سيكلوجية الشيخوخة أيضًا

ظهر في لندن كتاب جديد بعنوان «كيف تستقبل وتبدأ حياتك» للمؤلف إليانور بروكيث.

واسم الكتاب يحمل دلالة جديدة لعصرنا هي أن الناس كانوا، قبل نحو نصف أو ثلث قرن، يستقيلون من أعمالهم أو وظائفهم عندما يبلغون الستين أو الخامسة والستين؛ وذلك لأنهم كانوا يحسون ضعفًا أو عجزًا ينقص كفاءتهم للعمل أو تأديتهم للوظيفة، وكانوا يكفون عندئذٍ عن العمل أو يتركون الوظيفة وهم على إحساس بأنهم قد شرعوا يتهيئون للموت الذي قد يدركهم بعد خمس أو ست سنوات.

وكان هذا الإحساس صادقًا ينهض على المشاهدة؛ إذ كان معظم الناس يموتون قبل السبعين، هذه السن التي عدتها التوراة أقصى ما يمكن أن يطمح إليه الرجل السعيد في هذه الدنيا كما قال سليمان الحكيم.

وعلى هذا الأساس سنت جميع الحكومات المتمدنة — ونعني حكومات الأمم الصناعية وحدها — قوانين تنص على أن كل مَن يبلغ سن الستين أو الخامسة والستين له الحق في الحصول على معاش طيلة حياته يترجح بين سبعة وعشرة جنيهات في الشهر، سواء أكان رجلًا أم امرأة، وزادت بعض الحكومات مقدار هذه المعاشات حتى إنها لتبلغ نحو أربعين أو خمسين جنيهًا في الشهر في بعض الولايات المتحدة أو بعض الحكومات الأخرى، مثل حكومات أستراليا أو زيلندا الجديدة أو كندا.

يحصل الرجل أو المرأة منذ سن الستين أو الخامسة والستين على معاش شهري إلى أن يموت في الثمانين أو التسعين أو المائة دون أن يُطالب بأي عمل، ولكن يجب أن نذكر أن هذا يحدث فقط عند الأمم التي اعتمدت على العلم والصناعة والاختراع والابتكار واقتحام المستقبل، الأمم الثرية الصناعية.

ولكن هنا المشكلة.

فإن إنجلترا شرعت تنفذ معاشات الشيخوخة منذ سنة ١٩٠٩ حين كان الناس يعتدلون في التعمير ويموتون حوالي السبعين، أما الآن فإنهم يسرفون في التعمير، ويصلون إلى الثمانين والتسعين والمائة بلا أقل حياء من وزير المالية.

فلم يكن ينفق من ميزانية الدولة على هذه المعاشات في ١٩٠٩ سوى نحو ٢٠ مليون جنيه، أما الآن فإن المسنين يكلفونها مئات الملايين من الجنيهات. ثم هم في ازدياد؛ لأن متوسط الأعمار كان حوالي عام ١٩٢٠ لا يزيد على ٤٠ أو ٥٠ سنة، أما الآن فقد ارتفع في إنجلترا إلى ٦٨ للرجل و٧٠ سنة للمرأة.

لماذا يعيشون ويبلغون من العمر أرذله؟!

ومن أين تأتي الحكومة الإنجليزية، وغيرها من حكومات الأمم الصناعية العلمية الثرية، بالمال كي تقدمه هدية آخر كل شهر للمئويين من المسنين ومن دونهم ومن فوقهم ممن تجاوزوا الستين.

ما أغرب هذه المفارقة! أوروبا وأمريكا تعانيان مشكلة الصحة والحياة الطويلة، وآسيا وأفريقيا تعانيان مشكلة المرض والحياة القصيرة.

إنها لمقارنة، بل مفارقة محزنة تلك التي نراها في مخيلتنا بشأن المسنين في مصر والمسنين في إنجلترا أو أي قطر صناعي آخر.

إن الموظف المصري يستقيل من وظيفته وكأنه قد استقال من الحياة، فهو يمضي ما بقي من السنوات القليلة من عمره وهو في تخبط. يقعد على المقهى قبل الظهر، ويشرب عشرات الفناجين من القهوة، ويدخن في إسراف، ويتحدث مع أصدقائه عن ذكرياته قبل ٤٠ أو ٥٠ سنة كأنه هو نفسه قد أصبح جزءًا من الماضي، وهو لا يشترك في أحاديث السياسة الحاضرة؛ لأنها تنطوي على سياسة المستقبل الذي يحس أنه غريب عنه، وهو ينام بعد الظهر فإذا أفاق فكَّر في المقهى، وقد يشرب الخمر ويسرف فيها؛ لأنها تنسيه حاضره التعس.

