حياتهم تافهة

من أعظم الدراسات التي حفلت بها حياتي واتسع بها وجداني صناعة التطور، فإنها أكبرت في نظري من شأن الإنسان وجعلتني أنظر إلى تاريخه الماضي وأستطلع في ضوئه تاريخه المستقبل.

وأمتلئ بذلك إحساسًا بعظمته وأتفاءل بتطوره القادم. وأكثر من هذا، أن التطور جعلني أحس خطورة حياتي وقيمتها العظيمة، وأقارن بين هذه الحضارة التي اخترناها منذ خمسة عشر ألف سنة وبين حياة الغابة حين كنا أحرارًا نصيد السمك أو نقتل الحيوان أو نقلع الجذور، ونجول في أنحاء العالم، نصطدم بالأسد أو الأفاعي أو سائر الوحوش ونعيش في مخاطرات متوالية تذكي عقولنا وتحد من عيوننا.

كنا وحوشًا أحرارًا على وجدان بالأخطار وعلى مسرات متوالية بالانتصار عليها أو بتخطيها. أما الآن فنحن، بعد اكتشاف الزراعة على النيل منذ عشرة آلاف سنة، قد استنمنا إلى نظام يجعلنا آمنين من الفزع، نحصل على اختباراتنا من الكتب بدلًا من الطبيعة، بل إننا بالزراعة قد أحلنا الطبيعة إلى حقول مالية تنتج القمح والقطن، كأننا نحاسبها بالقرش والمليم.

ولكني حين أتأمل حياة بعض الناس في هذه الحضارة أجد حقارة أو تفاهة تجعلني أحس أن الغابة القديمة بكل ما فيها من أخطار كانت أشرف وأدعى إلى نشاط الفكر والجسم من حالهم الحاضرة، وأن الحضارة عندهم ليست كسبًا وإنما هي خسارة وخسة وضعة.

لقد قلت إننا في الحضارة نحصل على اختباراتنا من الكتب، ولكن هؤلاء القارئين للكتب هم القلة، أما الكثرة فيعيشون بلا كتب، ويضيق وجدانهم بحيث لا يتجاوز أحيانًا البيت الذي يسكنونه أو الشارع الذي يسيرون عليه من المنزل إلى المكتب.

عرفت في ١٩٢٠ بوابًا لمبنى كبير به نحو ثمانية مساكن، وكان وقتئذٍ شابًّا لا يتجاوز الخامسة والعشرين، وقد قضى إلى الآن أكثر من ثلاثين سنة وهو على باب هذا المبنى من الصباح حتى المساء، لا يزيد عمله اليومي على كنس السلم وعلى إجابة الأغراب عن السكان، وهل هذا الساكن قد خرج أو لا يزال بالمسكن، وكلما مررت به أقول لنفسي ألف مليون سنة.

أجل، إن هذا البواب قد احتاج إلى ألف مليون سنة حتى أخرجته الطبيعة إنسانًا له رأس يحتوي تسعة آلاف مليون خلية للتفكير، ولكنها جميعها تقريبًا معطلة، مع أنها كان يمكن أن تحل مشكلات أينشتين أو تكشف عن دواء جديد للسرطان أو تهتدي إلى تأليف جديد للانحلال والتكون في المادة.

يعيش هذا البواب حياة بلا قصد، ليس فيها برنامج، وهو من حيث الوجود البشري من يده إلى فمه، لا يعرف أنه في أفريقيا، وأن القارات خمس، وأن الشمس هي التي تجعل النباتات تنمو وتقيت القاهرة بالبقول كل يوم. وقد كنت أحب أن أؤلف قصة عن حياة هذا البواب، قصة حقيقية، كيف يقضي يومه ثم كيف ينام في ليله وما هي أحلامه وعدد الكلمات التي يعرفها ويؤدي بها أفكاره، وظني أنها لا تزيد على مائتي كلمة، وهذه القصة ستكون بالطبع مملة غاية الملل عند القراء، ولكن إذا كان سرد القصة مملًّا فكيف تكون العيشة الأصلية لهذا البواب، وأي ملل يجب أن تحتوي.

ولو أن هذا البواب كان يعيش في الغابة، لكان يظفر من الاقتحامات والانتصارات والآلام والأحزان بما كان يملأ حياته ويجعله يعيش ناشطًا متحمسًا كأنه على مسرح يمثل درامة حافلة بالأحداث والعبر، وكان ذكاؤه يحتد وعضلاته تشتد، ولكنه على باب المبنى قد ترهل جسمًا وعقلًا.

