الفصل الثامن

غيِّر سلوكك لتتغيَّر به طريقة تفكيرك

في ١٩ يوليو ١٩٨٩، وقع عُطلٌ في محرِّك طائرة من طائرات خطوط الطيران المتحدة كانت تقوم برحلة رقم ٢٣٢ مما أدَّى إلى فقدان جميع أنظمة قيادة الطائرة بعد نحو ساعة من الإقلاع في دينفر، كولورادو. ظلَّ الطيارون طوال ٣٠ دقيقة تقريبًا يعملون دون جدوى لاستعادة بعض السيطرة والتخلُّص من الوقود والتوجُّه إلى مَدْرج طيرانٍ في مدينة سو، في ولاية آيوا. كان الركَّاب على علمٍ بحالة الطوارئ وقيل لهم أن يتوقَّعوا هبوطًا عنيفًا. ومن بين الركَّاب البالغ عددهم ٢٩٦، مات ١١١ ونجا ١٨٥ من الحادث.

كيف تعايش الناس مع خوفهم وهم يستعدون للهبوط الاضطراري؟ كشفت المقابلات التي أُجريت مع الناجين عن أن الكثير قد اعتمدوا على إيمانهم الديني.1 وإليكم بعضًا من أقوالهم:
  • «لقد أغمضت عينيَّ وقلت: «يا ربي الرحيم، أدعوك أن تُرشد الطيارين.» كذلك خطرَ لي أنه إذا أراد الرب أن يقبض روحي، فلن أبالي بذلك. كنت مفعمًا بالسكينة. فقد كنت هناك جالسًا على حافة الخلود. لم أكن في مواجَهة نهاية حياتي.»

  • «فعلتُ ما كان عليَّ فعْله لأستعدَّ للموت. ما خطر لي آنذاك أنني أريد أن أولد من جديد في عائلةٍ أستطيع فيها سماع تعاليم بوذا. كنت قد مارست التأمُّل البوذي كثيرًا في حياتي، وقد درَّبني ذلك على التركيز على نقطة واحدة. فكنت منصرفًا تمامًا لوضع الاستعداد.»

تبنِّي مُعتقَدات دينية وروحانية يحسِّن من الحالة النفسية والصحة الجسدية، ولو جزئيًّا لأن تلك الاعتقادات تُساعدنا على التأقلم مع المكدِّرات اليومية الصغيرة وكذلك الأحداث المأساوية الكبرى.

في هذا الفصل، سأشرح كيف يمكن لتغييرٍ بسيط في السلوك — مثل الحصول على قسط كافٍ من النوم، أو قراءة رواية، أو ممارسة التأمُّل — أن يغيِّر الطريقة التي ترى بها نفسك والعالم. والأهم أن تبنِّي مثل تلك السلوكيات من المُمكِن أن يَزيد من مقدار سعادتنا، ويحسِّن صحتنا الجسدية، ويمد في أعمارنا.

اخلُد للنوم

قد تكون أيسرُ طريقة لتنمو بها سعادتنا أن نحصل على كفايتنا من النوم. فقد وجد استفتاء عامٌّ أجْرته مؤسسة جالوب عام ٢٠١٥ شمل أكثر من سبعة آلاف أمريكي بالغ أن الناس التي تفيد بحصولها على كفايتها من النوم يتمتَّعون برفاهٍ عامٍّ أكثرَ من الذين ينامون وقتًا أقل.2 كان مثلًا متوسِّط درجات الرفاه لدى الذين ينامون ثماني ساعات ليلًا ٦٥٫٧ (من ١٠٠)، في مقابل ٦٤٫٢ لدى الذين ينامون سبع ساعات، و٥٩٫٤ لدى الذين ينامون ستَّ ساعات. أكَّد هذا الاستفتاء نتائجَ دراسات علمية متعدِّدة أثبتت أن الحصول على قسط كافٍ من النوم يسهم في تحسين الرفاه النفسي، مُتضمِّنًا ذلك الحد من القلق والاكتئاب والشعور بالوحشة.3
ما الذي يجعل الكفاية من النوم بالغةَ الأهمية؟ أحد الأسباب هو أن الأشخاص الذين يسترخون جيدًا أقدرُ على التأقلم مع مكدِّرات الحياة اليومية.4 أما الأشخاص المحرومون من النوم فهم سريعو الغضب وأكثر وقوعًا في أخطاء التفكير والذاكرة. لعلك تستطيع أن تتذكَّر يومًا خاطبت فيه فردًا من أسرتك أو صديقًا أو زميلًا بحدةٍ بعد النوم لفترةٍ قصيرة ليلًا؟
fig15
شكل ٨-١: الأشخاص الذين ينامون أكثرَ من سبع ساعات يوميًّا كانوا أقلَّ عُرضة بكثير للإصابة بالزكام مقارنةً بمن كانوا ينامون أقل من خمس ساعات يوميًّا. (Prather, A. A., Janicki-Deverts, D., Hall, M. H., & Cohen, S. (2015). Behaviorally assessed sleep and susceptibility to the common cold. Sleep, 38(9), 1353–1359.)
تسيطر الأفكار السلبية على مَن لا ينامون كفايةً ويفقدون القدرة على التركيز على الأشياء الإيجابية.5 بل يستغرق مَن لا يحصلون على كفايتهم من النوم في المزيد من أنماط التفكير السلبي المتكررة، التي تتضمَّن الانشغال إلى حدِّ الهوس بالمستقبل، وإعادة تخيُّل أحداثٍ من الماضي، والتفكير في أفكار دخيلة. وكما شرحت في الفصل الخامس، يزيد هذا النمط من التفكير من احتمال الإصابة بالاكتئاب والقلق.
كذلك يضرُّ الحرمان من النوم بصحتنا الجسدية. فقلَّة النوم تُضعِف جهاز المناعة، مما يَزيد من احتمال الإصابة بأمراض متعدِّدة، منها السرطان والسَّكتة وأمراض القلب والسكري.6 ويؤدي النوم جيدًا إلى التعافي من العمليات الجراحية بصورةٍ أفضل.
لتقصِّي تأثير الحرمان من النوم على قدرة الجسم على مقاومة المرض، استعان الباحثون في إحدى الدراسات بمُتطوِّعين أصحاء.7 وقيَّموا العادات الصحية العامة لهؤلاء الأشخاص، مثل معاقرة الخمر والتدخين، وكذلك أنماط نومهم خلال الأسبوع السابق. ثم دسُّوا فيروس الزكام في أجساد المشاركين، بعد الحصول على إذنهم، مستخدمين قطراتِ أنف. ثم راح الباحثون يُراقبون هؤلاء الناس على مدار الأسبوع التالي ليرَوا مَن منهم أصابه الزكام.

