الفصل الحادي عشر

قدِّم هديةً لأي شخص

في صباح ٢٦ ديسمبر ٢٠٠٤، كانت بترا نمكوفا، عارضة الأزياء من جمهورية التشيك، وصديقها، سايمون آتلي، المصور الفوتوغرافي، يمضيان عطلة في منتجع على ساحل تايلاند حين تسبَّب زلزال في مدٍّ بحري (تسونامي) في المحيط الهندي. كانت بترا وسايمون في كوخهما حين اندلعت الموجة الأولى، لتُطيح بهما خارجه في لحظات. أصيبت بترا بكسرٍ في الحوض وإصابات داخلية حادة متعددة، لكنها أُنقذت بعد أن ظلَّت ثماني ساعات متشبثة بنخلة؛ أما سايمون فلم ينجُ.

بعد التعافي من إصاباتها، قرَّرت بترا العودة إلى تايلاند لمساعدة الآخرين الذين دمَّرت هذه الكارثة الطبيعية حياتهم. فأنشأت صندوق «هابي هارتس فاند»، المعني بإعادة بناء المدارس وإعانة صغار الضحايا. كان دافعها، على حدِّ تعبيرها، أنانيًّا نوعًا ما؛ إذ تقول: «حين نجعل شخصًا سعيدًا، نصير أشدَّ سعادة. إذا قررتَ أن تُقدِّم العون بطريقة أو أخرى، فستستفيد أنت أكثر لأن ذلك يمنحك شعورًا عارمًا بالفرح.»1

وفي هذا الفصل سأشرح لماذا العطاء هو أحد أفضل الطرق للعثور على السعادة. في حقيقة الأمر يزيد العطاء من سعادتنا ويُحسِّن حالتنا الصحية، بل ربما حتى يطيل أعمارنا. وربما الأهم أن أي نوع من العطاء مهم، بما يشمل إعطاء المال لمنظمات خيرية والتطوع في مجتمعك، بل وحتى التبرع بالدم.

البحث عن السعادة في الأماكن الخطأ

تخيَّل أنك وجدت ورقة بقيمة ٢٠ دولارًا مجعَّدة في سيارتك ذات صباح فقررتَ أن تنفق هذه «النقود المكتشَفة» لتُضفيَ على يومك بعض البهجة الإضافية. ما هو السبيل الأفضل لتحقيق هذا الهدف؟ قد يتصوَّر أكثر الناس مكافأةَ أنفسهم بشيء يحبونه — تناول الغداء في مطعمهم المفضَّل، أو شراء كتاب كانوا يريدون قراءته، أو الحصول على عناية بأظافرهم.

لكن يتَّضح أنَّ ظنَّنا بشأن الطريقة الأمثل لإنفاق هذه النقود خاطئ تمامًا. لمعرفة كيف يؤدي إنفاق المال بطرقٍ مختلفة إلى السعادة، سأل باحثون بطريقة عشوائية أشخاصًا في الشارع إن كانوا مُستعدِّين للمشاركة في دراسة نفسية سريعة.2 طُلب من الذين وافقوا تقييم لدرجة شعورهم بالسعادة والإدلاء بأرقام هواتفهم. ثم تسلَّموا مظروفًا به خمسة دولارات أو ٢٠ دولارًا. وطُلب منهم إنفاق النقود التي في المظروف بحلول الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم وأُعطُوا كذلك توجيهات محدَّدة بشأن سبيل إنفاق هذه النقود. فطُلب من مجموعة إنفاق المال على أنفسهم، بأن يُسدِّدوا فاتورة، أو يدفعوا مصروفات، أو يشتروا هدية لأنفسهم مثلًا. وطُلب من مجموعة أخرى من الأشخاص أن يُنفقوا النقود على شخص آخر، في صورة هدية أو تبرُّع خيري على سبيل المثال. ثم اتصل الباحثون بالمشاركين ذلك المساء، بعد أن أنفقوا النقود، وسُئلوا أن يُقيِّموا مقدار شعورهم بالسعادة.

ليس مُستغربًا أنه لم يكن ثمَّة اختلاف في السعادة بين مَن حصلوا على خمسة دولارات في مقابل مَن حصلوا على ٢٠ دولارًا. إلا أن الذين أنفقوا النقود على شخص آخر أعربوا عن مستوياتٍ أعلى من السعادة عن الذين أنفقوا المالَ على أنفسهم، رغم أنه لم يكن ثمَّة فرقٌ في مستوى السعادة بين الأشخاص في المجموعتين في بداية اليوم. إن الطريقةَ التي ننفق بها النقود هي التي تؤثِّر على ما نشعر به، وإنفاق مبلَغ صغير مثل خمسة دولارات على شخصٍ آخر — حتى إن كان شخصًا لا نعرفه — يزيد من مقدار سعادتنا.

في دراسة أخرى حول ما للعطاء من أثرٍ طيب في النفس بما يتجاوز حتى الاستئثار بالخير لأنفسنا، كشفت النتائج عن استنتاجات مشابهة. فقد أتاح الباحثون في هذه الدراسة للمشاركين خيار شراء حقيبة هدايا ترويجية بالنقود التي كسبوها نظير مساعدتهم في دراستهم.3 قيل لنصف المشاركين إن مِن حقِّهم الاحتفاظ بالحقيبة، في حين قيل للنصف الآخر إنَّ الحقيبة ستذهب تبرُّعًا لأحد الأطفال المرضى في مستشفًى محلي. وقد أعرب الناس الذين قيل لهم إن حقيبتهم ستئول إلى طفل مريض عن مستوياتٍ أعلى من السعادة عن أولئك الذين سُمح لهم بالاحتفاظ بحقيبتهم.

