الفصل الثاني عشر

كوِّن علاقات: كلُّ ما تحتاجه هو الحب

في عام ١٩٧٤، كانت لورا كارستنسن ذات الواحد والعشرين ربيعًا في طريقها إلى المنزل بعد حفل موسيقي حين انقلب السائق، الذي كان قد احتسى الخمر، بالسيارة على الرصيف. عانت لورا إصابةً بالغةً في الرأس، وعدةَ كسور في العظام، ونَزيفًا داخليًّا، وأمضت شهورًا تتعافى في المستشفى.

بينما كانت مُستلقية في ذلك الفراش وقد أدركت كم دنت من الموت، صارت لورا واعيةً بأن كل الأشياء التي كانت تظنُّ أنها مهمة لها — ما كانت ستفعله بحياتها، وما إن كانت ستصير ناجحة، وما إلى ذلك — صار بلا أهمية بشكلٍ مفاجئ. توضح ذلك بقولها: «المهم هو الأشخاص الآخرون الموجودون في حياتي.»1

كان ذلك الإدراك بدايةَ ما سيُصبح عملَ حياتها. فبعد التعافي من الحادث، تلقَّت محاضرات جامعية، ثم واصلت حتى حصلت على درجة جامعية في علم النفس. وهي اليوم أستاذة علم نفس في جامعة ستانفورد. وكما ستعلم أثناء قراءتك هذا الفصل، تُعنى أبحاث الأستاذة لورا بتقصِّي الطريقة التي تُؤثر بها أفكارنا عن الوقت المتبقي لنا على قيد الحياة على الأسلوب الذي نمضي به وقتنا.

إذن، ما الذي يُعطيه الناس الأولوية حين يعتقدون أن الوقت يداهمهم؟ العلاقات. لقد أوضحت على امتداد هذا الكتاب العوامل التي تزيد من إحساسنا بالسعادة. ورغم أن هذه العوامل — إنفاق المال على التجارب، وإعطاء الهدايا، وممارسة الرياضة، وسائر تلك الأشياء — تجعلنا بحق أشدَّ سعادة، فإن الباعث الأكبر الأوحد على الرضا عن الحياة هو طبيعة علاقاتنا. فكما يوضح دانيل جيلبرت الأستاذ بجامعة هارفارد: «نشعر بالسعادة حين يكون لدينا أسرة، نشعر بالسعادة حين يكون لدينا أصدقاء، أما سائر الأشياء التي نعتقد أنها تجعلنا سعداء فكلها تقريبًا في الواقع مجرَّد طرقٍ لتقوية علاقاتنا بأسرتنا وأصدقائنا.»2
إحدى أوائل الدراسات التي دلَّلت على أهمية إقامة علاقات شخصية وثيقة تقصَّت العوامل الباعثة على رفاه الإنسان من المراهقة وحتى نهاية حياته.3 كانت النتائج واضحة: كان الباعث الحقيقي والمتواتِر الأوحد على السعادة هو العلاقات. وكما قال الدكتور جورج فاليانت، كبير الباحثين في هذه الدراسة، ثمَّة ركيزتان للسعادة: «إحداهما هي الحب. والأخرى هي العثور على طريقةٍ للتأقلم مع الحياة دون الإطاحة بالحب.» وما زالت الأبحاث اللاحِقة تؤكد هذا الاستنتاج مرة تلو الأخرى.

في هذا الفصل، سأشرح لماذا يُعَد استثمار الوقت والطاقة في بناء علاقاتٍ وثيقة والحفاظ عليها هو السبيل الأفضل الأوحد لعيش حياة أطول وأهنأ. إن الحفاظ على علاقات طيبة في حد ذاته لا يجعلنا سعداء؛ فمن الممكن أن تكون لدينا علاقات طيبة ورغم ذلك؛ لأي سبب كان، نشعر بالتعاسة. لكن إذا كنا نفتقر إلى العلاقات الطيبة، فمهما كان ما لدينا، فلن نشعر بالسعادة.

أهمية الأحاديث الهادفة

لديَّ صديقة عزيزة لا أراها كثيرًا، لكننا نتناول الغداء معًا كل بضعة أشهر. وفي كل مرة نجتمع، تكون أحاديثنا حميمة وعميقة — عن طلاق، أو تعثُّر أحد الأبناء في دراسته، أو تشخيص بالسرطان، وما إلى ذلك. كلما اجتمعنا، ولو لساعة أو ساعتين فقط، شعرتُ بترابط ودفء وسعادة بالغة. إن علاقتنا الوثيقة بالآخرين تمنحنا فرصًا للتمتُّع بهذا النوع من الأحاديث العميقة الحقيقية عن الأشياء التي تعنينا. وهذه التفاعلات باعثٌ قوي على الإحساس بالسعادة.

تحرَّى الباحثون في إحدى الدراسات أنماط الحوار لدى ٧٩ رجلًا وامرأة في سن الجامعة على مدار أربعة أيام.4 ظلَّ المشاركون يَحملون جهازَ تسجيل مُتواريًا في جيوبهم أو حقائبهم، وكان الباحثون يسجِّلون ٣٠ ثانية من كل ١٢ دقيقةً ونصف الدقيقة من الصوت، فجمعوا أكثر من ٢٠ ألف مقطع سمعي من الأصوات في الحياة اليومية للمشاركين.

ثم استمع الباحثون إلى التسجيلات وصنَّفوا عدد الأحاديث التي أجراها كلٌّ من المشاركين. كذلك تحقَّقوا مما إذا كان كل حديث من الأحاديث صادقًا (على غرار: «هل كانت متيمةً بأبيك؟ هل انفصلا سريعًا بعد ذلك إذن؟») أو سطحيًّا (على غرار: «ماذا لديك؟ فشار؟»). كذلك قاسُوا المستوى العام للسَّعادة لدى كل واحد من المشاركين.

