللَيْلُ سَابِقُ النَهَارِ٤٤٣ وكذا نقله من الكواسي.
(٤-١٧) لطيفتان
- الأولى: من العرب من يفضل القمر على الشمس ويقول هو: مُذكر والشمس مؤنثة والمذكر أفضل من المؤنث، ومنهم من يُفضل الشمس ويقول إن الله قدمها في الذكر فقال الشمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان،٤٤٤ ووَالشمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنجُومُ مُسَخرَاتٌ٤٤٥وَالشمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا.٤٤٦ ومنهم من لا يُفضل أحدهما على الآخر، ورجَّح بعضهم الأول بأن التذكير أصل والتأنيث فرع، وأجاب عن دليل الثاني بأن التمسُّك في الفضل بمجرد التقديم في الذكر ضعيف، فقد يتقدَّم٤٤٧ المفضول ويتأخَّر الفاضل قال تعالى هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مؤْمِنٌ٤٤٨ وقال تعالى لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النارِ وَأَصْحَابُ الْجَنةِ * أَصْحَابُ الْجَنةِ هُمُ الْفَائِزُونَ٤٤٩ والصحيح إن٤٥٠ أراد التفضيل بحسب ما عند الله فذلك غير معقول لنا٤٥١ لأنه يحتاج إلى التوقيف، وإنْ كان بحسب الضياء والنور ومزيد الإشراق فلا شك أن الشمس أفضل بهذا الاعتبار، ولأنها باقية على نورها التي خلقت عليه والقمر نقص من نوره كما تقدم.
- الثانية: قيل: قال القمر لربِّه اللهم إنك فضلت الشمس عليَّ ونقصتني وأشنتني فلا تُطلعها على ما نقصت منِّي. فلا يُرى القمر أبدًا إلا والتمام مما يلي الشمس.
(٤-١٨) إسعاف استطرادي
ذكر الشيخ مرعي في بهجته نقلًا عن مسالك البكري أن جرم عطارد جزء من اثنين وعشرين جزءًا من جرم الأرض، وجرم الزهرة جزء من أربعة وعشرين جزءًا من جرم الأرض، وجرم المُشتري مثل جرم الأرض واحدًا وثمانين مرة ونصف مرة بالتقريب، وجرم زُحَل مثل جرم الأرض تسعًا وسبعين مرة ونصف مرة بالتقريب. وقال الغزالي في باب التفكر من الإحياء: [إن] الكواكب التي تراها أصغرها مثل الأرض ثلاث مراتٍ وأكبرها ينتهي إلى مائة وعشرين مرة مثل الأرض.
وفي المواقف وشرحه وزعموا أن للثوابت مع كونها مُتحركة بالحركة اليومية تبعًا لفلك الأفلاك حركة خاصة بها بطيئة جدًّا، وإنها تُتمُّ الدورة في ثلاثين ألف سنة، وقيل في ستٍّ وثلاثين ألف سنة وقيل في ثلاثة وعشرين ألفًا وسبعمائة وستِّين سنة، وقيل في خمسةٍ وعشرين ألف سنة، وهذا هو الموافق للرصد الجديد الذي بمراغة.
وإنما سُميت بالثوابت إما لبطء حركتها فلا تُحَس إلا بتدقيق النظر في أحوالها المعلومة بأرصادٍ بينها مُدد طويلة، ولذلك اختفت على الأوائل حتى زعموا أن الأفلاك ثمانية، وأن الحركة اليومية لكرة الثوابت. وإما لثبات أوضاعها بعضًا من بعض في القُرب والبُعد والمحاذاة. انتهى.
وأخرج عنه عن علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — قال: إن الشمس إذا غربت هتف معها ملكان مُوكَّلان بها يجريان معها ما جرت حتى إذا وقعت في قُطبها حذاء بطنان العرش خرَّت ساجدة حتى يُقال لها: امضي فتمضي بقدرة الله، فإذا طلعت أضاء وجهها سبع سماوات وقفاها لأهل الأرض. وفي السماء ستُّون وثلاثمائة برج؛ كل برجٍ منها أعظم من جزيرة العرب، للشمس في كل برجٍ منها منزلة منزلة حتى إذا وقعت في قطبها قام ملك بالمشرق فقال: اللهم أعطِ مُنفقًا خلفًا وقام ملك بالمغرب وقال: اللهم أعط مُمسِكًا تلفًا.
ودور فلك السماء الثانية مسيرة ثلاثة عشر ألف سنة وثمانمائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يومًا، وعطارد يقطع جميع ذلك في مضي أربعٍ وعشرين ساعة معتدلة.
ودور فلك السماء الرابعة مسيرة سبعة عشر ألف سنة وتسع وعشرين سنة وستين يومًا، والشمس تقطعه في أربع وعشرين ساعة معتدلة.
ودور فلك السماء الخامسة مسيرة تسعة عشر ألف سنة وثمانمائة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يومًا، والمريخ يقطعها في أربعٍ وعشرين ساعة.
ودور فلك السماء السادسة مسيرة اثنين وعشرين ألف سنة وستة وستِّين سنة وثمانية أشهر، والمشتري يقطعه في أربعٍ وعشرين ساعة.
ودور فلك السماء السابعة مسيرة أربعة وعشرين ألف سنة وخمسمائة عام، وزحل يقطعها في أربعٍ وعشرين ساعة.
قال وجميع الكواكب الثابتة لكلٍّ منهم سَير خفي ضعيف لا يكاد أن يتبيَّن، منهم من يقطع كل برج في الفلك في ثلاثين ألف سنة، ومنهم من يقطع بأكثر وأقل ولأجلِ دقَّتهم وكثرتهم لا يُعرَفون وليس لهم اسم عند أهل الحساب ولكن أهل الكشف يعرفون اسم كل نجمٍ ويُخاطبونه باسمه ويسألونه عن مسيره فيُجيبهم ويُخبرهم بما يقتضيه في فلكه.
غريبة
فإن قلت: فعلى ما ذكر الشيخ يلزم أن تكون بناء هذه الأهرام قبل آدم؛ لأن من آدم إلى زمان الشيخ لم يتم سبعة آلاف سنة؟
وروي أنه كان قبل آدم في الأرض خلق فأرسل الله إليهم نبيًّا اسمه يوسف فقتلوه؛ فآدم لم يكن أول مخلوق أسكن الأرض. وفي الخبر أن آدم لما أُسكن الأرض قالت الأرض: يا آدم قد جئتني بعد ما ذهبت جِدَّتي ونُضرتي وقد خَلِقْتُ أي بَليت. وروي عن محمد الباقر — رضي الله عنه — أنه قال: قد انقضى من قبل آدم الذي هو أبونا ألف آدم أو أكثر.
قلت: مُقتضى هذه العبارة أنه كان على دور كل سبعة آلاف سنة آدم، لكن آدم الذي هو أبونا آخرهم لأنه لا آدم بعدَه. إذن القيامة تقوم على بنيه كما جاء مُصرحًا به في الأحاديث، فلا تغتر بما فرَّع القيصري على هذه الواقعة مما يُوهِم خلاف ذلك.
(٤-١٩) تذييل
قيل أول ما يكون الجنين في الرحم يتولى في الشهر الأول تدبيره زُحَل، وفي الثاني المُشتري وهكذا حتى يتولى في السابع تدبيره القمر، فإن وُلد فيه عاش؛ لأنَّ خلقته قد تمَّت واستوفى طبائع الكواكب وقواها. وأما الشهر الثامن فيستولي عليه البرد والجمود والضعف فإن وُلِد فيه مات، وأما التاسع فيتولَّاه المُشتري فيكتسب المولود قوةً وحرارةً وصلاحًا فإذا وُلِد فيه عاش. كذا نقل من شرح لامية العجم.
(٤-٢٠) القول الرابع
حتى يحصل له ذلك فإنَّا لو سلَّمنا أن جميعها ينصبُّ في البحر لم يحصل له التأثر المُوجِب للمدِّ فكيف وذلك غير مُحقَّق فإن مجموعها كما ذكره بطلميوس مائتا نهر، وذلك لا يُوجِب تأثيرًا تامًّا يحصل منه اندفاع ماء البحر حتى يحصل المد وعلى الخصوص في حالة نقص الأنهار لأن انصبابها حينئذٍ ضعيف جدًّا.
(٤-٢١) فوائد
- الأولى: ذكر البكري أن مجموع ما في الأرض من الأنهار الكبار مائتان وتسعون نهرًا، ومن العيون الكبار مائتان وثلاثون عينًا. قال: وهي في الأرض كالعروق في البدن، ووجه الجمع بين ما ذكره وما ذكره بطلميوس أن بطلميوس أراد الأنهار الواقعة في الربع المعمور كما حكاه ابن الوردي عنه مُقيدًا له بذلك. والبكري أراد مجموع الأنهار الكائنة في الأرض كما حكاه عن مرعي مُطلقًا غير مُقيد بالمعمور.
-
الثانية: قيل حق الماء أن يكون على سطح الأرض، لكن لمَّا كان منها
المرتفع والمنخفض انحاز الماء إلى أعماق الأرض فانضغطت وطلت
النفس فانفتقت عيونًا. قال بعض المُتأخِّرين بعد نقله لهذا
القول: والصحيح أن انفتاق العيون وتفجير الأنهار بقدرة الفاعل
المختار لا كما يقوله الفلاسفة والطبائعيون.
وأقول: إن عنوا بذلك الماء قد أثر في الانفتاق وأنه حصل لها من الضغط وأن المؤثر فيه ذلك، فكلامهم باطل، وإلَّا فلا مانع من أن يخلق الله ذلك عند ذلك لا بذلك؛ لأنه تعالى يفعل عند الأشياء لا بها.
- الثالثة: كل ماء عذب من بئر٤٨٥ أو نهر أو عين فمن الماء المُنزل من السماء لقوله٤٨٦ تعالى أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ،٤٨٧ وقوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَناهُ فِي الْأَرْضِ٤٨٨ فإذا قربت الساعة بعث الله ملكًا معه ملك لا يعلم عظمه إلا الله تعالى فجمع تلك المياه فردَّها٤٨٩ إلى الجنة، كذا في خريدة العجائب.
