الجزء الثاني

١

العالم الذي تذكرته للحظةٍ عندما رأيت اسم الملك زُوجو في إحدى الصحف كان مختلفًا تمامَ الاختلاف عن العالم الذي أعيش فيه الآن، لدرجة أنه قد يَصعب عليك تصديقُ أنني قد انتميت إليه يومًا.

أعتقد أنك الآن قد رسمت لي صورة نوعًا ما في ذهنك — رجل بدين في منتصف العمر بطقم أسنان ووجه أحمر — ولا بد أنك كنت تتخيل تلقائيًّا أنني كنت دائمًا على هذه الحالة حتى منذ أن كنت في المهد. ولكن خمسة وأربعين عامًا وقت طويل؛ وعلى الرغم من أن بعض الناس لا يطرأ عليهم التغير أو التطور، فالبعض الآخر تُصيبهم تلك الأمور. لقد تغيرت كثيرًا، وعشت أوقاتًا جيدة وأخرى صعبة؛ لكن كان أغلبها جيدًا في الحقيقة. قد يبدو ما أقوله غريبًا، ولكن أبي على الأرجح كان سيَفْخر لو تمكَّن من رؤيتي الآن؛ فلطالما اعتقد أنه من الرائع أن يمتلك أحد أبنائه سيارة وأن يعيش في منزل به حمام. حتى في وضعي الحاليِّ فأنا متفوق بعض الشيء عن الوضع الذي نشأت فيه، وفي بعض الأوقات، وصلت إلى مستويات لم نكن لِنَحلم بها في تلك الأيام الخوالي فيما قبل الحرب.

قبل الحرب! يا تُرى إلى متى سنظل نُردد تلك العبارة؟ إلى متى سنُرددها قبل أن تُصبح الإجابة «أي حرب؟» بالنسبة لي، فإن الحرب التي تأتي لأذهان الناس عندما يقولون «قبل الحرب» قد تتمثل في الغالب في حرب البوير. لقد وُلِدتُ في عام ١٨٩٣، ويُمكنني بالفعل تذكر اندلاع حرب البوير؛ وذلك بسبب المناقشة العظيمة التي دارت بين أبي وعمي إيزيكيال حولها. ولديَّ ذكريات عديدة أخرى ترجع إلى ما قبل ذلك بعام تقريبًا.

أول شيء أتذكره هو رائحة قش نبات العنبريس. لقد كنت أصعد الممر الحجري المؤدِّيَ من المطبخ إلى المتجر، وكانت رائحة العنبريس تزداد قوة بطول الطريق. وكانت أمي قد ثبَّتَت بوابة خشبية في المدخل كي تمنعني أنا وجو (كان جو أخي الأكبر) من دخول المتجر. ما زلت أتذكر وقوفي هناك ممسكًا بالقضبان، ورائحة العنبريس ممتزجة برائحة الجِصِّ الرَّطْبة للممر. استغرق الأمر مني سنوات حتى تمكنت على نحوٍ ما من تحطيم البوابة والدخول إلى المتجر عندما لم يكن به أحد. حينها سقط فجأة فأرٌ كان قد دخل أحد صناديق الطحين، وجرى بين قدمَيَّ، وقد أصبح أبيض اللون تمامًا من الطحين. لا بد أن هذا قد حدث عندما كنت في السادسة من عمري تقريبًا.

عندما تكون صغيرًا جدًّا، يبدو أنك تعي فجأة أشياء كانت تحت ناظِرَيك لوقت طويل في الماضي. إن الأشياء التي حولك تتكشَّف لك كل على حدة تمامًا كما يحدث أثناء استيقاظك من النوم. على سبيل المثال، فقط عندما كان عمري أربع سنوات تقريبًا أدركت أن لدينا كلبًا. كان اسمه نايلير، وكان عجوزًا أبيض اللون من فصيلة التَّرْيَر الإنجليزية التي لم تَعُد موجودة هذه الأيام. قابلته أسفل طاولة المطبخ، وبطريقةٍ ما بدا أنني فهمت، ولم أعلم ذلك إلا في تلك اللحظة، أنه كلبنا وأن اسمه كان نايلير. على المنوال نفسِه وفي وقتٍ قبل ذلك ليس بالكثير، اكتشفت أن خلف البوابة في نهاية الممر كان ثَمة مكانٌ تنبعث منه رائحة العنبريس. والمتجر نفسه بما فيه من موازينَ ضخمةٍ ومقاييسَ خشبية وجاروف مَعدِني، والكتابة باللون الأبيض على الجدار، وطائر الدَّغْناش في قفصه — الذي لم يكن يُمكنك رؤيته جيدًا حتى عند الوقوف على الرصيف؛ لأن النافذة كانت متَّسِخة دائمًا — كل هذه الأشياء كانت تتضح لذهني الواحد تلو الآخر كقطع أحجية الصور المقطعة.

