تصدير
في هذا الديوان كثيرٌ من شعري الذي نظمتُه في سنة ١٩٣٤م، بين شواغلي الكثيرة التي تضاعفت إلى درجةٍ مرهقةٍ يراها النُّقَّادُ كفيلةً بالقضاء على إنتاج أيِّ شاعرٍ، ولكن هذه الشواغل في الواقع كانت بين العوامل التي جعلتني ألجأُ إلى الشعر أبثُّه آمالي وآلامي، ولا يَعنيني بعد هذا إلَّا كما تعنيني صُوَرُ حياتي أتأمَّلها فأستعيد من الذكريات ما فيه غذاءُ عواطفي.
وقد شهدَ هذا العامُ حفاوةً مزدادةً بالشعر الحديث ولكنَّ دائرة هذا الشعر ما تزال برغم ذلك محدودةً. ومِن الحقِّ أن نقرر ذلك وأن نعترف بأن الشعر الغالب في العالم العربي وفي مصر خاصة هو ما يمثله نظم الجارم وعبد الله عفيفي والماحي وأقرانهم، وهو شعرٌ فيه غالبًا مَرائي الماضي في ألفاظ موسيقية تقليدية. وقد اعترف أستاذنا مطران بذلك في تقديمه الشعري الصريح لديوان الماحي الذي لم يثر عليه إلَّا المجدِّدون المتشدِّدون، بعكس الكثيرين من الأدباء — ومن بينهم بعضُ المجدِّدين المتسامحين كمحمود عماد — فهؤلاء قد رأوْا في شعر الماحي فخرًا للأدب العربي وعدُّوه مرآتَه في هذا العصر.
إزاء هذا لم أكن أنتظر أن يجرأ شاعرٌ من شعراء الشباب كمختار الوكيل ويَتشبَّثَ بتأليف كتابه «رُوَّاد الشعر الحديث» وبأن يضعني بين أعلامه، فهذا «الشعر الحديث» محصورُ الدائرة، ثم إنَّ أعلامه هؤلاء محصورو النفوذ، وأنا أقلُّهم نفوذًا وإن كثرتْ ميادين إنتاجي. ولكن هي الرغبة الفنِّية التي ألحَّتْ على ذلك المؤلف الشاعر فأبى إلَّا أن يشيد بمذاهب «الشعر الحديث» وأن يذكر خُدَّامَه العاملين على نصرته الذين يتمنون مثلي اقترابَ عزَّته وإن لم أشاركهم في تفاؤلهم التام.
نعم، إنِّي أقلُّ هؤلاء نفوذًا وأقلهم تفاؤلًا بالنسبة لهذا الجيل، وإن كنتُ أكثرهم دأبًا وإنتاجًا، وقد أؤثِّر باتجاهاتي في بعض الشعراء ولكنَّ عددَهم محدودٌ، وإذا سرَى تأثيرُهم بين الشعراء الناشئين فالفضلُ لهم وليس لي، فإنَّ حالي في عُزلتي النسبية، وفي استقلالي الفكري والتعبيري أشبهُ بحال الشاعر وليم بليك، وإن كنتُ لم أُنتج بعد مثل إنتاجه، فقد بلغت دواوينه الشعرية مائة مجلد ضاعت جميعها، ولولا المواظبةُ على طبع إنتاجي الجديد تلبيةً لإلحاح خلصائي — وهم شطرٌ من نفسي — وتلبيةً لنوازعي الوجدانية، لضاع هذا الشعرُ كما ضاع غيرُه من قبل دون أن تحسَّ بفقده جمهرةُ الأدباء في هذا الجيل.
إذن لست أدَّعي لهذا الشعر أيةَ مكانةٍ في نفوس الأُدباء المعاصرين عامةً، وإن كانت له مكانةٌ في نفوس مريديَّ من خاصَّة المتعلمين وهؤلاء قليلو العدد. وإذا كان بعضهم قد تفضَّل وعاونني أدبيًّا على دراسة مؤلفاتي الشعرية فليس معنى ذلك أني أقرُّ كلَّ ما كُتِبَ عني من تقدير نقدي، وإن اعترفْتُ بقيمته الأدبية كتبيانٍ لما تراه بيئةُ الشاعر الخاصَّة في شعره وعوامله واتِّجاهاته، وهذه نقطٌ لها قيمتُها الفنيةُ في التأريخ الأدبي، خصوصًا إذا كان الشاعر غريبًا في تفكيره وأخيلته وتعابيره الطليقة عن المألوف في عصره.