- الرابعة: قال بطلميوس: إن من الأنهار ما يجري من المشرق إلى المغرب ومنها ما يجري بالعكس، منها ما يجري من الشمال إلى الجنوب ومنها ما يجري بالعكس، وكل هذه بَدْوها من الجبال وتنصب في البحار بعد انتفاع العالَم بها وفي ضمن ممرِّها تتصور بطائح وبحيرات، وإن منها ما طوله خمسين فرسخًا ومنها ما هو أكثر من ذلك إلى ألف فرسخ انتهى.
-
الخامسة: جاء في الحديث أن النيل يخرج من الجنة ولو التمستُم فيه حين
يخرج لوجدتم من ورقها. وأخرج السيوطي في الهيئة عن مُسلم عن
أبي هريرة — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله
ﷺ:
سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة. وأخرج عن
البيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة، ونهر دجلة
نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر
سيحان نهر الماء في الجنة. وأخرج عن أحمد والحاكم وصحَّحه
الحاكم عن أنس — رضي الله عنه — أن رسول الله
ﷺ قال:
رفعت لي سدرة المُنتهى في السماء السابعة يخرج من ساقها نهران
ظاهران ونهران باطنان. قلت:٤٩٠ يا جبريل ما هذان؟ قال: أمَّا الباطنان ففي الجنة،
وأما الظاهران فالنيل والفرات.
قلت: قد حصل من مجموع هذه الأحاديث أن مِن أنهار الجنة خمسة في الأرض؛ سيحان وجيحان والفرات والنيل ودجلة، فلا وجه لقول ابن الوردي في الخريدة. وزعم أهل الكتاب أن أربعة أنهار تخرج من الجنة الفرات وسيحان وجيحان ودجلة، وذلك أنهم يزعمون أن الجنة في مشارق الأرض الدال على خطأ هذا القول وافترائه؛ لأن زعم مطيته٤٩١ الكذب، فإن قلت إنما قال ذلك لخطئهم في قولهم إن الجنة في الأرض.
قلت: هذا علَّة لقولهم والخطأ في العلة لا يستلزم خطأ المعلوم. فإن قلت: ما وجه الجمع بين حديث مسلم الذي أخرجه عن أبي هريرة وحديث أنس الذي صحَّحه الحاكم فإن مُقتضى الثاني أن النيل والفرات ليسا من أنهار الجنة وصريح الأول أنهما منها.
قلت: تندفع المعارضة بينهما بأن يُقال إنها بعد خروجها من سدرة المُنتهى يدخُلان الجنة ثم يخرجان منها وبهذا الاعتبار يصحُّ نِسبتهما إلى الجنة، ويُقال إنهما من أنهار الجنة، فإن قلت هذا التوجيه يُنافي قول جبرائيل — عليه السلام — «أما الباطنان ففي الجنة.» فإنهما لو كانا يمرَّان بها فينسبان إليها لَما صح التخصيص. قلت: لا مُنافاة لأن تخصيص الباطنين في الجنة في حديث جبرائيل عليه السلام إنما هو لأنهما لا يخرجان٤٩٢ منها، وحيث كانت هذه الخمسة من أنهار الجنة فلا بأس بالتعرُّض لذكرها تتميمًا للفائدة.فنقول وبالله التوفيق: أما النيل فهو سيدها، أخرج السيوطي عن بن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر من المَشرق إلى المغرب، فإذا أراد الله أن يُجري نيل مصر أمر كلَّ نهرٍ أن يمدَّه فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونًا، فإذا انتهى جريُه إلى ما أراد الله أوحى الله إلى كل ماء فرجع إلى عنصره.
وقيل إن النيل من عجائب الأنهار الدنيا؛ لأنه ليس له فيها نهر يزيد في شدة الحر حتى تنقُص له الأنهار كلها ويزيد بترتيبٍ وينقُص بترتيب غير النيل. وذكر ابن الوردي في خريدة العجائب أنه ليس في الدنيا نهر أطول مِن نهر النيل مَسيرة شهرَين في [بلاد] الإسلام، وشهرين في [بلاد] الكفر بالبرية، وأربعة أشهر في الخراب، ومخرجه من بلاد جبل القمر خلف خط الاستواء، فيخرج منه هابطًا بين جبال الذهب على بلاد الحبشة إلى كوكو إلى أهواز إلى قوص إلى أخيم إلى مصر إلى البحر المالح وينصبُّ في بحر الروم. وطوله من جبل القمر إلى البحر ألف فرسخ وأربعون فرسخًا.
قيل وسُمِّي هذا الجبل بجبل القمر لتلوُّنه بزيادة القمر في كل ليلة، ففي أول ليلةٍ يعلوه نور أبيض، وفي الثانية يعلوه نور أصفر كشعاع الشمس، وفي الثالثة تتبيَّن منه قاعدة، وفي الرابعة يكسوه نور أحمر مثل النار، وفي الخامسة يعلوه نور أخضر شعاعي فيتلوه كذلك كل ليلةٍ إلى ليلة البدر فيكون كذنب الطاووس لا يخفى عليه مَنْ قُرب مَنْ مِنَ النوبة والحبشة٤٩٣ لشدة نوره.ويخرج منه أنهار كثيرة تجتمع في بُحيرات في وسط هذه الصحراء. وفي الخريدة يُسمَّى جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه أصلًا؛ لخروجه عن خط الاستواء وميله عن نوره وضوءه. يُقال إن هرمس الحكيم قد حملته الشياطين إلى هذا الجبل ورأى النيل كيف يخرج من البحر الأسود ويدخل تحت جبل القمر فبنى في سفح ذلك الجبل قصرًا فيه خمسة وثمانون تمثالًا من نحاس جعلها جامعة لما يخرج من ماء هذا الجبل بمعاقدَ٤٩٤ ومَصابَّ وأحكامٍ مُدبرة يجري الماء منها٤٩٥ إلى تلك الصور والتماثيل، فيخرج من حلوقها على قياس معلوم وأذرعة معدودة، فتصب إلى أنهار كثيرة فتتصل بالبطيحة وعلى هذه البطيحة بلاد السودان، وبها جبل مُعترض فيخرج النيل منه نهرًا واحدًا ويفترق في أرض النوبة، ففرقة تمر إلى أقصى المغرب وعليها غالب بلاد السودان فتمر على بلاد النوبة إلى جبال الأركان إلى بلاد الزنج إلى البحر الأعظم المُحيط في ناحية المغرب. والفرقة الأخرى تنصب إلى مصر إلى البحر.وأخرج السيوطي في الهيئة السنية عن الشيخ في العظمة عن الليث بن سعد قال: بلغني أنه كان رجلا من بني العيص يقال له حايد بن أبي شالوم بن العيص بن اسحق بن إبراهيم — عليه الصلاة والسلام — خرج هاربًا من ملك من ملوكهم حتى دخل أرض مصر، فأقام بها فلمَّا رأى عجيب بنائها جعل الله عليه أن لا يُفارق ساحلها حتى يبلغ مُنتهاه من حيث يخرج أو يموت فسار عليه، قيل ثلاثين سنة في الناس وثلاثين سنة في غير الناس، وقيل خمسة عشر كذا وخمسة كذا حتى انتهى إلى بحر أخضر٤٩٦ فنظر إلى النيل ينشقُّ مقبلًا وإذا رجل قائم يُصلي تحت شجرة تفاح، فلما رآه استأنس به وسلم عليه فقال: له من أنت؟ فقال: أنا حايد بن أبي شالوم بن العيص، فمن أنت؟ فقال: أنا عمران ابن فلان بن العيص، فما الذي جاء بك يا حايد؟ قال: جئت من أجل هذا النيل. قال: وأنا جاء بي الذي جاء بك حتى انتهيت إلى الموضع، فأوحى الله إلي أن أقف هنا حتى يأتيني أمره. قال له: يا حايد أخبرني ما انتهى إليك من أمر هذا النيل، وهل بلغك في الكتب أن أحدًا من بني آدم يبلغه؟ قال: نعم بلغني أن رجلًا من بني العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك. قال: كيف الطريق إليه؟ قال: سر كما أنت على هذا البحر فإنك ستأتي دابة ترى أولها ولا ترى آخرها، فلا يهولنك أمرها وهي معادية٤٩٧ للشمس إذا طلعت أهوت عليها لتلقمها، وإذا غربت أهوت إليها كذلك، فاركبها تذهب بك إلى جانب البحر فسر عليه فإنك ستبلغ أرضًا من حديد، فإن جزتها وقعت في أرضٍ من نحاس، فإن جزتها وقعت في أرضٍ من فضة، فإن جزتها وقعت في أرض من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل.٤٩٨فسار حتى انتهى إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب [و]شرفة من ذهب٤٩٩ وقبة من ذهب لها أربعة أبواب فنظر إلى ماء ينحدِر من فوق ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الأربعة، فأما ثلاثة فتفيض في الأرض وأما واحد فيسير على وجه الأرض وهو النيل فشرب منه واستراح وأهوى إلى السور ليصعد فأتاه ملك فقال له: يا حايد قف مكانك فقد انتهى إليك علم هذا النيل، وهذه الجنة وإنما ينزل٥٠٠ من الجنة. انتهى.وذكر ابن الوردي هذا الخبر في خريدة العجائب وزاد فيه أن الثلاثة التي تغيض في الأرض سيحون وجيحون والفرات، وأنه أتاه ملك بعنقود من العنب فيه ثلاثة ألوان كاللؤلؤ، ولون كالزبرجد الأخضر ولون كالياقوت الأحمر وقال له: يا حايد هذا من حصرم الجنة؛ فأخذه حايد ورجع فرأى شيخًا تحت شجرة من تفاح فآنسه وحدَّثه فقال له: يا حايد ألا تأكل من هذا التفاح؟ فقال: إن معي طعامًا من الجنة، وإني أستغني عن تفاحك. فقال له: صدقت يا حايد إني لأعلم أنه٥٠١ من الجنة، ولم يزل به ذلك الشيخ حتى أكل من التفاح وحين عضَّ على التفاحة ورأى ذلك الملك هو٥٠٢ يعض على إصبعه ويقول أتعرف الشيخ؟ قال: لا. قال: والله هو الذي أخرج أباك من الجنة، ولو قنعت بالعنقود الذي معك لأكل منه أهل الدنيا ما بقيت الدنيا ولم ينفد، وهو الآن مجهودك. قال: فبكى حايد وندم، ثم سار حتى دخل مصر وجعل يُحدث الناس بما رأى في سيره من العجائب انتهى.قلت: إن صح هذا الخبر فهذه الجنة غير الجنة التي أعدها الله لعباده المُتقين؛ لأن تلك في السماء كما هو مذهب الجمهور، والجنة لغة تُطلَق على الحديقة ذات الأشجار، فإن قلت خروج النيل منها يدلُّ على أنها هي؛ لأن الأحاديث التي دلَّت أن النيل من أنهار الجنة تدل على أن الجنة التي يخرج منها النيل هي جنة الخلد إذْ هي المراد عند الإطلاق.