وقد تفهمت حياته حتى لا أكاد أصدق أن الطبيعة قد احتاجت إلى ألف مليون سنة لتخرجها إنسانًا سويًّا.

وليست العبرة بفقره لأنه ليس فقيرًا، بل الأغلب أن آلافًا من العمال في المصانع والمكاتب أفقر منه، ولكنهم أوسع وجدانًا وأعمق فهمًا لهذه الدنيا منه، فإنهم يختلطون بزملائهم أو بكبرائهم، ويقرءون أكاذيب الصحافة وحقائقها، ويتحدثون عن الحرب القادمة، ويسهرون على القهوة، ويشربون الشاي مع إخوانهم، ويلعنون التجار الجشعين، ويتشاكون عن الغلاء، وأحيانًا يسكرون ويفرجون.

أما هذا البواب فإننا قد أحلناه على باب المبنى إلى حيوان أو جماد، وهو قانع بحياته، ولكن هذه القناعة هي إجرام في حق البشر، في حق التطور؛ لأن حياته تافهة، حياته بلقع.

وقبل نحو ثلاثين سنة، قبل أن يعم استعمال الطاقة الكهربائية، كانت مناجم الفحم في إنجلترا تستخدم الجياد في نقل الفحم داخل المنجم؛ فكان الجواد يُؤخذ من المرعى الأخضر، حيث كان النسيم يداعب مَعْرَفته، أو كانت الريح تهب عليه وتهزه في غضب، وكان يرى الشمس وظلام الليل، ويجري ويمرح ويرفس في حياة نشطة. وكان يرى الأنثى ويصبو إليها، وكان يجر عربة من قرية إلى أخرى أو يمتطي صهوته صاحبه. ولكنه كان، بعد أن ينزل إلى جوف المنجم، يبقى فيه في الظلام الدائم نحو عشرين سنة لا يرى نور الشمس، ولا يصعد على سطح الأرض إلا بعد أن يموت.

وهذه حياة تبعث السخط والغضب على الذين كانوا السبب في حبس الجواد. ولا يمكن مؤلفًا أن يقص على القارئ قصة هذا الجواد المسكين؛ إذ إن القصة يجب أن تسرد لنا حياة أو حيوات معينة. ولكن هذا الجواد يموت منذ نزوله في المنجم؛ إذ هو لا يحيا، ولكنه يجر عربة الفحم فقط.

ولكن أحيانًا أتأمل حياة بعض الناس فأجد الفرق بينها وبين حياة هذا الجواد ليس عظيمًا. فإن مساحة المنجم الذي كان يعمل فيه هذا الجواد كانت نحو ميل مربع، ومساحة الميدان الذي يعمل فيه بعض الناس لا تزيد على ثلاثين أو أربعين مترًا مربعًا، وهم بهذا الاعتبار موتى. ولو أردت أن أقص على القارئ حياة واحد منهم لما قدرت؛ لأنها حياة الأكل والنوم وكنس البيت والعناية بالطفل.

أجل هذه هي حياة بعض نسائنا في بعض قرانا في الصعيد؛ فقد لقيت بعض إخواننا الصعايدة الذين كانوا يفخرون بالعرض والشرف والطهارة؛ وذلك لأنهم قد اعتادوا أن يجعلوا الزوجة تبقى بمنزلها منذ عرسها إلى يوم وفاتها، حتى لا ترى رجلًا ولا يراها رجل، وزوجها يحيلها بهذا الحبس إلى مكانة دونها مكانة البواب الذي أشرت إليه؛ لأن البواب يرى العابرين في الطريق، وقد تقع حادثة أو ينشب شجار، أو يقعد إليه زائر أو يتحدث إلى ساكن. أما هذه المسكينة فتبقى طيلة حياتها وهي محبوسة بالمنزل، وظني أنها تختجل بعد سنوات من هذا الحبس، ولا يبقى لها ذكريات تبعث على التفكير سوى أيام طفولتها وبنوتها.

وظني أننا يجب أن نسن قانونًا نجبر فيه الأزواج الحابسين لزوجاتهم على أن يأذنوا لهن بالخروج من المنزل مرة كل يوم.

وإني لأتساءل: هل احتاجت الطبيعة إلى ألف مليون سنة من التطور كي تنتهي منه إلى حبس إنسان مدى حياة الزوجية بدعوى العرض والطهارة.