وإذا كنتُ قد تناولتُ قبلًا أو أتناول الآن بالتعليق في هذه الصفحات أو في غيرها بعضَ النقط الفنِّية المتصلة بالشعر، فإنما هو تناولُ المؤمن المدافع عن إيمانه، لا أملًا في الإقناع والبيئةُ غيرُ مستعدَّةٍ له، ولكنْ تنفيسًا للآراء المكبوتة وتزكيةً عن الفنِّ المقدَّس وبرًّا بوفاء المريدين الغيورين. وكثيرًا ما قلتُ لهؤلاء الخلَّان: إني لا أنتظر أن يُعْنَى بمثل هذا الشعر العنايةَ الكافيةَ في حياةِ صاحبهِ مهما غالينا في التأميل، وإن أمرَ نشره لا صلةَ له بالعناية المرتقبة ولا المرجوَّة، وإنما هو حاملُ رسالةٍ فنيةٍ هي من صميم كيانه وهي التي تزجيه إلى الظهور في هذه الصفحات المطبوعة سواء ألاقت هذه الرسالة إقبالًا عليها أم إعراضًا عنها، وقد تكون رسالةً إلى المستقبل قبل أن تكون رسالةً إلى الحاضر.
•••
ينادي المنادون من أصدقائنا المحافظين وأنصاف المجدِّدين بأن الشعر «موسيقى» قبل كل اعتبار آخر، ونحن لا نفهم من الشعر إلَّا أنه «شعر» قبل كل اعتبار آخر، وليس معنى هذا أننا نكره اقتران الشعر كفنٍّ بفنون أخرى وفي مقدمتها الموسيقى، ولكننا نأبى تبعية الشعر لأيِّ فنٍّ سواه وإن رحَّبنا بمزاملته غيرَهُ من الفنون الملائمة له.
لنأخذ مثلًا قولَ ابن الروميِّ وصفًا لهاجرةٍ في صحراء:
فليس لهذه الأبيات في نظر أنصار التميُّع والرخاوة أيُّ جمالٍ موسيقيٍّ، وألفاظُها ذاتُ قسوةٍ وجفوةٍ في اعتبارهم، ولكننا نعدُّها جدَّ ملائمةٍ لموضوعها ونحفل بقوتها، ونعتبر موسيقاها طبيعيةً منسجمةً وموضوعها ومستمدةً من صميم معانيه. ويقول المتفلسفون منهم: إنَّ الموسيقى الساحرة ضرورية للشعر (وهم لا يَعنون في الواقع إلَّا الموسيقى الناعمة) لأنها تخدِّر أعصابَ القارئ أو المستمع أو عقلهما الباطن إلى درجةٍ تجعل معانيه تتسلَّلُ إلى الذهن غيرَ مستأذنةٍ فتبلغ معانيه غايتَها من النفس وتؤدِّي رسالتَها. وعندنا أن هذا لا ينطبق عادةً إلَّا على أصحاب العقول البدائية من أشباه العامة أو على أهل الثقافة المحدودة أو على ذوي الأمزجة العصبية الشديدة، وأمَّا ذوو الثقافة الواسعة المتَّزنون فتكفي لاستهوائهم تلك القوة التصويرية الرائعة في أبيات ابن الرومي الأربعة، فإذا بهم يتمثلون أمامهم أصدق التمثُّل حالةَ الهاجرة في الصحراء وكأنهم فيها، وحَسْبُ الشعر أن يكون له من ذاتيَّةِ خيالهِ هذا التأثيرُ الغلَّاب على النفوس المثقَّفة دون أن يحتاج إلى الصناعة الموسيقية لإثبات شخصيته الفنية التي لا تحتاج إلى وصيٍّ عليها لا من الموسيقى ولا من غيرها.