الشيء المثير للاهتمام بشدة في هذا البحث أن الناس دائمًا ما يُخطئون بشأن تقديرهم لأفضل سبيل لإنفاق نقودهم لتعزيز سعادتهم. في الواقع، يظنُّ أغلب الناس أن إنفاق المال على شيء لأنفسهم سيجعلهم أسعد ممَّا لو أنفقوه على شخص آخر. وللأسف يؤدي هذا الخطأ في الحدْس إلى عدم إنفاقنا نقودَنا على النحو الصحيح.

فائدة البذل للآخرين

تُثبت الأبحاث التي جاء شرحها حتى الآن كيف أن إنفاق مبالغ صغيرة على الآخرين يزيد من سعادتنا. ورغم أن هذه النتائج قد لا تنسجم مع حدْسنا بشأن الطريقة لبلوغ أكبر درجات السعادة، فهي ربما تنطبِق فقط حين نتحدَّث عن مبالغ صغيرة نسبيًّا.

لاستقصاء العلاقة بين المبالغ المالية الأكبر والسعادة، سأل باحثون بعض الأمريكيِّين في أنحاء البلاد كيف يُنفقون دخلهم السنوي عمومًا، وطلبوا منهم تحديد المستوى العام لسعادتهم.4 شملت المصروفات الشهرية الرئيسية التي أفاد بها الناس فواتير ونفقات (رهن/إيجار عقاري، سيارة، كهرباء)، وهدايا لأنفسهم (ملابس وحُلي وأجهزة إلكترونية)، وهدايا لآخرين، وتبرُّعات لجمعيات خيرية. وضم الباحثون أول فئتين — كمقياس «للإنفاق على النفس» — وثاني فئتين — كمقياس «للإنفاق على الآخرين». ثم تتبَّعوا الصلة بين السعادة وكل نوع من نوعي الإنفاق.

كانت النتائج التي توصَّلوا إليها واضحة جدًّا: لم يكن ثمة ارتباط بين السعادة والإنفاق الشخصي، مما يدلُّ على أن الأشياء التي يشتريها الناس لأنفسهم لا تأتي بالسعادة. على النقيض، كلما أنفق الناس على أشخاص آخرين — سواء كانوا يعرفونهم ويشترون لهم هدايا أو لا يعرفونهم لكن يتبرعون لهم عن طريق جمعيات خيرية — زادت سعادتهم. ظل هذا الارتباط بين العطاء والسعادة قائمًا حتى حين وضع الباحثون في الحسبان الدخل السنوي.

لكن من المشكلات التي تعتري هذه الدراسة أن الباحثين لم يستطيعوا أن يُحدِّدوا ما إن كان الكرم انعكاسًا لسعادة الناس أو سببًا لها؛ بعبارة أخرى، ربما أن الأشخاص السعداء أكثر عطاءً للآخرين وليس العطاء هو ما يُؤدي إلى السعادة. للإجابة عن هذا السؤال، أجرى هؤلاء الباحثون لاحقًا دراسة أخرى ليتحرَّوا فيها كيف ارتبط نوعٌ مُعيَّن من العطاء بالسعادة.

هذا البحث، الذي تحرَّى عن كيفية إنفاق الناس لعلاوة (قيمتها ٥٠٠٠ دولار تقريبًا) حصلوا عليها من شركتهم، كشف عن نتائج مطابِقة. فالأشخاص الذين أنفقوها على آخرين شعروا بسعادة أكبر من أولئك الذين أنفقوها على أنفسهم. وقد ظلت هذه النتيجة قائمة حتى حين وضع الباحثون في الحسبان إجمالي الدخل وكذلك حجم العلاوة. بإيجاز، الموظَّفون الذين خصَّصوا الجزء الأكبر من علاوتهم للإنفاق على الغير شعروا بسعادة أكبر بعد تلقِّيهم العلاوة، وكان الأسلوب الذي أنفقوا به تلك العلاوة باعثًا أهم على شعورهم بالسعادة من حجم العلاوة نفسها.

لا تزال الأدلة على العلاقة بين العطاء والسعادة تتجلَّى في دراسة بعد أخرى. فعلى سبيل المثال، اكتشف استقصاءٌ على مستوى العالَم أجْرته مؤسسة جالوب أن الأشخاص الذين تبرَّعوا لأهداف خيرية خلال الشهر السابق في ١٢٠ دولة من أصل ١٣٦ دولة أعربوا عن درجةٍ أعلى من الرضا عن الحياة.5 من ثَم فإنه حتى في الدول الفقيرة، تجد إنفاق المال على الآخرين باعثًا أقوى على السعادة من إنفاق المال على أنفسنا.

من البديهي أن تتطلَّب تلبية حاجاتنا الأساسية توجيهَ قدْر معقول من المال للإنفاق الشخصي. فالإنفاق الشخصي على كل حال يشمل العديد من الضروريات مثل مصروفات الرهن العقاري والغذاء والوقود. إلا أنَّ الإقدام على تغييرات ولو صغيرة لتوجيه المزيد من المال للإنفاق على الآخرين من الممكن أن يعود علينا بالمزيد من السعادة.

بذْلُك من وقتك أيضًا يُشعرك بالسعادة

رغم أنَّ العطاء بوجهٍ عام يُضاعف السعادة، فإننا نشعر بنشوة خاصة من العطاء بالطريقة التي تُتيح لنا تكوين روابط مع الآخرين. فعلى سبيل المثال، وزَّع باحثون في إحدى الدراسات قسائم مُشتريات لمقهى ستاربكس بقيمة ١٠ دولارات على الناس عشوائيًّا في الشارع.6 إلا أنَّ الذين حالفهم الحظُّ بالحصول عليها تلقَّوا توجيهات محدَّدة بخصوص السبيل لاستخدام هذه القسائم:
  • طُلب من بعض الأشخاص استخدام القسيمة باصطحاب شخص آخر لتناول القهوة.