وقد كشفت هذه النتائج عن اختلافات بالغة في كلٍّ من كمية تفاعلات الناس ونوعيتها. فأولًا: الأشخاص الذين عُدوا الأكثر سعادة أمضَوا وقتًا أقل بمُفردهم بنحو ٢٥ في المائة ووقتًا أكثر في الحديث مع الآخرين بنسبة ٧٠ في المائة، مقارنةً بالأشخاص الأشد تعاسة. بالإضافة إلى ذلك، كان المشاركون الأكثر سعادة يحظون بضعف عدد الأحاديث العميقة، وثلث عدد الأحاديث السطحية تقريبًا. إذن فإن الأشخاص السعداء يقضون فعلًا وقتًا أكثر في الحديث مع الآخرين، لكنهم لا يقضُون هذا الوقت في ثرثرة فارغة. وإنما يقضُون وقتًا أكثر في إجراء أحاديث مُثمرة وعميقة — وهي عينها نوعية التفاعلات التي نعلم أنها تساعد على بناء علاقات قوية.

إنَّ اكتشاف أنَّ أشد الناس سعادة هم الأكثر اشتراكًا في أحاديث مثمرة لهو اكتشاف بالغ الأهمية في عالم اليوم، حين نضع في الاعتبار الاعتماد الشديد على التكنولوجيا كنوع من أنواع التواصل. حيث لا «يتواصل» الكثير من الناس إلا بمقتطفات موجزة عن طريق الرسائل والتغريدات. هل سبق أن أجريت يومًا حديثًا مع شخص في نفس الوقت الذي كان يرسل فيه رسالة أو يتفحَّص بريده الإلكتروني؟ هذا النوع من الأحاديث ليس صادقًا. وكما سأوضح لاحقًا في هذا الفصل، فإن مجرد وجود الهاتف المحمول يُضعف من مستوى جودة أحاديثنا.

لماذا تجعلنا الأحاديث الهادفة في حالة طيبة؟ إنها تمنحنا الدعم الاجتماعي — إذ يطيب لنا أن نشعر بأن هناك مَن يُحبنا ويحترمنا.5 كما أنها تُتيح لنا أن نكون على طبيعتنا، أن نكون صادقين. وكما أوضحت في الفصل السادس، صارت العديد من أحاديثنا العابرة أقل صدقًا؛ لأنَّنا غالبًا ما نُعطي صورًا مثالية عن ذواتنا، مُقتصِرين على الإفصاح عن الجوانب الإيجابية فقط من حياتنا. أما التفاعل مع الأشخاص المُقربين، الذين يستحسِنوننا ويسمحون لنا بأن نكون على طبيعتنا بحق، فله أثرٌ طيب للغاية في النفس.
مع أن الأبحاثَ تُؤكِّد بقوة قيمةَ الأحاديث العميقة، فإن حتى التفاعلات الشخصية الموجزة مع الغرباء من الممكن أن تزيد المشاعرَ الإيجابية. وبالمثل، الأشخاص الذين يُفيدون بدخولهم في تفاعُلات عابرة أكثر مع الآخرين — كأن يُحيُّوا موظَّفًا في متجر، أو يتحدَّثوا حديثًا عابرًا مع زملاء العمل أو الجيران، أو غير ذلك — في أحد الأيام يعربون عن إحساسهم بقدرٍ أكبر من الانتماء والسعادة.6
في إحدى الدراسات، رشا الباحثون الناسَ في المواصلات العامة — بقسائم مشترياتٍ قيمتها خمسة دولارات لستاربكس — لبدء حديثٍ مع شخص غريب.7 كان راكبو الحافلات والقطارات هؤلاء مُتردِّدين في البداية إزاء الاشتراك، من ناحية لأنهم افترضوا أن الغرباء لن يكونوا مرحبين تمامًا لمبادرتهم. إلا أن أغلب الناس كانوا مسرورين بإجرائهم حديثًا عابرًا مع شخص غريب عنهم. عِلاوةً على ذلك فإن الناس التي أجْرت تلك الأحاديث أفادت فيما بعدُ بدرجات أعلى من السعادة عن أولئك الذين اكتفَوا بالجلوس وحدَهم.

يبدو جليًّا أن أيَّ نوع من الترابط الإنساني — بما في ذلك التواصل مع شخص غريب عنَّا — من الممكن أن يمنح إحساسًا بالتفاعل الشخصي الذي يزيد المشاعر الإيجابية. من ثَم فإن من الطرق البسيطة التي تعزِّز مشاعرَ السعادة — سعادتنا وسعادة الآخرين — أن نحاول إجراء تلك التفاعلات. لذلك فلتهتمَّ بالابتسام للغرباء، وإجراءِ الأحاديث القصيرة أثناء انتظارك في الطابور، وتبادل التحيات مع الجيران وزملاء العمل. فحتى هذه اللحظات القصيرة من التفاعل من الممكن أن تجعلنا — وتجعلهم — في حالٍ أفضل.

للحكي أثرٌ طيِّب في النفس

تُتيح لنا العلاقات أن نحكي عن التجارب الإيجابية في حياتنا، وهو ما يجعل هذه الأحداث الطيبة أفضلَ أثرًا في النفس. فنحن نتَّصل بالأشخاص الذين يُهمنا أمرهم — والذين يهمهم أمرنا — لنحكي لهم أخبارنا، سواء كانت عروضًا وظيفية، أو قبولًا في جامعة، أو خطوبة، أو مولودًا جديدًا. وهذا النوع من البوح يزيد السعادة التي نشعر بها.

للتحقُّق من هذه العلاقة بين الحكي والسعادة، طلب الباحثون أولًا من الناس أن تدلي بدرجةِ ميلها عامةً للحكي عن تجاربها الإيجابية للآخرين.8 أفاد بعضُ الأشخاص بأن لديهم ميلًا عامًّا لأن يَحكُوا عن تلك التجارب، واصفين أنفسهم بأنهم «من نوع الأشخاص الذين يُحبُّون البوحَ للآخرين حين يحدث لهم شيء طيب.» أفاد أناسٌ آخَرون بأن لديهم ميلًا أقلَّ للبوح، قائلين: «عادةً ما أحتفظ بفرحتي متكتمًا عليها ولا أبوح بها كثيرًا.»