ومن هذا القبيل قصيدة «أعمار الإنسان السبعة» لشكسبير؛ فإنها من الشعر المرسل، وليست لها أيةُ موسيقى بالمعنى الذي ألفه أصحابُنا المحافظون ومَنْ شايعَهم، ومع ذلك فهي آيةٌ من الشعر التصويريِّ الفلسفيِّ، وكلُّ أديبٍ مثقَّفٍ يعرف الإنجليزيةَ يستمتع بتلاوتها كما يستمتع بتلاوة «خطاب مارك أنطوان على جثة قيصر» لشاعرنا نفسه وبأمثال هذا الشعر العبقريِّ في مؤلفاته العديدة، ومعظمه من الشعر المرسل البعيد عن الموسيقى الغنائية الرتيبة — ذلك لأن قوة هذا الشعر الذاتية كافية من تلقاء نفسها لاستهواء النفوس المثقَّفة المتَّزنة بغير ما حاجةٍ إلى الصناعة الموسيقية التي لا محلَّ لها في غير الشعر الليريكي الخالص. وكم من جناياتٍ على الشعر يرتكبها باسمه أولئك المزماريُّون الذين ليس لهم حظ كبيرٌ من الطاقة الشعرية وإنما كلُّ حظهم محصور في قدرتهم الموسيقية! فيشجعهم تصفيق الجمهور الذي يستهوونه على العبث بتعريف الشعر وأغراضه، ولا يغنم الأدبُ الصحيحُ منهم شيئًا، بل هم يسيئون إليه بصرف المتأدِّبين عن إنتاج أعلامه المنجبين الحريصين على استقلاله.
•••
وبديهيٌّ أننا لا ننكر أثر الموسيقى العظيم على النفوس، بل لن ننكرَ أثرَ جميع الفنون الجميلة، ولا ننكر أن للشعر نبعًا من الموسيقى، ولكنَّ ذلك هو الشعرُ الغنائي الديني والوجداني الأصيل، ولا ينسحب هذا الحكمُ على الشعر العالي الذي يستند إلى ذاتيَّته قبل أن يستند إلى عونِ الموسيقى. ومَنْ ذا الذي يُنكر أثرَ الموسيقى النفساني في رفاهةِ السلم وفي عُنفِ الحرب، أو ينكر أثرها الشديد في النفوس العصبية، حتى إن القدماء كانوا يستعملونها في تخفيف ألم المصاب بلدغ العناكب السامة، وما يزال السحرةُ في أفريقيا وغيرها يعتمدون عليها في تطبيبهم؟ ولعلَّ من أبرز الأمثلة للتأثر الموسيقي ما حُكي عن المغنية الإسبانية الشهيرة أديلينا باتي فقد كانت تبدو العبراتُ إلى مقلتيها وتضطر إلى مغادرة الردهة كلما طرقت سمعها أنشودةٌ راعتها من أناشيد بيتهوفن! فالصلة الوثيقة بين الموسيقى والأعصاب أمرٌ غير منكور، وعلينا أن نكبرُ الشاعر البارع الذي يستطيع أن يمزج فنُّه بين أسر الموسيقى الخلَّابة وقوة العاطفة وروعة الخيال وإشراق الديباجة في وحدة متجانسة ساحرة. ولكنَّ هذا المزيجَ غيرُ مستطاع إلَّا في النادر مهما تكن براعة الشاعر — ذلك لأن الشعر العالي يَتطلَّب التعمق الفكري والسموُّ الخيالي والتطلُّع الإنساني البعيد، وهذه عناصر تستدعي تَحرُّرَ الشاعر وطلاقته اللفظية حتى تتجه شاعريته إلى الإبداع القويِّ الحرِّ بدل أن تكون أسيرة الموسيقى. وهذا ملحوظٌ عند أبي تمَّام، والمعري، ودانتي، وشيلي، وجيته، وملتون، وأضرابهم بصورة واضحة لا نزاع فيها. وهيهات أن يصل إلى مرتبتهم الشعرية العالية أمثالُ البحتري، وابن زيدون، وسوينبرن، وديفز، وأشباههم ممن كان طبعهم موسيقيًّا غنائيًّا قبل أن يكون شعريًّا عاليًا. ولا غرابة في ذلك فإنَّ المزاج الفني قد يتوزَّع أو قد يتداعى، وخصوصًا في ذوي الأمزجة العصبية المرهفة، ومن الأمثلة البارزة في وقتنا هذا النجمتان السينمائيَّتان ماي كلاك، وليليان بوند فإنَّ لهما شعرًا رائعًا مردَّدًا في أمريكا ومتناقلًا في غيرها.