  • طُلب من بعض الأشخاص التنازل عن القسيمة لشخصٍ آخر، وعدم اصطحاب ذلك الشخص إلى ستاربكس.

  • طُلب من بعض الأشخاص إنفاق القسيمة كاملة على أنفسهم بالذَّهاب إلى ستاربكس بمُفردهم.

  • طُلب من بعض الأشخاص الذهاب إلى ستاربكس مع صديق، لكن مع إنفاق القسيمة على أنفسهم فقط.

أتاح تصميم هذه الدراسة للباحثين التحقُّق من الفوائد النِّسبية لقضاء وقت مع صديق، وإعطاء هدية لشخص، وإعطاء الشخص هدية لنفسه.

وجد الباحثون أن الأشخاص الذين استخدموا القسيمة ليُفيدوا بها شخصًا آخر وقضوا الوقت مع ذلك الشخص في ستاربكس هم الذين أظهروا أعلى مستوًى من السعادة. إذن، العطاء مفيد، لكن العطاء الذي يشمل التفاعل مع الآخرين أبلغ فائدة.

وهذه النتيجة تُفسِّر لماذا التطوع، الذي يصل بين الناس ومُتطوِّعين آخرين وكذلك أصحاب الحاجة في المجتمع، يُعزِّز مشاعر السعادة.7 فمُقارنةً بالأشخاص الذين لا يتطوَّعُون مطلقًا، فإن الأشخاص الذين يتطوَّعون شهريًّا تزداد أرجحية شعورهم بأنهم «سعداء جدًّا» بنسبة ٧ في المائة، والأشخاص الذين يتطوَّعون تزداد أرجحية شعورهم بأنهم «سعداء جدًّا» بنسبة ١٦ في المائة.8 ثمَّة مقولة ملهمة غالبًا ما تُنسب للمهاتما غاندي تقول: «أفضل وسيلة للعثور على نفسك هي أن تكرس نفْسك لخِدمة الآخرين.»
الاستقصاءات القومية عن العلاقة بين العُصابية — مستوى الاكتئاب والقلق والتوتُّر لدى المشاركين — والتطوع تُعطينا دليلًا أقوى على أن العطاء يجعلنا سعداء. فالولايات التي بها أعلى معدَّلات التطوع — يوتا وساوث داكوتا ومينيسوتا — كلها من أقلِّ عشْر ولايات إصابة بالعُصابية. في المقابل، نرى أن الولايات التي يعاني سكانها معدَّلاتٍ أعلى من العُصابية لديها معدلات أدنى من التطوع.9 ورغم أن الولايات التي سكانها أكثر ثراءً تُظهر معدلات أعلى من التطوع، ربما لأنَّ المزيد من الدخل يسمح بمزيد من وقت الفراغ، هذه النتائج تضع في الحسبان مستويات الدخل للولاية بوجهٍ عام. لذلك فإنه حتى حين صنَّف الباحثون البيانات وفقًا للحالة المادية لكلِّ ولاية، أفادت الولايات الأعلى في معدلات التطوع بمعدلات أعلى من الرفاه العام أيضًا.

ما الذي يجعل العطاء مفيدًا لهذه الدرجة؟

قبل عدة سنوات، كنتُ أقود السيارة بصحبة أولادي متَّجهِين إلى ماكدونالدز المحلي حين تجاوَزت سيارةٌ الإشارة الحمراء وكادت تصدمنا أثناء انعطافي نحو موقف السيارات. انحرفت تلك السيارة وتوقَّفت في ناحية بينما انحرفت أنا، وتوقَّفت في الناحية الأخرى، وبمُعجزةٍ لم تصطدم السيارتان بسرعة بالغة. بعد أن تنفَّست الصعداء، دخلت بالسيارة في المسار المخصَّص للبيع … وعندئذٍ أدركت أن السيارة التي كادَت تصطدم بنا كانت أمامنا مباشرةً.

حدَّد السائق الآخر ما سيطلبه ثم مضى بالسيارة لتسلُّم طعامه عند النافذة. أثناء انتظاري في الصف، لاحظت أن قائد السيارة كان مُستغرقًا في حوار طويل جدًّا من خلال نافذة البيع — كأن موظَّف الخزينة كان ابن عمِّه الذي ضلَّ عنه منذ زمن طويل أو شيئًا من هذا القبيل. راح حنقي يزداد أكثر فأكثر؛ إذ بدأت تجربة شرائي من نافذة ماكدونالدز بأننا نجونا بأعجوبة من حادث سيارة ثم ها هي ذي تستغرق ٢٠ دقيقة.

أخيرًا، ابتعدت السيارة الأخرى عن النافذة، وأثناء ذلك، أنزل قائدها الزجاج وأخرج يده ملوِّحًا لي بتحية وجيزة.

عندئذٍ، كنت غاضبة بعض الشيء، فأنزلت زجاج نافذتي أنا أيضًا. وأومأت له إيماءةً من نوع آخر.

ثم توقَّفت بالسيارة للحصول على طعامي وناولت موظَّفة الخزانة بطاقة الائتمان، لكنها ردَّتها على الفور، قائلةً: «لقد حاسب ذلك السائق الآخر على طلبكِ بالكامل.»

