مرضى النفس وعلاجهم

هناك من الأمراض ما نسميه — نحن العامة — جنونًا أو شذوذًا يصيب أحدنا، فيحاول إخفاءه؛ لأنه يخزيه، أو هو يلجأ إلى طبيب النفس، وقد يجد فيه المعالج النزيه أو المدجل النصاب.

وقد عُرضت على إحدى المحاكم بالقاهرة قضية من هذا النوع اصطدم فيها أطباء الأجسام بأطباء النفوس، كل منهم يقول: «هذه دائرة اختصاصي» وكل منهم يتهم الآخر بالجهل أو بما هو أكثر منه.

ومن الحسن أن يقف الشعب على بعض الحقائق؛ كي يستنير عن هذا الموضوع؛ فإننا، في بلادنا نخرج رويدًا رويدًا من المجتمع الزراعي إلى مجتمع المدينة؛ ولذلك عرفنا السرعة والهرولة في حياتنا، وتحملنا المسئوليات الجديدة والتكاليف المرهقة، ولم نعد نستسلم للقدر. وتأخرت مواعيد الزواج وعمَّ الشبان من الجنسين حرمان يطول أو يقصر، وظهرت المدارس والمعاهد بواجباتها المتعددة التي لا يتحملها جميع الصبيان أو الشبان، وأصبح عيشنا، في الأغلب، مباريات اقتصادية تحزن المتخلف أو المتعطل وتبعث على زيادة الجهد لزيادة الثراء.

وبكلمة أخرى: كنا نعيش حياتنا الريفية القروية في استرخاء ورضى وقناعة فأصبحنا نحيا في المدن في توتر وسخط وخوف.

ولذلك نحن نمرض؛ أي إن نفوسنا تتوتر، ثم لا تطيق التوتر فتنهار.

وحسبك أيها القارئ أن تعرف أن أعظم الأمم في الأخذ بأسلوب العيش المتمدن العصري بكل ما يلابسه من عادات عاطفية وذهنية هي الأمة الأمريكية؛ ولذلك فإن عدد الأسِرَّة للأمراض العقلية والنفسية في مستشفياتها يزيد على عدد الأسِرَّة للأمراض الجسمية.

ولست أقصد إلى القول بأن الأمراض النفسية هي ثمرة الحضارة العصرية وحدها؛ فإن بين الريفيين مَن يمرضون أيضًا، ولكن لكل مريض ريفي واحد نجد نحو خمسين مريضًا «متمدنًا»، بل وربما أكثر إلا في حالات تعدد الأزواج التي تُحدِث أمراضًا نفسية عديدة بين الزوجات.

والأمراض النفسية ليست شاذة كل الشذوذ كما نتوهم، فإنها جميعًا مظاهر مسرفة لحالاتنا — نحن السويين الأصحاء — فإن الفرق بيني وبين المريض أني أنا أقلق في الصباح عندما أعرض لواجبات اليوم، ولكن القلق خفيف أتحمله في يسر، ولكن مثل هذه الواجبات لا يتحملها المريض؛ لأنها تبدو له كما لو كانت جبالًا.

وليست جميع الأمراض النفسية جنونًا مطلقًا يحتاج إلى المارستان؛ فإن هناك حالات من أمراض العقل والنفس يخفيها المريض خزيًا ويحاول التعالج منها، أو لا يحاول؛ إذ قد يلتذها، وهي تجعله عرضة للفضيحة أو السجن أو تصيبه بآلام لا تُطاق تستحيل فيها حياته إلى سواد وظلام.

اعتبر هذه الحالات التي أؤكد لك أنها عن أشخاص حقيقيين:
  • (١)

    موظف لا يقل مرتبه السنوي عن ٨٠٠ جنيه لا يتمالك أن ينشل محفظة جاره في الترام أو القطار أو حتى في زحام!

  • (٢)

    شاب رياضي إذا وصل إلى ميدان باب الحديد عرق وارتعش؛ لأنه لا يطيق الإحساس بأنه في ميدان رحب مكشوف؛ فهو يقصد إلى الجدران المحيطة بهذا الميدان ويلتزم السير إلى جوارها حتى يصل إلى المحطة، ومع هذا الحرص لا يطيق الراحة.

  • (٣)

    شاب آخر قد لزمه الاشمئزاز؛ فهو يكره خبز الطابون؛ ولذلك يشتري الدقيق بنفسه، ويعجنه، ويخبزه، وهو الذي يطبخ طعامه بنفسه بعد أن يهرأ اللحم بالصابون واللوفة، بل قد يبلغ اشمئزازه من مياه القاهرة أن يسافر إلى الإسكندرية فيملأ صفيحة أو صفيحتين من ماء البحر الملح، ويعود بهما إلى القاهرة فيبخرهما ثم يكثف البخار حتى يجد الماء العذب للشرب.