أو قوله في سليمان بن وهب:
مثلُ هذا الشعر القويُّ الأصيل لا يُرْضي أدباء التميُّع أو أدباء الرقة والظرف الذين يحصرون عنايتهم في شعر ابن مطروح والشاب الظريف ومَنْ جرى مجراهما، حتى ليحصروا الشعرَ في النكتة البارعة وفي الطراوة والموسيقى المجارية لها، صادفين عن الشعر المتين المنقِّب في خفايا النفوس المعبِّر عن أصالة الحياة.
•••
لا بدَّ للفنَّان المعبِّر من أدوات التعبير الملائمة، فلا مفرَّ له إذن من استيعاب فنون الأدب وتَقَصِّيها حتى يشتمل عليها، وحينئذ له أن يستقلَّ بديباجته التي هي رمزُ شخصيَّته، وأمَّا الرُّوحُ الفنِّية ذاتها فطبيعةٌ فطريةٌ وإن صقلها الاطَّلاعُ والتجربةُ والمرانةُ.
والطلاقةُ الفنِّيةُ صفةٌ فطريةٌ في كلِّ فنَّانٍ مَوْهوبٍ، وهو إذا بدأ تقليديَّ النزعةِ — كما يقعُ كثيرًا — فسرعان ما تُعلِنُ شخصيتُه استقلالَها فتتجلَّى الطلاقةُ لا في مناحيه وحدها بل في ديباجته أيضًا. ولسنا بحالٍ مِنْ أنصار الفوضى اللغوية أو النظمية، ولكننا نعذر الفنَّانَ الضليعَ إذا أبت طبيعتُه الخالقةُ أن تقف عند المعايير والمقاييس المقرَّرة ورفضتِ النزول إلى مستوى الجماهير بل أرسَلت فنَّها طليقًا معتزًّا بشخصيته مُهيبًا بالخاصة قبل أن يُهيب بالدهماء ومرتفعًا بالجماهير عن طريق أولئك الخاصة والمريدين الذين ينوبون عن الفنَّان في نشر رسالته.
قد يَستجيبُ الفنَّانُ وقد لا يستجيب لرغبات الجماهير وفقًا لطبيعته الفنِّية، ولكنَّ الفنَّانَ الصادقَ لن يُضحِّي بفنِّه لمجرد إرضاء الجماهير ولا لأيِّ اعتبار، وإنما هو يُضحِّي بالشهرة الميسورة وبالمُتَع التي في متناول يده إنصافًا لفنه. فلا يثنيه ما يُعابُ على اتجاهاته الخاصة وعلى لغته وعلى أخيلته من أصالةٍ غريبةٍ، لأنَّ فنَّه هو من نبع نفسه ومُوَجَّهٌ أوَّلًا وأخيرًا إلى نفسه وإلى خلصاء نفسه، وهو إذا التفَتَ إلى النقد فإنما لَفْتَتُه فنِّيةٌ محضةٌ جامعة بين المبالاة وعدمها؛ مبالاة مَنْ ينشد الكمال ويهمُّه كما يهمُّ الصوفيُّ أن يقف على آراء الناقدين المخلصين، وعدم المبالاة بنفور المغرضين أو أنصار التقليد العازفين عن كل إبداعٍ وتجديد، ناسين ما وراء ذلك من خلقِ ثروةٍ فنِّيةٍ جديدةٍ للغتهم بدل الاكتفاء بالقديم المُعاد.
