المرضى الذين يعلموننا

قرأت كتابًا هذا الأسبوع بعنوان «عاهات العبقرية» لمؤلفه الدكتور بيت، بعثني على التأمل ثم التفكير.

فقد تناول المؤلف — هو طبيب — خمسة عشر مؤلِّفًا عبقريًّا من الإنجليز والفرنسيين، ثم نقَّب عن أمراضهم، ثم وصل بينها وبين عبقرياتهم، بل علَّل هذه العبقريات، في قسم كبير منها، بهذه الأمراض.

ولأني أعرف هؤلاء المؤلفين الذين ذكرهم وقرأت لكل منهم بعض مؤلفاته أو جميعها، فقد لذَّ لي أن أتابعهم في القرحة المعدية التي كانت تنخس كارليل من وقت لآخر، أو في الدرن الذي كان ينصب الموت شبحًا دائمًا أمام الشاعر كيتس، أو في الضغط العالي للدم وهو مرض الكاتب العظيم بالزاك.

ولكن العاهة التي تحفِّز إلى التفكير ليست على الدوام مرضًا في الجسم؛ إذ هي قد تكون عاهة نفسية، كالعرج في الشاعر بيرون الذي عيَّرته به أمه في لحظة غابت فيها عن وجدانها الأموي، فقال لها وهو يتمزق: «أمي، أنا ولدت أعرج.» وكان في هذه الكلمة انتقامه وحزنه معًا.

أو قد تكون العاهة عجزًا جنسيًّا كما في جون رسكين وكارليل؛ فقد فرَّت زوجة الأول ولم تبالِ أن تفضحه، أما زوجة الثاني فقد أحبته ولكنها لم تنكر أنها كانت تبيت في غرفة أخرى. ومثل هذه العاهة جديرة بأن تحفِّز على السخط.

هو سخط داخلي شخصي يعود سخطًا خارجيًّا اجتماعيًّا.

يسخط المفكِّر على نفسه فيتأكله حقد على المجتمع، فيفكِّر ويحاول التفوق والتعظم كي يستعيض بهما عما يحس من هوان وانكسار.

هو الإحساس بالنقص يبعث على الرغبة في التكمل.

لقد كان لوفكاديو هيرن الذي ألَّف أجمل الكتب عن اليابان مشوَّهًا، فأمضى حياته كلها وهو يصف جمال اليابان: أرضًا وماءً وجبالًا ونساءً وصبيانًا.

وشُوهَة بيرون الأعرج جعلته يرصد حياته على جمال الفن في الشعر.

•••

كلنا نعرف أن السُّم الخفيف ينبه إلى النشاط، ولكن الكثير منه يُخمِد أو يُمِيت.

قليل من الزرنيخ يقوي وينشِّط، ولكن الكثير منه يقتل.

وأمراضنا، مثل النقرس، والسكر، والسفلس، تفرز سمومًا أو تُحدِث اضطرابات في أجسامنا. نتألم منها فنتأمل أو نأرق فنفكر، أو نسخط فندعو إلى ثورة أو تطور.

كان داروين وكارليل يأرقان في الليل إلى قرابة الفجر، وكان كلاهما يشكو الهضم السيئ أو القرحة المعدية. لم يكونا يعرفان ما يشكوان منه، ولكن هذا الأرق كان فترة الاختمار للتفكير العلمي عند الأول، وهو التفكير الذي أثمر نظرية التطور، كما كان فترة الاختمار الأدبي عند الثاني، وهو اختمار أخرج لنا عديدًا من المؤلفات التي ألهبت العقول، وأنارت، وأشرقت، وأوجدت معاني جديدة للديمقراطية والإنسانية في مثل «الأبطال» و«الثورة الفرنسية» من مؤلفاته.

ولكن سموم الجسم أقل فعلًا في تحريك الذهن من سموم النفس، امرأة الأب التي عشنا معها وأتعستنا ونحن أطفال.

