العواطف المضغوطة والسلوك الشاذ

عندما يقول أحدنا إنه درس فرويد فإنه لا يعني بذلك أنه يسلِّم بكل ما قاله وزعمه عن النفس البشرية. كما أن مَن درسوا داروين أو أينشتين أو سارتر أو هيجل لا يسلِّمون بكل ما قاله هؤلاء؛ إذ ليس الدرس حفظًا «عن ظهر قلب»، وليست السيكلوجية رقية نتلوها على المريض فيُشفى، وإنما هي تقليب للفكرة أو الفكرات ومناقشتها، بل قد يكون الدرس بالانعطاف بها إلى وجهات أخرى غير وجهتها الأصلية.

بل أزيد على ذلك وأقول إننا ننتفع أحيانًا بالخطأ كما ننتفع بالإصابة عند المفكر العظيم. وقد سبق لي أن قلت مثل هذا القول عن فرويد. وأخطاء فرويد — أو ما يزعم البعض أنها أخطاء — قد بعثت مئات المفكرين في أنحاء العالم المتمدن على بحث النفس البشرية، يوافقون فيها فرويد أو يخالفونه أو يناقضونه، ولكنهم في كل ذلك يبحثون.

وهنا عظمة هذا المفكر الذي شرع قبل ستين سنة يتساءل: لمَ يسلك زيد هذا السلوك الشاذ ويسلك عمرو هذا السلوك السوي؟

ثم يجيب بأن علة ذلك ترجع إلى أيام الطفولة. وصحيح أنه شرح العوامل في هذه الطفولة بما يدعو إلى مناقشة فروضه ونظرياته، ولكنه عيَّن حدود المسألة وطالبنا بالحل إذا لم نقبل حله هو الذي وضعه.

وماذا نقول في رجل يبدأ بحوثه بقوله إن لكل اتجاه أو حركة أو سلوك علة؟ وإننا إذا كنا نجد رجلًا مستقيمًا وآخر شاذًّا، ثم رجلًا صالحًا وآخر مجرمًا، ثم امرأة مستهترة وأخرى متحفظة، فإننا يجب أن نبحث عن العلة في هذه الحالات: هل هي في العائلة، في المجتمع، في الوراثة، في الوسط؟

لقد قال هو إنها في العائلة، في علاقة الطفل بأبويه في السنوات الأولى من العمر.

ونستطيع أن نخالفه هنا، ولكننا لا نستطيع أن نخرج بذلك من المشكلة وهي: لماذا يختلف الناس في سلوكهم؟

وهذا السؤال هو سؤاله، وهو في صميم السيكلوجية التي تبحث «النفس» في ارتفاعها وانخفاضها، وسلامتها ومرضها، واستقامتها وانحرافها.

وكلمات «النفس» و«العقل الباطن» و«مركب النقص» و«النرجسية» و«مركب أوديب» هي كلمات مؤقتة تحمل كثيرًا من الشبهات، وعندما يتقدم العلم السيكلوجي يستطيع أن يضع المفردات العلمية الدقيقة لهذه الكلمات المؤقتة. وكثير من المناقشات والاختلافات يرجع إلى الشكوك التي تحيط بهذه الكلمات وغيرها؛ لأنها غير محددة المعاني.

وأحب أن أصف مؤلفات فرويد بأنها فلسفة، بل هي أحيانًا فن أكثر مما هي علم؛ ذلك أني أحس أنها أنارت بصيرتي أو زادتها وحفزتني على الدرس، وإن يكن هذا الدرس يختلف بل ينحرف عن اتجاهات فرويد، وربما يكون خير وصف لأفكار فرويد أنها خمائر.

ويكفي أن نلخِّص أفكار فرويد أو نظرياته أو فروضه فيما يلي:
  • (١)

    الفكرة الأولى أن علاقة الطفل بوالديه، منذ يُولد، إلى السنة الثانية من العمر تعيِّن له مركبًا؛ أي عقدة نفسية، تتألف من استجاباتها ورجوعها أخلاقه وتصرفاته سائر عمره ولو بلغ السبعين أو الثمانين من العمر. وهذا المركب يُسمى «مركب أوديب».

    وفرويد يصف هذا المركب بأنه علاقة عشقية جنسية بين الطفل وأمه. وهذا العشق يُحدِث غَيرة بينه وبين أبيه، ثم ينشأ صراع في نفسه بعد ذلك بين حبِّه وغيرته تتكون منه بذرة الأخلاق التي تنمو في اتجاهات معينة وفق السنة الأولى من عمره.

    وإذا كنا نحن نشمئز من هذا التفسير، فإنه ليس بيننا مَن ينكر أن في الطفل نبضات وإحساسات جنسية غامضة تعم جسمه كله، بل هذه النبضات تبقى طيلة أعمارنا وإن كانت الحدة فيها تتحيز أجزاء معينة عندما نكبر ونراهق.

    واختلافنا مع فرويد هنا ليس بشأن الإنكار لهذه الإحساسات الجنسية في الأطفال وإنما بشأن الخطورة التي يعلقها في مستقبل الأخلاق بشأن هذه العلاقة بين الطفل وأمه وأبيه. وعندي أنه يسرف في المبالغة في قيمة هذه العلاقة، وأنه يصف هذه الإحساسات بأنها «حب جنسي» مع أنها لا تزيد على إحساس المراهق بلذة الاحتكاك بيده في «العادة السرية»؛ أي إنها إحساس فقط، بل إن هذه العادة تعود إلى هذا الإحساس الطفلي القديم.