رجل المعاش نعرفه كلنا في مصر.

هو سمين مترهل مستكرش سيء العناية بملابسه، مشعث الشعر قد نبتت أعجاز لحيته، وهو يشكو.

يشكو الروماتزم، والكليتين، والإمساك، والقلب.

ويشكو سأمه من الحياة كأنه ليس له مكان فيها.

ويشكو سوء المعاملة التي يلقاها من زوجته وأبنائه، إنه زائد غير نافع.

ويشكو إسرافه في التدخين وإسرافه في الطعام وعجزه عن الاعتدال.

ويشكو استهتار الشباب والفتيات وأنهم لم يعودوا يبالون بالتقاليد حتى إن إحدى الفتيات في أسرته قد صرَّحت بأنها لن تتزوج إلا من شاب تحبه، أما هو ففي أيام شبابه لم يكن يعرف كلمة الحب، وقد اختارت أمه له زوجته، وهو حين ينهض من المقهى ويذهب إلى منزله يسير مطأطئًا كأنه يمشي إلى جنازته وقد تلفف بكفنه.

هو ميت قد تأخر دفنه، ولذلك لا يستحق معاشًا؛ إذ هو يخدعنا بأنه حتى مع أنه ليس كذلك.

ولكن مع هذه الكلمات والأفكار القاسية نحس رحمة نحوه؛ ذلك أن أسلوب حياته الذي عاش به في شبابه قد لزمه بعد ذلك في شيخوخته، وكأن العمل الذي ينتجه أو الوظيفة التي يؤديها يخفيان عنه وعنا تفاهته، ولكنهما كانا يشغلانه فيجد الاهتمام والالتذاذ في الحياة.

أما الآن، بعد زوال العمل والوظيفة، فإنه أمامنا، تافه أمام نفسه، وهذه هي مأساته.

قارن رجل المعاش هذا المصري برجل المعاش الإنجليزي مثلًا.

فإن هذا الثاني قد اتخذ أسلوبًا للحياة أيام شبابه لزمه بعد ذلك مدة شيخوخته، فوجد في سن السبعين والثمانين اهتمامات والتذاذات ورياضات لا يجدها زميله في مصر.

فهو أيام شبابه تعوَّد الرياضة؛ ولذلك هو يلعب التنس بقوة العادة وهو في السبعين.

وفي أيام شبابه اعتاد المطالعة وشراء الكتب والاهتمام بالآراء ومناقشة الأفكار؛ ولذلك هو في الشيخوخة، بقوة العادة أيضًا، يمارس كل هذه الأشياء في لذة ونشاط.

وفي شبابه كان يقرأ الصحف ويعرض لبرامج الأحزاب ويناقش السياسة الداخلية والخارجية؛ ولذلك هو في شيخوخته يمارس السياسة ويشترك في الأحزاب … وفق ما تعوَّد أيام شبابه.

كل هذه الشئون تملأ فراغه وتشغل وقته واهتمامه؛ ولذلك هي تستبقي شبابه. فالشيخ الإنجليزي في الثمانين لا يركد ولا يستسلم للكسل؛ لأن شخصيته أيام شبابه هي نفس شخصيته أيام شيخوخته، بحوافزها ومطامعها وعاداتها.

إذا كانت عاداتنا في الشباب سيئة فإنها سوف تكون أسوأ في الشيخوخة، ومتاعب المسنين عندنا إنما ترجع في الأغلب إلى أن شخصياتهم التي تكونت في شبابهم كانت ولا تزال دون الوفاء بحاجاتهم النفسية والروحية.

هناك وحدة سيكلوجية بين الشباب والشيخوخة.

أرجو القارئ ألا يفهم مما قلت أني أعلل جميع عاهات الشيخوخة عندنا، سواء أكانت نفسية أم ذهنية أم جسمية، بأسلوب الحياة الذي يختاره كل منا.

ذلك أن هناك ظروفًا مدنية وثقافية واجتماعية تتعسنا في شيخوختنا، كما أن ظروفًا أخرى مما تضارع ظروفنا تسعد الأوروبيين والأمريكيين.

فإننا في مصر مثلًا نمرض أكثر من الأوروبيين؛ لأن مدننا قذرة؛ ولأن طرقنا في طهو الطعام سيئة؛ ولأننا فقراء لا نحصل على مقدار البروتين الذي نحتاج إليه في طعامنا.