وقد كانت النتائج التي توصَّلوا إليها دليلًا قويًّا على أنَّ النوم لمدةٍ كافية عاملٌ أساسي للحفاظ على صحة الفرد. فالأشخاص الذين قلَّ نومهم في المتوسِّط عن ست ساعات كلَّ ليلة في الأسبوع السابق للتجربة كان احتمال إصابتهم بالزكام أكثرَ أربع مرات من أولئك الذين كانوا ينامون أكثر من سبع ساعات يوميًّا.

وقد قال أريك بريثير، أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو: «كانت قلَّة النوم أهمَّ من أيِّ عامل آخر في رفع احتمال إصابة المشاركين بالزكام. فلم يكن لأعمارهم ولا مستويات التوتُّر ولا العِرق ولا التعليم ولا الدخل أهميةٌ. ولم يفرق إن كانوا يدخِّنون. مع وضع كل تلك الأشياء في الحسبان، ظل النوم هو المسئول حسب الإحصائيات.»8

أرجو أن تكون قد فهِمت الآن أهميةَ الحصول على قسطٍ كافٍ من النوم — فهي إحدى أسهل الطرق التي تستطيع بها أن تتمتَّع بسعادةٍ أكبرَ وصحة أوفَر. لذلك فلتجعل من أهدافك أن تذهب للفِراش مبكِّرًا بما يكفي للنوم جيدًا ليلًا، وتجنَّب الطعام والشراب، ولا سيما الكافيين، في أوقاتٍ متأخِّرة من الليل. كذلك احرِص على ألا تستخدم أجهزةً إلكترونية، مثل الكمبيوتر أو الآي باد أو القارئ الإلكتروني، قبل محاولة النوم مباشرةً؛ فإن «الضوء الأزرق» المنبعث من أغلب هذه الأجهزة يجعل الخلود للنوم أشدَّ صعوبة.

اقرأ كتابًا

إليك تغييرًا صغيرًا يمكن أن تُدخِله على حياتك اليومية لتعزيز شعورك بالسعادة: اقرأ كتابًا محبَّبًا إليك! يتذكَّر العديد من الناس أوقاتًا من طفولتهم حين كانوا ينهمِكون تمامًا في قراءةِ كتابٍ يحبونه، مثل سلسلة هاري بوتر. وأتذكَّر اضطراري إلى إزالة لمبات الإضاءة لدى ابني الأكبر لأنه لم يكن يستطيع الإمساكَ عن القراءة حرفيًّا.

لكن نحن البالغين دائمًا ما نظن «أنه لا وقت لدينا للقراءة». (والغريب أننا نجد بطريقةٍ ما الوقت لمشاهدة التلفزيون، والبحث على الإنترنت، وتجديد منشوراتنا على الفيسبوك.) والمؤسف أننا بذلك يَضيع علينا بعضٌ من فوائد القراءة الكثيرة.

تشير الأبحاث العلمية إلى أن القراءة تساعدنا على الشعور بالترابط مع الآخرين — فحتى الشعور بالارتباط بالشخصيات التي في الكتاب تخلق شعورًا بالانتماء، وهو من مقوِّمات السعادة الهامة.9 بإمكان القراءة أن تُعزِّز المشاعر الإيجابية، خاصةً إذا ألهمك الكتاب التفكيرَ في حياتك بطريقة جديدة أو اتخاذ خطوة في سبيل تحقيق أهدافك.
كذلك تستطيع القراءةُ، خاصةً الأدب، أن تُحسِّن من قدرتنا على التعاطف مع الآخرين وبذلك تحسِّن مهاراتنا الاجتماعية. حين نستغرِق في رواية من الروايات، نتخيَّل العالَم من خلال عيون الشخصيات، مما يُعزِّز قدرتنا على تبنِّي رؤية شخص آخر في الحياة الواقعية.10 وقد تزيد هذه المهارة بدورها من قدرتنا على التعاطُف مع الآخرين وتجاوز الخلافات. من الأمثلة على ذلك أن طلاب الصف الخامس الذين قرءوا سلسلةَ «هاري بوتر»، التي تتناول التحامُل بين السَّحرة وغيرِ السَّحرة، أصبحوا أكثرَ عطفًا وأقلَّ تكبُّرًا تُجاه الناس الذين ينتمون إلى الفئات الموصومة.11 وكما يقول كيث أوتلي، عالِم النفس في جامعة تورنتو: «قد يكون الأدب الروائي هو جهاز محاكاة الطيران الخاص بالعقل.»12
علاوةً على ذلك، أشارت أدلةٌ حديثة إلى أن قراءة الكتب قد تُطيل أعمارنا. فقد قارنت إحدى الدراسات بين ثلاث مجموعات من الناس (كلهم في سن الخمسين وأكبر): مجموعة لا تقرأ الكتب مطلقًا، ومجموعة تقرأ الكتب مدة تَصِل إلى ثلاث ساعات ونصف أسبوعيًّا، ومجموعة تقرأ الكتب مدة تزيد عن ثلاث ساعات ونصف أسبوعيًّا.13 مقارنةً بمن لا يقرءون، كان الذين يقرءون ثلاث ساعات ونصف أسبوعيًّا أقل عرضة للموت بنسبة ١٧ في المائة خلال فترة المتابعة التي بلغت ١٢ عامًا، وكان الذين يقرءون لمدة زادت عن ثلاث ساعات ونصف أسبوعيًّا أقل عرضة للموت خلال هذه المدة بنسبة ٢٣ في المائة. في الواقع لقد عاش الذين يقرءون كتبًا أطول ممَّن لا يقرءون على الإطلاق بنحو عامين في المتوسط. فما السبب وراء هذه النتائج المدهِشة؟ الذين يداومون على قراءة الكتب، لا الصحف أو المجلات، يُظهرون مستوياتٍ أعلى من المهارات المعرفية؛ منها الذاكرة والتفكير النقدي، والتركيز. وهذه القُدرات بدورها تمنح فرصًا أفضل في البقاء على قيد الحياة.

من ثمَّ فإنها طريقة سهلة لتزيد من إحساسك بالسعادة أن تختار كتابًا تراه أنت مُمتعًا (وليس كتابًا «يُنصح بقراءته») وانوِ القراءةَ كلَّ يوم بضع دقائق قبل الخلود للنوم، أو أثناء استراحة الغداء، أو خلال تنقلاتك اليومية في المواصلات العامة. فهذا قد يُطيل عمرك أيضًا!