  • (٤)

    صبي في الثالثة عشرة دلَّ الفحص على أنه فوق الذكاء العادي، ولكنه متخلف لا يفهم الدروس.

  • (٥)

    شاب مصاب بالعجز الجنسي مع عروسه، مع أنه لم يتوقع هذا من قبل ولم يحدث له قط في ممارساته الجنسية السابقة.

  • (٦)

    رجل وقور فوق الخمسين، ولكنه يأخذ بمذهب أبي نواس، ويعجز عن الإقلاع عن رذيلته.

  • (٧)

    شاب يسوق السيارة، ولكن تكاد تكون له ملكة بارعة في التصادم.

  • (٨)

    شاب يجد إرهاقًا في البيت وفي المدرسة أو الجامعة مع حرمانه ما يلهو به من نزهة أو زيارة للملاهي، وهذا أدى به إلى إرهاق جنسي دائم؛ فهو إزاء كل هذا الضغط يطلق الدنيا كلها ويخترع لنفسه عالمًا من الأحلام، ويُجن.

هذه أمراض لا يعرفها الناس؛ لأن أصحابها يخفونها، وهي بالطبع تحتاج إلى العلاج، ويمكن علاجها.

ما هي الأسباب للأمراض النفسية والعقلية؟

اعتقادي أن الشخص الذي أمضى طفولته بين أبوين حكيمين، لم يدللاه ولم يضطهداه، ولم يجد قسوة أو تعذيبًا لجسمه أو نفسه، ولم يجد ما أخافه إلى درجة الإفزاع، ولم تثر غيرته أو ثورته لوجود إخوة قد استبدوا به، إلى غير ذلك، مثل هذا الشخص يستطيع أيام شبابه أو كهولته أن يتحمل جبالًا من المصاعب دون أن تتزعزع نفسه.

ولكن للأسف الآباء الحكماء قليلون؛ ولذلك تبرز أيام الطفولة بروزًا مؤلمًا عند جميع المرضى. والطبيب المعالج يحاول أن يثير عند المريض ذكرياتها، فنحن نعيش في مجتمع كثير الصعوبات، فإذا اصطدمنا بصعوبة ونحن في سن العشرين أو الثلاثين مثلًا فإننا نثير، من حيث لا ندري صعوبة أخرى مماثلة لها اصطدمنا بها أيام الطفولة فيكون الخوف؛ أي خوف الأطفال المرعب، مع أننا قد نكون في سن العشرين أو الثلاثين، ومع هذا الخوف لا ندري أصله أو مأتاه.

إن سلوكنا العام في المجتمع ينبعث من عواطفنا، ولكن عندما نكون أصحاء سويين نكيف هذه العواطف ونراقبها ونوجهها.

وهناك عواطف كامنة في النفس، معظمها من أيام الطفولة تحركنا نحو اتجاهات وتثير فينا انفعالات يعجز العقل أحيانًا عن التسلط عليها وعندئذٍ يحدث المرض؛ أي عواطف وانفعالات بلا عقل، فنحس خوفًا أو قلقًا أو رغبة في الانتحار أو اشمئزازًا أو شذوذًا جنسيًّا أو غَيرة لا تُطاق، أو نحو ذلك.

وإذا كانت هذه الانفعالات والعواطف قوية طاغية فإننا نفر إلى راحة السكر بالخمر، وأحيانًا قد ننتهي منها بأن نلجأ إلى الجنون؛ إذ هو الراحة الكبرى التي تطرد الهموم نهائيًّا، ولكنها راحة الموت النفسي.

كيف نعالج هذه الأحوال؟ للأطباء النفسيين علاجان: أحدهما سريع سطحي، وهو «التنويم النفسي» الذي لا يزيد على أن يكون إيحاء مركزًا، كأن نوحي للمريض الخائف بأنه ليس خائفًا؛ إي إنه شجاع جريء، والنتيجة هنا سريعة ولكنها غير ثابتة؛ إذ قد يعود هذا الخوف كما كان أو بصورة أخرى.

والعلاج الثاني هو «التحليل النفسي»، وهو أسلوب بطيء النتيجة، ولكن الشفاء يثبت، وهو يستهلك من الوقت والمال شيئًا كثيرًا؛ ولذلك لا يستطيعه سوى الأثرياء أو المتوسطين الميسورين. والنظرية التي يقوم عليها التحليل النفسي أن هناك عواطف مختبئة أو مكظومة لا يعرفها المريض نفسه، وأننا نستطيع أن نثيرها بالحديث معه حتى يتذكرها ويعرف أسبابها وظروفها، وهو متى عرف الأسباب والظروف شُفي؛ لأنه يسلط عقله على ما كان قد نسيه من هذه العواطف والإحساسات والانفعالات.