هنا شعرت بإحراج شديد — فقد كان هذا، على كل حال، بمثابة اعتذار ذلك السائق عن الحادث الوشيك. («لقد كدتُ أقتلكِ، لكنكِ ستَحصُلين على شطيرة ماكفمافين مجانًا، بذلك نكون متعادلين، أليس كذلك؟») وللأسف، لم يكن في وسعي سحب تلك الإيماءة التي أومأتها له ولا تجنُّب رؤية أبنائي لها.

لماذا إذن دفع سائق السيارة حساب طعامي؟ بلا شكٍّ ليُرضي ضميره إزاء ما حدث — للاعتذار عن القيادة المتهوِّرة وأنه كاد يَصطدِم بي. لقد جعلتني هذه الحركة أصفو، لكنها جعلته هو الآخر أيضًا راضيًا عن نفسه.

وهذه القصة تُسلِّط الضوء على أحد الأسباب الرئيسية وراء كون إسداء العون يُكسبنا مشاعرَ طيبة؛ إذ يستطيع أن يخرجنا من حالات مزاجية سيئة. بل ومن الممكن حتى أن يساعد الناس على التعافي من الحزن، كما أوضحت في بداية هذا الفصل. وكما قال مارك توين: «أفضل طريقة لتُدخِل البهجة في نفسك هي أن تُحاول إدخال البهجة على شخص آخر.»10

تدعم الأبحاث العلمية التجريبية بشدة حدْس توين. من الممكن أن تُخفِّف مساعدةُ الناس من إحساسنا بالذنب وتُكفِّر عن خطأ اقترفناه، وهو ما يزيد بدورِه من شعورنا بالسعادة.

في واحدة من الدراسات، طلب الباحث من امرأة في الشارع أن تَلتقِط صورة له بكاميرا تبدو باهظة الثمن.11 وذكر أنَّ الكاميرا حسَّاسة، لكن كل ما يتعين عليها فعْله هو توجيهها والضغط على زر. لكنها حين ضغطت على الزر، لم تعمل الكاميرا. في بعض الأحيان، كان الرجل يتغاضى عن المشكلة بأن يقول: «إن الكاميرا كثيرًا ما تتعطَّل»، وفي أحيانٍ أخرى، كان يُشعِر المرأة بالذنب قائلًا لها إنها أتلفَت الكاميرا بالمبالغة في الضغط. بعد ذلك بينما كانت المرأة تمضي في الشارع، كانت امرأة أخرى تُسقِط ملفًّا مليئًا بالأوراق فتتناثر في الشارع.

مَن التي كانت تتوقَّف لمعاونتها في التقاط الأوراق؟ ٤٠ في المائة فقط من اللواتي لم يشعرن بالذنب ساعدْنها، في مقابل ٨٠ في المائة من اللائي شعرن بالذنب. تُوضِّح هذه الدراسة ببساطة كيف يمكِن أن يفيد العطاء في إخراجنا من حالة مزاجية سيئة.

للعطاء أثرٌ طيب في النفس

في عام ٢٠٠٧ مات باركر براون، ابن ابن عمي، في سن السابعة بسرطان الدم. لا شكَّ أن فقدان طفلٍ في تلك السن الصغيرة حدثٌ مأساوي ويغيِّر الحياة، لكن والدة باركر، سارا، كانت عازمة النية على أن يأتي خير من وراء وفاته. لذلك فقد طلبت من كل أصدقائها وأفراد أسرتها أن يُكرِموا ذكرى باركر بتسجيل أسمائهم في سجل التبرُّع بنخاع العظم.

وقد سجَّلت اسمي بدافع شعوري بالواجب. فقد كان ابني روبرت في نفس عمر باركر بالضبط، ولم أستطِع أن أتخيَّل حتى أنْ أمُرَّ بما كانت سارا تمرُّ به. لذلك فقد كان طلب التسجيل في سجل التبرُّع بنُخاع العظم طريقةً سهلة جدًّا لي للتعبير عن دعمي لسارا. فلم يكن التسجيل يستلزم سوى مسحةِ لعاب صغيرة بقطعة قطن، أجريتها في مطبخي ثم أرسلتها بالبريد.

لم يخطر السجل على بالي كثيرًا بعد ذلك، حتى تلقيت اتصالًا في خريف ٢٠١٥. فسمعت مَن يقول لي: «يبدو أنكِ قد تكونين مناسِبة للتبرُّع لأحد الأشخاص.» وبعد شهر، أمضيت يومًا في المستشفى لأخضع للإجراء الطبي اللازم.

أثناء مغادرتي المستشفى ذلك المساء، شعرت بفرحةٍ عارمة. فقد تسنَّت لي فرصة إنقاذ شخص على كل حال. ورغم أنني لا أعرف هذا الشخص، وربما لا ألتقي به أبدًا، فقد كانت هذه التجارب من أكثر التجارب البنَّاءة التي مررت بها على الإطلاق.

توضح هذه القصة كيف أن العطاء لا يساعد شخصًا آخر فحسب — بل يُساعدنا أيضًا على الشعور بالرضا. تذكَّر مرة حرَّرت فيها شيكًا لجمعية خيرية، أو أعطيت نقودًا لشخص مشرَّد، أو ساعدت غريبًا ضلَّ الطريق واحتاج إلى مَن يدُله. ربما كان دافعك للعطاء في تلك المواقف كلها أن تكون طيبًا أو كريمًا — أن تساعد شخصًا آخر. لكن كل أنواع العطاء هذه تجعلنا نحن أيضًا أشدَّ سعادة.