تنزَّه سيرًا على الأقدام

نعلم سلفًا أن التَّمارين مفيدة لنا بدنيًّا. فهي تساعدنا على الحفاظ على وزنٍ صحي، وتُقوِّي العضلات والعظام، وتؤدِّي إلى خفض معدَّل ضربات القلب وضغط الدم. لكن الأهم أن التمارين تحدُّ من الآثار الفسيولوجية السَّلبية للضغط النفسي على الجسم، ولهذا السبب لا يُصاب الأشخاص الذين يُمارسون الرياضة بانتظام سوى بأمراض أقل.14
لكن لا تقتصر فائدةُ التمارين على صحتنا الجسدية فحسب — فهي تسهم كذلك في تحسين مهارات التفكير والذاكرة، بل وقد تحدُّ أيضًا من احتمال الإصابة بالخرف.15 فحتى القليل من التمارين، مثل التنزه سيرًا على الأقدام بضع مرات أسبوعيًّا، يؤدِّي إلى تغيُّرات في وظائف المخ التي تبعث على أداءٍ معرفي أفضل.
بل وتتجلَّى فوائد التمارين في زيادة حدَّة الذهن بين مَن تظهر عليهم علاماتٌ مبكِّرة للإصابة بالخرف. ففي دراسة على كبار السن الذين شُخِّصوا باضطراب معرفي طفيف، توزَّع الناس عشوائيًّا على مجموعتين.16 ظل الناس في إحدى المجموعتين يتمشَّون لمدَّة ساعة ثلاث مراتٍ أسبوعيًّا؛ وتلقَّت المجموعة الأخرى دروسًا في التغذية وسبل العيش الصحية كلَّ أسبوع. قبل الدراسة، لم يكن أيٌّ من هؤلاء الناس يمارس التمرينات بانتظام. بعد ستة شهور، انخفض ضغط الدم لدى الناس الذين شرعوا في برنامج السير على الأقدام، وأصبحوا ويا للعجب، يُحرزون درجاتٍ أفضل في الاختبارات المعرفية.
ممارسة الأنشطة البدنية بانتظام مفيدة أيضًا للصحة الذهنية.17 هل سبق أن كنت في حالةٍ مزاجية سيئة ثم قمتَ بتمرينٍ رياضي فصرتَ في حالٍ أفضل؟ تجعلنا التمارين في حالٍ أفضلَ من ناحية؛ لأنَّ بإمكانها أن تلهينا عن أي مشكلات قد تواجهنا. فهي تسمح لنا بتدبُّر أحداث الحياة المكدِّرة من دون أن نصير حانقين ومستائين.18

إلا أن الرياضة تؤدي كذلك إلى تغيُّرات فسيولوجية في أجسادنا تجعلنا أفضل حالًا. فحين نمارس نشاطًا بدنيًّا، يفرز المخ موادَّ كيميائية، تُسمى إندورفينات، تحدُّ من الألم وتجعلنا نشعر بتحسُّن.

بل وقد تُساعد التمارين في علاج الاكتئاب، وقد تكون بنفس جدوى العلاج النفسي أو مضادات الاكتئاب، في بعض الأحيان على الأقل.19 تحرَّى الباحثون في إحدى الدراسات ما إن كان بإمكان التمارين أن تُساعد الناس المصابة باكتئاب في تخفيف أعراضه.20 للتحقق من هذه الافتراضية، قسَّموا على ثلاث مجموعات ١٥٦ بالغًا مصابًا باكتئاب إكلينيكي، وهو مستوًى وخيم من الاكتئاب يعرقل الحياة اليومية:
  • مارس أفراد المجموعة الأولى تمارين الآيروبك (ثلاثة فصول مدتها ٤٥ دقيقة كل أسبوع طوال أربعة شهور). ولم يحصُلوا على أيِّ أدوية لمقاومة الاكتئاب.

  • حصل أفراد مجموعة أخرى على أدوية للتخفيف من أعراض الاكتئاب (لمدة أربعة شهور أيضًا) لكنهم لم يُشاركوا في تمارين للآيروبك.

  • شارك أفراد المجموعة الثالثة في تمارين الآيروبك وحصلوا على أدوية (لمدة أربعة شهور أيضًا).

فيما بعدُ فحص الباحثون أفرادَ المجموعات الثلاث ليروا إن كانت مستويات الاكتئاب قد تغيَّرت. فاكتشفوا أنَّ الأشخاص الذين شاركوا في تمارين الآيروبك قد أظهروا تحسنًا في الحالة المزاجية طَوال أربعة شهور، رغم عدم تلقِّيهم أدوية تُعينهم على أعراض الاكتئاب. الواقع أن أفراد المجموعات الثلاث كلها تحسنوا بنفس المعدل. وتعطي هذه الدراسة دليلًا مهمًّا على أن التمارين المعتدلة من الممكن أن تكون بنفس فاعلية الأدوية في علاج الاكتئاب.

مع أن فوائدَ التمارين واضحة، إلا أنه قد يكون من الصعب توفيرُ الوقت لممارستها. لكنَّ تغييرَ طريقة تفكيرك حيال التَّمارين من الممكن أن يُساعدك على الشروع في روتينٍ رياضي والالتزام به. بعبارةٍ أدقَّ؛ لا تجعل همَّك الفوائدَ البعيدةَ المدى من التمرين، من تحسين اللياقة القلبية التنفسية أو الحفاظ على وزن صحي أو الوقاية من الاكتئاب. وإنما ركِّز بدلًا من ذلك على مُتَع التمارين القصيرة المدى والفورية. قد تجد في الاشتراكِ في درسٍ لليوجا وقتًا لتصفية ذهنك والاسترخاء بعد يوم حافل. وقد يكون الذَّهاب في تَمشية مع صديق فُرصةً للتواصُل. ربما تحظى بنومٍ أفضل — وتشعر بانتعاشٍ أكبر في اليوم التالي — بعد مُمارسة التمارين. إن تبنِّيك هذا النوع من التركيز على المكافآت الفورية يجعل من الأيسر أن تبقى محفَّزًا لأنك لن تضطرَّ للانتظار مدة طويلة للحصول على النتيجة.

كذلك حاول ألا تتوتَّر بشأنِ توفير ساعات أكثر، أو حتى دقائق، في يومك لتضيفها لبرنامج تمارين. وإنما أدخل تغييرات صغيرة على سلوكك، مثل استخدام السلَّم بدلًا من المصعد والتوقُّف بالسيارة بعيدًا عن مدخل المتجر. فقد اكتشفت دراسةٌ حديثة أن مجرَّد النهوض والتحرُّك كل ٣٠ دقيقة أو ما يقرب من ذلك، بدلًا من الجلوس لمدة طويلة، يُقلِّل من احتمال الموت المبكِّر.21 باختصار، فيما يتعلَّق بالتمارين، لأي حركة تقريبًا أهمية — ابدأ في التحرُّك فحسب.

الجنس

هيا بنا نتناول نوعًا مُختلفًا من التمارين الآن … مُمارسة الجنس. هل يجعلك الجِماع سعيدًا؟ الإجابة، التي قد تكون أقل الأشياء التي ستعرفها في هذا الكتاب إثارةً للدهشة، هي نعم!