قلت:٥٠٣ الجنة إذا أُطلقت يراد بها جنة الخلد، إلا أن تلك لمَّا كانت في السماء وهذه في الأرض لم يجز حمل هذه على تلك ووجب التأويل بأن الماء ينزل من جنة الخلد إلى هذه الجنة ثم يخرج منها. ولعل في قوله هذه الجنة، وإنما ينزل من الجنة إشارة إلى ذلك حيث أعاد ذكرها بلفظها ولم يُعَدِّها بالضمير؛ لأن الإتيان بالمظهر موضع المُضمر خلاف مُقتضى الظاهر، فلا بد له من نكتة، ويُحتمل أن يكون٥٠٤ النكتة هذه، فإن قلت يُنافي ما ذكرت قولهم إن المعرفة أو النكرة إذا أُعيدت معرفة كانت عين الأولى، كما أن النكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غيرها بدليل قوله تعالى أَرْسَلْنَا إلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا٥٠٥ فإن الرسول الذي عصاه هو الذي أرسل إليه، وقوله تعالى فَإِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا٥٠٦ فإن العسر الثاني هو عين العسر الأول بخلاف اليسر بدليل قوله ﷺ لن يغلب العسر يُسرَين.قلت: هذا حكم أغلبي لا كُلِّي، والمثال الجزئي لا يُثبت القاعدة الكلية. وأما الفرات فهو نهر عظيم عذب طيب وخَرجه من ثغور أرمينية ثم يمتدُّ إلى فاليقا وإلى ملطية وإلى الرقة٥٠٧ إلى عانة ويمر بصفَّين؛ موضع حرب علي ومعاوية، ثم ينصب بعضه في دجلة وبعضه يمر إلى بحر فارس فينصب فيه. ورُويَ عن علي — رضي الله عنه — أنه قال: يا أهل الكوفة إن نهركم هذا ينصبُّ إليه ميزابان من الجنة. ورُوي عن جعفر الصادق — رضي الله عنه — أنه شرب من ماء الفرات ثم استزاد وحمد الله تعالى وقال: ما أعظم بركته! لو يعلم الناس ما فيه من البركة لضربوا٥٠٨ على حافته القباب؛ ما انغمس فيه ذو عاهة إلا شُفي. وعن السدي أن الفرات مُدَّ في زمن عمر — رضي الله عنه — فألقى رُمانة عظيمة فيها كثير من الحب فأمر المسلمين أن يقتسموها بينهم.وأما نهر دجلة فهو نهر بغداد فمخرجه من أصل جبل بقُرب آمِد بديار بكر، ويمتد إلى حصن كيفا وإلى جزيرة ابن عمر وإلى مَوصل وتمتدُّ إلى بغداد وإلى واسط وإلى البصرة وينصبُّ إلى بحر فارس.
وعن ابن عباس قال: أوحى الله عز وجل إلى دانيال — عليه السلام — أن أَجْرِ لي لمصالح عبادي نهرًا، واجعل مصبَّه في البحر فقد أمرت الأرض أن تُطيعك. قال: فأخذ خشبة فجرَّها٥٠٩ في الأرض والماء يتبعه وكلَّما مرَّ بأرض يتيم أو امرأة أو شيخ ناشَدَه الله فيحيد عنهم، وهو الدجلة.٥١٠ وهو نهر مبارك، في الغالب ينجو غريقه. وحُكي أنهم وجدوا غريقًا فأخذوه فإذا فيه رمق فلمَّا رجعت روحه إليه سألوه عن مكانه الذي وقع فأخبرهم، فكان من موضع وقوعه إلى موضع نجاته خمسة أيام.وأما جيحون فهو نهر عظيم يخرج من حدود بدخشان، ثم ينضم إليه أنهار كثيرة٥١١ من حدود الجبل ودخش؛ فيصير نهرًا عظيمًا ويمر على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم، وينصب في بحيرتها. وهذا النهر يجمد في الشتاء عند قوة البرد فيجمد قطعًا قطعًا، ثم تصير تلك القطع على وجه الماء حتى يلصق بعضها ببعض إلى أن تصير سطحًا واحدًا على وجه الماء في سمك ذراعَين أو ثلاثة أذرُع، ويستحكِم حتى تمرَّ عليه الدواب والقوافل، ويبقى كذلك نحو الشهر والشهرَين٥١٢ فإذا انكسر٥١٣ البرد عاد إلى حالته، وهو نهر قتَّال قلَّ أن ينجو منه غريق.ونهر سيحون نهر عظيم ومخرجه من نحو ثلاثة أميال من مدينة ملطية ويجري في بلاد الروم وينصب في بحر الروم.
وحيث تعرَّضنا لذكر هذه الأنهار وانساق الكلام إلى ذلك، فلا بأس بالتعرض لذكر بعض العيون وذكر عجائبها تتميمًا للفائدة.
ومنها عين بقرية من قرى قزوين إذا شرب الإنسان منها انسهل انسهالًا شديدًا، ويمكن الإنسان أن يشرب منها عشرة أرطال لخفته.
ومنها عين بارخاني قال صاحب تحفة الغرائب: إذا أراد أهل هذه القرية هبوب الريح أخذوا خرقة الحيض ووضعوها في الماء فتُحرك الرياح. ومن شرب من مائها ولو جرعة انتفخ بطنه كالطبل ومن حمل من ذلك إلى مكانٍ آخر انعقد حجرًا.
ومنها عين جاج قال صاحب تحفة الغرائب: إذا كانت السماء مصحية لا يرى فيها قطرة ماء وإذا كانت مغيمة امتلأت ماء.
ومنها عين باميان قال في كتاب تحفة الغرائب: بأرض باميان عين ينبع منها كثير بصوت عظيم وجلبة يُشم منها رائحة الكبريت من اغتسل بمائها زال عنه الحكة والجرب والدماميل. وإذا جعل من مائها في إناء وسُدَّ الإناء سدًّا محكمًا وترك يومًا صار كالطين فإن قرب من النار اشتعل والتهب. وبناحية ناميان جبال فيها عيون لا تقبل شيئًا من النجاسات وإذا ألقَى فيها أحد شيئًا من النجاسة هاج الماء وغلى وفار، فإن لحق الذي ألقاه غرقه.
ومنها٥١٤ عين غزنة إذا ألقي فيها شيء من النجاسات والقاذورات يتغير الهواء في الحال، ويظهر البرد والريح والمطر والثلج ويبقى ذلك إلى أن يزول منها ذلك القاذورات. وحُكي أن السلطان محمود — تغمده الله٥١٥ برحمته — لما أراد فتح غزنة جعل أهلها كل ما قصد إليها يلقون في تلك العين شيئًا من القاذورات فتقوم القيامة من شدة البرد والريح والمطر فيرجع بعسكره كالمكسور، وصلى ليلة من الليالي ودعا وقال: إلهي إن كان قصدي في هذه البلاد حظوظ الدنيا فجرِّد عزمي عن ذلك، وإن كان قصدي التوبة والآخرة وتقوية دولة الإسلام فاجعل لي إلى فتحها سبيلا، وأرح عبادك المسلمين المجاهدين في سبيلك، ثم سجد سجدةً ونام ووجهه على التراب فأتاه آتٍ وخاطبه بكلام بيِّنٍ قائلًا: يا ابن سبكتكتين إن أردتَ الخلاص من هذه المحنة فأرسِل جنودًا لحفظ العين، وقد افتتحت غزنة فسعيك مشكور وفعلك مبرور، فانتبَهَ وأرسلَ مُقدمًا إلى حراسة العين ثم زحف على غزنة وافتتحها كطرفة عين.ومنها عين سياه سك. قال في تحفة الغرائب: بجرجان موضع يُسمَّى سياه سك عين على تلٍّ يأخذ الناس منها الماء للشرب وهو عذب طيب. وفي الطريق إلى العين دودة معروفة بين أهلها، فمن أخذ من ذلك الماء وأصابت رجله تلك الدودة وهو ذاهب بالماء صار الماء مرًّا علقمًا فيُريقه ويمضي إلى ماء ثانيًا.
عين الأوقات وهي في المغرب لا تجري إلا في أوقات الصلاة الخمس في أولها ثم٥١٦ تنقطع ولَبثه قدْر ما يتوضأ الناس.عين غرناطة قال الأندلسي بقرب غرناطة كنيسة عندها٥١٧ عين ماء وشجرة زيتون يقصدها الناس في يومٍ معلوم من السنة، فإذا طلعت الشمس في ذلك اليوم فاضت تلك العين، ثم ظهر على تلك الشجرة زهر زيتون ثم ينعقد زيتونًا في الحال والوقت ويكبر ويسودُّ في يومِه ذلك، وتأخذه الناس ويأخذون من ماء ذلك العين كل أحد بمَقدرته ويدخرون ذلك الزيتون والماء للتداوي ولذلك فيما بينهم منافع عظيمة.ومنها عين شبرم وهي بين أصفهان وشيراز، فإذا وقع الجراد بأرضٍ حمل إليها من تلك العين ماءً في ظرف أو غيره فيتبع ذلك الماء طيور سود تُسمَّى السمرمر بحيث إن حامل الماء لا يضعه على الأرض ولا يلتفت وراءه فتبقى تلك الطيور على رأس حامل الماء في الجو كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد فتصيح٥١٨ الطيور عليها وتقتلها فلا ترى من الجراد مُتحركًا وتموت من أصواتها وهذا من عجائب الدنيا. -
الفائدة السادسة: قد ذكرنا فيما سبق كلام بطلميوس في السحاب، فلنذكر كلام
علماء الملَّة فيه وفي المطر؛ أما المطر فقد أخرج السيوطي في
الهيئة عن أبي الشيخ عن عطا قال: السحاب يخرج من الأرض ثم قرأ
اللهُ الذِي يُرْسِلُ الريَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَابًا.٥١٩ وأخرج عنه أيضًا عن خالد بن معدان قال في الجنة
ثمرة تُثمر السحاب فاالسوداء٥٢٠ منها الثمرة التي قد نضجت التي تحمل المطر،
والبيضاء التي لم تنضج لا تحمل المطر. وأخرج أيضًا عنه وعن
أحمد وابن أبي الدنيا عن الغفاري سمعت رسول الله
ﷺ
يقول: يُنشئ الله السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك.