يمر الوقت، وتُصبح خطواتك أكثر ثباتًا، وتبدأ في فهم جغرافية المكان شيئًا فشيئًا. أعتقد أن لوير بينفيلد كانت كأي بلدة بها سوق يسكنها ما يقرب من ألفَي شخص. كانت في أكسفوردشير — لاحِظ أنني أُكرِّر كلمة «كانت» على الرغم من أن المكان ما زال موجودًا — على بُعد نحو خمسة أميال من نهر التيمز، وكانت تقع في وادٍ صغير، ويفصلها عن النهر تموُّج منخفضٌ من التلال، وخلفها تلالٌ أعلى. علَت التلالَ غابةٌ بدَت ككتل زرقاء ضبابيَّة يُمكن وسطها رؤية منزل أبيض كبير به رُوَاق. كان هذا منزل بينفيلد («القصر» كما كان يُسميه الجميع)، وكان أعلى التل يُعرف باسم أبر بينفيلد على الرغم من عدم وجود قرية هناك في ذلك الوقت ولا قبل ذلك بمائة سنة أو أكثر. لا بد أنني كنت في السابعة من عمري تقريبًا عندما لاحظت وجود منزل بينفيلد؛ فعندما تكون صغيرًا جدًّا لا تنظر إلى مسافات بعيدة، ولكن بحلول ذلك الوقت كنت قد عرَفت كلَّ بوصة في البلدة، التي كان شكلها تقريبًا كالصليب والسوق في وسطها. كان متجرنا في هاي إستريت قبل دخولك للسوق بقليل، وفي الركن كان متجر السيدة ويلر للحلوى حيث كنت تُنفق نصف بنس عندما يكون معك. كانت الأم ويلر عجوزًا شمطاء قذرة، وكان الناس يشكُّون في أنها كانت تمصُّ الحلوى المدورة وتضعها مرة أخرى في الوعاء، ولكن لم يُثبت عليها أحدٌ الأمر. بعيدًا عن ذلك بكثير كان هناك متجر الحلاقة والسجائر بلافتة إعلان سجائر عبد الله — ذلك الإعلان الذي به الجنود المصريون، ومن الغريب للغاية أنهم يستخدمون الإعلان نفسه حتى يومنا هذا — ورائحة الكحول القوية لعطر ما بعد الحلاقة وتبغ اللاذقية. خلف المنازل كان يُمكنك رؤية مداخن مصانع الجِعَة. وفي وسط السوق كان مَعْلَف الخيول الحجري، وأعلى مياهه كانت دائمًا ثَمة طبقة رقيقة من الغبار والتبن.