للتحقُّق من قوة العلاقة بين معدَّل ممارسة الجنس والسعادة، تفحَّص الباحثون بياناتٍ عن مستويات النشاط الجنسي والسعادة لستة عشر ألف شخص بلسانهم شخصيًّا.22 وقد كشفت النتائج التي توصَّلوا إليها أن الجنس من المسبِّبات القوية (والإيجابية) للسعادة. فبعد تحييد تأثير العديد من العوامل الأخرى، منها الدخل والتعليم والحالة الاجتماعية والصحة والسن والعِرق وغيرها من السمات، وُجد أن المشاركين الذين أفادوا بممارسة الجنس مرتين إلى ثلاث مرات على الأقل شهريًّا كانوا أكثرَ سعادة بنسبة ٣٣ في المائة مقارنةً بالذين أقرُّوا بأنهم لم يُمارسوا الجنس خلال الاثني عشر شهرًا الماضية. بل إنَّ ممارسة الجنس ولو مرة شهريًّا تؤدي إلى الارتفاعِ نفسه في مستوى السعادة الناتج عن الحصول على ٥٠ ألف دولار زيادة على الدخل السنوي!

إذن، كم مرَّة لا بدَّ أن تُمارس الجنس حتى تبلغ أقصى درجات السعادة؟ تيم ودزورث، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولورادو، بولدر، تفحَّص بيانات استقصاء وطني جُمِع من أكثر من ١٥ ألف أمريكي على مستويَي السعادة ومعدَّل ممارسة الجنس. فبدا أن ناتج السعادة يزيد مع التكرار. فمقارنةً بمن لم يمارسوا الجنس في العام السابق، كان مَن أفادوا بممارسة الجنس مرةً أسبوعيًّا أرجحَ أن يُفيدوا بمستوًى أعلى من السعادة بنسبة ٤٤ في المائة. أما الذين أدلَوا بممارسة الجنس مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيًّا فكانوا أرجحَ أن يُفيدوا بمستوياتٍ أعلى من السعادة بنسبة ٥٥ في المائة.

مما يُثير الاهتمام أن قناعة الناس بمعدل ممارستهم الجنس متوقفة هي الأخرى على ما يظنونه عن معدَّل ممارسة أصدقائهم للجنس. فرغم أن الأشخاص الذين كانوا يمارسون الجنس بمعدلٍ أكبر أفادوا بمعدلات مُرتفعة من السعادة بوجه عام، حتى بعد تحييد معدَّل ممارستهم الجنس، كان الأشخاص الذين ظنوا أنهم يُمارسون الجنس أقلَّ من أقرانهم أقلَّ سعادةً من أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يمارسون الجنس بنفس معدَّل أقرانهم أو أكثر منهم. بناءً على هذه المعلومة، إذا كان أفراد إحدى مجموعات الأقران يمارسون الجنس مرتين لثلاث مرات في الشهر، لكن يظنُّون أن أقرانهم يمارسونه مرة أسبوعيًّا، فإن احتمال إفادتهم بمعدلاتٍ أعلى من السعادة يتراجع بنسبة ١٤ في المائة. (هذا الاكتشاف دليلٌ آخر على مخاطر المقارنة، كما بيَّنت في الفصل السادس.)

لكن دعوني أوضِّح فحسب أن هذا التأثير لا يَعني أن مُمارسة الجنس هي السبيل الأمثل للعثور على سعادة أكبر. فإنه في واقع الأمر، حين طُلب من بعض الأزواج، في جزء من دراسة بحثية غريبة باعتراف الجميع، أن يُضاعِفُوا معدَّل ممارستهم الجنس على مدار ثلاثة شهور، لم يشعروا بسعادة أكبر.23 بل إنهم شعروا بإرهاقٍ وتدنَّت سعادتهم بدرجة كبيرة؛ كما أنهم أفادوا بتراجع استمتاعهم بالجنس.

ما هو الهدف من هذه الدراسة إذن؟ قد لا يكون معدَّل ممارسة الجنس في حد ذاته الجزء الأساسي من السلوك الذي يجعلنا سعداء. فهذه الدراسة على كل حالٍ تُبيِّن صلةً بين معدَّل ممارسة الجنس والسعادة، لكنها لا توضِّح ما إن كانت هذه العلاقة نتاجَ ممارسة ناسٍ سعيدة للجنس بمعدَّل أكبر، أو المزيد من الجنس الذي يؤدي إلى مزيدٍ من السعادة، أو ما إذا كان ثمَّة عوامل أخرى تؤثِّر على السعادة ومعدل ممارسة الجنس (مثل ألا يكون هناك أطفال صغار). إنما الجنس مؤشِّر جيِّد إلى حدٍّ ما على ما إذا كانت العلاقة بين الزوجين أو المُترافقين قوية؛ فالتمتع بهذا النوع من الحميمية يُفضي إلى السعادة بطبيعة الحال. وسوف أوضح المزيد بشأن قدرة العلاقات على إثارة السعادة في الفصل الثاني عشر.