لن يعرف الفنَّ غيرُ الفنَّان. وإذا كان الفنُّ في طبيعتِه هو الصورةُ الحيَّةُ للوجود وما خلفَ الوجود، فهو بالنسبة للفنَّان مَلاذٌ رُوحيٌّ يهرع إليه فرارًا من شقاء الحياة، فيستمد الأَمل والثقة بالمستقبل. فالشاعرُ الموهوبُ الذي يقرض الشِّعرَ في شَتَّى الأغراض إنما يُصَوِّرُ الحياةَ وما خلفَها مما ينعكس في مرآةِ نفسه، وتلك الصور على تقاربها أو تباينها هي مَلجأٌ لوجدان الشاعر ومُتَنَفَّسٌ له. فكيف يُطالَبُ الشاعرُ بعد ذلك بأن يتحَوَّلَ تحوُّلًا آليًّا لإرضاء الجماهير، كأنما الشعرُ ليس من نفس صاحبه، وكأنما هو ليس بالمجهود العصبي العنيف حتى ولو كان مرتجلًا ارتجالًا؟
•••
يرى تاجور أنَّ الناس في هذا العصر الماديِّ الآليِّ السريع الحركة الدائم التجارب والتقلُّب بعيدون عن تذَوُّق العمل الفني وتقديره التقدير الصحيح، إذْ لا وقتَ عندهم لشيء من ذلك، وهم عاجزون تبعًا لهذه الحالة عن تَفهُّمِ الجمال الفني وعن التعبير عنه، وهو ينفي أن للنهضة العلمية أثرًا في هذه الحالة التي يعدُّها من أعراض الشيخوخة، فإنَّ الحاسَّة الشعرية في رأيه من صفات الشباب، فإذا ما فارقت بيئةً من البيئات فقلْ: إنها في دور الشيخوخة الفنية.
ويلوح لنا أنَّ هذه مَظاهر عارضةٌ في سيرة الأمم تبعًا للظروف العامة فيها، وهي غالبًا من ردِّ الفعل لما قبلها، ومن العجيب أنَّ هذه المظاهر قد تَتحَوَّلُ من نقيضٍ إلى نقيضٍ، فقد تشغل المشاكلُ الاقتصاديةُ أو الحربيةُ أو السياسيةُ أمةً من الأُمم شغلانًا كبيرًا فتصرفها إلى حدٍّ ما عن الأعمال الفنِّية الصرفة، وإنْ بقيتْ جذوةُ الفنِّ تحتَ الرماد، وقد تكون نفسُ هذه المشاكل مما ينفخ ذلك الرمادَ فإذا بالفنِّ مشتعل الجذوة يُستعانُ به في غير مجاله أو يُلجأ إليه للتَّرفيه عن النفوس الكميدة. فالفنُّ في ذاته عزاءٌ كبيرٌ وسلوى عظيمةٌ ومهذِّبٌ خطيرٌ للذوق ونبراسٌ لجمال الحياة، وهو إلى جانب ذلك وسيلةٌ حيويةٌ جليلةُ الخطر يمكن الانتفاع بها في خارج الدائرة الفنِّية المحضة. وسواءٌ أكان هذا الفنُّ شعرًا أم موسيقى أم تصويرًا أم نحتًا أم غير ذلك، فكلُّ هذه الاعتبارات جاريةُ الأحكام عليه. وقد كان الفنُّ منذ عهود الإنسان الأولى رفيقَه في صورةٍ من الصُّوَر وسيبقى رفيقَه ومُعينَه، متحوِّلًا من مثالٍ إلى آخر حسبَ العوامل الداعية إليه والمؤثرة فيه. وللشعر في كل هذا نصيبُه، ولكنْ بديهيٌّ أن تكون العنايةُ به نسبيةً بعد أن انقضى زمنُ التكسُّب بالشعر ولم يبق من وسائل الارتزاق التقليديِّ، وليس في هذا صُدوفٌ عن الشعر بل ارتفاعٌ بمستواه عن درك التصنُّع والابتذال. وتاجور نفسه قد لقيَ ما لقيَ من الترحيب العالمي به بناءً على منزلته الشعرية. والحربُ العالمية نفسها كان للشعر نصيبه الطبيعي في ثقافتها ودعايتها. ولكن من الإسراف أن ننتظر من الشعر أن يحلَّ محلَّ سواه من عوامل التكوين أو التهذيب للأمم، وحسبنا أن لا تنكر عليه مكانته الطبيعية وما نرى أنها منكورةٌ.