قال إبراهيم بن سعد: المنطق الرعد والضحك البرق.
وعن السدِّي يُرسِل الله الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقَين طرف السماء والأرض حيث يلتقِيان فيُخرجه، من ثم يُنشئه فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك.
وعن عبيد بن عمير قال: يبعث الله ريحًا فتقوم الأرض، ثم يبعث الثانية فتسير٥٢١ سحابًا فيجعله كسفًا، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركامًا، ثم الرابعة فيمطر. وأما٥٢٢ المطر؛ فعن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الريح تحمل الماء من السماء ترمي به السحاب تدرُّ كما تدر اللقحة. وسُئل الحسن عن المطر أمن السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء إنما السحاب علما ينزل عليه الماء من السماء.وعن عكرمة ينزل الماء من السماء السابعة فيقع القطرة من على السحابة مثل البعيرة. وعن٥٢٣ خالد بن معدان المطر: يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في السماء الدنيا فيجتمع في موضع يُقال له الأبزم، فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شُرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء.وعن ابن عباس المطر مزاجه من الجنة فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قلَّ المطر، وإذا قل المزاج قلت٥٢٤ البركة وإن عظم المطر. وعن الخالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء ومنه ماء يَسقيه الغيم من البحر فيُعذِبه الرعد والبرق، فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات وأما النبات فممَّا كان من السماء. وعن أبي مالك الغفاري قال: سألتُ ابن عباس فقلت: تنزل الأرض القفير فتمطر من الليل فتصبح من الغد في الأرض ضفادع خضر؛ فقال ابن عباس: إن هذه السماء الدنيا التي تليها وما بينهما ماء مُطبق يجري فيه من الدواب مثل ما في مائكم هذا.وعن وهب لا أدري المطر أنزل قطرة من السماء في السحاب أم في خلق٥٢٥ السحاب فأمطر؟! وذكر٥٢٦ اللقاني في شرح منظومته؛ عمدة المُريد أن مذهب أهل السنة والأشاعرة كما دلَّت عليه الأحاديث أن السحاب من شجرة مُثمرة في الجنة والمطر من تحت العرش خلافًا للحكماء والمعتزلة في أن منشأه البحر، أو أنه أجسام ذوات خراطيم تأخذ الماء من البحر المالح وتقصره الريح فيعذب انتهى.أقول كأنَّ وجه جزمِه بذلك الرد٥٢٧ نفي قول الزاعم أن الأمطار إنما تتكوَّن من البخارات المُتصاعدة من قعر٥٢٨ الأرض إلى الجبال ومن الجبال إلى السماء حتى صارت عذبةً صافية بواسطة التصعيد والسحاب يتألَّف ويتكوَّن معه.وبعضهم يقول إن السحاب له خراطيم يغترف الماء من البحر ثم إن الماء المالح يحلو بسبب التقطير كما أشار إليه، وإلا فقد علمتَ ما فيه من الخلاف.
ومن ثم ذهب بعضهم إلى الوقف، ومال البعض إلى أن الله تعالى يَخلقهما ابتداءً بين السماء والأرض متى شاء ثم٥٢٩ ينزل المطر متى شاء؛ فيُنشئ سبحانه من العدم ما أراد في لحظةٍ واحدة؛ وهذا العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر.قيل والحكمة والسحاب ما أخرجه أبو الشيخ عن كعب قال: السحاب غربال٥٣٠ المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لفسد ما يقع عليه من الأرض. وأخرج عن ابن أبي المُثنى أن الأرض قالت: رب أروني من الماء ولا تُنزله عليَّ منهمرًا كما أنزلته على قوم الطوفان. قال: سأجعل لك غربالًا.
(٤-٢٢) تتمة
(٤-٢٣) القول الخامس
وقال الثعلبي: بلغنا أن بعض الأنبياء قال: يا رب لو أن السموات والأراضين حين قلت لهما ائتِيا طوعًا أو كرهًا عصاك ما كنت تفعل بهما؟ قال: كنت أُمِرُّ عليهما دابة من دوابي فتبلعهما، قال: يا رب وأين تلك الدابة؟ قال: في برج من بروجي. قال: يا رب وأين هذا البرج؟ قال في علم من علومي.
(٤-٢٤) لطيفة
ذكر سعيد بن جبير لما أهبط الله آدم إلى الأرض لم يكن فيها غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عندَه فلمَّا رأى النسر آدم قال: يا حوت لقد أهبط الله اليوم إلى الأرض شيءٌ يمشي على رجلَيه ويبطش بيدَيه. فقال الحوت: لئن كنتَ صادقًا فمالي منه منجى في البحر ولا لك خلاص منه في البر.
(٤-٢٥) فوائد
-
الأولى: الأولى ذكر الدميري في حياة الحيوان قال: سُئل إمام الحرمَين
هل الباري تعالى٥٤٠ في جهة؟ فقال هو مُتعالٍ عن ذلك، فقيل له ما
الدليل على ذلك؟ قال: قوله
ﷺ لا تُفضِّلوني على يونس بن
متى، فقيل له: ما وجه ذلك؟ قال: لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا
ألف دينار يقضي بها دَينه، فقال بها رجُلان فقال: إن يونس بن
متى رمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وصار في قعر البحر في
ظلماتٍ ثلاث، ونادى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين، ولم يكن النبي
ﷺ حين جلس على الرفرف الأخضر
وانتهى إلى أن سمع صرير الأقلام وناجاه ربُّه بما ناجاه وأوحى
إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس بن متى في بطن الحوت في
ظلمة البحر انتهى.
قلت: ولا يَخفى أن القرب المَنفي إنما هو القرب المكاني، وأما القرب المعنوي فهو ثابت له — ﷺ — وغيره من الأنبياء والأولياء والصديقِين والشهداء، ولا شك أنه ﷺ أقرب إلى الله من الكل بهذا المعنى. وإذا علمتَ ذلك علمتَ أن النفي المُتسلِّط على أفعل التفضيل في عبارته هو٥٤١ للقيد والمُقيد جميعًا لا للقيد وحدَه جريًا على القاعدة أن النفي إذا دخل على مُقيد نفى القيد وبقي أصل الفعل.٥٤٢واعلم أن في هذا الحديث إشكالًا من حديث المعنى وهو أنه ﷺ قد أخبر بأنه أفضل الأنبياء كما يُشير٥٤٣ إليه قوله ﷺ: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، فانعقد٥٤٤ الإجماع على ذلك، بل لم يتوقَّف من قال بأفضلية رسل الملائكة على رسل البشر في أنه٥٤٥ ﷺ أفضل٥٤٦ من الملائكة. وإذا كان كذلك فلا معنى لنهيه ﷺ عن ذلك والجواب عن ذلك بأوجهٍ منها: ما ذكره إمام الحرمَين وحاصله٥٤٧ أن التفضيل المنهي عنه ليس هو التفضيل المشار إليه في الحديث والمجمع عليه وهو التفضيل بكثرة الثواب وكثرة المزايا. ومنها أنه ﷺ قال ذلك قبل إعلام الله له بأنه الأفضل، ومنها أن المنهي عنه هو التفضيل المؤدي إلى نقصٍ في المفضل عليه، ومنها أنه لما قال ذلك ﷺ تواضعًا وأدبًا مع ربه.
-
الثانية: روى الحاكم في مُستدركه عن الأصم عن الربيع عن الشافعي —
رحمه الله — عن يحيى بن سليم عن بن جريج عن عكرمة قال: دخلتُ
على ابن عباس — رضي الله عنهما — وهو يقرأ في المصحف قبل أن
يذهب بصرُه وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ قال:
تعرف أيله؟ قلت: وما أيله؟ قال قرية كان فيها ناس من اليهود
فحرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت فكانت الحيتان تأتيهم
في سبتهم شُرَّعًا بيضاء سمانًا كأمثال المخاض٥٤٨ فإذا كانت غير يوم السبت لا يجدونها ولا يُدركونها
إلا بمشقَّةٍ ومؤنة، ثم إن رجلًا منهم أخذ حوتًا يوم السبت
فربطه إلى وتدٍ في الساحل وتركه في الماء حتى إذا كان الغداء
أخذه فأكله فعل ذلك أهل بيت منهم فأخذوا وشَوَوا، فوجدوا
جيرانهم ريح الشواء ففعلوا كفِعلهم وكثر ذلك فيهم، فافترقوا؛
فرقة أكلت، وفرقة نهَت، وفرقة قالت لِمَ تعِظُون قومًا …
الآية، فقالت الفرقة التي نهت: إنا نُحذِّركم غضب الله وعقابه
أن يصيبكم بخسفٍ أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب، والله ما
نساكنكم في مكان أنتم فيه، وخرجوا من السور ثم غدوا عليه من
الغد فضربوا باب السور فلم يُجِبْهُم٥٤٩ أحد فتسوَّر منهم إنسان السور فقال: قردة والله
لها أذناب تتعاوى، ثم نزل وفتح الباب ودخل الناس عليهم فعرفت
القردة أنسابها ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة، قال فيأتي
القِرْد إلى نَسيبه وقريبه فيحتكُّ به ويلتصق فيقول الإنسي أنت
فلان فيُشير برأسه أنْ نعم ويبكي. وتأتي القِرْدة إلى نسيبها
وقريبها الإنسي فيقول أنتِ فلانة فتشير برأسها أنْ نعم وتبكي.
قال ابن عباس: فاسمع الله يقول فأَنجَيْنَا الذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السوءِ وَأَخَذْنَا
الذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ٥٥٠ فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة فكم
رأينا منكرًا فلم نَنْهَ عنه. قال عكرمة فقلت: فما ترى — جعلني
الله فداك — أنهم قد أنكروا وكرهوا حين قالوا لِمَ تَعظون
قومًا الله مهلكهم أو مُعذبهم عذابًا شديدًا؟ فأعجبه قولي ذلك
وأمر لي ببُردَين غليظَين فكسانيهما، ثم قال هذا صحيح
الإسناد.