استكشاف المعتقَدات الدينية أو الروحانية

بصرف النظر عن عقائدهم المحدَّدة، يتمتع أصحاب المعتقدات الدينية أو الروحانية بمستوياتٍ أعلى من السعادة والرضا عن الحياة.24 فقد وجدت الاستقصاءات الوطنية للأمريكيين أن ٤٧ في المائة من الذين يحضرون شعائرَ دينية أكثر من مرة أسبوعيًّا يُفيدون بأنهم «سعداء جدًّا» في مقابل ٢٦ فقط من الذين لم يحضروا شعائر دينية قط. كذلك تنخفض بين الذين يحضرون الشعائر الدينية مستوياتُ الاكتئاب ومعدَّلات الانتحار.
fig16
شكل ٨-٢: الأشخاص الذين يُداوِمون على حضور الشعائر الدينية يُفيدون بشعورهم بالسعادة أكثر من الذين يحضرونها بمعدلاتٍ أقل أو لا يَحضُرونها مطلقًا. (Myers, D. G., & Diener, E. (2018). The scientific pursuit of happiness. Perspectives on Psychological Science, 13(2), 218–225. Copyright © 2018 by SAGE Publications. Reprinted by Permission of SAGE Publications, Inc..)
علاوة على ذلك، يقترن الاهتمام الديني بالتمتُّع بصحة أفضل، متضمنًا ذلك مستوياتٍ أقل من الإصابة بالسرطان وأمراض القلب والسكتة.25 كذلك تعتري أصحابَ المعتقَدات الدينية القوية مضاعفاتٌ أقل، ويلبثون في المستشفى فتراتٍ أقصر عند إجراء جراحة قلب.26
في الواقع، تساعد هذه المعتقدات الناسَ على العيش فترات أطول. ففي واحدة من الدراسات، تفحَّص الباحثون بيانات أكثر من ٧٤ امرأة، ظللنَ يُجِبنَ على استبيانات عن نظامهن الغذائي وأسلوب معيشتهن، وحالتهن الصحية كل عامين، وعن حُضورهن الشعائر الدينية كلَّ أربعة أعوام.27 مقارنةً بمن لم يَحضُرنَ شعائر دينية على الإطلاق، كان اللواتي يتردَّدن عليها أكثر من مرة أسبوعيًّا خلال فترة الدراسة التي استمرت ١٦ عامًا أقل عرضة للموت بنسبة ٣٣ في المائة وعِشنَ أكثرَ بمتوسط خمسة شهور، حتى حين حيَّد الباحثون تأثيرَ عدة عوامل أخرى، مثل النظام الغذائي، والنشاط البدني، واستهلاك الكحول، والموقف من التدخين، ومؤشِّر كتلة الجسم، والاندماج الاجتماعي، والاكتئاب، والعِرق، والانتماء القومي. أما اللواتي كنَّ يحضُرن أسبوعيًّا فكنَّ أقل عرضة للموت بنسبة ٢٦ في المائة، ومَن يَحضُرن أقل من مرة أسبوعيًّا كنَّ أقل عرضةً للموت بنسبة ١٣ في المائة، وقد خفَّض هذا السلوك من احتمال وفاتهنَّ بأمراض القلب والأوعية الدموية (بنسبة ٢٧ في المائة)، وبالسرطان (بنسبة ٢١ في المائة). تعني هذه النِّسب المُنخفِضة من الوَفَيات أن الذين يحضُرون الشَّعائر الدينية أكثر من مرة أسبوعيًّا يَعيشُون حتى سن ٨٣ سنة، مقارنةً ﺑ ٧٥ سنة فقط بالنِّسبة إلى مَن لا يحضُرون الشَّعائر الدينية مُطلقًا.
fig17
شكل ٨-٣: الأشخاص الذين يُداومُون أكثر على حضور الشعائر الدينية يعيشون أطولَ ممن لا يحضُرونها مطلقًا. (Myers, D. G., & Diener, E. (2018). The scientific pursuit of happiness. Perspectives on Psychological Science, 13(2), 218–225. Copyright © 2018 by SAGE Publications. Reprinted by Permission of SAGE Publications, Inc..)

كيف يؤدي تبنِّي المعتقَدات الدينية أو الروحانية إلى تلك النتائج المُفيدة؟

قد يكون من العواملِ الدعمُ الاجتماعي الهائل المتوفر داخل العديد من المجتمَعات الدينية. فقد ينتسب الأشخاص المتديِّنون إلى كنيسة أو معبد أو مجموعة لدراسة الإنجيل مما يُكوِّن شبكة دعم تمنح دعمًا اجتماعيًّا قيمًا. من الأمثلة على ذلك أن أصحاب المُعتقَدات الدينية الذين يتعافون من جراحة القلب لا يحدوهم تفاؤلٌ أكبر فحسب لكنَّهم يشعرون كذلك أن لديهم قدرًا أكبر من الدعم الاجتماعي.28 وقد أدَّت هذه الاعتقادات بدورها إلى مستويات أدنى من القلق والاكتئاب.
وثمَّة تفسير آخر ألا وهو أن الاعتقادات الدينية تجعل الناس أكثر اطمئنانًا لا سيما أن هذه الاعتقادات تُساعِد الناس على مواجهة مكدِّرات الحياة الكبرى مستعينين بطريقة تفكير إيجابية، وهو ما يحُدُّ بدوره من التأثيرات الفسيولوجية الضارة للضغط النفسي على الجسم. حين يخضع مرضى السرطان الشاعرون بهدفٍ وسلام لإجراء زرْع الخلايا الجِذعية، يعتريهم قدرٌ أقل من الأعراض الجسدية، على غِرار الغثيان، ويبدو عليهم مستويات أدنى من الاكتئاب والقلق والإنهاك في العام التالي للزرع.29 ومرضى فشل القلب الاحتقاني الذين يُفيدون بأن لديهم إيمانًا روحانيًّا قويًّا، أقلُّ تعرُّضًا للوفاة خلال السنوات الخمس التالية لنَوبتِهم القلبية عن أولئك الذين يُعوزهم ذلك الإيمان.30 ويظلُّ هذا الارتباط بين الروحانيات والموت صحيحًا حتى حين يضع الباحثون في حسبانهم مُتغيِّرات أخرى تُؤثِّر على متوسِّط العمر المتوقَّع، مثل السن والنوع الجنسي والسلوكيات الصحية. حتى في وجه الأمراض الخطيرة التي تهدِّد الحياة، تساعد المعتقدات الدينية والروحانية على الحد من الضغط النفسي ومن ثَم تحسِّن الصحة.

وأخيرًا، فإن المعتقدات الدينية تَمنح الناس أيضًا طرقًا لاستيعاب الأحداث المفجعة وتعطي مغزًى من نوعٍ ما حتى للمآسي التي تبدو بلا معنًى. إدراك فوائد التجربة السلبية يمنح الناس فرصةً لمواجهة أفكارهم عن الصدمة ومشاعرهم تجاهها والتأقلُم معها لكن مع التركيز على الجوانب الإيجابية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى رفاهٍ نفسي وجسدي أكبر. فالاعتقاد، مثلًا، بأن الرب لن يكلفك أكثرَ مما تطيق، أو أن الشخص العزيز عليك الذي تُوفي صار في مكانٍ أفضل، أو حتى أن الأشياء السيئة تحدُث لسببٍ ما، يجعل الناس أقل توترًا واكتئابًا. وكما حكيت في بداية هذا الفصل، اعتمد العديد من الناس على إيمانهم الديني للسَّيطرة على جزعهم، عند مواجهتِهم صدمةَ تحطُّم طائرة واحتمال موتهم الوشيك.

هذه الاكتشافات بشأن الصلة بين المواقف الدينية والعثور على هدف تُسهم في تفسير السبب وراء أن الناس الذين يعيشون في بلدان فقيرة لديهم إحساس أكبر بالهدف مقارنةً بأولئك الذين يعيشون في بلدانٍ أكثر ثراءً.31 رغم أننا قد نتوقَّع أنه من الأصعب أن نعثر على هدفٍ عند العيش وسط مستوياتٍ مرتفعة من الفقر، فإن الناس الذين يعيشون في بلدانٍ فقيرة دائمًا ما يُفيدون بأن لديهم إحساسًا أكبر بالهدف؛ وتعود هذه العلاقة ولو جزئيًّا لمُعتقَداتهم الدينية القوية. من ثَم فإن الدين قد يلعب دورًا بالغ الأهمية في مساعدة الناس على العثور على هدفٍ وسط الظروف العصيبة.