نعم لا نُنكر أنَّ بعضَ الأدباء يرى في الشعر ثرثرةً فارغةً، ولكنَّ ذلك الحكم يُوَجَّه عادةً إلى النظم المألوف الشائع المجرَّد من الروح الشعرية. وأمَّا الشعر الإنساني الحيُّ الذي يعالج الروح الإنسانية وينصر الفنَّ عامةً فهو عنصرٌ من عناصر الحياة الذهنية، ولا يمكن التخلِّي عنه بتاتًا، حتى ولو حَوَّلنا طاقتَه إلى فنون أخرى. ونحن لا ننكر أيضًا — بل اعترفنا من قبل — أنَّ جمهرة الأدباء لا تَرْضَى عن الشعر الجديد، ولا تفهم من الشعر أكثر من أنَّه وسيلة خارجة عن الفنِّ ومَسرحٌ للفكاهة وندوةٌ للإخوانيَّات، وتحكم بأنَّ الشعر الجديد المتعمِّق أو المتسامي لا حظَّ له من الحياة. ولكنَّ هذا الحكم الرجعيَّ لا يتمشَّى وملاحظات تاجور إلَّا تمشِّيًا عرضيًّا، فالتاريخُ الأدبي يُثبت أنَّ الشعر الفنيَّ القويَّ كان وما يزال وسوف يبقى عميقَ الأثر دائمَ التغلغل في حياة الشعوب وإن اعترض نفوذَه وسلوكه مَنْ لا يفهمونه. ونحن في تعليقاتنا لا نَعني غير هذا الشعر الحيِّ ولا نحفل بسواه، ونؤمن بأنَّ رسالته أبديةٌ، فلا يمكن أن تستغني عنه أمةٌ من الأمم أو بيئةٌ من البيئات حتى ولو صدفتْ عنه وقتيًّا. فليؤمن الشُّعراءُ الحرِيُّون بهذه التسمية برسالتهم الفنِّية الإنسانية ولْيُطلقوها حرةً دون أن يبالوا بعزوف بيئاتهم لضعفٍ في الشعور أو لخشونةٍ في الذوق أو لتباينٍ شديدٍ في الطبائع أو لقلةِ استعدادٍ للتحَوُّل الجديد، فكلُّ هذا لن ينهض للحكم على مكانة الشعر الصحيح من الحياة المهذَّبة ولا على مبلغ أهليته للاعتزاز والخلود.
•••
وعندنا أنَّه بدل العنف في مصادرة الفنِّ القويِّ يحسن بمن لا يرضون عنه أن يكتفوا بالتنبيه إلى نواحي الجمال فيه من حيث هو فَنٌّ، ثم إلى أضراره من حيث ملابساته الأخرى. وأمَّا المقاومةُ العنيفةُ للأذواق الفنِّية التي قد تُرضينا مِنْ ناحيةٍ خلقيةٍ مثلًا فتَحكُّمٌ وتَعسُّفٌ لا يجديان شيئًا في محاربة الفنِّ نفسه، فإنَّ روحه القوية — كيفما كانت مَظاهرُه — قبسٌ خالدٌ لا يمكن إطفاؤه.
•••
وبالرغم ممَّا يتخلَّلُ هذا التصديرَ من رُوح التبرُّم فإنه مُفْعَمٌ بالتفاؤل للمستقبل لأننا نلمح في الجيل الآتي رُوحَ البداية حيثما انتهينا، والقدرة على الاستيعاب الكلي لأساليبنا ودقائق فنِّنا ثم التقدُّم بجراءة. وهذا هو التطوُّرُ الصالح الذي نفرح به ونحييه في غير تحفُّظٍ ما دام صادق المبادئ لا يتذبذب. وبعد أن كنَّا نقول: «إنَّ الحياة أشعةٌ وظلالُ» فنُسخط مَنْ نُسخط من الجيل السابق لهذا التقرير الغريب، صار الجيلُ الجديدُ لا يَرضى بهذا الإجمال ويأبى له ولنا إلَّا أن نتوسَّع في هذه الأحاسيس الجديدة والتحاليل الحديثة. ومِنْ ثمَّة وجدنا مَنْ يُصغي إلى تحليلنا للأطياف والأضواء إلى عواطف ومَعانٍ كما يحلِّلها المنشورُ إلى ألوانها. ومِنْ ثمَّة وجدنا لاشتراك المشاعر في التعبيرات الشعرية فاهمين مقدِّرين، بعد أن كان الجيلُ الماضي يَضحك منها ولا يفهم أن يكون للنور شعرٌ خاصٌّ، ولكنَّ صفوة الخاصة من جيلنا الحاضر والشباب المثقَّف تفهمنا حينما نقول من الشاعر:
وليس بضائرٍ أن تكون هذه أقلية ما دامت تحمل شعلةَ النهضة الفنِّية الصادقة للمستقبل. وأكبرُ أملي أن يكون الشبابُ الشاعرُ الجديدُ المرهفُ الإحساس أشجعَ منا فيما مضى، وأن لا يُهمل نماذجَ شعره الجديد الغريب، وبحسبي أن أذكر هذا النموذج عن «باقة أنغام»:
ومن المظاهر المقترنة بهذا الشعر الحديث ألوانٌ من التصَوُّف العلمي بدل المبهمات والمعميات التي تشبَّع بها الشعرُ القديم، كما في قصيدة «الأشعة الكونية» وأخواتها، ومن أوضحها التَّصَوُّفُ النَّوعيُّ الذي يرَى فيه الشاعرُ طمأنينتَه وخَلاصَه من أسرِ الفناء فيقول في تأسِّيهِ:
ومن الظواهر الطَّيبة أن يحفل شعراءُ الجيلِ الناشئِ أو على الأقلِّ طليعته بهذه الروح التصوُّفية وبشعر الطبيعة عامةً، وأن يقرنوا شعرَ الطبيعة بحبِّ الزُّرَّاع ومَواطنهم الريفية. وأذكر أنَّ هذا اللون كان يُنتقد على شعري أثر عودتي من إنجلترا بعد غيبتي الطويلة، وكان بين أصدقائي مَنْ يدهشه عنايتي الخاصَّة بالفلَّاحة وبمشاهد الريف المصري وحنيني إلى موطن أسرتي في بلدة «قطور». ولعلَّ شعوري هذا هو ما جعلني أُعجب بشعراء الشباب الذين عطفوا على مَواطنهم الريفية وأعلنوا شغفهم بها فجزيتُ محبتهم هذه بكل ما أملك من تشجيع. وإنْ أنسَ لا أنسَ في هذا المقام تقدير الشاعر الأرلندي العظيم أوليفر جولد سمث للزُّرَّاع في قصيدته «القرية المهجورة»، فهم بلا شك العمود الفقري لكل أمةٍ زراعيةٍ وفي عزَّتهم عزَّتُها، والديمقراطية الصحيحة تبدأ بهم، ونهضتهم التعاونية هي سرُّ نهضة الشعب وقوميته. وهذا الإيمانُ بالفلَّاحين وبالحضارة الريفية هو الباعث لشعري عنهم المتمشِّي في دواويني المختلفة، وفي هذا الديوان حظٌّ منه في صُوَرٍ منَوَّعةٍ بين خاصة تمسّهم مباشرة وعامة في ألوانٍ من الشعر القومي.
أنعى على الأدباء الذين يتصيَّدون الخطايا اللغوية تعَبَهم الضائعَ لأنَّ لغتنا فيها بحمد الله لكلِّ كلمةٍ غيرُ وجهٍ ولكلِّ عبارةٍ غيرُ توجيهٍ، فإِنْ كان مقصدُهم ابتغاءَ المُثُلِ العليا فهذا سرفٌ، وإنْ كان غرضُهم إيهامَ الناس بأنَّ لهم بصرًا بالحروف فهذا غرورٌ! ولم يتهيَّأ الكمالُ لأبي عبيدة والأصمعي وخلف الأحمر فقد لحنوا وصحفوا وهم هم، فكيف يتهيأ لفلان وعلان وترتان من أدباء اليوم؟!
ونكرِّر أنَّ مثل هذه الملاحظة لا تعني شيئًا من التهاون باللغة، وإنما تشير إلى أنَّ الروح الفقهية لا تتفق وروح الفنِّ، وأنَّ حرية الشعراء الناضجين المستوعبين هي لخير الشعر واللغة، فهم رُوَّاد الابتداع في كثيرٍ من تعابيرها الرشيقة الحسَّاسة. وليس بدعًا إذن أن تجمع نظرتهم الحرة المستوعبة ما بين الحسِّيات والمعنويات، وأن تخترع الكثير من الألفاظ التصويرية، وأن ترى الشعر والفلسفة في المشاهد المألوفة، وشواهد ذلك في هذا الديوان وما قبله من دواويننا ليست بالتي يُعتذر عنها، فروحُ العصر تمليها وستبثُّها وستشيعها في الشعر الجديد. وليس في شيء من هذا تقليدٌ مقصودٌ لأي ثقافةٍ معيَّنةٍ فإنَّ الروح العصرية روح أممية وهي في مصر تجمع بين نزعات الشرق والغرب، فمن الطبيعي المحمود أن تمثل ذلك ومن غير المحمود أن يتخلَّى شعرُنا العصريُّ عمدًا عن هذه المؤثرات الطبيعية ثم يتعمد تقليد القدماء لينال رضاء المحافظين وهتافهم النابي بألمعيته!