ومرجع ذلك كله إلى الثراء والتمدن، ثم إلى الهندسة التي جعلت المدن نظيفة تجري فيها شرايين المياه المطهرة، ثم إلى الطعام الوافي الذي نعرفه عند الإنجليز أو الأمريكيين حين يأكلون اللحم ثلاث مرات في اليوم.

فقرنا يتعس شيخوختنا. وليس الشيخ المسن مسئولًا عن هذا الفقر، وإنما تعود المسئولية هنا إلى أولئك المستعمرين والمستبدين الذين حتموا علينا الفقر بأن حظروا علينا الصناعة ونهبوا كنوزنا الزراعية والمعدنية.

وكذلك تقدم الطب في أوروبا حتى كاد يشفي جميع الأمراض الميكروبية، وأوشك على أن يشفي أيضًا جميع الأمراض الانحلالية، فطالت الأعمار واستبقت الشيخوخة مقدارًا كبيرًا من صحة الشباب ونشاطه.

تأمل أيها القارئ كيف اختلفنا.

نحن نعاني في مصر مشكلة المرض والأعمار القصيرة.

وهم يعانون في أوروبا وأمريكا مشكلة الصحة والأعمار الطويلة.

ذلك أنهم يؤدون معاشًا لكل من تجاوز الستين أو الخامسة والستين.

وقد كانوا يؤدون هذا المعاش في إنجلترا لنحو خمسة ملايين مسن ولكن الصحة تتقدم؛ ولذلك لن تمضي سنوات حتى يبلغ عدد هؤلاء المسنين عشرة ملايين يحتاجون إلى المعاش.

وقل مثل هذا في سائر الأقطار المتمدنة.

أليست هنا مشكلة؟!

حبذا هذه المشكلة نراها في بلادنا. نعم، ولكن ليس الآن ونحن في فقرنا الحاضر؛ إذ لن نستطيع أن نؤدي المعاشات السخية للمئويين ومن فوقهم ومن دونهم.

•••

قلت إننا لن نسعد بالشيخوخة إلا عن طريقين:
  • الطريق الأول: أن نصبح أمة عصرية صناعية متمدنة، فيتوافر الثراء، ونحصل به على الحسن أو الأحسن في الطعام والمسكن والهندسة المدنية؛ لأن المدينة النظيفة لا تقل قيمتها في الصحة العامة عن المسكن النظيف، بل لعلها تزيد، وهذا كله من واجبات الدولة والمجتمع.
  • والطريق الثاني: هو الواجب الشخصي؛ أي ما يقوم به الرجل أو المرأة نحو نفسه حتى يعمر العمر الطويل.

ولكن العمر الطويل لا يعني أن نزيد الحياة سنين، وإنما هو يعني أن نزيد السنين حياة؛ إذ ليس هناك سوى العذاب والهوان في أن نمضي شيخوختنا مع الشلل أو الروماتزم أو الأرق أو العمى أو الصمم.

وأمراض الشيخوخة ليست ميكروبية وإنما هي انحلالية، حين تعجز الكليتان أو القلب أو الكبد أو الشرايين عن التأدية الحسنة لأعمالها. ومن شأن هذه الأمراض الانحلالية أنها تتسلل صامتة خفية، وهي في كل حالة ثمرة أو ثمرات لعادات سيئة في العيش، مثل النهم إلى الطعام أو الإفراط في الجهد إلى حد الإرهاق أو السهر الطويل أو التعرض للبرد أو نحو ذلك.

ونحن بالطبع سنموت آخر العمر بأحد هذه الأسباب أو بغيرها، فليست هناك وقاية تامة من الانهيار الأخير ثم الموت، ولكن يجب ألا تطول مدة الانهيار كما يجب أن نصل إلى التسعين أو المائة ونحن في صحة وشباب.

وأحيانًا أتأمل الصحة والمرض في الشيخوخة فأنتهي إلى الإحساس بأن صحة المسنين هي حكمة؛ أي إنهم كانوا حكماء في عيشهم أيام شبابهم وكهولتهم. فاتجهوا اتجاهات معينة في الشباب صانت صحتهم ثم لزمتهم هذه الاتجاهات في الكهولة والشيخوخة فصانتهم بعد السبعين والثمانين.

وأعظم ما يسعدنا في الشيخوخة أن نتعلم في شبابنا كيف نشغل فراغنا بغير العمل الذي نرتزق منه؛ أي بهواية معينة، وقد تكون هذه الهواية هي نفسها العمل الذي نرتزق منه. وهنا السعادة العظمى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