إحدى الاستراتيجيات لبلوغ سعادة أكبر — وصحة أفضل — أن تُشارك في أي نوع أيًّا كان من الأنشطة الدينية أو الروحانية التي تُوافِق أهواءك. قد يتمثَّل هذا لدى بعض الناس في حضور شعائر دينية أسبوعية. وعند آخرين قد يتمثَّل في تخصيص بعض الوقت يوميًّا للصلاة. أو قد يتمثَّل في الانضمام إلى مجموعة لدراسة الإنجيل. إذا كنت ترى إذن أنَّ تبنِّي معتقَدات دينية ورُوحانية سيُساعدك على تدبُّر مكدِّرات الحياة اليومية الصغيرة، بل والكبيرة كذلك، فلتَعثُر على طريقةٍ لدمج هذه العادة في جدولك اليومي (وسوف تتعلَّم المزيدَ عن كيفية فعْل ذلك بالضبط في الجزء الأخير من هذا الفصل).

عليك بالتأمُّل

كما ظللت أُوضِّح طَوال هذا الكتاب، تُؤثِّر أفكارنا تأثيرًا بالغًا على رفاهنا النَّفسي والجسدي. فكثيرًا ما تلعب الطريقة التي نرى بها حدثًا ما من الأحداث دورًا رئيسيًّا في شعورنا واستجابتنا.

من الطُّرق التي نملك بها السيطرة على أفكارنا والتركيز تمامًا على اللحظة الراهنة ممارسةُ التأمل. ينطوي التأمل على تحويل كلِّ انتباهنا إلى شعورٍ واحد، مثل دخول النفَس وخروجه من الجسد، أو فكرة أو عبارة وحيدة — شعار. يُمعن ممارسو التأمُّل إمعانًا في لحظتهم الراهنة ولا يسمحون لأذهانهم بالانجراف وراء الأفكار والشواغل المتنوعة.

بإمكان التأمُّل أن يُحدِث تأثيراتٍ قوية على الرفاه النفسي.32 إذ نجد مثلًا أن الناس الذين يشاركون في مجموعة لتأمُّل الحنان النابع من الحب لمدة ستة أسابيع يُفيدون بنمو مشاعرهم الإيجابية، وعلاقاتهم الاجتماعية، وأهدافهم في الحياة. كما أنهم يشعُرون بنموِّ قناعتهم بالحياة وتناقص مشاعر الاكتئاب لديهم.33 وقد صارت فوائد التأمُّل معروفة جدًّا حتى إن الشركات الكبرى — مثل تارجت وجوجل وجنرال ميلز — ومجالس إدارة المدارس أصبحَت تُشجِّع على ممارسة التأمل. وكذلك يمتدح فوائدَه مشاهيرُ مثل جولدي هاون وهوارد ستيرن وريتشارد جير.
كذلك يؤدِّي التأمُّل إلى صحةٍ بدنية أفضل. فالناس الذين يُمارسون التأمل يشتكون من أعراضٍ مَرضية أقل ومستويات أدنى من الألم.34 وتتجلَّى هذه الفوائد حتى لدى الناس الذين يُعانون أمراضًا خطيرة تُهدِّد حياتهم. فالمُصابون بالسرطان، مثلًا، الذين يتلقون تدريبًا على التأمُّل لا يعربون عن خوفٍ أقلَّ من معاودته إياهم فحسب، ولكن يبدو عليهم كذلك إنهاكٌ أقل، وتحسُّن في الوظائف الجسدية، واستجابة مناعية أفضل.35
كيف تحديدًا يؤدِّي التأمُّل إلى تلك التأثيرات القوية؟ أحد التفسيرات أن التأمُّل يُساعد الناس على السيطرة على الضغط النفسي؛ ومن ثَم يحدُّ من الضرر الذي يطرأ على الجسم نتيجةَ الاستجابة الفسيولوجية للضغط النفسي. كما عرفت في الفصل الثاني، بإمكان السيطرةِ على الضغط أن يساعدنا كثيرًا على الشعور بتحسُّنٍ — نفسيًّا وجسديًّا. فالمراهقون المصابون بارتفاع ضغط الدم الذين يتمرَّنون على ممارسة التأمل مرتين يوميًّا — لمدة ١٥ دقيقة فقط في كل مرة — أقلُّ عرضة للإصابة بأحد أمراض القلب والأوعية الدموية عمن تعلَّموا فقط كيفية خفض ضغط الدم ومخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية.36 بل قد يبدو على مرضى القلب الذين يتلقَّون تدريبًا على التأمل انخفاضٌ في درجة الإصابة بتصلُّب الشرايين.37
بإمكان التأمُّل كذلك المساعَدة على تعطيل أنماط التفكير المدمِّر التي تهوي بنا إلى الحضيض. فإن التركيز بإمعان وحرص على اللحظة والمكان الراهنين يُساعد الناس على الخروج من دوائر التفكير السَّلبي التي تبعث على الاكتئاب، كما شرحت في الفصل الخامس. وحتى إذا كانت أفكارهم تشرد بعيدًا عن الحاضر من حين لآخر، يُعرب الذين يتأمَّلُون عن درجةٍ أقل من الشرود في الأفكار غير المستحبة.38 وهذه الاستراتيجية للحفاظ على الانتباه خلال التأمل تُساعد الناس على التأقلُم بفاعليةٍ أكثر حتى أثناء ترقُّب أحداث مكدِّرة في المستقبل، مثل انتظار معرفة نتيجة اختبار نقابة المحامين.39
قد يؤدِّي التأمُّل كذلك إلى تغيُّرات في المخ تعزِّز الصحة الجسدية والنفسية. مثال على ذلك ما أقدَم عليه باحثون في مستشفى ماساتشوستس العام حين تفحَّصوا صورًا ضوئية للمخِّ لعدد ١٦ شخصًا قبل الاشتراك في دورةٍ لممارسة تأمل اليقَظة الذهنية وبعدها.40 فقد اكتشفوا أن الأجزاء المُرتبطة بالعطف والوعي بالذات في المخ قد نمَت، فيما تقلَّصت الأجزاء المرتبطة بالضغط النفسي في المخ. وتظهَر تغيراتُ المخ المرتبطة بالشيخوخة بدرجة أقل على الذين يمارسون التأمل، مما يوحي بأن التأمُّل قد يساعد على إبطاء التطورات الطبيعية التي تطرأ مع الشيخوخة.41
بل وقد يساعد التأمُّل على عكس عملية الشيخوخة.42 فقد اكتشفَت دراسةٌ جديرة بالاهتمام أن ممارسة التأمُّل قد يؤدي إلى تحسُّن معرفي لدى كبار السن الذين تظهر عليهم علاماتُ خرف مبكِّرة. فقد تقصَّى باحثون في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس فاعلية برنامج تدريبي يجمع بين اليوجا والتأمُّل من حيث الحد من المشكلات المعرفية والعاطفية لدى أشخاص في الخامسة والخمسين فأكثر كانت قد ظهرت عليهم علامات مبكِّرة للخلَل المعرفي، مثل وضع الأشياء في غير أماكنها، ونسيان المواعيد، ونسيان الوجوه.43 إذ يَصل احتمالُ إصابة أصحاب هذا النوع من الخلل المعرفي بألزهايمر وأشكالٍ أخرى من الخرف لأكثر من الضعف.