قال في حياة الحيوان في سبب إتيانهم يوم السبت وعدم إتيانهم في غيره، وهذا أمر يمكن أن يقع من الحوت بإرسالٍ من الله كما يُرسِل السحاب أو الوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعارٍ في ذلك اليوم نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة بحسب ما يقتضيه قول رسول الله — ﷺ: ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقًا من قيام الساعة. ويُحتمَل أن يكون ذلك من الحوت شعورًا بالسلامة في ذلك اليوم، على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة. قال أصحاب القصص: كان الحوت يقرب ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل يغيب أكثره ولم يبق منه إلا القليل.
-
الثالثة: عن أبي الدرداء — رضي الله عنه — قال: سمعت رسول الله
ﷺ يقول: من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به
طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًى لطالب
العلم، وإن العالِم ليستغفِر له من في السموات ومن في الأرض
والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالِم على العابد كفضل القمر
ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن
الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم؛
فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر.٥٥١قال أبو أمامة الباهلي: ذُكر لرسول الله ﷺ رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله ﷺ: فضل العالِم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله — ﷺ٥٥٢ — إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحرها وحتى الحوت ليُصلُّون على مُعلم٥٥٣ الناس الخير.قال الطيبي: وضع الأجنحة يمكن أن يكون حقيقة وإن لم يُشاهَد، أي تكفُّ أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع الذكر، كما ورد ونزلت عليهم السكينة وحفَّت بهم الملائكة. وأن يكون مجازًا عن التواضع كقوله تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ٥٥٤ وقيل معناه المعونة وتيسير السعي له في طلب العلم، وقوله وإن العالم أثبت لهم العلم وجعلهم مُعلمين بعد أن كانوا طالبين متعلمين تَرقِّيًا، ووصفهم بما هو أعلى مما وصفهم أولًا، حيث جعل الموجودات من الملائكة والثقلين وغيرهم حتى الحيتان في البحر مُستغفِرين لهم طالِبين لتحليتهم مما لا ينبغي ولا يليق بهم من الأدناس والأوضار؛٥٥٥ لأن بركة علمهم٥٥٦ وعملهم وإرشادهم وبقائهم سبب لرحمة العالمين، وذكر الحيتان بعد ذكر الملائكة والثقلين تتميمًا لاستيعاب جميع أنواع الحيوان.
وأما تخصيص الحيتان بالذكر فللدلالة على إنزال المطر وحصول الخير والخصب ببركتهم كما قال بهم يُمطرون وبهم يُرزقون، حتى الحيتان التي لا تفتقر إلى الماء افتقار غيرها لكونها في جوف الماء تعيش أيضًا ببركتهم.
وقوله ﷺ في الحديث الثاني كفضلي على أدناكم، هذا التفضيل موافق للحديث السابق من حيث المبالغة وما به التفضيل، فإن المخاطبين بقوله أدناكم هم الصحابة رضي الله عنهم، وقد شبهوا بالنجوم لقوله ﷺ أصحابي كالنجوم الحديث، وشبه صلوات الله وسلامه عليه بالقمر ليلة البدر.
والمبالغة التي يعطيها أدناكم في الحديث الثاني يقرب منها قوله — صلوات الله عليه — على سائر الكواكب؛ لأن فضل القمر على الكواكب أجمع يستلزم ذلك التفاوت العظيم بين البدر وبين كوكبٍ هو أدنى الكواكب في الضوء كالسُّها،٥٥٧ وهذا التشبيه ينبهك على أن لا بد للعالِم من العبادة والعابد من العلم؛ لأن تشبيههما برسول الله ﷺ والصحابة يستدعي المشاركة فيما فضلوا به من العلم والعمل وعلة التفاوت بالفضل بين العالم والعابد أنَّ نفع العابد مقصورٌ على نفسه، ونفع العالم مُتجاوز إلى الخلائق حتى النملة، وذكر النملة وتخصيصها مُشعِر بأن صلاتها بحصول البركة النازلة من السماء فإن دأب النملة القنية وادخار القوت في جحرها ثم التدرُّج منها إلى الحيتان فإعادة٥٥٨ كلمة الغاية للترقي٥٥٩ كما مرَّ في الحديث السابق انتهى مختصرًا. - الرابعة: من أنواع الحوت حوت الحيض٥٦٠ قال في حياة الحيوان نقلًا عن ابن زهر عمن رآه أنه دابة عظيمة في البحر يمنع المراكب الكبار من السير فإذا أشرف٥٦١ أهل السفينة على العطب رمَوا بخرق الحيض معدَّة لذلك؛ فيهرب ولا يقربهم. ومن عجيب أمر هذا الحيوان أنه لا يقرب مركبًا فيه امرأة حائض. قال الدميري وحُكمه كعموم السمك، أي الحِل، وإذا سعط٥٦٢ المصروع بوزن حبةٍ من مرارته أبرأه من الصرع، وكبده إذا جُفِّفت وسُحقت وذرَّ منها على الدم السائل قطعه، أو على الجرح أكمه٥٦٣ وأبرأه. ووسط لحم ظهره إذا أخذت من قطعة ولاكها إنسان هيَّجِت الباه وأنعظ. ومن أنواعه حوت موسى ويُوشع عليهما السلام. قال الدميري نقلًا عن أبي حامد الأندلسي: رأيتُ سمكةً بقُرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه فأحيا الله نصفه فاتخذ سبيله في البحر سربًا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر وفي أحد جنبَيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها وعينها، رأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استقذرها ويحسب مأكولة ميتة، ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة.
- الخامسة: كان بالإسكندرية صنم يُقال له شراحيل على خسفة من خسف مُستقبلًا بإصبع من أصابع يدَيه القسطنطينية تُصاد عنده الحيتان وكانت تدور حوله وحول٥٦٤ الإسكندرية فكسروه وعملوه فلوسًا فانطلقت الحيتان ولم ترجِع إلى ذلك المكان.
- السادسة: نقل صاحب محاضرات الأوائل عن الشيخ الأكبر قُدِّس سرُّه في الفتوحات أن جبل قاف قد أحاطت به حية عظيمة اجتمع رأسها بذنَبها وكانت تُرسِل سلامها إلى أبي مدين وغيره من أهل طريق الله.
- السابعة: قال الدميري: تُطلَق الحية على الذكر والأنثى، وإدخال الهاء عليها لأنها واحد من جنس كبطة ودجاجة، على أنه قد روي عن بعض العرب رأيت حيًّا على حية أي ذكرًا على أنثى، وذكر ابن خالويه لها٥٦٥ مائة اسم. ونقل السهيلي عن المسعودي أن الله تعالى لما أهبط الحية إلى الأرض أنزلها بسجستان فهي أكثر٥٦٦ الأرض حيات، ولولا العربد٥٦٧ يأكل ويفني كثيرًا منها لخلت من أهلها لكثرة الحيات. وقال كعب الأحبار أهبط الله الحية بأصبهان، وإبليس بجدة وحواء بعرفة وآدم بجبل سرنديب وهو بأعلى الصين في بحر الهند. قال الجمهور في قوله تعالى اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو٥٦٨ الخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس. روى قتادة عن النبي ﷺ قال: ما سالمناهن منذ عاديناهن. قال ابن عمر: ومن تركهن فليس منا. وقالت عائشة من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي مسند الإمام عن بن مسعود أن النبي ﷺ قال: من قتل حيةً فكأنما قتل رجلًا مشركًا، ومن ترك حية مخافة عاقبتها فليس منَّا انتهى مختصرًا.
-
الثامنة: قتل الحية والعقرب في الصلاة مباح غير مكروه قال
في طرفة الهندي إلى تحفة المبتدي لشيخنا العلامة خاتمة الفقهاء
في الديار الشرقية الشيخ إبراهيم بن حسن الإحسائي — تغمده الله
برحمته — لأنه أمر بقتلهما فيما روي من قوله
ﷺ اقتلوا
الأسودَين في الصلاة: الحية والعقرب. فإطلاق الحديث يدل على
إباحة قتل الحيات كلها الجنية وهي البيضاء التي تمشي مُستوية،
وغير الجنية وهي السوداء التي تمشي طولًا، وقيل لا تقتل الحية
الجنية لقوله — عليه الصلاة والسلام: اقتلوا ذا الطفيتَين
والأبتر وإياكم والحية البيضاء فإنها من الجن. وفي القاموس
الطفية بالضم خوصة المقل وحية خبيثة على ظهرها خيطان
كالطفيتَين أي الخوصتَين.٥٦٩
وقال الطحاوي: لا بأس بقتل الكل؛ لأنه ﷺ عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أُمته ولا يظهروا أنفسهم، فإذا خالفوا فقد نقضوا عهدهم فلا حرمة لهم. قال ابن الهمام: وقد حصل في عهده — عليه الصلاة والسلام — وفيمن بعده الضرر بقتل بعض الحيات من الجن، والحق أن الكل ثابت، ومع ذلك فالأولى الإمساك عن ما فيه علامة للجان لا للحرمة بل لدفع الضرر المُتوهَّم من جهتهم. وقيل تذرها فيقول خلِّي طريق المسلمين أو ارجعي بإذن الله تعالى، فإن أبت اقتلها وهذا في غير الصلاة انتهى.
يعني وأما في الصلاة فإنه يُباح القتل ولا يكره إذا مشتا أو أحدهما بين يدي المُصلي وخاف٥٧٠ أذاهما فيقتلهما ولو كان قتلهما بضربات؛ لأنه رُخِّص للمصلي في ذلك كالمشي بعد الحدث والاستقاء من البئر والتوضُّؤ وهذا اختيار النسفي وشمس الأئمة السرخسي. وفي المبسوط إلا ظهر أنه لا تفصيل فيه. وفي الخلاصة إذا٥٧١ أخذ المُقتدي النعل بيدِه ومشى إليها ليقتلها لم تفسد صلاته، وإن صار قدام الإمام، وقيل إنما يُباح إذا تمكن من قتلهما بفعلٍ يسير كالضربة، وأما إذا احتاج إلى المعالجة والمشي تفسد وإن علِم المصلي الأذى منهما فقتلهما بالصلاة مكروه، ذكره في الخلاصة الكافي انتهى.قال في حياة الحيوان اختلف العلماء في الإنذار هل هو ثلاثة أيام أو ثلاث مرات، والأول عليه الجمهور وكيفية ذلك أن يقول أنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكن نوح وسليمان عليهما السلام أن لا تبدوا لنا ولا تؤذوننا. وفي أسد الغابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلة أنه قال: قال رسول الله ﷺ إذا ظهرت الحية في المسكن فقولوا لها إنا نسألك بعهد نوح — ﷺ — وبعهد سليمان بن داود — عليهما السلام — لا تؤذينا فإن عادت فاقتلوها انتهى.