بعد ذلك، ظلَّ جميع المشاركين في هذه الدراسة يدوِّنون يومياتهم طَوال أربعة أسابيع. شملت هذه اليوميات تقييمًا للحالة المزاجية وكذلك الرضا عن الحياة على مدار الوقت، بحيث يستطيع الباحثون أن يروا كيف تغيَّرت هذه المعايير مع الوقت. وكما تبيَّن، فإن الأشخاص الذين أفادوا بميلٍ أكثر لأن يحكوا الأخبار الطيبة للآخرين أبدَوا كذلك ارتفاعًا في الحالة المزاجية الإيجابية والرضا عن الحياة بوجهٍ عام على مدار الوقت.

العلاقات أيضًا تمنحنا فرصًا لأن نتقاسم التجارب — وفعلُ شيء مع شخصٍ يهمنا أمرُه يجعلنا أكثر سعادة عما إذا انفردنا بالتجربة. من ثَم فإنك قد تستمتع بمشاهدة فيلم رائع وأنت جالس بمفردك في السينما أو حجرة الجلوس في بيتك. لكن مشاهدة الفيلم نفسِه مع صديقٍ ربما يعزِّز استمتاعك بالتجربة. وكما قالت الكاتبة شارلوت برونتي: «السعادة التي لا نتقاسمها على الاطلاق قلما يمكن أن نسميها سعادة؛ فليس لها مذاق.»9
في تجربةٍ بسيطة للدلالة على أثرِ تقاسُم التجارب، طلب الباحثون من المشاركين الاشتراك في نشاطٍ ممتعٍ جدًّا: تذوُّق شوكولاتة وتقدير جودتها.10 أتم نصف الناس الذين في هذه الدراسة النشاط بمفردهم. كذلك تذوَّق النصف الآخر الشوكولاتة وقدَّر جودتها، لكنهم فعلوا ذلك في نفس الوقت مع شخصٍ آخر (غريب عنهم). لم يكن على أيٍّ من هؤلاء الناسِ الاتفاقُ في تقديراتهم مع الشخص الآخر، لكن كلاهما تذوَّق أنواع الشوكولاتة المختلفة في الوقت ذاته، ثم باشر كلٌّ منهما تقييمه على حدةٍ لهذا النوع من الشوكولاتة (من حيث مدى حدَّتها، ولذَّتها، وكم أحبَّها). وحتى في هذا التصميم الشديد البساطة، الأشخاصُ الذين تسنَّت لهم فرصةُ تقاسُم تجربة تقييم الشوكولاتة مع شريكٍ أبدَوا قدرًا أكبر من حبهم للشوكولاتة عن أولئك الذين قيَّموها وحدَهم.
لكن من المشكلات التي تشوب الدراسات التي شرحناها حتى الآن أنها لا تتحقَّق مما إن كانت المشارَكة تحديدًا هي ما تساعد على تحسين الحالة المزاجية، أم إنَّ مجرَّد التفكير في الأشياء الإيجابية — حتى إن لم نشارك تلك الأشياء — يحسِّن الحالة المزاجية. من ثَم فإنه للتحقُّق من هذه المسألة الهامة، طلب باحثون في دراسة أخرى من المشاركين أن يدوِّنوا يومياتهم على مدارِ بضعة أسابيع حيث يتأمَّلون «الأشياء التي يشعرون بالامتنان لها» ويدوِّنونها في نهاية كل مساء.11 نصف هؤلاء الأشخاص كانوا يدوِّنون هذه اليوميات فحسب؛ أما الآخرون فطُلب منهم أن يدوِّنوا اليوميات ويحكوا التجارب لصديقٍ مرتين أسبوعيًّا على الأقل.

وقد أعطت النتائجُ التي توصَّلوا إليها دليلًا قويًّا على أن المشاركة تجعلنا في حالٍ أفضل؛ فالناس التي باحت بالأشياء التي يشعرون بالامتنان عليها مع صديقٍ كانوا أكثرَ سعادة ورضًا عن الحياة مقارنةً بأولئك الذين كانوا يدوِّنون هذه الأشياء فقط دون أن يبوحوا بها.

السعادة تأتي مع التقدُّم في السن

يساعد اكتشاف أهمية العلاقات المُمتازة هذا في تفسير بعض الأبحاث المُذهلة عن كيفية تغيُّر السعادة مع مراحل العمر. فقد ظلَّ يُفترض طَوال سنوات عديدة أن السعادة تتناقص مع التقدُّم في العمر. فكبار السن على كل حالٍ تلمُّ بهم خسائرُ أكثر — من وفاة أحباء، وظروف شخصية عصيبة. لكن لا تزال الدراسات تُثبت مِرارًا أن هذا الاعتقاد خاطئ، كما أوضحت في الفصل السابع.

بالأحرى تتَّخذ السعادة عبر مراحل العمر المختلفة منحنًى على شكل حرف U، مما يعني أن السعادة ترتفع لدى المراهقين والبالغين الشباب، ثم تتراجع خلال فترة منتصَف العمر، ثم تتزايد مرة أخرى لدى مَن هم في سن الستينيات والسبعينيات والثمانينيات.12
fig19
شكل ١٢-١: عند كلٍّ من الرجال (الخط المتصل) والنساء (الخط المتقطع)، يتخذ الرفاه منحنًى على شكل حرف U، حيث يزيد الرفاه بعد سن الخمسين. (Stone, A. A., Schwartz, J. E., Broderick, J. E., & Deaton, A. (2010). A snapshot of the age distribution of psychological well-being in the United States. Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America, 107(22), 9985–9990.)