•••
لا يُسأل الشِّعرُ عن نفسية صاحبه، فخواطر الحكيم وخواطر المجنون وخواطر الطفل الساذج كلِّها شعرٌ إذا عُبِّرَ عنها بطريقةٍ شعريةٍ، ولكن أرقى الشعر هو ما لا ينافي في روحه الحقيقةَ العالميةَ. وهذا الشعرُ العالي يجب أن يكون مرآةً صادقةً للبِّ الحياة الخالدة المتفائلة، ولا يجوز أن يكون التشاؤم فيه متناولًا صميمَ الحياة، وإن جاز أن يتناول مَظاهرها في ثورته على الباطل.
ولا مشاحةَ في أنَّ الشعر الذي يُساءُ به إلى الأدب لا يعبِّر عن شيءٍ من ذلك، وإنما هو في غالبه لعبٌ بالألفاظ وبالرنين. فكثيرٌ منه مغالطات في الحقائق ورجوع بالإنسانية إلى الوراء، لا يدعمه شيء من التصَوُّف البصير، ولا من روح العلم المتفائل، ولا من الشعور بمجد البشرية، ولا من الإيمان بالطبيعة الحكيمة، ولا من الحماسة للحق والجمال. هذا الشعر السقيم بل هذا النظم العاثر عبارة عن صور أخرى لتشابيه واستعارات صناعية أو نماذج من شكوك الجهل وطغيان السوداوية أو صور من الأمراض النفسية، وسيان قُدِّمَ لنا باسم المحافظة أو التجديد فلا قيمة فنية له ما دام بغيضًا كريهًا مشَوَّهَ الأداء لا يسنده شيءٌ من الطبيعة الفنية.
ولا شكَّ عندنا في أنَّ أسمى رسالة للشاعر هي النهوض بالإنسانية عن طريق هذا الفنِّ الجميل، فهو مربٍّ جليل يقدِّر «للذوق الفني» أثره، وهو في كل ما يعبِّر عنه — سواء جاء مرآةً لشخصيته أو مرآةً للمجتمع أو مرآةً للإنسانية أو مرآةً للحياة الكونية — إنما ينصر هذا «الذوق الفني» الذي يسير بالحياة إلى الأمام ويأبى لها الوقوف كما يأبى لها التشاؤم أو الفناء بالمعنى الحقيقي. فالحياة نوعية إن لم نقل عالمية، وهي أسمى من أن تُحصَر في فردٍ أو جنسٍ.
•••
هذه طائفةٌ من النقط الفنِّية التي ازدحمتْ أمامي وأنا أكتبُ هذا التصديرَ، تناولتُها تناولًا عامًّا لمن تشوقهم معرفة آرائي فيها، أو إجابة على أسئلة بعض الأدباء النقَّاد، وإن كنت أعلم أن بينهم مَن يشوقه التحدُّث عن الأمداح الغثة التي نظمها السيد شهاب الدين في محمد علي وسعيد وإسماعيل أضعافَ ما يَعنيه الإلمامُ بخصائص هذا الشعر أو بنزعات شعراء الشباب النابهين، وبينهم مَنْ يحفلون بكل قديم على ضعفه ولا يأبهون لأيِّ جديدٍ على قوَّته، وقد تجاوزوا في كل هذا حدودَ الذوق والمعقول. ولو أني عمدتُ إلى تدوين جميع الخواطر التي تتصل بهذه النقط لاتَّسع بي مجالُ هذا التصدير اتِّساعًا كبيرًا لا يتَّفق وغايتي منه، وليس أقلها شأنًا تحية أصدقائي المتفضِّلين بقراءته، المقبلين على ما بعده من شعرٍ، فشعريَ من نفسي وأرواحِ أندادي.