-
التاسعة: من الحيات الأزعر٥٧٢ وهو غالب فيها، ومنها ما هو أرب ذو شعر، ومنها ذات
القرون. وأرسطو يُنكر ذلك، ومنها ذو الطفيتَين والأبتر. وفي
الصحيحَين وغيرهما من حديث ابن عمر وعائشة أن النبي
ﷺ
قال: اقتلوا الحيات ذوي٥٧٣ الطفيتَين والأبتر فإنهما يسقطان الحبَل ويلتمسان
البصر. قال النووي: قال العلماء: الطفيتان الخطَّان الأبيضان
على ظهر الحية، والأبتر قصير الذنب، وقال النضر٥٧٤ بن شميل هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا
تنظر إليه حامل إلا ألقت ما٥٧٥ في بطنها غالبًا. وذكر مُسلم في روايته٥٧٦ عن الزهري٥٧٧ أنه يُقال يُرى ذلك من سُمِّها. وأما يلتمسان
البصر ففيه تأويلان أصحُّهما أنهما يخطفانه ويطمسانه بمجرد
نظرهما إليه لخاصية جعلها الله في بصرهما٥٧٨ إذا وقع على بصر الإنسان، ويؤيد٥٧٩ هذا أن في رواية مسلم يخطفان البصر والثاني أنهما
يقصدان البصر باللسع والنهش.
ومنها العربد وهو حية عظيمة تأكل الحيات ذكره الدميري. ومنها الشجاع وهو حية عظيمة تواثب الفارس والرجل وتقوم على ذنبها وربما تلسع رأس الفارس وتكون في الصحاري. ومنها نوع يُسمَّى الناظر متى وقع نظره على إنسان مات من ساعته. ونوع آخر إذا سمع الإنسان صوته مات. ومنها الأصلة وهو عظيم جدًّا له وجه كوجه الإنسان، ويُقال إنه يصير كذلك إذا مرَّت عليه ألوف من السنين ومن خاصيته هذا أن يقتل بالنظر أيضًا.
ومنها الصل وتُسمَّى الملكة وهي شديدة الفساد تحرق كل ما مرَّت عليه ولا ينبت حول جحرها شيءٌ من الزرع أصلًا، وإذا حاذى مسكنها طائر سقط ولا يمر حيوان بقربها إلا هلك، وتقتل بصفيرها على غلوة سهم،٥٨٠ ومن وقع عليه بصرها ولو من بُعدٍ مات، ومن نَهَشته مات في الحال وضربها فارس برُمحه فمات هو وفرسه وهي كثيره ببلاد الترك. -
العاشرة: قال في حياة الحيوان من عجيب أمر الحية أنها إذا ابتلعت
شيئًا له عظم أتت شجرة أو نحوها فتلتوي عليه التواءً شديدًا
حتى ينكسر ذلك في جوفها، ومن عادتها أنها إذا نهشت انقلبت
فيتوهَّم بعض الناس أنها فعلت ذلك لتفرغ سمَّها وليس كذلك. ومن
غريب أمرها أنها إذا لم تجد طعامًا تعيش٥٨١ بالنسيم وتقتات به الزمن الطويل وتبلغ الجهد من
الجوع ولا تأكل إلا لحمَ الشيء الحي، وإذا كبرت صغر جرمها
واقتنعت بالنسيم ولم تَشتَهِ الطعام. وبين عجيب أمرها أنها لا
تَرِد الماء ولا تُريده، إلا أنها لا تملك نفسها عن الشراب إذا
شمَّته لما٥٨٢ في طبعها من الشوق إليه، فهي إذا وجدته شرِبَت منه
حتى تسكر، وربما كان سكرها سبب هلاكها. والذكر لا يُقيم بموضعٍ
واحد وإنما تُقيم الأنثى على بيضها حتى تخرج أفراخها وتقوى على
الكسب، ثم تخرج هي سائرة فإذا وجدت حجرًا انسابت فيه. وعينها
لا تدور في رأسها بل كأنها مسمار مضروب في رأسها، وكذلك عين
الجراد، وإذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قُلع عاد بعد ثلاثة
أيام، وكذلك ذنبها إذا قُطع نبت.
ومن عجيب أمرها أنها تهرب من الرجل العريان وتفرح بالنار وتطلعها وتتعجَّب من أمرها وتُحب اللبن حبًّا شديدًا، وإذا ضُربت بسوط مسَّه عرَق الخيل ماتت وتُذبح فتبقى أيامًا لا تموت،٥٨٣ وتَقدَّم٥٨٤ أنها إذا عمِيَت أو خرجت من تحت لا تُبصر طلبت الرازيانج الأخضر٥٨٥ فتحكُّ به بصرَها فتبرأ.
وليس شيءٌ في الأرض مثل الحية إلا وجسم الحية أقوى منه؛ ولذلك إذا أدخلَتْ صدرها في جحر أو صدعٍ لم يستطع أقوى الناس إخراجها منه، وربما تقطعت ولا تخرج وليس لها قوائم ولا أظفار تنشب بها وإنما قوى ظهرها هذه القوة بسبب كثرة أضلاعها فإن لها ثلاثين ضلعًا، وإذا مشت على بطنها فيتدافع أجزاؤها وتسعى بذلك الدفع الشديد، وتعيش في البحر بعد أن كانت برية وفي البر بعد إن كانت بحرية انتهى.
-
الحادية عشرة: الدابة ما دبَّ من الحيوان كله وأخرج بعض منها الطير لقوله
تعالى وَمَا مِن دَابةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ٥٨٦ ورُدَّ بقوله تعالى وَمَا مِن
دَابةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا٥٨٧ كذا في حياة٥٨٨ الحيوان.٥٨٩أقول وجه الاستدلال بالآية الأولى هو أن الله تعالى عطف الطير على الدابة، والعطف يقتضي المغايرة والرد بالآية٥٩٠ الثانية لا يستقيم إذ لا يلزم من كون جميع دواب٥٩١ الأرض رزقها على الله أن تكون الطير دابة؛ فالرد أن يُقال إن الاشتقاق يقتضي بعمومه دخول الطير فلا يخرج إلا بدليل والعطف لا يصلح أن يكون دليلًا لجواز أن يكون من عطف الخاص على العام ومتى لم يَسلَم الدليل من الاحتمال لا يصلح للاستدلال.
- الثانية عشرة: أخرج أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: ما من دابة إلا وهي مُصيخة يوم الجمعة خشية٥٩٢ أن تقوم الساعة. ويُروَى٥٩٣ مُسيخة بالسين ومعناهما مُنصتة مستمعة.
- الثالثة عشرة: خلقت الدواب يوم الخميس لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ النبي ﷺ بيدي وقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات فيما بين العصر إلى المغرب.
- الرابعة عشرة: روى ابن السنِّي عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليُناد يا عباد الله احبسوا فإن الله عز وجل حاضرًا سيحبسه.
- الخامسة عشرة: قال بعض التابعين: ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ٥٩٦ إلا وقفت. وعن أنسٍ — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله — ﷺ — من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فأقرءوا في أذنه أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.٥٩٧
- السادسة عشرة: عن أبي الدرداء أن النبي ﷺ قال: من قال إذا ركب دابة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، سبحانه ليس له سَمِي، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، والحمد لله رب العالمين٥٩٨ وصلى الله على سيدنا محمد عليه السلام. قالت الدابة: بارك الله عليك من مؤمن خفَّفتَ على ظهري، وأطعت ربك، وأحسنتَ إلى نفسك، بارك الله لك في سفرك وأنجح حاجتك.
- السابعة عشرة: لا يجوز لعن الدابة كغيرها، وعن عمرو٥٩٩ بن قيس الملامي أنه قال: إذا ركب الرجل قالت: اللهم اجعله بي رفيقًا رحيمًا، فإذا لعنها قالت: على أعصانا لله لعنةُ الله.٦٠٠
- الثامنة عشرة: روى ابن عمر — رضي الله عنهما٦٠١ — قال: قال رسول الله ﷺ اضربوا الدواب على النفار ولا تضربوها على العثار.
- التاسعة عشرة: يجوز الإرداف على الدابة إذا كانت تُطيقه، ولا يجوز إذا لم تُطقه،٦٠٢ وإذا وقع الإرداف فصاحب الدابة أولى بصدرِها ويكون الرديف وراءه إلا أن يرضى صاحبها بتقديمه بجلالِه وقدره أو غير٦٠٣ ذلك. وقد صح أنه ﷺ أردف جماعةً منهم مُعاذ على الرحل وأردفه على حِمار يُسمَّى عفير. وفي حياة الحيوان عن الحافظ بن منده أن الذين أردفهم النبي — ﷺ ثلاثة وثلاثون نفسًا. وروى الطبراني عن جابر أن النبي نهى أن يَركب ثلاثة على دابة.
-
العشرون: دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ [هي] الأرضة
وقيل سوسة الخشب، قال تعالى فَلَما
قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ
إِلا دَابةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ،٦٠٤ والسبب في ذلك أن سليمان عليه السلام كان قد أمر
الجنَّ ببناء صرحٍ فبنوه له ودخله مُخبتئًا ليصفو له يوم واحد
من الدهر عن الكدَر فدخل عليه شابٌّ فقال: كيف دخلتَ من غير
استئذان؟ فقال له: إنما دخلتُ بإذن، قال: ومن أذن لك؟ قال: رب
هذا الصرح، فعلم سليمان أنه ملك الموت أتى ليقبض روحه، فقال:
سبحان الله هذا اليوم الذي طلبتُ فيه الصفاء. قال: طلبت ما لم
يُخلَق فاستوثِق من الاتكاء٦٠٥ على العصا؛ لأنه كان بقي من تمام٦٠٦ بناء المسجد عمل سنة، فسأل الله تمامها على يدِ
الإنس والجن؛ فمات وهو مُتكئٌ عليها. وكانت الشياطين تجتمع حول
محرابه فلا ينظر إليه أحد٦٠٧ إلا احتراق، ولمَّا مات كان عمره ثلاثة وخمسين
سنة.