العطاء مُفيد للمخ أيضًا

بعد كل كارثة طبيعية — من حرائق الغابات التي اشتعلت في كاليفورنيا إلى الأعاصير التي أغرقت تكساس — يتقدَّم الغرباء لتقديم العون بطريقةٍ أو بأُخرى. بعض الناس يتبرَّعون بالمال والمؤن، ويُساعد آخرون بالبحث عن ناجين وإعادة إعمار المجتمعات المحلية. تحدُث أعمال المروءة هذه تلقائيًّا، ومن دون نفعٍ ظاهر لفاعل الخير.

لماذا يبذل الكثير جدًّا من الناس من وقتهم ومالهم وزادهم طواعيةً لأشخاص آخرين لم يلتقوا بهم قط، وربما يعيشون في الجهة الأخرى من البلد — أو حتى الجانب الآخر من العالم؟ قد يكون العطاء بحقٍّ هو ما يُساعد نوعنا على البقاء؛ ومن ثَم فقد كُتب له البقاء بناءً عليه من منظور التطور. بعبارة أدق، الذين يُساعدون الآخرين غالبًا ما يتلقون مساعدةً في المقابل، وهو ما يزيد من احتمال بقائهم (وجيناتهم).

وانسجامًا مع هذا الرأي، نجد العلاقة بين العطاء والشعور بالرضا قائمة حتى بين الأطفال الصغار، الذين لا يمكن حقًّا أن يكونوا قد بلغوا مرحلةَ فهْم تقدير المجتمع للعطاء. فعلى سبيل المثال، يشعر الأطفال في سن سنتين بالسعادة حين يعطون حلوى — مثل بسكويت جولدفيش — لأطفال آخرين تفوق سعادتهم حين يحتفظون بالحلوى لأنفسهم.12
تأكيد آخر للرأي القائل بأن العطاء قد يكون موجودًا في جيناتنا يأتي من أبحاثٍ حديثة في علم الأعصاب. فعلى سبيل المثال، وضع الباحثون في إحدى الدراسات المشاركين في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لقياس تنشيط مخِّهم، ثم طلبوا منهم تأمُّل تلقي نقود لأنفسهم أو التبرُّع بالمال لمنظَّمة خيرية.13 مجرد التفكير في العطاء نشَّط جزءًا من المخ يعالج تجارب المكافأة؛ في الواقع، هذا هو الجزء الذي ينشط في المخ عند تناول الشوكولاتة! (وكذلك عند تعاطي الكوكايين، لكن يبدو ذلك مثالًا غير ملائم.) على النقيض، تلقِّي المال لأنفسنا يؤدِّي إلى مستوياتٍ أدنى من تنشيط المخ، مما يُوحي بأن العطاء أفضل أثرًا في النفس من الاستئثار بالأشياء لأنفسنا.
يكون ذلك التنشيط أكبر حين يختار الناس التبرعَ طواعيةً مقارنةً بما يكون عليه الحال حين يُطلَب منهم ذلك. لكن حتى التبرُّع الإجباري لمنظمات خيرية يثير بعض النشاط في المخ، مما يُشير إلى أن فعل العطاء في حدِّ ذاته يخلق شعورًا بالرضا.14

العطاء مفيد لصحتنا

إليك سببًا آخرَ من الأسباب التي تجعل العطاء فكرةً مُستحسنة: العطاء مُفيد لصحَّتنا فعليًّا. في الواقع، يرتبِط العطاء للآخرين بفوائد صحية حتى بين الأشخاص الذين يُعانون أمراضًا مزمنةً خطيرة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والإيدز.15
في إحدى الدراسات، أُعطي أشخاص يُعانون ارتفاعَ ضغطِ الدم ١٢٠ دولارًا، وطُلب منهم أن يُنفقوا هذه النقود على أنفسهم أو على أشخاص آخرين خلال ستة أسابيع.16 كان الأشخاص الذين طُلب منهم إنفاق المال على آخرين لديهم معدلات أدنى من ضغط الدم عند المتابعة، مما يُوحي بأن العطاء قد يُفيد صحة المُعطي بشكلٍ مباشر. وكشفت دراسة أطول امتدَّت على مدار سنتَين عن نتائج شبيهة؛ في الواقع، كلما زاد إنفاق الناس على غيرهم، كان ضغط دمهم أقل. لذلك فإن حثَّ الناس على الكرم مع الآخرين قد يكون بنفس فاعلية البدء في تمرين روتيني أو حتى تعاطي دواء.
لماذا يُؤدِّي العطاء لمثل تلك النتائج الصحية الإيجابية؟ يبدو أن تقديم العون للآخرين يحمينا من الآثار السلبية للضغط النفسي.17 إليك مثالًا بسيطًا لأنواعٍ بسيطة حتى من العطاء: الأشخاص الذين يتعرَّضون للضغط العصبي في يوم يُفيدون عامةً بشعورهم بالاستياء.18 لكن الذين يقدِمون على أيٍّ من أنواع سلوكيات الإحسان للآخرين — بدءًا من إمساك الباب ليدخل منه شخص، وصولًا إلى الاستفسار إن كان أحدٌ يريد مساعدة — لا يَشعرون بالتأثيرات السلبية للضغط النفسي على حالتهم المزاجية.
كما أوضحت في الفصل الثاني، يضرُّ الضغط النفسي المرتفع بالصحة؛ لذلك فإن الأشخاص الذين يجدون طرقًا للسيطرة على هذا الضغط يحدُّون من آثاره الفسيولوجية السلبية على الصحة. يتمتَّع الأشخاص الذين يقدِّمون الدعم الاجتماعي للآخرين بمعدلاتٍ أدنى من ضغط الدم ومعدلاتٍ أعلى من الأوكسيتوسين، أحد الهرمونات التي تعزِّز مشاعر القرب من الآخرين، مما يدُل على أنه قد يكون للعطاء فوائد فسيولوجية مرتبطة بالصحة ارتباطًا مباشرًا.19
الأهم أن العطاء من الممكن أن يُطيل العمر. رغم أننا كثيرًا ما نفترض — عن حق — أنَّ تلقِّي الدعم الاجتماعي يساعد على التخفيف من الآثار السلبية للضَّغط النفسي، فإنَّ تقديم العون للآخَرين هو الآخر يعود بفوائد صحية هامة. في الواقع، اكتشفت دراسة عن المتزوِّجين من كبار السن أن الأشخاص الذين كانوا يقدِّمون العون لأصدقائهم أو أقاربهم أو جيرانهم كان خطر تعرُّضهم للوفاة خلال السنوات الخمس التالية أقل مقارنةً بمن لم يفعلوا ذلك.20 من جهة أخرى، لم يرتبط تلقي العون بانخفاض خطر التعرُّض للوفاة.
درس باحثون في إحدى الدراسات معدَّلات التطوع لدى عينة من كبار السن الذين يعيشون في كاليفورنيا.21 ثم درسوا معدَّل البقاء على قيد الحياة بين هؤلاء الأشخاص بعد خمس سنوات. وُجد أن الأشخاص الذين كانوا يتطوَّعون لاثنين من المنظمات أو أكثر كان احتمال تعرُّضهم للوفاة أقل بنسبة ٤٤ في المائة خلال فترة المتابعة مقارنةً بالأشخاص الذين لم يتطوَّعوا. هذه الفجوة في متوسِّط العمر المتوقَّع بين المتطوعين وغير المتطوعين ظلت موجودة حتى حين وضع الباحثون في اعتبارهم عوامل أخرى تؤثِّر على طول العمر، مثل السن والحالة الصحية العامة والتدخين وممارسة الرياضة.
تحقَّق الباحثون مباشرةً في دراسة مثيرةٍ للفضول مما إذا كان تقديم العون للآخرين له فائدة خاصة لمن يتعرَّضون لضغوط نفسية كبرى.22 أولًا: كشفت نتائجهم عن أن المسنِّين الذين عانوا حدثًا واحدًا مُثيرًا للضغط النفسي على الأقل — مثل مرض خطير، أو خسارة وظيفة، أو موت شخص عزيز — خلال العام السابق كانوا أكثر عرضة للموت خلال السنوات الخمس التالية.