لكن إلى حدٍّ ما ليست هذه البيانات مُفاجئة. فما عساه لا يدعو إلى السعادة خلال سنوات الجامعة وأوائل الشباب على كل حال، حين يعيش أغلب الناس حياةً مُريحة وسلِسة نوعًا ما؟ كما أنه ليس مما يدعو للدَّهشة أن يتعسَّر الإحساس بالسعادة خلال منتصَف العمر، المكافئ لما نصفه بفترة «أزمة منتصف العمر». ما الذي يجعل فترة منتصَف العمر بالغةَ الصعوبة؟ لقد بلغت لتوِّي ٤٩ عامًا أثناء تأليفي هذا الكتاب؛ من ثَم فإنني مُدركة تمامًا لبعض المشكلات التي تتهدَّد السعادة خلال هذه الفترة من العمر. فربما يُعاني العديد من الناس في هذه السن أصعبَ فترات تربية الأبناء؛ سنوات المراهقة. مثل العديد من الناس في هذه الفترة العمرية، أخوض أنا وزوجي معًا فترةَ المراهقة المكفهرة، التي يبدو أنها تنطوي في أغلبها على طلب المال والسيارة، بينما نواجه ضغطًا ماليًّا لسداد نفقات الجامعة (وهو ما ليس بتوليفة جيدة للظروف).

هناك أيضًا جوانبُ أخرى لمنتصَف العمر ربما تُصعِّب العثور على السعادة. إذ يواجه العديد من الناس في هذا العمر مواقفَ صعبة مع والديهم، مثل مرض ألزاهايمر ومشكلات صحية بدنية. وغالبًا ما يكون ضغط العمل شديدًا خلال هذه السنوات. فقد يكون الشخص وهو في الأربعينيات والخمسينيات من العمر في ذروة حياته المهنية، بأن صار شريكًا في العمل أو اكتسب منصبًا مرموقًا وثابتًا، لكنه صار يعمل لساعات طويلة.

لكن الخبر السعيد بحق — وربما المُدهِش — أنه ثمة ضوء في نهاية نفق منتصَف العمر. فبعد مرحلة منتصَف العمر التَّعسة، تنمو السعادة نموًا مُطردًا على مدار العمر، وهو ما يعني أن بإمكان الذين يجتازون الأربعينيات والخمسينيات الصعبة أن يتطلعوا لسعادة مضاعفة بدخولهم الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وحتى التسعينيات. وفي الواقع، يفيد الناس في السبعينيات والثمانينيات من العمر بمستوياتٍ أعلى من السعادة مقارنةً بمن هم في أواخر سنوات مراهقتهم!

وما يستدعي الانتباه على وجه الخصوص أن المنحنى المتَّخِذ شكل حرف U واصفًا العلاقة بين السن والسعادة نراه في مختلِف الثقافات — في الاثنين والسبعين بلدًا كلها التي خضعت للدراسة حتى الآن. تختلف السن المحدَّدة التي يشعر فيها الناس بأدنى مستويات السعادة من ثقافة لأخرى، فترتفع إلى ٦٢ (في أوكرانيا) وتنخفض إلى ٣٥ (في سويسرا). لكن الشكل العام للمنحنى متسِقٌ تمامًا على مستوى البلدان المختلفة. وفي أغلب هذه البلدان، تصل التعاسة إلى ذروتها في الأربعينيات والخمسينيات (بمتوسط عمر ٤٦ عامًا).

تفسير العلاقة بين السن والسعادة

ما سرُّ هذا التنامي في السعادة خلال فترة الشيخوخة؟ للنظر في هذه المسألة، لورا كارستنسن، التي ذكرتها في بداية هذا الفصل، أستاذة علم النفس ومديرة مركز ستانفورد لطول العمر، تحرَّت كيف يتغيَّر عدد العلاقات الاجتماعية للناس وطبيعتها في مراحلهم العمرية المختلفة. وقد كشفت أبحاثها عن اختلاف هذه العلاقات بشدَّة مع العمر.

ينزِع الشبابُ إلى أن يكون لديهم الكثير من الصداقات العابرة والمعارف. فهم يركِّزون على توسيع شبكاتهم الاجتماعية ومقابلة أناسٍ جدد؛ ومن ثَم غالبًا ما يكون لديهم دوائر اجتماعية كبيرة. وهو ما تصِفه كارستنسن حين تقول: «يذهب الشباب إلى حفلات الكوكتيل لأنهم قد يلتقون بشخص يجنون من ورائه منفعةً في المستقبل، وإن كنت لا أعرف أحدًا يحب بحق الذَّهاب لحفلات الكوكتيل.»13
كبار السن، على النقيض، يدركون الأمور المهمة بحق. يظلُّ الناس حتى سن الخمسين تقريبًا يضيفون المزيد والمزيد من العلاقات إلى شبكاتهم الاجتماعية. لكن بعد سن الخمسين، يسلك الناس نهجًا معاكسًا؛ إذ يتخلَّصون من علاقاتهم العابرة الأقل قربًا ويُسخِّرون وقتَهم وطاقتهم بدلًا من ذلك لعلاقات مع أناس يقدرونهم بحق.14 فهم، بعبارة أخرى، يميلون إلى التخلُّص من سَقَط المتاع ويعطون الأولويةَ لغرس علاقات أعمق وأدفأ، لكن مع عدد أقل من الناس. وهذا الاتجاه لقضاء الوقت مع الناس الذين نشعُر تجاههم بالقرب والترابط لهو باعث قوي على قدرٍ أكبر من السعادة.

يعبِّر تعليق في مجلة «بيناتس» الكاريكاتورية عن هذه الحقيقة خير تعبير؛ إذ يقول: «حين نكبر في السن ندرك أن اكتساب الكثير من الأصدقاء غيرُ مُهمٍّ، وإنما المهم أن يكون لدينا أصدقاء حقيقيون.»

