النعيم المقيم

كان عبد العال بقالًا صغيرًا يعيش من دكان حقير في زاوية منسية في حي وطني، وكان يبيع البقول المتخلفة من الدكاكين الكبيرة، وهي سقط البقول يشتريها سقط الناس، وكان يعيش مع أمه التي تجاوزت الخمسين والتي عرفت من حياتها المريرة الماضية كيف تستغل القرش والمليم إلى أقصى حدودهما في شراء الخبز البائت والبصل والفجل، وكيف تصنع المخلل، وتطبخ نصف الرطل من اللحم مع بعض البقول فتُخرِج منه أطباقًا من الطعام الشهي.

وكانت هي وابنها عبد العال راضيين بهذه العيشة، لا يطمعان في أحسن منها؛ إذ لم يكن هناك منفذ إلى ما هو أحسن.

ولكن الحظ الذي يرفع ويحط نزل ذات يوم على عبد العال بما يقارب عنده ليلة القدر؛ فإن عمه مات فجأة بلا وارث، وكان يملك منزلًا يغل سبعة جنيهات في الشهر.

وتسلم عبد العال المنزل، واشترى بدلة أوروبية، وخلع الجلباب وأصبح عبد العال أفندي، وكبر دكانه وازدحم بالبقول الحسنة واستخدم صبيًّا.

وتسامع الساكنون القريبون منه بقصته: الميراث والبدلة والصبي، وطمحت عيون الفتيات إلى الزواج منه، وأصبحت أمه مقصودة تزورها سيدات الحي، اللائي لم يكن قبل ذلك يعرفنها، ومع كل منهن ابنتها التي تجاوزت العشرين أو كانت دونها بقليل. ولم يمضِ قليل على وفاة العم الموروث حتى كان عبد العال أفندي قد تزوج، وبعد أقل من عام كان يستمتع برؤية ابنه زكي طفلًا جميلًا.

وتجمع عند عبد العال أفندي من متجره ومن المنزل الموروث نحو ثلاثمائة جنيه، بنى منها زيادات على المنزل، ووسَّع متجره، وأصبح يحس كبرياء جديدة فلا يحيي أصدقاءه القدامى، ولا يتعرف إلا بالكبراء من الموظفين الذين يزيد مرتب أحدهم على عشرة جنيهات في الشهر، وكان يحس أنه يفضلهم؛ لأنه كان يكسب من المتجر والمنزل نحو عشرين جنيهًا في الشهر.

وكان الطفل زكي يقضي معظم وقته مع جدته التي كانت تدلله وتملؤه سرورًا وضحكًا وتمازحه وتدغدغه؛ لأن أمه كانت مشغولة بتدبير المنزل وبزيارات الصديقات.

وبقي إلى سن السادسة وهو لا يكاد يعرف أن له أمًّا غير الجدة الحبيبة إلى قلبه، وكانت الخادمة تذهب به كل أسبوع إلى متجر أبيه حيث كان يعطيه في عجلة القليل من الحلوى بعد أن ينهر الخادمة؛ لأنها جاءت به إليه، ثم يأمرها بالعودة إلى المنزل.

ولما بلغ السادسة أُدخل في الروضة، وفي هذه السنة نفسها ماتت جدته. وأحس الصبي فراغًا نفسيًّا لم يفهم منه غير الصبابة التي كانت تحمله من وقت لآخر على أن يقعد سابحًا في فكره ينظر إلى غرفة جدته التي طالما لعب فيها ومرح وضحك.

وكان أبوه، الذي ترك المدرسة وهو في السنة الثالثة الابتدائية، يحقد على كل الذين استطاعوا إتمام دراستهم في حين هو عجز عن ذلك لفقر عائلته، وكان ينظر إلى الموظفين الذين هم دونه في الكسب نظرة الغيرة؛ لأنه هو بقال أما هم فموظفون محترمون.