بيْد أن تأثير هذا الحدث المثير للضغط النفسي تفاوت تفاوتًا كبيرًا باختلاف الأشخاص. فالأشخاص الذين لم يُفيدوا بقيامهم بسلوكيات مفيدة تجاه الآخرين كانوا أدنى في البقاء على قيد الحياة بنحو ٣٠ في المائة خلال السنوات الخمس التالية. أما الأشخاص الذين أفادوا بمساعدتهم للآخرين، فلم يكونوا أكثرَ عرضة للوفاة. هذه النتائج دليلٌ قوي على أن مساعدة الآخرين من الممكن أن تزيد فعليًّا من متوسِّط العمر المتوقَّع.

هذه البيانات مهمَّة على وجه الخصوص؛ لأننا كثيرًا ما نسمع عن مزايا اللجوء للدعم الاجتماعي في أوقات الضغط النفسي، لكنَّنا لا نسمع كثيرًا عن فوائد مساعدة الآخرين. وكما يُشير الباحثون الذين أجرَوا هذه الدراسة: «دائمًا ما تُنصَح الجماعات المعرَّضة للخطر بالتماس الدعم من شبكاتها الاجتماعية. وهناك رسالة أقل شيوعًا، وإن كانت تستحق المزيد من التشديد، تتمثَّل في أن يقدِّموا هم أنفسهم الدعم للآخرين أيضًا.»

والدوافع مهمة أيضًا

دعوني أنهي كلامي بالتنبيه على أمرٍ مُهم؛ وهو أن الدوافع مهمَّة. فنحن نحصد أكثر فوائد العطاء للآخرين حين نختار العطاء بمحض إرادتنا؛ أما الأشخاص الذين يُطلب منهم البذل من أجل الآخرين — لتتذكَّر برامج التطوع الإجبارية أثناء الدراسة — فلن يشعروا بنفس الارتفاع في المعنويات الذي يأتي من تقديم العون على الإطلاق.

في إحدى الدراسات، طلب باحثون من طلبة جامعيِّين أن يُداوموا على كتابة مذكراتهم لمدة أسبوعين حيث يُدوِّنون فيها كيف كان شعورهم كل يوم وما إذا كانوا ساعدوا شخصًا آخر أو فعلوا شيئًا في سبيل هدف نبيل.23 وكما توقَّعوا، كان شعور الطلاب أفضل في الأيام التي أتَوا فيها بأي سلوك من السلوكيات الإيجابية تجاه الآخرين.

غير أن الفوائد التي تعود على الفرد من مساعدة الآخرين لم تُشهد إلا حين أقدَم الطلاب على المساعدة لأنهم أرادوا ذلك؛ أما الطلاب الذين طُلب منهم أن يُقدِّموا المساعدة أو شعروا بأنهم مضطرون لذلك، أو أن الآخرين سيَغضبون منهم، فلم يشعروا بتلك الفوائد.

بالمثل، يُساعد التطوُّع على تخفيف الآثار السَّلبية للضغط النفسي على الصحة، ويُؤدِّي إلى ارتفاع متوسط العمر، لكن فقط لأولئك الذين يهتمُّون بالآخرين ويرغبون بحق في تقديم العون.24 فالذين يتطوَّعون بدافع من عطف حقيقي تجاه الآخرين تكون أعمارهم أطولَ ممن لا يتطوعون.25 لكن الذين يتطوَّعون بدوافع شخصية، مثل الشعور بالرضا عن أنفسهم أو الهروب من مشكلاتهم، لا يعيشون أعمارًا أطولَ ممن لا يتطوعون.