ها هو ذا مثال عن تغيُّر أهوائنا مع العمر: أجْرت كارستنسن وزملاؤها دراسةً طلبوا فيها من الناس أن يُحدِّدوا درجة اهتمامهم بقضاء ٣٠ دقيقة:15
  • مع مؤلِّفِ آخرِ كتابٍ قرءوه لتوِّهم، أو

  • مع شخصٍ يتعرَّفون عليه للمرة الأولى ويُحتمل أن تتطوَّر علاقتهم به لصداقة؛ أو

  • مع أحدِ أفراد أسرَتِهم أو صديق عزيز.

اكتشف الباحثون أن أهواء الشباب انقسمت بالتساوي على هذه الاختيارات الثلاثة. أما كبار السن ففضلوا جميعًا قضاء الوقت مع أحد أفراد الأسرة أو صديق عزيز.

من الأسئلة المهمة جدًّا بخصوص هذه النتيجة: ما الذي يدفع كبار السن إلى اختيارِ تنظيم علاقاتهم بهذه الطريقة، وبالأخص، ما إذا كنا لا نتعلم كيف نقضي وقتنا إلا مع التقدُّم في السن؟ بعبارة أخرى، هل يجب أن تعيش حتى الستين أو السبعين حتى تدرك أهمية تفضيل النوعية على الكمية في العلاقات؟

لتحرِّي هذا السؤال، أجرى الباحثون دراسة على عيِّنة فريدة من نوعها تتألف من رجالٍ مثليي الجنس مُصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في الأربعينيات والخمسينيات من العمر يعيشون في سان فرانسيسكو في أوائل تسعينيات القرن العشرين.16 وكانت الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية آنذاك في تسعينيات القرن العشرين بمَثابة حكم بالموت؛ إذ لم يكن لدينا حينذاك وسائلُ للسيطرة على هذا المرض كالتي لدينا الآن؛ لذلك فقد كان شبه مؤكد أن هؤلاء الرجال ستكون أعمارهم قصيرة. من ثَم فقد تقصَّى الباحثون كيف نظَّم هؤلاء الرجال حياتهم وعلاقاتهم، وقد عرفوا أن ما تبقَّى من أعمارهم محدود.

هؤلاء الرجال — الذين كانوا أصغرَ بكثير من ذوي السبعين والثمانين عامًا الذين ورد ذكرهم في الدراسة السابقة — نظَّموا علاقاتهم بنفس الطريقة بالضبط. فقد أمسكوا عن قضاء وقتهم مع الأشخاص الذين لا يَشعرون نحوهم بالقرب، وركَّزوا عوضًا عن ذلك على استثمار وقتهم في العلاقات الطيبة. بعبارةٍ أخرى، حين يداهمهم الوقت (سواء بسبب التقدُّم في العمر أو مرض يُفضي إلى الموت)، يعمِد الناس إلى التمعُّن في اختيار الطريقة التي يقضون بها ما تبقَّى لهم من الوقت، فيفعلون ذلك على النحو الذي تبلغ بها سعادتهم الذروة.

تدلُّ هذه الاكتشافات على أننا لسنا بحاجةٍ لبلوغ السبعين أو الثمانين من العمر لنقرِّر قضاء وقتنا مع مَن تجمعنا بهم علاقات وثيقة. فبإمكاننا في أي عمرٍ أن نتَّخذ قرار قضاء وقت أكبر مع أهم أناس لدينا، وهو ما يعود علينا بدوره بقدرٍ أكبر من السعادة.