وهذا الإحساس جعله يرصد اهتماماته وأطماعه في ابنه زكي، وأنه يجب أن ينشأ النشأة العظيمة حتى يصل إلى الجامعة ويخرج منها ويوظَّف، فكان هو وزوجته يتناولان هذا الصبي المسكين بعد عودته من المدرسة بالإلحاح عليه في «المذاكرة»، وكانت أمه تسأله إذا غاب عن ميعاد العودة من المدرسة بدقائق: أين كان، ولماذا تأخر. وكان الصبي يقعد إلى كتبه ودفاتره فيذاكرها، فإذا انتهى منها لم يجرؤ على تركها كي يلعب مع أولاد الشارع ولم يجرؤ على النوم، فكان ذهنه يسرح في خيالات لذيذة تعوضه من سأم المذاكرة، ومن هذه العقد المعذبة وهو مربوط إلى مكتبه الصغير لا يبرحه.

وكان أبوه عندما يحضر من دكانه يقول له، حتى وهو يراه قاعدًا مشغولًا بالمذاكرة: ذاكر، ذاكر، ذاكر، بل إنه حضر ذات مرة في الساعة الثامنة وكان زكي قد نجح في الشهادة الابتدائية والتحق بمدرسة ثانوية فوجده نائمًا فأيقظه وطلب منه أن يذاكر، ويذاكر، ويذاكر.

وقضى زكي السنوات الخمس بالمدرسة الثانوية وهو يذاكر وينجح وينجح، وكان أبوه ينظر بعين النمر إلى سلوكه، فلم يكن يسمح له بالدخول في دار سينمائية أو بالتخلف عقب المدرسة للعب، أو بالممازحة حتى وهو يتعشى مع والديه؛ ولذلك كان زكي أخيب الشبان في كل شيء إلا في المدرسة، وكان أيضًا مع نجاحه في المدرسة معطل الذكاء لا يعرف هل ثمن الحذاء عشرة جنيهات أم عشرة قروش، ولا يستطيع أن يتخيل أن أحدًا في سنه يستطيع أن يسافر وحده من القاهرة إلى الإسكندرية، ولم يعرف شيئًا من جمال البقول ونضرة الزرع والزهر. ورأى زكي بعض زملائه في المدرسة يدخنون ففعل مثلهم، ولما عاد إلى البيت أخبر أمه وهو يضحك بما فعل، ولكن هذه أخبرت والده الذي سلط عليه العصا الغليظة، وضربه ضربًا قاسيًا، ورآه أبوه ذات مرة وهو يقرأ قصة غرامية فنزعها منه وضربه بقسوة، ولم يكن يدخل البيت مجلة مصورة أو جريدة يومية أو قصة أو أي كتاب آخر غير الكتب المدرسية، ولم ينعم قط بنزق صغير أو كبير.

ونال زكي الشهادة التوجيهية وهو في حوالي السادسة عشرة وشرع أبوه يعده للدخول في كلية الآداب بالجامعة، وكان زكي كلما سمع عن الجامعة يضطرب؛ لأنها كلها مذاكرة، ولماذا لا يوظَّف من الآن ويستريح من المذاكرة.

وكان يلجأ إلى فراشه في شهور الإجازة ويفكر في هذا العذاب المنتظر من الجامعة، وفي الرقابة الجهنمية التي كان يمارسها أبوه عليه حتى يقضي كل وقته في البيت في المذاكرة، فيحس كربًا كأن جسمه ينبض بالوجع، وكان قد عرف قبل سنتين العادة السرية، وكان كل ليلة تقريبًا يسرِّي بها عن كظمه وحبس عواطفه، وكان يتخيل الخيالات اللذيذة، ثم يفرج عن نفسه بهذه العادة وينام مستريحًا.