أب ظالم مستبد حاول أن يكسر عود الطفولة، ولكن العود صَلُب واستقام، ثم نشأ الطفل وهو يكره الأب، ثم كانت ثورته السابقة على هذا الأب ثورة على المجتمع كله، يبحث عيوبه ويدعو إلى المساواة والشرف ومكافحة الظلم … مكافحة ظلم الأب قد استحالت إلى مكافحة ظلم المجتمع.

وشُوهَة الجسم التي ولدنا بها، عرج أو دمامة، هي في النهاية شُوهَة النفس التي تحفِّز الأشوه على سد النقص، ونشدان الجمال والكمال.

بل يجب ألا ننسى أن الفضيحة السرية في البيت قد تبقى وخزًا يَخُز وينخس وينبه ويوقظ.

وبهذه الأمراض — أمراض الجسم وأمراض النفس — يستحيل الذكاء إلى عبقرية.

ولكن «الذكاء» هو الذي يستحيل إلى عبقرية، أما إذا كانت هناك بلادة أو غفلة أو بلاهة فإن الاستحالة قد تكون إلى الإجرام. هي عندئذٍ محاولة الأطفال لأن يكونوا عظماء أفذاذًا ولكن بأسلوب الأطفال.

ما هي العاهة التي جعلت فاروق يستحيل إلى مجرم؟

•••

كل ذي عاهة جبار.

جبار في ذكائه حتى لقد يصل إلى منصب الوزارة ولو كان أعمى، ولكن إذا لم يكن له من الذكاء أساس، فإنه يتسول حين يكون أعمى.

•••

هؤلاء العباقرة الذين ذكرهم الدكتور بيت كلهم مريض، إما بعاهة في الجسم تؤلم وتؤرق. وإما بعاهة في النفس، كدت أقول في الشرف، تؤلم وتؤرق.

وفي كلتا الحالتين يؤدي الأرق إلى التفكير المثمر.

كان كارليل ساخطًا يحس أنه مظلوم؛ إذ لماذا يقضي عليه القدر بالعجز والهوان أمام زوجته، وكانت من جميلات إنجلترا؟

وهو يتضور ويَعُد لقيماته حين يأكل ولكنه مع ذلك يتألم.

وقد قيل له إنها قرحة في الأمعاء الصغيرة، وقيل له إنها زيغ في البصر، وقيلت له أسباب أخرى.

وقال هو إنه يتألم لكثرة الضوضاء … كلام مريض من رجل مريض ساخط على نفسه ثم ساخط على المجتمع.

وهو يتحدث كما لو كان نبيًّا ويأخذ نفسه بصرامة يحاول أن يأخذ المجتمع بمثلها. وهو لهذا السخط على المجتمع يؤلف كتابه «الأبطال»، وكأنه هتلر يدعو إلى الزعامة وقيادة هؤلاء العامة الذين يقلقونه بضوضائهم وغلاظتهم وعاميتهم.

وقد عاصر نابليون ولكنه يَعُده من الأبطال.

أجل، إن نابليون قد نبَّهه إلى أنه مخدوع بالكثيرين ممن سماهم أبطالًا، لقد عاصر الثورة الفرنسية، فهو يتأملها ويفكِّر فيها كثيرًا، ثم يؤلِّف كتابه عنها، كتابًا خالدًا تزأر كلماته وتصرخ: الشعب، الشعب، الشعب. وتحس لفرط حماسته أنه كتبه في نَفَس واحد.

وهو يبدأ هذا الكتاب بداية رمزية هي قصة العقد، عقد اللؤلؤ الذي فقدته الملكة العاشقة في استهتار الملوك.

وهو ينهي الكتاب نهاية رمزية هي قصة إعدام الملكين وإقدام الشعب الفرنسي على إيجاد سنة جديدة وشهور جديدة وأسابيع جديدة، هي السنة الأولى (في ١٧٩٢).

بداية الكتاب فسق واستهتار بين الملوك.

ونهاية الكتاب شعب يكتب تاريخه بيده ويستولي على مستقبله.

لقد ذهب عصر الأبطال ونحن في عصر الشعوب.

•••

وهنا ننظر فيما يقوله عنه الدكتور بيت؛ فإنه يذكر تحت عنوان «مأساة زواجه» أنه تزوج زوجته جين الجميلة الذكية.