    ولكنه هنا — أي فرويد — عندما وضعنا موضع التأمل لهذه العلاقة حملنا على أن نبحث موقف الأطفال في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من أعمارهم، فانحرفنا عن الطريق الذي اتبعه هو في التفسير، ولكننا هبطنا على عالم كبير في معاني التربية والأخلاق. وبذلك أخصب فرويد تفكيرنا حتى ونحن نخالفه، ونتيجة ذلك أننا نقول الآن: «إن أخلاقنا وميولنا واتجاهاتنا وأطماعنا هي ثمرة ما انغرس في نفوسنا مدة السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من أعمارنا.»

  • (٢)

    والفكرة الثانية أن أحلامنا هي أفكارنا الحرة، تبدو لنا في رموز تحتاج إلى التفسير حتى نعرف بها أعماق نفوسنا الخافية علينا. فقد يعتقد أحدنا أنه رجل صالح ولكنه في أحلامه، التي لا تحتاج إلى صعوبة كبيرة في التفسير، يثبت أن له نزعات إجرامية خطيرة، وأنه يوشك أن يرتكبها ويحتاج إلى التحذير والنصح.

  • (٣)

    والفكرة الثالثة التي تعلمناها من فرويد هي «العقل الباطن»، وهي كلمة سيئة وأسوأ منها «اللاشعور» و«اللاوعي».

    ومرجع العقل الباطن أننا نكره استذكار ما يؤلمنا أو يخزينا. ألسنا نقول لأحد الأصدقاء عندما يحدثنا عن شخص نكرهه: «دعنا من هذه السيرة، لعنة الله عليه!»

    والمعنى هنا أننا لا نطيق ذكر الأشياء أو الناس الذين نكرههم وعندئذٍ نحن ننساهم أو نكظم سيرتهم أو نضغطها حتى لا ترتفع إلى وعينا، فنتألم، ولكننا بهذا العمل لا نمحو الذكرى؛ إذ هي تبقى مختفية في «العقل الباطن». فإذا حدث لنا حادث مشابه لحادث قد ضغطناه أو كظمناه (أي نسيناه) قبل عشرين أو ثلاثين سنة، فإن عواطف الغضب، أو الخوف، أو الاشمئزاز، أو الخزي، تعود إلينا قوية دينامية، فتعين سلوكنا واتجاهاتنا.

    نسينا الحادث البغيض وبقيت العاطفة التي كانت تلابسه مختبئة فيما نسميه «العقل الباطن».

    والأحلام تفرج عنا بعض التفريج برموز تحتاج إلى التفسير، ولكن هذه العواطف المكظومة، المضغوطة، المنسية، في العقل الباطن، كثيرًا ما تحفزنا إلى سلوك شاذ إجرامي كما ترى في المثال التالي: عمد بعض السيكلوجيين في إنجلترا إلى تحليل وتنويم بعض المجرمين الذين ارتكبوا جريمة القتل العمد، فوجدوا أنهم جميعًا تقريبًا عندما يُنوَّمون ثم يُستجوبون يردون على الأسئلة التي توجَّه إليهم بشأن الأسباب لارتكاب جريمتهم بذكر أسماء أخرى غير أسماء الأشخاص الذين قتلوهم. وعند البحث عن أسماء هؤلاء الأشخاص نجد أنهم كانوا خصومهم أيام الطفولة.

    هنا البذرة الخصبة التي زرعها فرويد.

    البيئة الأولى للعائلة هي كل شيء في الأخلاق تقريبًا.

    وكأن المجرم الذي قتل زيدًا وهو في سن الأربعين أو الخمسين إنما كان يقتل رمزًا، وكأن هذا الخصم قد أحدث انفعالًا عميقًا كظم في نفسه، وهو طفل، ثم جاءت المناسبة أو المشابهة للموقف القديم، فحدث الانتقام بقتل شخص آخر.

  • (٤)

    والفكرة الرابعة التي تعلمناها من فرويد هي «فن» التحليل. والتحليل هو إيجاد حالة نضع الشخص فيها بحيث يسترخي كأنه في نوم ويفكر فيها كأنه في حلم، وعندئذٍ يبوح ويستسلم للانفعالات التي كمنت وتعفنت في نفسه منذ عشرين أو ثلاثين سنة، كمنت لأنه كان يضغطها وينساها.

    وهو حين يبوح يرتاح فيذهب عنه التوتر والكرب اللذان لم يكن يعرف سببهما.

    ثم هو يعرف مرجع التوتر والكرب فيشفى منهما؛ لأنه يتعقل ويقول: «ما دام السبب لهما قد زال فإني يجب أن أرتاح وأتخلص منهما.»

    هذه هي الفكرات الأربع الخصبة في فرويد. وقد تفرعت منها عشرات الفكرات الأخرى كان فضل فرويد فيها الإيحاء والتلميح.

وميزة فرويد في جميع أبحاثه أنه جريء ومخلص، فمتى حطَّ على فكرة فإنه لا يبالي أن يقول بها ويشرحها ولو خالفت مألوف الناس، وخاصة العامة من «العلماء» الذين يحتضنون الخرافات فيما خرج عن العلم الذي يدرسونه، ثم قد يدعوه إخلاصه إلى أن ينكِر بعض أقواله كما فعل في «الرغبة في الموت» التي ظن أنها حقيقة استخلصها من التحليل النفسي لبعض المرضى، ثم عاد فأنكرها.

إن الذين عاصروا فرويد ودرسوه يحسون أن وجودهم ووعيهم قد زاد في الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