أما الآن وهو في السادسة عشرة فقد غمرته الخيالات الجنسية وانغمس لذلك في هذه العادة التي صار يمارسها في اليوم الواحد نحو سبع أو عشر مرات، وأرهقته هذه العادة حتى كان يلهث عندما يصعد على السلم، وشحب لونه وهمدت قواه، وكان يخفي كل ذلك ويخشى من هذا الإخفاء نفسه، ويحس خجلًا وإجرامًا كلما قعد إلى والديه أو أحد الغرباء، وكان عندما ينام يحلم أحلامًا لذيذة تتكرر كل ليلة بتنقيح خفيف أو بلا تنقيح، هي أنه يعود طفلًا يلعب مع جدته في الغرفة المقابلة، وكانت تحمله على ظهرها أو تطرحه وتدغدغه حتى يكاد يموت من الضحك، وتطورت الأحلام عنده بعد ذلك فكان يرى نفسه وهو على جواد مذهب السرج واللجام، ثم يطير الجواد به فوق القاهرة، وجدته تنظر إليه، وهو يقطع الجو. وفي الوقت الذي كان يستمتع الشبان في سنه بصبوات النزق في السهر ومعاكسة الفتيات بكلمات جنسية، أو كانوا يروِّحون عن سأمهم برؤية القصص السينمائية أو قراءة القصص الغرامية ويخرجون إلى الحقول حول القاهرة، أو يركبون البسكليت أو يقضون شهرًا على شواطئ الرمل وهم يغازلون البنات ويسبحون على الأمواج؛ في هذا الوقت كان زكي لا يعرف غير المذاكرة، المذاكرة، المذاكرة، وكان هو ينجح في المدرسة، وكانوا هم يفشلون. ولكنهم كانوا على صحة نفسية وعلى معارف دنيوية تفوق ألف مرة معارفه المدرسية؛ لأنهم كانوا يستطلعون هذه الدنيا ويفطنون إلى كثير من أسرارها التي خفيت وغابت عن زكي. كانوا ينامون ولا يحلمون، أو يحلمون بما ينفع من اقتحامات أو مصادفات محببة بالفتاة التي تعقبوها وصدت عنهم بعد كلمة قاسية ما كان ألذها وقعًا على نفوسهم. وبالسباحة، وبالسباق على البسكليت، وبالقصة التي قرءوها أو رأوها على الشاشة السينمائية وبالبذلة الجديدة وبالفسحة الجميلة في الريف.

وكان بعضهم يمارس العادة السرية ولكن في تحفظ، مرة أو مرتين كل عشرة أيام، بل لقد قص أحدهم أنه منذ عرف فتاته التي يرافقها وينفق عليها كف عن هذه العادة لقذارتها وبعدها عن الشهامة، وكان بعضهم يدخن، كما أن بعضهم قد عرف الخمر، ولكنهم كفوا عن التدخين والخمر؛ لأن المتع الأخرى كانت أجمل وأروع. كانت صحتهم النفسية عالية، صحة الشباب وغرائزه، صحة النشاط الجنسي السليم والذهني السليم، وكانت الدنيا جميلة في أعينهم تحوي جمال الشفق، وجمال الشعر، وجمال القصة، كما تحوي جمال الفتيات، وزهوة البذلة الجديدة ومرح السباحة على الماء ولذة الحديث بالنكات المشتبهات مع الإخوان، وكانوا يستمتعون بالوجبة الدسمة والحلوى المريئة، جسم سليم ونفس سليمة.

وكانوا يتأخرون في دروسهم أو قد يساعدهم الحظ فلا يتأخرون، ولكن المدرسة لم تكن قط عذابهم كما كانت عند زكي الذي سبقهم؛ لأنه كان يكب على دروسه ولا يعرف أية متعة يفرِّج بها عن صعوباته غير أحلام اليقظة وأحلام النوم؛ ولذلك كانت نفسه مريضة.

وقد لحظت أمه أعراضًا فيه فتحت بصيرتها — بصيرة الأم — إلى أنه ليس على ما يجب أن يكون؛ فإنه في الصباح لم يكن يترك الفراش بل كان يبقى منسطحًا وعيناه إلى السقف، ولم يكن ينهض لطعام إذا دُعي، فإذا أفطر عاد إلى الفراش وعيناه إلى السقف، فإذا دُعي إلى الغداء نهض وتغدى وهو سارح الفكر لا يأكل شيئًا غير الطبق الذي أمامه، ثم يعود إلى السرير فينسطح وعيناه إلى السقف.