والمنسأة٦٠٨ العصا وكانت٦٠٩ من الخَروب.٦١٠ عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: كان نبي الله سليمان إذا قام في مُصلَّاه رأى شجرةً نابتة بين يدَيه فيقول: اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيءٍ أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فإن كانت لدواءٍ كتبت وإن كانت لغرس غرست، فبينما هو يُصلي يومًا إذْ رأى شجرة فقال: ما اسمك؟ قالت: الخروب٦١١ فقال: لأي شيءٍ أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. قال سليمان: اللهم عمِّ عن الجن موتي؛ حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. قال: فنحتَها عصا وتوكَّأ عليها، فأكلتها الأرضة فسقط فوجدوه حولًا، فتبيَّنت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولًا في العذاب المهين. وكان ابن عباس — رضي الله تعالى عنهما — يقرأها فشكرت الجن الأرضة، فكانت تأتيها بالماء حيث كانت. كذا في حياة الحيوان.
- الحادية والعشرون: قال ابن عمر — رضي الله عنه — في قوله تعالى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابةً منَ الْأَرْضِ تُكَلمُهُمْ٦١٢ قال: إذا لم يَأمروا بالمعروف ولم يَنهوا عن المنكر. قيل إنها دابة طولها ستون ذراعًا ذات قوائم ووبر، وقيل هي مختلفة الخلقة تُشبه عدة من الحيوانات يتصدع جبل الصفا فتخرج من ليلة جمعة والناس سائرون إلى مِنى، وقيل من الحِجر، وقيل من أرض الطائف ومعها عصا وخاتم سليمان — عليه السلام، لا يُدركها٦١٣ طالب ولا يُعجزها هارب، تضرب المؤمن بالعصا وتكتب في وجهه مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر.
(٤-٢٦) غريبة
(٤-٢٧) أعجوبة
أخبرني بعض من أثق به أن طائفةً من الناس في الدورق يُقال لهم كولكيان إذا عضت الحية أحدَهم ماتت من وقتها حتى إن بعضهم حصلت له ريبة من حمل زوجته لتُهمة اتهمَها بعض الأعداء مع رجل من غير قبيلة فانتظرها حتى وضعت حملَها واصطاد حية ووضعها مع الطفل فلما نهشته ماتت فتحقَّق براءتها لذلك من ذلك.
(٤-٢٨) تكملة
ايفاض٦١٩
لأنه إنما أوصى بذلك بنيه، وقال لئن قدر الله عليَّ، الذي هو شكٌّ في قدرة الله على إعادته بعد صنيعهم به ذلك كما هو المُتبادر من اللفظ وفحوى الخطاب. ويدل عليه رواية فلعلِّي أضل الله أي أغيب عنه في حالة غلب عليه الدهش فيها والخوف وشديد الجزع بحيث ذهب بتفطُّنه وتدبُّره لما يقوله ويأمر به فكان في معنى الغافل والناسي فلم يؤاخَذ بذلك.
(٤-٢٩) القول السادس
وعلى ابن حزم حتى قال: إنه تعالى قادر على أن يتخذ ولدًا إذْ لو لم يقدر عليه لكان عاجزًا فانظر إلى اختلال هذا المبتدع كيف غفل عما يلزمه على هذه المقالة الشنيعة من اللوازم التي لا تدخل تحت وهم، وكيف فاته أن العجز إنما يكون لو كان القصور جائيًا من ناحية القدرة وأما إذا كان لعدم متعلق القدرة فلا يتوهم عاقل أن هذا عجز.
(٤-٣٠) تفسير
وكتب في جوابه بعض الفضلاء. أما قوله بلا تصغير ولا تكبير ولا آلة إنْ كان في تعلق العلم فهذا لا تُنكره ولا يُنكره أحد من المتكلمين، وإن كان في تعلق القدرة فقد صدر منه زلة عظيمة لا يكفرها إلا التوبة وتجديد الإيمان؛ لأنه قد صدر منه ما هو مُنكَر عند أهل الحقيقة وعند أهل الكلام.
(٤-٣١) تنبيهات
-
الأولى: الحكماء الإلهيون، فإنهم قالوا: إنه تعالى واحد حقيقي فلا
يصدر منه أثران والصادر عنه ابتداءً هو العقل الأول والبواقي
صادرة عنه بالوسائط.
والجواب عن ذلك أنَّا لا نُسلِّم٦٦٩ أن الواحد الحقيقي لا يصدر منه إلا الواحد.
الأول خالف في شمول قدرته للمُمكنات طوائف:
-
الثانية: المنجمون، ومنهم الصائبة قالوا: الكواكب المتحركة بحركات
الأفلاك، أي المدبرات أمرًا في عالمنا لدوران الحوادث السفلية
والتغيُّرات الواقعة في جوف فلك القمر وجودًا وعدمًا مع
مواضعها في البروج، وأوضاعها بعضها إلى بعض، وإلى السفليات
وأظهرها ما نُشاهده من اختلاف الفصول الأربعة، وما يتجدَّد
فيها من الحر والبرد والاعتدال بواسطة قرب الشمس من سمت الرأس
وبُعدها عنه وتوسُّطها فيما بينهما، وتأثير الطوالع في
المواليد بالسعادة والنحوسة.
والجواب أن الدوران لا يفيد العِلِّية سيما إذا تحقق التخلُّف، كما في توأمَين أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة؛ وُلِدا دفعة أو بين ولادتَيهما مقدار درجة الذي لا يُوجب تغير الأحكام باتفاق منهم، وسيما إذا قام البرهان على نقيضه. وقد قامت البراهين العقلية والنقلية بأن لا٦٧٠ مؤثر في الوجود إلا الله رب البرية، على أن ما أثبتوه٦٧١ من الأحكام لا يستثبت٦٧٢ على قواعدهم؛ لأنهم قد ادَّعوا أن الأفلاك بسيطة،٦٧٣ وإذا كانت كذلك كانت أجزاؤها متساوية في الماهية فلا يمكن حينئذٍ جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية وجعل أخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكُّمًا بحتًا، وكذا الحال في جعل بعض البروج بيتًا لكوكب وبعضها بيتًا لكوكبٍ آخر، وبعضها شرفًا وبعضها وبالًا، إلى غير ذلك من الأمور التي يدعونها، فإنها على تقدير البساطة تحكُّمات محضة.وأيضًا الفلك إنْ كان بسيطًا فقد بطل الأحكام التي يزعمونها كما بيَّنَّا، وإلا فعلم الهيئة باطل؛ لأن مَبناه أن الفلك بسيط٦٧٤ فحركاته بسيطة مُتشابهة في أنفسها، والحركات المختلفة المشاهدة والمرصودة منها تقتضي محركات مختلفة على أوضاع متفاوتة، وإذا٦٧٥ بطلت الهيئة بطلت الأحكام النجومية؛ لأنها مبنية على الهيئات المُتخيلة لهم، وإلا فلا أوج ولا حضيض، ولا وقوف ولا رجوع، فكيف تثبت٦٧٦ لها أحكام مترتبة عليها لا يُقال الأفلاك، وإن كانت بسيطة فالبروج مكوكبة بالثوابت المختلفة الطبائع. والعبرة في تلك الأحكام ليست بنفس البروج المتوافقة في الطبيعة بل بقُرب كواكبها الثابتة من السيارات وبُعدها منها وتسامُتها وعدمها، فمدار الأحكام المختلفة على اختلاف أوضاع الكواكب السيارة بحركاتها من الثوابت المركوزة في البروج؛ لأننا نقول البروج كما علمتَ تُعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على رأيهم، فإن قيل البروج المُعتبرة فيه،٦٧٧ وإن كانت خالية من الكواكب إلا أنها تُسامِتها كواكب مُتخالفة الطبائع وهذا القدر كافٍ لاختلاف الأحكام والآثار، فالجواب٦٧٨ أن٦٧٩ تلك الكواكب تزول عن تلك المُسامَتة بالحركة البطيئة فيلزم أن تنتقل الأحوال من برج إلى برج آخر وهو باطل٦٨٠ عندهم.
-
الثالثة: الثنوية، ومنهم المجوس قالوا: إنه تعالى لا يقدر على خلق
البشر ولا على الأجسام المؤذية، وإلا لكان خيرًا شريرًا؛
فالخالق للشر إله آخر عندهم اسمه أهرمن.
والجواب عن ذلك أن المُلازمة باطلة،٦٨١ إن أريد بالشرير من غلب شرُّه، وإن أريد به خالق الشر فلا محذور فيه وإنما لا يُطلق عليه لفظ الشرير. إما لأن أسماءه توقيفية، وإما لإيهام أن ذلك دأبه وعادته كما يُقال فلان شرير إذا كان ذلك يقتضي طبيعته والغالب على عادته، على أن عدم الإطلاق لا يدلُّ على عدم الصدور، ألا يرى أنه خلق القردة والخنازير مع أنه لا يطلق عليه الوصف مضافًا إليهما.
- الرابعة: النظامية، قالوا: لا يقدر على خلق القبيح؛ لأنه مع العلم سفه وبدونه جهل وكلاهما نقص.
والجواب أنه لا قبح بالنسبة إليه، كيف وهو تصرُّف في ملكه؟ ولو سلم فالقدرة عليه لا تنافي امتناع الصدور عنه؛ لوجود الصارف وعدم الداعي وإن كان ممكنًا في نفسه.
الخامسة عبَّاد وأتباعه قالوا: إنه ليس بقادر على ما علم أنه لا يقع لاستحالته ولا على ما علم أنه يقع لوجوبه.
والجواب أن مثل هذه الاستحالة والوجوب لا ينافي المقدورية.
والجواب أنها اعتبارات تفرض للفعل بالنسبة إلينا، وأما فعله تعالى فمُنزَّه عن هذه الاعتبارات، فجاز أن يصدر عنه مثل فعل العبد مجردًا عنها فإن الاختلاف بالعوارض لا ينافي التماثُل في الماهية.