الأشخاص الذين مارسوا اليوجا والتأمُّل لمدة ثلاثة شهور، شملت صف يوجا لمدة ساعة أسبوعيًّا و٢٠ دقيقة من التأمُّل في المنزل يوميًّا، ظهر عليهم تحسُّن في الذاكرة وأظهروا مستويات أدنى من القلق والاكتئاب. في الواقع، كان هذا النوع من التدريب أكثرَ فاعلية حتى من تمارين الذاكرة التقليدية، مثل حلِّ الكلمات المتقاطعة وتعلُّم برامج الكمبيوتر، التي كثيرًا ما تُستخدم مع المرضى الذين تظهر عليهم علامات الخلل المعرفي. تُشير هذه النتائج إلى أن التمرُّن على التأمُّل لا يمكنه الإسهام في تحسين الذاكرة فحسب، وإنما يَمنح كذلك الناسَ مهارات تكيفية للسيطرة على انفعالاتهم العاطفية إزاء التشخيصات الصعبة.

فإذا كنت تبحث عن طريقة بسيطة نسبيًّا — ورخيصة — للحد من الضغط النفسي والشعور بتحسُّن، فابدأ في التأمل. تستطيع العثور على معلوماتٍ حول طريقة البدء في تبنِّي هذه العادة في كتب، وعلى الإنترنت، ومن خلال تطبيقات على هاتفك كذلك. الأمر لا يَستغرِق سوى وقتٍ قصير نسبيًّا ومن الممكن أن يدرَّ فوائد كبرى فيما يتعلَّق بالسعادة، والتقدُّم في العمر، والحالة الصحية. وتقول سارا لازار، أستاذة علم النفس في كلية الطب بجامعة هارفارد: «إن اليقظة الذهنية مثلها مثل التمرين. إنها شكلٌ من أشكال التمارين الذهنية في واقع الأمر. ومثلما تُعزز التمارين الحالةَ الصحية، وتساعدنا على تدبُّر التوتُّر بشكل أفضل وتطيل العمر، يبدو أن التأمل يمنح بعضًا من تلك الفوائد نفسها.»44

خلاصة القول

أوضحت على مدار هذا الفصل أنواع السلوكيات المختلفة التي أثبتَت الأبحاث أنها تساعدنا على الشعور بتحسُّن والتمتُّع بعمرٍ أطول. فلتبدأ في تبيُّن أيها يُناسبك، والتمس السبلَ للشروع في تبني بعض السلوكيات الجديدة لتكون جزءًا من روتينك اليومي (ستجد المزيد من المعلومات عن كيفية فعْل ذلك في القسم التالي).

لكن عليك أن تتذكَّر دومًا أن الإقدام على أيِّ سلوك طويل المدى يكون أيسرَ حين تجد الدعم. لذلك حاول أن تجد صديقًا — أو اثنين أو أكثر — يمكنهم الإسهام في دعم هذا التحوُّل. هل تريد البدء في الانخراط في مزيد من القراءة؟ كوِّن ناديًا للقراءة مع أصدقاء في حيِّك. هل تريد أن تمارس الرياضة أكثر؟ اشترِ ساعة «فيتبيت» لتحسب خطواتك ونظِّم مسابقاتٍ أسبوعية مع زوجتك أو زميلك في العمل.

إليك بعض الاستراتيجيات الأخرى التي يمكنك استخدامها لتتبنى سلوكًا جديدًا — وتلتزم به التزامًا مع الوقت.

غيِّر رؤيتك

قد يكون من الصعب جدًّا أن يتبنَّى المرء عادةً جديدة، لا سيما إذا كان ذلك يَنطوي على تخليه عن عادة قديمة. لكن تعديل الطريقة التي نرى بها سلوكنا الجديد من الممكن أن يساعدنا كثيرًا في إحداث ذلك التغيير.45

إليك مثالًا لترى كيف يمكن لتغيير طريقة تفكيرنا إزاء سلوكٍ ما أن يساعدنا فعليًّا على تبنِّي عادةٍ جديدة: تخيَّل أنك تُنهي عشاءً شهيًّا في مطعم فاخر، ثم يسألك النادل إذا كنت تودُّ أن تجرِّب للتحلية كعكة الشوكولاتة المشهورين بها. لكن السلوك الجديد الذي انتويته هو أن تَفقد من وزنك، مما سيعني أن تُحاول الامتناع عن تناول كعكة الشوكولاتة. فكيف ستردُّ على سؤاله؟ بعض الناس قد يقولون: «لا، شكرًا. لا يمكنني تناول كعك الشوكولاتة.» وهذا الأسلوب صحيح تمامًا، بالطبع؛ فلا يمكنك بالتأكيد تناول كعك الشوكولاتة ما دمت تُحاول إنقاص وزنك. لكن هذا النوع من التصور يجعل عدم تناول الحلوى كأنه شيء مفروض عليك، يكاد يكون ضد إرادتك؛ إنه يُوحي بأنه غير مسموح لك بتناول هذه الكعكة. إليك صيغةً بديلة يمكنك استخدامها: «لا، شكرًا. فإنني لا آكل كعك الشوكولاتة.» بالكاد تختلف هذه الصياغة عن الاختيار السابق — فقد تغيَّرت كلمة واحدة. لكن المعنى الكامن في هذه الصياغة بالغ الاختلاف. فهذه الجملة تؤكد أنك قد حسمت اختيارك، مما يَمنح شعورًا بالقوة والثقة في النفس، بشأن قرار إنقاص وزنك، ومن ثَم فقد اخترت ألا تأكل هذه الكعكة.

بعبارة أخرى، للغة التي تستخدمها عند التفكير في سلوكك والتحدُّث عنه تأثيرٌ قوي في قدرتك على تحقيق تغيير طويل الأجل. فإن الكلمات مهمَّة. ففي تجربةٍ بسيطة للبرهنة على الاختلاف بين «لا أستطيع» و«لا أفعل» وجَّه الباحثون أشخاصًا لديهم هدف تناول طعام صحي لاستخدام إحدى هاتين العبارتين عند مواجهة طعام مُغرٍ. وأثناء مغادرتهم الدراسة، طلب الباحثون من المشاركين أن يختاروا واحدة من أكلتين خفيفتين — قطعة حلوى أو قطعة جرانولا — على سبيل «الشكر» على حضورهم.