قبل الحرب، وخاصة قبل حرب البوير، كان الصيف يمتدُّ طوال العام. أدرك تمامًا أنَّ هذا وهم، ولكن جل ما أُحاول قوله هو الحال التي أتذكر عليها تلك الأيام. إذا أغلقت عينَيَّ وفكرت في بلدة لوير بينفيلد في أي وقت قبل أن أبلغ عامي، لنقُل، الثامن، فسأتذكرها دائمًا في فصل الصيف، وهذا سواء أكنت في السوق في وقت الغداء حيث الغبار المغطِّي لكل شيء وحصان الحمال يغرس أنفه في مِخلاته وهو يَمضغ الطعام، أو كنت في يوم حار فيما بعد الظهيرة في المروج الغضَّة الخضراء الرائعة حول البلدة، أو كنت قرب وقت الغسق في الزقاق خلف الحقول الزراعية ورائحة تبغ الغلايين وزهور المنثور التي تنساب عبر السياج النباتي. ومع ذلك أتذكر بالفعل الفصول المختلفة؛ لأن جميع ذكرياتي مرتبطةٌ بأشياء تُؤكَل، والتي تتنوع حسب فصول العام المختلفة. وأخصُّ بالذكر الأشياءَ التي كان المرء يجدها عند الأسيجة النباتية. في شهر يوليو كان ينبت التوت الشوكي — ولكنه كان نادرًا للغاية — وكان توت العليق الأسود يُصبح ناضجًا وصالحًا للأكل. وفي سبتمبر كنا نجد الخوخ الشوكي والبندق، ولكن أفضل أنواع البندق كانت دائمًا في الأغصان العالية التي لم نكن ننالها. وفي الشهور التالية كنا نجد جوز أشجار الزان والتفاح البري. كان هناك أيضًا بعض الأطعمة الثانوية التي تتناولها عندما لا يكون ثَمة شيء أفضل، ومنها الزُّعْرور البرِّي — ولكنه لم يَكُن مستساغًا — وثمر الورد البرِّي، الذي له مذاق قوي لطيف عند تنظيف الشعر الذي يكون عليه. كانت كذلك حشيشة الملاك من النباتات الجيدة في بداية فصل الصيف، خاصةً عندما تكون عطشانَ، وكذلك كان الأمر مع سيقان العديد من النباتات. نأتي بعد ذلك إلى الحُمَّاض البستاني، وهو جيد مع الخبز والزبد، وجوز الخنزير، ونوع من النفل الخشبي الذي له مذاق مُر. وحتى بذور نبات لسان الحَمَل تكون أفضلَ من لا شيء عندما تكون بعيدًا جدًّا عن المنزل وجائعًا بشدة.