وكان لهما صديق هو فرود المؤرخ العظيم. وكان كارليل قد نصَّ في وصيته على تعيينه قيمًا على مخلفاته الأدبية. وهذا يدل على أن فرود كان على مكانة كبيرة، بل حميمة، عند كارليل.

وكتب فرود ترجمة كارليل، وذكر فيها القطيعة القهرية بين الزوجين، وأن كلًّا منهما كان يبيت في غرفة خاصة به.

وكان كارليل ممعودًا يشكو عللًا غامضة في جوفه، وُصف له لعلاجها أن يتناول مسحوق الزئبق، ولكنه لم ينتفع به.

وكما يحدث في مثل هذه الحالات جعل كارليل يستوصف الأطباء والدجالين كي يُشفى من متاعبه، فوصف له بعضهم تمارين رياضية، ووصف آخر زيت الخروع، ووصف ثالث العلاج المائي، وكل هذه العلاجات كانت عقيمة حتى قال: «لا أعرف بين أبناء آدم مَن هم أقل منفعة من الأطباء.»

وكانت هذه كلمة يأس، وكان يعود بين كل تجربة وأخرى إلى مسحوق الزئبق (أي الطباشير والزئبق).

وكان هو يعتقد أن آلامه تعود إلى معدته وكبده.

ولكن هذه الآلام كانت تنتقل في منطقة البطن مما جعل أحد أطباء العيون يشخص مرضه بأنه زيغ في البصر، والواقع أن أوجاعه كلها ذهبت عنه تقريبًا حين أسن ولم يَعُد يكتب ويقرأ كثيرًا.

•••

أعظم ما يغرينا بالسؤال عن كارليل هو: «لو أن كارليل كان رجلًا سويًّا سعيدًا قانعًا هل كانت عبقريته تجد التعبير والبيان في هذا الوسط الذهني الذي خلَّد شهرته؟» بل هل كان يمكن أن يكون عبقريًّا؟

«تأمل بتهوفن وبوديلير وجوجان، واذكر ما كانت تكون نتيجة صحة الجسم والعقل التامة عندهم في عبقرياتهم. وبكلمة أخرى: إلى أي مدى يتكيف العبقري بما نسميه «حادثة» وقعت له في حياته؟ لو أن كارليل الحذِر المتقشف كان كأحد الناس العاديين، يستطيع أن يأكل كما يهوى ومتى يهوى، هل كان يُصدِر هذه الأحكام؟ وهل كان يغسل قلمه في السم والعلقم حين كان يعبِّر عنها؟»

«إننا لنعرف أن مرضى النفس يتألمون ويشكون مما يكابدون من الزعزعة وما تولده هذه عندهم من إحساس النقص، ولكن هذه الحال نفسها، هذه الزعزعة وهذا النقص هي التي تعمل فيهم، كما لو كانت مهمازًا؛ كي ينشطوا ويخلقوا، كما أنها تزيدهم عمقًا في البصيرة حين يرون مثل هذا النقص في الآخرين.»

«لما وجد أنه لا يؤمن بعقيدته الدينية، وعرف أنه لم يبقَ أمامه غير المادية تراجع وهو في رعب، وقام في نفسه صراع يمزقها حتى ليقول: «لقد بقيت ثلاثة أسابيع وأنا لا أعرف النوم.» ولكن هذه الحشرجة الذهنية انتهت باهتدائه إلى «ميلاد روحي جديد».»

«وهو في شقائه هذا يحس حبًّا جديدًا للطبقات المسحوقة في الشعب فيؤلف كتابه «علامات الزمن» الذي يشرح فيه انحطاط التفكير السياسي، ويحمل على فسق الساسة الذين لا يخدمون الشعب بل يخدمون مصالحهم.»

«وهو حين يؤلف كتابه عن الثورة الفرنسية يفرح بل يطرب به ويقول: «هاكم كتابًا لم يخرج مثله منذ مائة سنة، وهو كتاب يخرج ملتهبًا مارقًا من قلب رجل حي.»»

كان كارليل واحدًا من عشرات أو مئات المرضى الذين علموننا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