(٤-٣٢) استطراد
(٤-٣٣) فرع
(٤-٣٤) القول السابع
وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض مُشتبكة إلى تحت العرش ومنخرَي الثور في ثُقبين من تلك الياقوتة الخضراء تحت البحر فهو يتنفَّس كل يومٍ نفسَين، فإذا تنفَّس مد البحر وإذا رد النفس جزر البحر.
وزعم لبعضهم أن الله سلط عليه سمكة كالشبر شغلته فهو ينظر إليها ويهابها ويخافها. قيل وأنبت الله من تلك الياقوتة جبل ق؛ وهو من زمردة خضراء وله رأس ووجه وأسنان، وأثبت الله من جبل ق الجبال الشواهق، كما أنبت الشجر من عروق الشجر انتهى.
(٤-٣٥) القول الثامن
فإن صح ذلك — والله أعلم — كان اعتقاده أولى من المصير إلى غيره مما لا يُفيد حقيقةً. ولو ذهب ذاهب إلى أن ذلك الملك هو مهبُّ الرياح التي تكون سببًا للمد وتزيد في الأنهار ويفعل ذلك عند امتلاء القمر حتى يكون توفيقًا وجمعًا بين الكل لكان مذهبًا حسنًا والله أعلم انتهى.
(٤-٣٦) فوائد
اختلف الناس في حقيقة الملائكة مع اتفاقهم في أنها ذواتٌ قائمة بأنفسها؛ فمنهم من قال إنها أجسام لطيفة هوائية تقدِر على التشكُّل بأشكالٍ مختلفة مسكنها السماوات، وهذا قول أكثر المفسرين.
ومنهم من قال إنها الكواكب الموصوفة بالسعود والنحوس، وهو قول عبدة الأوثان. ومنهم من قال العالَم مُركب من أصلَين قديمَين؛ وهما النور والظلمة، وهما جوهران؛ فجوهر النور أصل خير كريم النفس، وجوهر الظلمة على ضد ذلك، ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة على سبيل تولُّد الحِكَم من الحكيم والضوء من المُضيء، وجوهر الظلمة لم يزل يُولِّد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولُّد السفه من السفيه. هذا إذا كانت الملائكة جواهر مُتحيزة، أما إذا لم تكن، فمنهم من قال إنها هي النفوس الناطقة المفارقة لأبدانها، فإن المفارقة إذا كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت على خلاف ذلك فهي الشياطين وهذا هو مذهب أهل الهند وقوم من النصارى.
ومنهم من أثبت أنواعًا أُخَر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المُدبرة لأحوال هذا العالم السُّفلي، ثم المدبرة إن كانت شريرة فهي الشياطين. وأما إثبات الملائكة، فمنهم من قال لا يمكن إلا بالسمع، ومنهم من قال يمكن بالعقل أيضًا وهو قول الفلاسفة، والأظهر من الدلائل العقلية عندهم هو أن الملَك عبارة عن الحي الناطق الذي لا يكون مائتًا، وهو ثابت إذِ الحي إما أن يكون ناطقًا دون مائت وهو الملَك، أو ناطقًا ومائتًا وهو الإنسان، أو مائتًا غير ناطق وهو البهائم.
الثانية أن المُفاضلة واقعة بينهم كما بين البشر، فأفضلهم رسلهم وأفضلهم الأربعة المُوكلون بتدبير العالم: جبريل وهو ملك الحروب والزلازل والصواعق، وإسرافيل وهو ملك النفخة، وميكائيل وهو ملك الأرزاق، وعزرائيل وهو ملك الموت والمصائب، وأفضلهم جبريل وإسرافيل واختلف في أيهما أفضل واختار قوم الوقف.
الثالثة اختلف الناس في تفضيلهم على البشر وتفضيل البشر عليهم؛ فالصحيح عندنا أن رسل البشر كموسى أفضل من رسل الملائكة كجبرائيل، ورسل الملائكة كإسرافيل أفضل من عامة البشر كأبي بكر، وعامة البشر كعمر أفضل من عامة الملائكة كحملة العرش والكروبيين.
الرابعة جريان الخلاف في التفضيل بالتفضيل بين البشر ومُطلق الملائكة وخصه الرازي بالملائكة السماوية، وأما الملائكة الأرضية فحكى الإجماع على تفضيل الأنبياء عليهم.
السادسة لا تُوصَف الملائكة بذكورة ولا أنوثة؛ إذْ لا دليل على ذلك من نقل صريح أو عقل صحيح.
الثامنة اختلفوا في إرساله ﷺ إلى الملائكة، فذهب بعض الحنفية كمحمود بن حمزة الكرماني، وبعض الشافعية كالبيهقي، إلى أنه لم يُرسَل إليهم. وحكى البرهان النسفي والرازي في تفسيرهما الإجماع على ذلك، والصحيح وقوع الخلاف بل ذهب جمع من المتأخِّرين كالسبكي والسيوطي وغيرهما إلى ترجيح إرساله إليهم.
العاشرة اختلفوا في قدرتهم على المعاصي والشرور، فقال جمهور الفلاسفة وأكثر الجبريين: لا قدرة لهم على ذلك؛ لأنهم خيرٌ محض، وقال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنهم قادرون على الأمرين.
الثالثة عشرة ذكر الفخر الاتفاق على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.
الثامنة عشرة في ذكر شيءٍ من عظيم خلقتهم. عن أبي داود جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام.
التاسعة عشرة في ذكر شيءٍ من خوفهم مع كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على الزلَّات، وما ذاك إلا لمعرفتهم بربهم وعظمته واعترافهم بأنهم ما قدروه حق قدره ولا عظموه حق عظمته، فكأنهم نزلوا عباداتهم معاصي، وعلى قدر علم المرء يعظم خوفه. وقد جاء في الحديث: أنا أعرفكم بالله وأخوفكم منه أو مخافة من مكرِه. كما قيل على قدْر علم المرء يعظم خوفه، ولا عارف إلا من الله خائف، فآمِن مكر الله بالله جاهِل، وخائف مكر الله بالله عارف.
فإذا كان هذا جبرائيل عليه السلام مع قربه من الله تعالى على ما سمع من الخوف من قيام الساعة، فكيف حال من هو مُكبل بالشهوات، ملطخ بالنجاسات، مُنكبٌّ على الزلَّات، عاكف على المعاصي والسيئات؟ اللهم يا غفار يا غفور أخرجنا من الظلمات إلى النور، وقُدنا إليك بسلاسل المحبة بيد التوفيق ويسِّر لنا الوصول إليك وسلوك الطريق.
قال: ورأيت فيهم مائة ملك مُقدمين على هؤلاء جميعهم، بأيديهم أعمدة من النور مكتوب على كل عمود اسمٌ من أسماء الله تعالى. قال: ثم رأيت سبعة من هذه الملائكة مُتقدِّمة على جميعهم يُسمَّون باسم الكروبيين، ومن بلغ من مرتبتهم من أهل الله تعالى. ورأيت ثلاثة متقدمة على هذه السبعة يُسمَّون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحدًا مُتقدمًا على جميعهم يُسمَّى عبد الله. قال: وهؤلاء كلهم من العالين الذين لم يؤمَروا بالسجود لآدم.
وقيل هم أربعة؛ اثنان بالليل واثنان بالنهار، وقيل خمسة؛ واحد لا يفارق في الليل ولا النهار، وأربعة يتعاقبون؛ اثنان في الليل، واثنان في النهار. واختلفت فيما يكتب عليه؛ فقيل كل شيءٍ حتى أنينه في مرضه، وقيل ما يكتب إلا ما يؤجَر عليه أو يوزَر. وعن الحسن أن الملائكة تجتنِب الإنسان عند غائطه، والظاهر أنه أراد الكتبة دون الحفظة.
وقال قُدِّس سرُّه في الكلام عن السماء الخامسة، وملائكة هذه السماء خلقهم الله تعالى مرائي للكمال، ومظاهر للجلال بهم عبد الله في الوجود، بهم دان أهل التقليد للحق بالسجود جعل الله عبادة هذه الملائكة كمثل تقريب وإيجاد الفقيه، فمنهم من عبادته تأسيس قواعد الإيمان في القلوب والجنان، ومنهم من عبادته طرد الكفار عن عالم الأسرار، ومنهم من عبادته شفاء المريض وجبر الكسير المهيض، ومنهم من خُلِق لقبض الأرواح بإذن الحاكم ولا جناح.
وقال قُدِّس سرُّه في الكلام عن السماء السادسة: جعل الله ميكائيل موكلًا بملائكتها وهم ملائكة جعلهم الله معارج الأنبياء ومراقي الأولياء، خلقهم الله تعالى لإيصال الرقائق إلى من اقتضتها له الحقائق، دأبهم دفع الوضيع وتسهيل الصعب المنيع، يجولون في الأرض بسبب رفع أهلها من ظلمة الخفض، فهم أهل البسط بين الملائكة والقبض، هم المُوكَّلون بإيصال الأرزاق إلى المرزوقين على قدر الوفاق، جعلهم الله من أهل البسط والخطوة فهم بين الملائكة مُجابو الدعوة لا يدعون لأحدٍ بشيءٍ إلا أُجيب، ولا يمرُّون بذي عاهة إلا يبرأ ويطيب إليهم. أشار — عليه الصلاة والسلام — في قوله فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة أُجيبت دعوته وحصلت بُغيته، فما كل ملكٍ تُجاب دعوته ولا كل حامدٍ يُستطاب ثناؤه ومدحته.
وقال قُدس سره في الكلام عن السماء الثانية: إن ملائكتها مخلوقون من نور القدرة، لا يتصور شيءٌ في عالم الوجود إلا وملائكتها المُتولية لتصوير ذلك المشهود ففي دقائق التقدير المحكمة في دقائق التصوير عليه يدور أمر الآيات القاهرة والمعجزات الظاهرة، ومنها تنشأ الكرامات الباهرة خلق الله من هذه السماء ملائكة ليس لهم عبادة إلا إرشاد الخلق إلى أنوار الحق انتهى.
تمام شد.
كاتب الحروف سيدي محمد مرتضى — عفا الله عنه — يبلك لا نبرير يبنه- رياح سنة ١٩٣١ع.