وعندي أن لكلمات اللغة أكبر قيمة في التحليل النفسي؛ لأننا نرفع بها المريض إلى مستوى جديد من الحكمة والفلسفة ونكسبه بصيرة في الحياة، بل نحن أحيانًا نجعله يقف موقفًا جديدًا من الحياة فنغيِّر شخصيته ونكاد نحيله إنسانًا آخر غير ما كان يعرف به نفسه.

التحليل النفسي هو: كيف نجعل المريض يعالج نفسه بعد أن عرف داءه الدفين؟ كيف نجعله حكيمًا يجابه صعوبات الدنيا، في ضوء ما لقيه من صعوبات الطفولة، ثم صعوبات المجتمع، كما لو كان فيلسوفًا؟

وإذن مَن هو الشخص الجدير بمعالجة الأمراض النفسية.

أرجو أن أصرح، في وجه المعارضة المنتظرة، بأني رجل مادي مائة في المائة، وأن كل ما نسميه مرضًا نفسيًّا إنما يعود إلى تغيرات داخل أجسامنا؛ أي إلى مادة، ولكننا نجهل هذه التغيرات في الوقت الحاضر، كما نجهل الأسباب الجسمية لها. واعتقادي أن هذه الأسباب سوف تُعرف بعد عشرين أو ثلاثين سنة.

بل نحن نبصر من الآن بعض هذه الأسباب؛ فإن صدمة الخوف قد تحدث التهابات في الجلد أو قرحة في القناة الهضمية أو إسهالا حادًّا أو المرض السكري أو ضغطًا عاليًا في الدم. ومعنى هذا أن هناك كيمياء يعرفها الجسم وقت المرض النفسي، وعندما نفهم هذه الكيمياء سنفهم أيضًا حركة النفس في الجسم.

ولكن إلى أن نصل إلى هذه التفسيرات الجسمية نحتاج إلى العلاجات النفسية؛ أي التنويم النفسي والتحليل النفسي ثم التأليف النفسي، وأقل ما يُقال هنا أننا وجدنا الشفاء عند استعمالها.

إن الأمراض النفسية أو العقلية إنما تنشأ من العلاقات العائلية في السنوات الأربع أو الخمس الأولى من أعمارنا؛ أي كيف عاملنا أبوانا وإخواننا والخدم، وماذا كانت إحساساتنا وانفعالاتنا نحوهم، وهل وجدنا عندهم الحب أو الكراهية والعناية أو الإهمال والطمأنينة أو الخوف، فإن كل هذه العواطف سيتردد صداها بعد عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر.

والأمراض النفسية تنشأ أيضًا من علاقاتنا الاجتماعية؛ أي مقدار الطموح الذي يبعثنا على السعي، ومقدار الكظوم التي نلقاها للتأخر في الزواج أو التخلف عن النجاح. وما هي الاصطدامات الاجتماعية التي تصادفنا … إلخ.

إن المرض النفسي أو العقلي هو مرض العلاقات العائلية والاجتماعية، ويمكن لذلك أن نسمي الأمراض النفسية أمراضًا اجتماعية.

أما المرض الجسمي فهو مرض البكتريا والفيروس ونقص الفيتامينات والأملاح.

قد يقول لي هنا أحد أطباء الأجسام: لا تنسَ الغدد الصماء.

نعم، لا أنساها ولكننا لا نعرف عنها كثيرًا، وقصارى ما وصلنا إليه أننا خدشنا سطوحها، وإلى أن نعرفها سيبقى التنويم والتحليل معتمدينا الوحيدين في علاج النفوس المشبوهة.

وإذن مَن يمارس الطب النفسي؟

يمارسه أي إنسان قد درس الطب النفسي، ولا عبرة بأن يكون قد درس قبل ذلك طب الأجسام أو علم الاجتماع، أو الفلسفة، أو الآداب؛ فإنه يجب قبل كل شيء أن يكون قد درس علم النفس؛ أي السيكلوجية، واختص منها بفرع العلاج النفسي.

وفرويد نفسه، أبو التحليل النفسي، هو الذي أوصانا بذلك.

وأطباء النفس في الولايات المتحدة قد يكونون أطباء جسم أو لا يكونون، وكذلك الحال في إنجلترا. ولكن يجب وجوبًا قاطعًا على مَن يعالج بالتحليل أو التنويم أن يكون على دراية وعلم بفنه.

وإذا كنا نخشى أن يتفشى بيننا الدجالون، فإن من السهل أن نتوقى ذلك بأن نطالب جامعاتنا بتخصيص دراسات للمعالجة النفسية، يحصل دارسوها بعد المدة المقررة للدراسة على دبلومات ترخِّص لهم هذه المعالجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