نُواصِل السعي بفضل الكثير من العون الذي نتلقَّاه من أصدقائنا

امتلاك صداقات طيبة لا يجعلنا أكثرَ سعادة فحسب — بل يجعلنا أوفرَ صحة كذلك. فمن لديهم علاقات اجتماعية أكثر، يتمتَّعون بصحةٍ جسدية أفضل، تتضمَّن ضغطَ دم أدنى، ومؤشرَ كتلة جسم أقل، وأجهزة مناعة أقوى، عبْر مراحلهم العمرية المختلفة.17 كما أنهم يسلكون تصرُّفاتٍ صحيةً أكثر، ويتعافون من الجراحات بصورةٍ أسرع، وأقل عرضة للإصابة بأمراضٍ مزمنة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية.18
والأهم أن أصحاب العلاقات الاجتماعية القوية لديهم متوسط عمر متوقَّع أطول.19 إحدى أوائل الدراسات التي أثبتت تأثير علاقتنا بالآخرين على صحتنا تحرَّت العلاقات الاجتماعية لدى نحو سبعة آلاف رجل وامرأة يعيشون في مقاطعة ألاميدا، كاليفورنيا، عام ١٩٦٥.20 في العموم، كان الأشخاص الذين يفتقرون إلى علاقات اجتماعية — مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو المجموعات الاجتماعية — أكثرَ عرضةً للموت خلال فترة المتابعة التي امتدت سبع سنوات عمن تمتَّعوا بتلك العلاقات بمرتين أو ثلاث مرات. ومؤخرًا، قارنت دراسة أُجريت على أشخاص كبار في سن السبعين وأكبر بين تأثير الأنواع المختلفة من العلاقات الاجتماعية — الأصدقاء والأطفال وأفراد الأسرة غير الأزواج والأبناء — على البقاء على قيد الحياة خلال فترة ١٠ سنوات.21 أصحاب الشبكات الأقوى من الأصدقاء — خصوصًا الأشخاص الذين كانوا يَشعرون بالقُرب منهم ويداومون على التواصل معهم — كانوا أقلَّ عرضة للموت خلال فترة المتابعة عمن كان لديهم عدد أقل من الأصدقاء بنسبة ٢٢ في المائة.
العلاقات الطيبة مهمَّة بالأخص لمن يُعانون ظروفًا صحيةً خطيرةً حتى إن كانت تهدِّد حياتهم. فعلى سبيل المثال، اكتشفت دراسةٌ أُجريت على نساءٍ مصابات بسرطان الثدي أن اللائي لم يحظين بصداقاتٍ مقرَّبة كنَّ أكثرَ عرضة للموت بالمرض أربع مرات مقارنةً بمن لديهن ١٠ أصدقاء أو أكثر.22 كذلك ترفع العلاقات الوثيقة متوسطَ العمر المتوقَّع بين مَن أصيبوا بأزمةٍ قلبية من قبل.23 فعلى سبيل المثال، نجد الأشخاص المصابين بمرض القلب التاجي المحرومين من العلاقات الحميمة أكثرَ عرضة للموت بهذا المرض مقارنةً بمَن لديهم مثل تلك العلاقات.24
لماذا تؤثِّر العلاقات الوثيقة ذلك التأثيرَ القوي على الصحة؟ تساعدنا علاقاتنا على التكيُّف مع منغصات الحياة اليومية كبيرها وصغيرها، وبذلك تحدُّ من الآثار الفسيولوجية السلبية لتلك المواقف.25 شبكات الدعم الجيدة تساعدنا بطرقٍ فعلية — بدءًا من الإغاثة إثرَ كارثة طبيعية مرورًا باقتراض كوب سكر ووصولًا إلى الحصول على توصيلة إلى المطار.
للعلاقات الوثيقة كذلك آثارٌ قوية على استجاباتنا الفسيولوجية للمواقف المثيرة للضغط النفسي. فعلى سبيل المثال، مجرَّد الإمساك بيد الزوج عند ترقُّب تجربة مثيرة للضغط النفسي يؤدي لتهدئة المخ بنفس الطريقة التي تعمل بها العقاقير المسكِّنة للآلام.26 هذه الاكتشافات بشأن الفوائد التي تعود بها العلاقات الحميمة على استجابتنا الفسيولوجية تجاه الضغط النفسي تساعد على استجلاء السبب وراء أن الأشخاص الذين تَكثُر معانقة الآخرين لهم — وهو مظهر يرتبط بتوفُّر ذلك الدعم — نجدهم أقل عرضة للعَدوى ويشعرون بأعراض مَرضية أقل حدة.27
على النقيض، تؤدِّي الوحدة الدائمة إلى ارتفاع الكورتيزول، هرمون الضغط النفسي، وهو ما قد يرفع ضغط الدم ويضرُّ جهاز المناعة.28 تساعد هذه الحقائق في تفسير السبب وراء أن الناس الذين يفتقرون إلى علاقاتٍ قوية هم الأكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب، والأكثر عرضة للإصابة بالسكتة، ومتوسِّط عمرهم المتوقَّع أقل من سائر الناس.29 وكما عبَّر فيفيك مورثي، وزير الصحة الأمريكي الأسبق، حين قال: «تقترن الوحدة والعلاقات الاجتماعية الضعيفة بانخفاض في متوسط العمر أشبه بذلك الناجم عن تدخين ١٥ سيجارة يوميًّا وأكثر حتى من ذلك المقترن بالبدانة.»30

ليست كل العلاقات متساوية في تأثيرها

نحن لا نصيرُ في حالٍ أفضل لمجرَّد أن تكون العلاقة وثيقة؛ فالعلاقات الطيبة وحدَها هي التي تزيد السعادة، وتُحسِّن النتائج الصحية، وتطيل متوسط العمر.

وفي واقع الأمر، الأشخاص غير السعداء في زواجهم أكثرُ عرضة للإصابة بالاكتئاب من الأشخاص الذين لديهم علاقات تمنحهم البهجة أو الأشخاص غير المرتبطين.31 فالمتزوِّجون زيجاتٍ أقلَّ تحقيقًا للبهجة أكثرُ عرضة للإصابة بالاكتئاب عن المتزوجين زيجاتٍ أكثرَ تحقيقًا للبهجة بما يفوق الضِّعف. ويعني هذا عمليًّا أن واحدًا من كل ١٠ بالغين من ذوي العلاقات الأردأ سيصير مكتئبًا، مقارنةً بواحد من كل ١٥ بالغًا من الذين لديهم علاقات أفضل.
لا تضرُّ العلاقات السيئة برفاهنا النفسي فحسب. فالمتزوجون الذين يشعرون تجاه الطرف الآخر بمشاعرَ متضاربة — أي تخالجهم مشاعرُ إيجابية وسلبية تجاه شركاء حياتية بصورة يومية — يعانون أكثرَ من المتاعب الجسدية، من بينها ارتفاع ضغط الدم.32 على نفس المنوال، رغم أن المتزوجين يُظهِرون نتائج صحية أفضل مقارنةً بغير المتزوجين عامةً، فإن طبيعة الزواج أيضًا لها تأثير؛ فاحتمالية أن يبقى المرضى الذين يخضعون لجراحة قلب ولديهم رضًا كبيرٌ تجاه زواجهم على قيد الحياة ١٥ عامًا أعلى ثلاث مرات مقارنةً بالمرضى الذين لديهم شعورٌ منخفض بالرضا عن حياتهم الزوجية.33
وكما تقول جوليان هولت لانشتاد، أستاذة علم النفس في جامعة يوتا: «الزواج وحدَه في حد ذاته غير ذي نفع؛ لأننا قد نكون أسوأ حالًا في زواجٍ غير سعيد.»34 تشير هذه المعلومات إلى أهمية حُسن اختيار شركائنا في العلاقة وأيضًا إلى أهمية العمل على تحسين جودة هذه العلاقات.

خلاصة القول

تلعب العلاقات الوثيقة دورًا أساسيًّا في تحسين جودة حياتنا وإطالة أعمارنا. إلا أن الاستقصاء الذي أجراه مكتب إحصاءات العمل عام ٢٠١٧ اكتشف أن الأمريكي العادي يقضي في المتوسط ٣٩ دقيقة فقط يوميًّا في مخالطة أناسٍ آخرين، متضمنًا ذلك الحديث مع الأصدقاء والذهاب إلى حفلات.35 وعلى النقيض، يقضي الناس نحو ٢٫٧ ساعة في مشاهدة التلفزيون. ومن ثَم فمن المؤسف أن أغلب الناس كما هو واضح لا يعطون الأولوية لقضاء وقت ممتع مع الناس الذين يهتمُّون بأمرهم.