أيُّ مجموعة من الاثنتين ذهبت للاختيار الصحي؟ من بين الذين تعلَّموا أن يقولوا «لا أفعل»، اختار ٦٤ في المائة قطعة الجرانولا، في مقابل ٣٩ في المائة من الذين تعلَّموا أن يقولوا «لا أستطيع.»

تُوضِّح هذه الأمثلة قدرة التعبيرات على تغيير الطريقة التي نرى بها السلوك، مما يُساعدنا بدوره على الحفاظ على السُّلوك الجديد بمرور الوقت.

ضع خطة

أحد أصعب الأجزاء في تغيير سُلوكٍ معيَّن هو أن تبدأ في روتين جديد، سواء كان نوعًا من النشاط البدني اليومي، أو تعلُّم التأمل، أو وضع الهاتف جانبًا لتقرأ كتابًا ليلًا. من ثَم، فلتتبيَّن التغيير الذي تريد تحقيقَه، ثم ضعْ خطة محدَّدة للطريقة التي ستنفِّذ بها هذا السلوك في الأسبوع المقبل. يُساعدك هذا النوع من النهج القصير الأجل على البدء في روتين جديد، من الممكن أن يصير مع الوقت جزءًا من حياتك.

احرص على أن تتأمل مليًّا كيف يمكن لهذا التغيير في العادات أن يَنسجم مع جدولك اليومي. فإن الالتزام بسلوك جديد يكون أيسر كثيرًا حين يكون منسجمًا بسهولة مع حياتنا اليومية. لنقل مثلًا إنك تريد أن تبدأ في التأمل أو السير مدة ٢٠ أو ٣٠ دقيقة يوميًّا. تأمَّل يومك وأين تستطيع أن تجد هذا الوقت في الواقع. هل سيكون أول شيء تفعله في الصباح؟ هل سيكون في فترة الغداء؟ هل سيكون مساءً بعد تناول العشاء مباشرةً؟ في بعض الحالات، قد يكون تحديد فترات قصيرة من الوقت أكثرَ واقعية من الفترات الطويلة. فعلى سبيل المثال، الأشخاص الذين يُلزمون أنفسهم بممارسة التمارين لفترات قصيرة — مثل صعود السلَّم أو الهرولة لمدة ١٠ دقائق أربع مرات — يكونون أنجح في الحفاظ على هذا السلوك ممَّن يُحاولون تخصيصَ فترةٍ واحدة أطول للتَّمارين مثل صف رياضي يمتدُّ لساعة.

وأخيرًا، دوِّن خطَّتك. فمجرَّد تسجيل الخطة — ماذا ستفعل ومتى — سيُساعدك على أن تحدِّد أهدافًا أكثر تحديدًا ويَزيد من فرص اتباعك لها فعليًّا. وبمجرَّد أن تُدوِّن هذه الخطة، انشرها في مكانٍ ما لتُذكِّر نفسَك بأهدافك الجديدة.

خُذِ استراحةً من التكنولوجيا

من المُفترض أن تجعل التكنولوجيا حياتنا أيسرَ. لكن الواقع أن التكنولوجيا تثير فعليًّا قدرًا كبيرًا من الضغط النفسي. مثلما أوضحتُ في الفصل السادس، تزيد التكنولوجيا من إمكانية استغراقنا في مقارنات اجتماعية ضارة. كما أن التكنولوجيا تسلب الوقت الأولى به أشياء أخرى نعلم أنها تحقِّق لنا السعادة — مثل قراءة كتاب، أو قضاء بعض الوقت مع الأصدقاء، أو الحصول على قسطٍ وافر من النوم.

لكن قد يكون الشيء الأهم أن وجود التكنولوجيا في حد ذاته يأتي بتوقُّع أننا دائمًا مُتاحون — من أجل الأصدقاء والزملاء وأفراد الأسرة وغيرهم. هذا معناه ألا نحظى مطلقًا باستراحةٍ من المتطلبات المستمرة للحياة اليومية، مما يؤدِّي إلى ضغط نفسي هائل.

في إحدى الدراسات، استعان الباحثون بعينةٍ من البالغين للاشتراك في دراسة عن استخدامهم للتكنولوجيا.46 إذ وزعوا عشوائيًّا جميع المشاركين في الدراسة، الذين كانوا طلابًا وخريجين، بالإضافة إلى أفراد في المجتمع، بمُتوسط عمر ٣٠، في واحدة من مجموعتين لمدة أسبوع. طُلب من الناس في إحدى المجموعتين أن يطَّلعوا على بريدهم الإلكتروني كلما أرادوا كل يوم، وأن يتركوا صناديق البريد الإلكتروني الوارد مفتوحة بحيث يمكنهم أن يروا الرسائل الجديدة عند وصولها، وأن يبقوا على إشعارات الرسائل الإلكترونية الجديدة. أما الذين في المجموعة الأخرى فقد طُلب منهم أن يُطالعوا بريدهم الإلكتروني ثلاث مرات فقط يوميًّا، وأن يُغلقوا صناديق البريد الوارد، وأن يوقفوا إشعارات البريد الإلكتروني.

في نهاية كل يوم، كان المشاركون في كلتا المجموعتين يُكملون اختبارات لتقييم حالاتهم، وخاصةً درجة الضغط النفسي.

وجد الباحثون أن الأشخاص الذين طُلب منهم مطالعة بريدهم الإلكتروني مراتٍ أقل كانوا يعربون عن درجاتٍ أدنى بكثير من الضغط النفسي. في واقع الأمر، كانت فوائد الحد من مرات مطالعة البريد الإلكتروني كبيرةً بحجم تلك المكتسبة من تعلُّم أساليب أخرى للاسترخاء!

إليك طريقة بسيطة لمضاعفة سعادتك: أغلِق هاتفك. فلتضع قواعدَ واضحة ومحدَّدة لاستخدام التكنولوجيا — فلا تستخدم الهاتف بعد الساعة التاسعة مساءً، أو أثناء الوجبات، أو لفترات طويلة خلال عطلة نهاية الأسبوع، حين يجدر بك في الواقع أن تقضي الوقت في التفاعل مع الناس والاسترخاء، بدلًا من مطالعة البريد الإلكتروني والرسائل. الحد من استخدامك التكنولوجيا سيُقلِّل من شعورك بالضغط النفسي ويرتقي بمستوى علاقتك بالآخرين، كما ستعرف في الفصل الثاني عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