كان جو أكبرَ مني بعامَين. وفي سنوات طفولتنا المبكرة، كانت أمي معتادةً على دفع ثمانيةَ عشر بنسًا في الأسبوع لكيتي سيمونز مقابل تمشيتي أنا وأخي في وقتِ ما بعد الظهيرة. كان والد كيتي يعمل في مصنع الجعة، وكان لديه أربعة عشر طفلًا؛ لذلك كانت عائلتها تبحث دائمًا عن الأعمال الصغيرة المؤقَّتة. وكانت فقط في الثانية عشرة من عمرها عندما كان جو في السابعة من عمره وكنت أنا في الخامسة، ولم تكن أكثرَ منَّا نُضجًا بكثير. كانت معتادة على سحبي من ذراعي ومناداتي ﺑ «صغيري»، وكانت مُكلَّفة بمنع اصطدامنا بالعربات التي تجرُّها الكلاب أو مطاردة الثيران لنا، ولكننا لم نكن نخوض أيَّ مناقشة إلا وكنَّا جميعًا على قدم المساواة. وقد اعتدنا المشيَ لمسافات طويلة للتنزُّه — وكنا دائمًا بالطبع نقطف الثمار ونتناولها طوال الطريق — إلى الزقاق خلف الحقول، وعبر مروج روبير، وإلى الطاحونة، حيث البركة التي بها حيوانات سَمَنْدَل الماء وسمك الشَّبُّوط الصغير (حيث كنت أنا وجو نذهب هناك لنصطاد عندما كنَّا في سنٍّ أكبر قليلًا)، وكنا نرجع عبر شارع أبر بينفيلد كي نمرَّ على متجر الحلوى في طرف البلدة. كان هذا المتجر في موقع سيِّئ أدى إلى إفلاس كل من امتلكوه، وعلى حد علمي كان لثلاث مرات متجرًا للحلوى ومرة متجرًا للبقالة ومرة متجرًا لإصلاح الدراجات؛ ولكن كان له سحر خاص على الأطفال. حتى عندما لا يكون لدينا المال، كنا نمر في طريقه كي نُلزق أنوفنا بنافذته. ولم تكن كيتي تترفع على الإطلاق عن أن تُشاركنا الحلوى التي نشتريها بربع بنس وتتعارك معنا على حصتها فيها. كان يُمكنك شراءُ أشياء بربع بنس في تلك الأيام؛ فمعظم الحلوى كانت الأوقيات الأربع منها ببنس، وكانت ثمة حلوى كذلك اسمها برادايس ميكستشر الست أوقيات منها ببنس، وكانت في الغالب تجميعًا للحلوى المكسورة من الأواني الأخرى. كما كانوا يبيعون شيئًا آخر اسمه فارذينج إيفرلاستنجس، وكان بطول الياردة ولم نكن نتمكن من إنهاء تناوله في نصف الساعة. أما الحلوى على أشكال الفئران والخنازير فكان كل ثمانٍ منها ببنس، وكذلك كانت حلوى العرقسوس التي كانت تأتي على شكل مسدسات، وكان كيس الفُشار الكبير بنصف بنس، وكان كيس الجوائز — الذي يحتوي على عدة أنواع مختلفة من الحلوى وخاتَم ذهبي اللون وأحيانًا صافرة — ببنس واحد. لا ترى أكياس الجوائز الآن، وكثيرٌ جدًّا من أنواع الحلوى التي كانت في تلك الأيام قد اختفَت اليوم. كان ثمة نوع من الحلوى البيضاء المسطحة بشِعَارات مطبوعة فوقها، ونوع آخر من الحلوى الوردية اللزجة في علبة بيضاوية الشكل من الخشب ومعها ملعقة صغيرة من الصفيح لتأكلها بها، وكان الاثنان بنصف بنس. ولكن اختفى هذان النوعان، واختفت كذلك حلوى الكراوية المجففة، وأصابع الشوكولاتة، وأعواد السكَّر، وكذلك حبات الحلوى الملونة الصغيرة للغاية، التي كانت بديلًا جيدًا إذا لم يكن معك سوى ربع بنس. وماذا عن مشروب بيني مونيستير؟ هل يرى أحدٌ مشروب بيني مونيستير اليوم؟ كان في زجاجة كبيرة تسَع أكثرَ من ربع جالون من شراب الليمون الفوار، وكل ذلك ببنس واحد. هذا شيء آخر من الأشياء التي قضت عليها الحرب.

أرى الصيف دائمًا عندما أتذكر الماضي. يُمكنني الشعور بالعُشب من حولي وهو في طولي نفسِه، والإحساس بالحرارة الصاعدة من الأرض، وكذلك رؤية الغبار في الزقاق، والضوء المخضرِّ الدافئ القادم عبر أغصان شجر البندق. أرى ثلاثتنا مُصطفِّين على نحو متتالٍ، نأكل الثمار التي نقطفها من السياج النباتي، وكيتي تسحبني من ذراعي وتقول لي: «هيا يا صغيري!» وفي بعض الأحيان كانت تُنادي على جو وتصرخ فيه قائلة: «جو! ارجع هنا حالًا! وإلا فستُعاقَب!» كان جو ولدًا ضخمَ البِنية، برأس كبير وثقيل بعض الشيء، وسمَّانتَين ضخمتَين؛ وهو من ذلك النوع من الأولاد الذين يفعلون أشياءَ خطرةً دائمًا. في السابعة من عمره، كان قد ارتدى بالفعل البناطيلَ القصيرة، والجوارب الثقيلة السوداء التي تصل إلى الركبتَين، والأحذيةَ العاليةَ الرقبةِ التي كان يرتديها الأولادُ في تلك الأيام، بينما كنت لا أزال أرتدي نوعًا من الأردية الخارجية الطويلة الفضفاضة التي اعتادت أمي على حياكتها لي بيدَيها. وكانت كيتي ترتدي فساتين رثةً سيئة تُشبه فساتين الآنسات، التي كانت الأخوات يتوارَثنها من جيل إلى جيل في عائلتها. وكانت لديها قبعة كبيرة مضحِكة تخرج منها ضفائرُها، وتنورة ذات ذيل طويل يجرجر على الأرض، وحذاءٌ بأزرارٍ كعبه مهترئ. كانت صغيرةَ البِنية لا يزيد طولها بكثير عن طول جو، ولكنها لم تكن سيئة في «رعاية» الأطفال؛ ففي عائلة مثل عائلتها، يكاد الطفل «يرعى» أطفالًا آخرين بمجرد فطامه. وقد كانت من حين إلى آخر تُحاول التصرف كالناضجات والسيدات، وكانت تقطع حديثنا بالأمثال والأقوال المأثورة، التي كانت تعتقد أنها جوابٌ مفحم؛ فإذا قلت: «لا تبالي»، ترد على الفور:

«مَن لا يُبالي أُجبر على أن يُبالي. من لا يُبالي عُلِّق. من لا يُبالي وُضع في قِدر من الماء المغلي حتى مات.»

أو إذا سببتها كانت ترد قائلةً: «الكلمات الحادة لا تكسر العِظام.» وعندما تتفاخر تقول لك: «يأتي الفخر قبل السقوط.» وقد تحقق ما قالت بالفعل في أحد الأيام عندما كنت أتبختر متظاهرًا أنني جندي فسقطت في روث البقر. لقد كانت عائلتها تعيش في مكان صغير وقذر، أشبه بجُحر الجرذان في الحي الفقير خلف مصنع الجِعَة، وكان المكان مكتظًّا بالأطفال كالهَوام. نجحت العائلة بأكملها في الهروب من الذَّهاب إلى المدرسة، الأمر الذي كان سهلًا بعض الشيء في تلك الأيام، وكان الأطفال يخرجون لقضاء مشاوير للآخرين ولأداء أعمال مؤقتة أخرى بمجرد تمكُّنهم من المشي. وقد سُجِن أحد إخوتها الكبار شهرًا لسرقته بعضَ اللفت. توقفت عن تمشيتنا بعد ذلك بعام عندما كان جو في الثامنة من عمره وأصبح صعبًا على فتاةٍ التحكمُ فيه، وقد اكتشف أنه في منزل كيتي ينام كلُّ خمسة من أفراد العائلة في سرير واحد، وكان يتهكم عليها بسبب هذا الأمر.

كم كانت كيتي مسكينة! لقد أنجبت طفلها الأول عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. لم يكن أحد يعلم والد الطفل، وربما لم تكن كيتي نفسُها متيقنة مِمَّن يكون أيضًا. وقد اعتقد معظمُ الناس أنه أحد إخوتها. أخذ الملجأُ الطفل، وعملت كيتي خادمة في وولتن. بعد ذلك ببعض الوقت تزوجت سمكريًّا، وكان حتى بمقاييسِ عائلتها دون المستوى. وقد كانت آخر مرة أراها فيها في عام ١٩١٣. كنت أتنزَّه بالدراجة عبر وولتن، ومررت ببعض الأكواخ الخشبية المروعة بجوار خط السكة الحديدية، وكان يُحيط بكلٍّ منها سياجٌ من القطع الخشبية التي تُصنَع منها البراميل، حيث اعتاد الغجر التخييم في أوقات معيَّنة في العام تسمح لهم الشرطة بها. خرجت امرأة شمطاء، بوجه دخاني مليء بالتجاعيد وشعر منسدِل، وتبدو كأنها في عامها الخمسين على أقلِّ تقدير، من أحد هذه الأكواخ وبدأَت تنفض حصيرة بالية. كانت هذه المرأة هي كيتي، التي لا بد أنها كانت في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمرها.