لكن مما يدعو للتفاؤل أننا بمجرد أن ندرك الفوائد الأساسية التي تمنحها العلاقات، يمكننا جميعًا أن نخصِّص الوقت والطاقة لبناء هذه العلاقات والحفاظ عليها. إذا كنت غيرَ راضٍ عن شبكتِك الاجتماعية الحالية، فابحث عن طرقٍ للالتقاء بأناس جدُد — تطوَّعْ، أو التحِق بفصلٍ تعليمي، أو انضمَّ إلى نادٍ للقراءة أو منظَّمة دينية، أو ادعُ زميلًا من العمل أو صديقًا عابرًا إلى الغداء. واحرص على بذلِ الوقت والطاقة والمجهود في الحفاظ على العلاقات الحميمة الحالية وتعميقها. وإليك بعض الاستراتيجيات التي يمكنك أن تجرِّبها لخلق علاقات قوية وممتدة.

ضع هاتفك المحمول جانبًا

تزيد العلاقات الوثيقة من شعورنا بالسعادة لأنها من ناحيةٍ تمنحنا فرصًا للاستمتاع بأحاديثَ عميقةٍ ومفيدة. لكنَّنا لا نستطيع أن نحظى بهذا النوع من التواصل الجيد إلا بوضع هواتفنا المحمولة جانبًا. فإن قضاء الوقت مع زوج أو صديق بينما يتصفَّح كلٌّ منكما هاتفه ليس بالوقت الممتع على كل حال.

في واحدة من الدراسات الشديدة البراعة، طلب الباحثون من طلاب جامعيين أن يقضوا ١٠ دقائق في حوار تعارف على شخص غريب عنهم.36 أجرى نصف الطلاب هذا الحوار في وجود هاتف عادي على منضدة خارج مجال رؤيتهم. كان هذا الهاتف مغلقًا، فلم يصدر عنه رنينٌ أو اهتزاز أثناء الحوار. أجرى النصف الآخر من الطلاب هذا الحوار من دون وجودِ هاتف. بعد الحوار، طلب الباحثون من الطلاب في كلتا المجموعتين تحديدَ درجة الاقتراب التي شعروا بها تجاه شريكهم في الحوار، وما إن كانوا يعتقدون أنهم قد يصيرون أصدقاء.

كانت نتائج هذه الدراسة واضحة — ومحبِطة. فالطلاب الذين أجرَوا حوارًا في وجود هاتفٍ أفادوا بشعورهم بقدرٍ أقل من القرب من شريكهم في الحوار، وقلَّت احتمالية شعورهم بأنهم سيصيرون أصدقاء. تذكَّر أن الهاتف في هذه الدراسة لم يكن يخصُّ أيًّا من الطلاب، ولم يصدُر عنه رنينٌ أو اهتزاز أثناء الحوار. بيد أن مجرد وجوده أدَّى إلى نوعٍ أردأ من التواصل.

إلا أن الدراسة التي وصفتها للتو كانت مُصطَنعة تمامًا، بما أنها أُجريت في مختبر أبحاث. وهذا معناه أنه لا يمكن الاعتماد عليها بحقٍّ لمعرفة إمكان تأثير وجود الهواتف المحمولة على حوارات الناس في أوساط طبيعية أكثر.

لتحرِّي هذه المسألة المهمة، طلب الباحثون في دراسة أخرى من الطلاب أن يُجروا حوارًا مدته ١٠ دقائق في مقهًى في واشنطن العاصمة.37 (كان بعض هؤلاء الطلاب أغرابًا، وكان الآخرون أصدقاء). جلس أحد الباحثين على مقربةٍ منهم وراح يتحقَّق مما إذا كان أيٌّ منهم وضع هاتفًا محمولًا على المنضدة، أو كان يحمله في يده، في أي مرحلة من الحوار.

بعد أن ينتهي الاثنان من الحوار، كان يُطلب من كل شخص أن يُحدِّد درجةَ جودة حوارهما. فكان يُطلب من كلٍّ منهما مثلًا أن يحدِّد مقدار ثقته في شريكه في الحوار، وما إذا كان يشعر أن شريكه قد اجتهد ليفهم أفكاره ومشاعره.

مرة أخرى، أعطتنا هذه البيانات دليلًا قويًّا على أن وجود الهواتف المحمولة لا يفيد العلاقات؛ فقد صُنِّفت الحوارات التي كان يضع فيها أيٌّ من الطرفين جهازًا على المنضدة أو يمسكه على أنها الأقل إشباعًا. عِلاوة على ذلك، كانت الآثار السلبية لاستخدام الهاتف المحمول أشدَّ وطأة حتى بين الأشخاص الذين كانوا أصدقاءَ من الأساس.

إذن، إليك استراتيجيةً بسيطة لكن فعَّالة. حين تُمضي وقتًا مع أصدقائك أو أفراد أسرتك أو خليلك، ضعِ الهاتف بعيدًا، وليكن تركيزك بالكامل على الحوار القائم. فهذه أفضل طريقة لنحظى بتلك الأحاديث العميقة التي تُقوِّي علاقاتنا الوثيقة.

اقتنِ حيوانًا أليفًا (يُفضَّل كلب)

رغم أنك قرأت فيما سبق عن الفوائد التي تعُود بها العلاقات الوثيقة على السعادة، فليس من الضرورة أن تكون هذه العلاقات مع أشخاص. في الواقع، تفيد أدلة قوية بأن الحيوانات المنزلية أيضًا من الممكن أن تؤِّدي إلى درجات أعلى من الرفاه الجسدي والنفسي. إذ تبيِّن الدراسات التي تقارن بين مَن يقتنون حيوانات منزلية والذين لا يقتنونها أن أصحاب الحيوانات المنزلية يشعرون بالوحدة بنسبٍ أقل. كما أن لديهم مستوياتٍ أعلى من الاعتداد بالنفس والانفتاح على الآخرين، وكلاهما يقترن بقدرٍ أكبرَ من السعادة.