وكانت أمه تتأمله وتحاول أن تجره إلى الحديث، فلم يكن ينظر إليها وهي تحدثه، وانتهت أمه إلى القول أن هذه الحال ليست طبيعية.

•••

أي أيتها الأم المسكينة إنك لم تكوني تدرين أنه كان ينتهك نفسه في اليوم، وهو حبيس غرفته، نحو سبع أو عشر مرات، ولم تكوني تدرين أنك أنت وزوجك السبب في هذا، بحبسه ومنعه من أي نشاط إلا المذاكرة، ذاكر، ذاكر، ذاكر. وأنه لم يعرف أساليب التفريج الأخرى التي كان يمارسها الشبان، والصداقة والمزاملة مع إخوانه، والفسحة المارحة في شارع فؤاد، والاصطياف الجميل على الشواطئ، وقراءة المجلات والجرائد. لقد منعناه من كل ذلك فانحجز في الحجرة وانطوى على نفسه يأكلها ويفنيها.

•••

وتمادى زكي في غياب الذهن والانسطاح على الفراش والاستسلام للأحلام، وقد أصبحت أحلام النوم عن جدته، ولعبه، وحديثه معها، والجواد الذي يركبه فوق السحاب في القاهرة، أحلام يقظته أو ما كان يظن أنها يقظته؛ لأنه لم يعد يقظًا؛ إذ كان في غيبوبة ذهنية دائمة.

ورويدًا رويدًا أصبحت «لا» أو الصمت الذي يدل على معناها شعاره ومفتاح وجوده في الدنيا. قم كل: لا. قم البس ملابسك: لا. قم اغسل وجهك: لا. أو صمت تام لا يرد ولا ينبس بكلمة. حياة محبوسة، عواطف مكظومة، انحصار الذهن في المذاكرة الكريهة، انتفاء التفريج أو التنفيس. ماذا يفعل إزاء هذا كله؟

يفر من هذا الواقع المتعب المضجر المؤلم إلى الخيال، وأي خيال عنده أجمل من ذكرى جدته ولعبها وحديثها معه؟! لقد عاد زكي فتى في الرابعة يعيش ليتحدث فقط إلى جدته ويبعد عنه رؤية الدروس والأم والأب القاسيين. والواقع أن أمه كانت تقف أمامه وتتضرع إليه كي ينهض ويأكل، فلا يرى وجهها ولا يسمع كلامها، وهو سعيد بهذا الذي فيه بخيالاته، ولكنه لم يعد إنسانًا؛ إذ هو استحال إلى شبح إنسان فقط، يجتر خواطره وأحلامه عن السنوات الخمس التي قضاها مع جدته قبل أن يبدأ البرنامج الذي وضعه له أبوه كي يدرس ويذهب إلى الجامعة ويخرج منها ويصبح وزيرًا أو وكيل وزارة.

وجاء الطبيب فطلب نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية، إلى المارستان. وصُعق الوالدان بهذا القرار، ورفضت الأسرة نقل زكي إلى المستشفى وتعلقت الأم بابنها واحتضنته وهي تلهث من الوله، ووقف الأب وقد جمُد عقله وعميت بصيرته لا يدري علة كل هذا الذي حدث.

وقال الطبيب: هذا المرض هو الشيزوفرينيا، هو جنون يصيب الشبان المضغوطين الذين لم يطيقوا الحياة الواقعة ففروا منها إلى الخيالات والأحلام، هو الآن يحلم ويتخيل، وهناك أمل بالشفاء، ولكنه أمل ضعيف، وفي المستشفى مرضى مضى عليهم خمسون سنة بلا شفاء.

وتركهم الطبيب بعد أن أفهم الأبوين أن زكي في «نعيم مقيم» يلتذ خيالاته وتأملاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