خلاصة القول

إذا أردت أن تكون سعيدًا لساعة، فانعَم بغفوة.
إذا أردت أن تكون سعيدًا ليوم، فاذهب للصيد.
إذا أردت أن تكون سعيدًا لسنة، فلتَرِث ثروة.
إذا أردت أن تكون سعيدًا مدى الحياة، فساعِد شخصًا آخر.

كما يخبرنا هذا القول الصيني المأثور، بأن العطاء واحد من أفضل الطرق للعُثور على السعادة. عِلاوة على ذلك فإن المساعدة بأيٍّ من الطرق المختلفة تجعلك في حالةٍ من الانشراح؛ سواء بالتبرع لعمل خيري، أو التطوع، أو إعطاء هدية لصديق، أو شراء قهوة لغريب، وما إلى ذلك. تعود علينا طرقُ العطاء المختلِفة كلُّها بطريقة تفكير أكثرَ إيجابية وتعاطفٍ مع الآخرين، وهو ما يجعلنا بدوره نشعر بالانشراح.

بناءً على ذلك، فلتتبيَّن أيٌّ من أنواع العطاء يجعلك أكثرَ شعورًا بالرضا، وضعْ خطة. خصِّص كلَّ أسبوع ٢٠ دولارًا واعزم على إنفاقها على شخصٍ آخر خلال الأسبوع — فلتُعطِها لشخص مشرَّد، أو ادعُ صديقًا للغداء، أو اشترِ قهوة لزملائك في العمل. اكتب خطابًا كلَّ شهر لشخصٍ تقدِّره. اقضِ بضع ساعات كل شهر في التطوع.

إليك بعض الاستراتيجيات المحدَّدة البسيطة نسبيًّا التي يمكننا استخدامها لزيادة السعادة في حياتنا بالعطاء.

عليك بأداء أفعال خير عشوائية

نسمع كلنا عن أغراب يؤدُّون أعمال خير عشوائية، بدءًا من أشخاصٍ يدفعون حساب السيارة التالية لهم في صفوف الانتظار الطويلة للشراء من منافذ بيع ستاربكس، وصولًا إلى غرباء يُسدِّدون قيمة مشترياتٍ حُفظت في متاجر «تويز آر أس» بعد حجزها بعربون خلال العطلات. هذه التصرفات اللطيفة العشوائية أمثلة مؤثِّرة لقوة العطاء — من دون توقُّع الحصول على شيء في المقابل.

لكن تخبرنا الأبحاث العلمية الآن بأن العطاء المجرَّد من المصلحة يؤدي إلى فوائد ملموسة — لمن أعطى، وليس المُتلقي فقط. في الواقع، عبَّر الأشخاص الذين ظلُّوا يُؤدون أعمالًا لطيفة عشوائيًّا كل يوم على مدار ١٠ أيام عن إحساسهم بتنامي شعورهم بالسَّعادة بدرجة بالغة.26
لذلك ابحث في حياتك اليومية عن أفعالٍ بسيطة تُحسِن بها إلى الآخرين. وإليك بعضَ الأمثلة السهلة:
  • اشترِ قهوة لزميل في العمل أو جار أو صديق.

  • أثنِ على غريب بالشكر والمدح.

  • ادفع إكرامية كبيرة.

  • اسمح لسيارة بتجاوزك على الطريق.

  • تبرَّع بالدم.

  • سجِّل اسمك للتبرُّع بنُخاع العظم (فقد تُنقِذ حياة شخص بذلك).

  • تجوَّل بأدواتِ عنايةٍ معها موادُّ غذائية بسيطة وأعطِها للمشردين.

أعمال الإحسان العشوائية مؤثِّرة بالأخص مع الأشخاص الذين يمرُّون بوقت عصيب. بعد وفاة أمي، أدركت مدى صعوبة عيد الأم وعيد الأب على الناس الذين فقدوا أحد والديهم؛ لذلك فإنني أرسل بريدًا إلكترونيًّا لكل أصدقائي الذين عانوا هذه الخسارةَ لأخبرهم أنني أفكِّر فيهم في ذلك اليوم. وتشتري أسرتي هدايا كلَّ عام في الأعياد للأطفال الذين يعيشون في دُور الكفالة لمساعدتهم على الشعور بمشاعر أفضلَ في هذا اليوم مما كان سيُصبح عليه الحال خلافًا لذلك. ابحث عن سبلٍ تؤدي بها أفعال إحسان عشوائية تلائم حياتك؛ فالعديد منها لفتات بسيطة من الممكن أن تأتي بنتائج كبيرة.

تبرَّع بطرقٍ ملموسة

العطاء من الممكن أن يأخذ أشكالًا عدة؛ فمن الممكن أن نتبرع بمالٍ لمؤسسات خيرية كبيرة مثل الجمعية الأمريكية لمقاومة القسوة ضد الحيوانات أو جمعية «سييرا كلوب»، أو التطوع بوقتنا لمطعمٍ للفقراء في منطقتنا أو إسداء النُّصح والتوجيه للصغار، أو التبرُّع بالدم عن طريق الصليب الأحمر الأمريكي. ورغم أن طرق العطاء هذه كلها من الممكن أن تسفِر عن نتيجة إيجابية، قد تتفاوت درجات السعادة الناجمة عنها حسب طريقة العطاء ذاتها.