بل توصَّلت دراسة حديثة إلى أن مربِّي الكلاب يعيشون أطول.38 في واقع الأمر، كان مربو الكلاب أقلَّ عرضة للوفاة خلال هذه الدراسة التي استغرقت ١٢ عامًا بنسبة ٢٠ في المائة، وكان احتمال وفاتهم بأمراض القلب والأوعية الدموية أقل بنسبة ٢٣ في المائة.

ما العوامل التي تجعل أصحابَ الحيوانات الأليفة يستفيدون من هذه المزايا؟ يُفيد العديد من الناس بأن الحيوانات الأليفة تؤدي أدوارًا مهمة في حياتهم — مثل رفع الاعتداد بالنفس، والإحساس بالانتماء، والشعور بهدف. وهذه الأفكار تُؤدِّي بدورها إلى قدرٍ أكبر من الرفاه.

كذلك قد تساعد الحيوانات المنزلية في التخفيف من الآثار السَّلبية لتجارب الحياة المثيرة للضغط النفسي، مثل التكيُّف مع مرضٍ مُزمن أو يُفضي إلى الموت.39 خلال المواقف المثيرة للضغط النفسي، يحدُّ وجود حيوان منزلي من الاستجابة الفسيولوجية الطبيعية لجسدنا ويخفِّض كلًّا من ضغط الدم ومعدل ضربات القلب.
رغم أن أصحاب الحيوانات الأليفة عامةً يشعرون بقدرٍ أكبر من السعادة، فمن الممكن أن تكون الكلاب خاصةً مفيدة في توفير الدعم العاطفي المُهم. فللكلاب قدرةٌ خاصة على الترابط مع البشر (من ثَم فإن الترابط الذي تشعر به مع كلبك ليس من نسج خيالك). في الواقع، تستطيع الكلاب أن تفرِّق بين أنواع التعبيرات العاطفية المختلفة على وجوه الناس، فهي حسَّاسة بالأخص تجاه أصوات البشر.40

ولعل الأهم أن الكلاب ربما تساعد على الحد من الوحدة بمنحها إيانا الحبَ المطلق وغير المشروط؛ فإنها تتهلل دائمًا لرؤيتنا. وكمثالٍ على هذا الحب غير المشروط، تأمَّل هذه المُزحة عن الفرق بين الكلاب والأزواج. تخيَّل نفسك عائدًا من العمل ذات يوم، ضع كلبك وزوجتك في صندوق سيارتك، ثم تجوَّل بالسيارة لمدة ساعة. إذا فتحت الصندوق، أيهما سيظلُّ سعيدًا لرؤيتك؟

ابذُل الوقت والطاقة والمجهود

أثناء تأليف كتابي هذا، احتفلت أنا وزوجي بمرور ٢٥ عامًا من الزواج. إنه رجل رائع؛ فهو يدعمني، ويؤمن بي، ويُحبُّني. لكن ليس زواجنا مثاليًّا، ولا يَمضي سلِسًا حتى أكون صادقة. فنحن نواجه صعوبةً في الموازنة بين مهنتَين وثلاثة أطفال، وتفريغ غسالة الصحون وطي الغسيل، والتأكُّد من إتمام أبنائنا لواجباتهم المدرسية وتدرُّبهم على العزف على البيانو، بل وحتى استحمامهم.

لكن ذلك هو واقع العلاقات الوثيقة. إنها الباعث الأهم الأوحد على السعادة، لكن العلاقات الجيدة لا تتحقَّق بسهولة. وإنما تنطوي على جهدٍ وخلاف وتسويات.

من الاقتباسات المفضَّلة لديَّ، التي تشهد بقيمة العلاقات، وكذلك المجهود اللازم للحفاظ عليها، ما تقوله شخصية ليفين في رواية ليو تولستوي «آنا كارنينا»:
لكن مع دخوله الحياة الأسرية تبيَّن مع كل خطوةٍ أنها مُختلِفة تمام الاختلاف عما كان قد تصوَّره. فقد جعل يشعر مع كل خطوة ما قد يشعر به رجل، راقَ له قارب صغير في انسيابه السلِس المَرِح في البحيرة؛ فقرَّر النزول بنفسه إلى ذلك القارب الصغير. فتبيَّن أنه لم يكن ساكنًا ولا يطفو بسلاسة على الإطلاق، حتى إنه كان عليه أن يتفكَّر أيضًا، فلا يغفُل للحظةٍ أين سيُبحر به؛ وأن هناك مياهًا تحته، وأن عليه التجديف؛ وأن يديه غير المتمرستَين ستُؤلمانه؛ وأن وحده النظر إلى الأمر هو السهل؛ أما فعله، فرغم بهجته الشديدة، فإنه غاية في الصعوبة.41

تُبيِّن هذه الكلمات خيرَ تبيانٍ الفرقَ بين ما يبدو عليه من بعيدٍ امتلاكُ المرءِ علاقاتٍ جيدة — سهلة وغير مجهدة — وواقعِ ما تنطوي عليه هذه العلاقات — وقت وطاقة ومجهود وخلاف وتسوية.

في عام ٢٠١٣ احتفل والدا زوجي بمرور ٥٠ عامًا على زواجهما — وهو إنجاز بحق في أيامنا وعصرنا هذا. كانت هديتي لهما لوحة صغيرة كُتب عليها: «الخمسون سنة الأولى من الزواج هي الأصعب.» فالزواج، شأن العلاقات كلها، صعبٌ قطعًا. لكن أن نحظى بعلاقات طيبة — سواء مع الزوج أو الحبيب، وأفراد الأسرة والأصدقاء — هو السبيل الأفضل لحياةٍ سعيدة وصحية وممتدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