البواب، وهذه الزوجة الصعيدية، كلاهما يعيش حياة تافهة، حياة بلقع. تنخفض التفاهة عندهما إلى حد العجز عن تأليف قصة عن أحدهما؛ إذ ليس لأحدهما اختبارات، لا أخطار ولا اقتحامات ولا أخطاء ولا إصابات، ولا سعادة ولا شقاء، يمكن أن نرويها للقارئ. هي حياة بلا عبرة وبلا دلالة، هي حياة ملغاة، أو هي لغو لحياة.

ولذلك فكرت في أن أؤلف قصة عن حياة أخرى تافهة، ولكنها تحتوي شيئًا من الاختبارات ترفعها إلى مقام الاهتمام عند القارئ.

هي قصة شاب نشأ في عائلة ثرية في مصر، فلم يتعلم لأنه كان مدللًا أو هو تعلم القراءة ولكنه استغنى عنها، فكان لا يشغل بها فراغاته، ووقته كان كله فراغًا. فلما بلغ العشرين جعل يصيد الفتيات ويتنزه وإياهن في السيارات، ثم عرف بعد ذلك عاهات الترف، حين تكثر النقود أو تزيد على الحاجات، فيجد اللذة في إنفاقها على التفاهات ويعود هو بعد ذلك تافهًا يمارس التفاهة في جد وعرق.

كان ينفق كل ليلة على الانغماسات الكحولية والجنسية نحو عشرة جنيهات؛ أي كل دخله. وكان يعود إلى بيته بعد منتصف الليل ويستيقظ في الصباح كي يتجول بسيارته أو يكالم صويحباته في التليفون. وحاولت أمه أن تكفه فكان ينهرها، ثم بعد ذلك صار يضربها حتى كفت.

وماتت أمه وفرح بموتها كثيرًا، وأصبحت لياليه حمراء حافلة بالانغماس، ولم يكن يجالسه غير إخوان لهم مزاجه ولا يرتفعون على مستواه، وكان حديثهم نكات وأحاديث عن الفتيات والراقصات والهدايا التي اشتراها أحدهم لمحظيته الجديدة، وقد سمن لوفرة الطعام الذي كان يأكله وللراحة الدائمة التي كان يجدها. وكانت الأحداث تمر بمصر، مظاهرات ومفاوضات ووزارات، ولكن كل ذلك لم يكن يصل إلى وجدانه؛ لأنه كان يعيش بحواسه دون عقله.

وأخيرًا تزوج راقصة كان عشقها طويلًا، وحملته الراقصة على أن يشتري لها من الأحجار اللامعة التافهة الغالية ما بلغت قيمته الألوف من الجنيهات، ثم أحبت غيره وأحبها هذا الغير. وذات يوم حمل هذا مسدسًا وطلب إليه أن يطلِّقها، واشتبك الاثنان، وأخيرًا طلَّقها.

ثم أحب امرأة أخرى وتزوجها، وتوالت حوادث زواجه أو عشقه حتى هوت ثروته إلى ثلث ما كانت عليه، وكان قد بلغ الثلاثين، فانقلب إلى زهد كان يعتقد أنه ديني، مع أن حقيقته أنه كان سيكلوجيًّا؛ أي كان سأمًا من الانغماس الجنسي السابق، كان صومًا بعد تخمة وهمودًا بعد جهد.

وقلت نفقاته فصار دخله يتوافر، وظن الناس فيه التدين، بل ظن هو نفسه ذلك، فكان يشتري بما يتوافر من دخله أرضًا جديدة حتى استعاد ما فقده وزاد عليه.

وكان قد حصل بثرائه على احترام الكثيرين، فتزوج ابنة أحد الكبراء الذي سأل عنه وعرف انغماساته السابقة واستقامته الحاضرة، وأحب زوجته لتدينه.

ولكنه مع كل ذلك كان معوج العقل؛ فلم يكن يعلم من معاني الدين إلا أنه الامتناع عن الخمر أو الزنى بالراقصات؛ وكان لذلك لا يجد حرجًا في مضايقة مجاوريه من المالكين الصغار حتى كان يضطرهم إلى بيع أرضهم له، وقد باعوا له وافتقروا.

حياة تافهة حقًّا، ولكنها تزيد على تفاهة الحياة عند ذلك البواب بأنها كانت خادعة كما كانت ضارة، أُوذي بها المالكون الصغار حوله وجُردوا من ممتلكاتهم القليلة. وكان صاحبنا مع ذلك سادرًا يظن أنه تقي صالح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