أفضل أشكال العطاء هو الذي نَشعُر فيه بمغزًى شخصي. بالنسبة إلى البعض، قد يكون هذا بالتبرع لقضايا بيئية، بينما قد يكون بالنسبة إلى الآخرين، بالتبرُّع لمنظمة لإنقاذ الحيوانات، أو لجنة للعمل السياسي، أو مطعم محلي لإطعام المحتاجين.

كما أننا نُظهِر تناميًا هائلًا في مستوى سعادتنا حين يُحدِث تبرُّعنا أثرًا ملموسًا. فعلى سبيل المثال، يشعر الأشخاص الذين يتبرَّعون من أجل «سبريد ذا نيت» (وهي منظمة توفِّر ناموسيات للوقاية من الملاريا في أفريقيا جنوب الصحراء) بسعادة أكبر ممَّن يسهِمون في صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف).27 لماذا؟ تساعد تبرُّعات صندوق الأمم المتحدة للطفولة الأطفالَ بشتَّى الطرق في أنحاء العالم. لا شك أنها منظمة مهمة تُسدي خدمات عظيمة للأطفال، لكن من الصعب أن يرى المتبرِّعون بالضبط ما لإسهامهم من أثر كبير. على النقيض، تُخبر «سبريد ذات نيت» المتبرعين أن كل تبرُّع بقيمة ١٠ دولارات يعني إرسال ناموسية واحدة للوقاية من الملاريا لإحدى الأسر، وأن الناموسية الواحدة من الممكن أن تحميَ خمسة أطفال لخمس سنوات. وبذلك يكون للتبرع الصغير تأثير واضح وقوي وملموس.

إذن للعطاء عامةً أثرٌ طيب على نفس، لكن يكون أثره أفضل حين ندرك قيمة العطاء في العالم الواقعي ونقدرها.

اكتب خطاب امتنان

ركَّز هذا الفصل على أنواعٍ مختلفة من العطاء — مال ووقت ودم، وغير ذلك. لكن الإقرار بالشكر للآخرين هو الآخر طريقة قوية لتعزيز شعورنا بالسعادة.

استراتيجية خطاب الامتنان، التي ابتكرها الدكتور مارتن سليجمان من جامعة بنسلفانيا، تطالب الناس بالتفكير في شخصٍ كان مهمًّا في تغيير حياتهم أو الارتقاء بها لما هو أفضل.28 ربما يخطر ببالك معلِّم أو رئيس في العمل أو جار — لا يهمُّ مَن يكون هذا الشخص، أو الطريقة المحدَّدة التي شكَّل بها ذلك الشخص حياتك. كلُّ ما يهم أن يكون شخصًا تشعر بامتنان لمعرفتك إياه.

بعد أن تتبيَّن مَن ينطبِق عليه ذلك الوصف، عليك عندئذٍ أن تكتب خطاب امتنان لهذا الشخص، ذاكرًا بالتحديد ما فعَله من أجلك وكيف شكَّل حياتك.

بعد ذلك، وقد تكون هذه الخطوة الأهم، اذهب لزيارة ذلك الشخص واقرأ الخطاب بصوتٍ عالٍ. فإن مشاعر السعادة — لدى كلٍّ من الشخص الذي يقرأ الخطاب والشخص الذي يسمعه — من الممكن أن تبلغ ذروتها بحق، ولك أن تتخيل.

حين أفكِّر في أكثر شخص أشعر نحوه بامتنان لدوره في تشكيل حياتي، يَخطر لي معلم اللغة الإنجليزية في الصف السابع والثامن، يوجين دورتي. كان السيد يوجين دورتي قد شارك في الحرب العالمية الثانية وفقَدَ ذراعه اليمنى في معركة إيو جيما. فكان يسير في الفصل بخطافٍ فضي مخيف الشكل (إذ كان هذا إبَّان أوائل الثمانينيات، ولم تكن الأجهزة التعويضية كما هي الآن مطلقًا) — كان يبدو مثل خطاف القبطان هوك بالضبط. كان السيد دورتي يكتب على السبورة واضعًا قطعة الطباشير في خطافه، ويدخن السجائر باستمرار أثناء الدرس (مرة أخرى، كان ذلك زمنًا مختلفًا!) والسيجارة مثبَّتة في خطافه. لذلك فقد كان مخيفًا بعض الشيء إجمالًا.

لكنَّ كل ورقة كتبتها يومًا في مادَّته كانت تعود بالكثير والكثير من الملاحظات — «أسهبي الحديث»، «وضِّحي»، «استخدام جيد للتفاصيل»، «اروي المزيدَ بهذا الشأن»، وهكذا. وقد واصلت الدراسة في ستانفورد وبرينستون، لكنَّني تعلَّمت كيف أكتب من السيد دورتي. وكانت هذه الملاحظات عن كتابتي أول ما جعلني أفهم أهمية المراجعة كاستراتيجية رئيسية لتحسين كتابتي ولا شكَّ أنها قد شكَّلت مساري المِهَني وغيَّرته: فإنني أكسب عيشي الآن بالكتابة (مقالات وفصول وكتب).

لكنني مع الأسف تعلَّمت قيمة خطابات الامتنان بعد فوات الأوان. فقد كتبت خطاب الامتنان لأرملة السيد دورتي بعد أن علمت بوفاته.

لدينا إذن عبرةٌ مهمة بحق في هذه الاستراتيجية الباعثة على السعادة: لا تَحتفِظ بكلماتك الطيبة لحين التأبين، الذي كثيرًا ما يكون المناسبة الوحيدة التي نعبِّر فيها عن قيمة أحد الأشخاص لدينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