٢

كان يوم الخميس هو يوم السوق. كان الرجال بوجوههم الحمراء المستديرة كقَرْع اليقطين وثياب العمل الواسعة القذرة خاصتهم وأحذيتهم الضخمة الملطَّخة بروث الأبقار الجاف، الذين يحملون العصي الطويلة من خشب شجر البندق، يقودون حيواناتهم إلى السوق في الصباح الباكر. لعدة ساعات كانت ثَمة ضجةٌ هائلة من نباح الكلاب، ونخير الخنازير، والرجال في عربات التجار الذين يُريدون أن يشقوا طريقهم وهم يُلوِّحون بسياطهم ويسبُّون، وكل من له علاقة بالماشية يصرخ ويضرب بالعصي. وكانت الضجة الكبرى دائمًا عندما يجلبون ثورًا إلى السوق. حتى في ذلك العمر، هالني أن معظم الثيران كانت حيواناتٍ غيرَ مؤذية ومطيعة، وأن كل ما تريده هو أن تصل إلى مرابطها بسلام، ولكن الثور لم يكن ليُعدَّ ثورًا إذا لم تخرج نصف البلدة لملاحقته ومطاردته. وفي بعض الأحيان كانت بعضُ الحيوانات المرتعبة، والتي عادةً ما تكون من العجول الصغيرة، تهرب وتركض إلى أحد الشوارع الجانبية؛ ومِن ثَم فأي أحد تصادف وجوده في طريقها كان يقف في منتصف الطريق ويلوح بذراعَيه للخلف كريش الطاحونة الهوائية، ويصرخ: «ووه! ووه!» كان من المفترض أن لهذا التصرف تأثيرًا مهدِّئًا على الحيوان، ولكنه بالتأكيد كان يُخيفه.

في منتصف الصباح، كان بعض المزارعين يدخلون المتجر ويفحصون عينات من الحبوب بتمريرها خلال أصابعهم. ولم يكن أبي في الواقع يتعامل كثيرًا مع المزارعين؛ لأنه لم يكن لديه عرَبة لتوصيل البضائع ولا يُمكِنه تحمل الديون طويلةِ الأجل، فكانت معظم معاملاته صغيرةَ الحجم للغاية، كبيع طعام الدواجن والعلف لتجار الخيول وما شابه. وكان العجوز بروير، الذي كان يعمل في الطاحونة، وغْدًا عجوزًا بخيلًا بلِحْية ذقن رمادية، يقف هناك لمدة نصف الساعة يفحص بأصابعه عينات ذرة الدجاج ويجعلها تسقط في جيبه غيرَ مبالٍ، ثم كان بالتأكيد يذهب في النهاية دون شراء أي شيء. كانت الحانات في المساء ممتلئة بالسكارى، وكان نصف اللتر من الجِعَة في تلك الأيام ببنسَين، وكان بها بعضُ أحشاء الحيوانات على عكس الجعة اليوم. وطوال الوقت في خلال حرب البوير، كان رقيب التجنيد يجلس في حانة جورج الرخيصة كلَّ مساء خميس وسبت، وكان متأنقًا في ملبسه ويُنفِق ببذَخ. وفي بعض الأحيان في الصباح التالي، كنت تراه يجر صبيًّا بدينًا أحمر الوجه غبيًّا من صبيان المزرعة الذي قبل أن يُجرى تجنيده مقابل حصوله على شلن عندما كان مخمورًا للغاية ليجد نفسه في الصباح في حاجةٍ إلى دفع عشرين جنيهًا ليتخلَّص من هذه الورطة. اعتاد الناس الوقوف على عتبات بيوتهم والإيماء برءوسهم عندما كانوا يُشاهدونهما يمرَّان، تمامًا كما لو كانوا في جنازة. «عجبًا الآن! التجنيد! فلتُفكر فقط في الأمر! شاب غض مثل ذلك!» كان الأمر صادمًا لهم؛ إذ كان الالتحاق بالجيش بالنسبة لهم تمامًا كهُروب بناتهم من المنزل. كان موقفهم من الحرب، ومن الجيش، غريبًا للغاية؛ فقد كانت لديهم تلك الفكرةُ التي كانت لدى الإنجليز القدامى أن مَن يرتدون الزيَّ العسكري هم حُثالة الأرض، وأن أي أحد ينضم للجيش سيموت سكرانَ، ويذهب مباشرةً إلى الجحيم؛ ولكنهم في الوقت نفسِه كانوا أناسًا وطنيِّين صالحين، يضعون أعلام الاتحاد في نوافذهم، ويُؤمنون إيمانًا راسخًا بأن الإنجليز لم يُهزَموا قط في أي معركة ولن يُهزَموا أبدًا. وفي ذلك الوقت، كان الجميع، وحتى المنشقِّين عن الكنيسة، يُغنون أغانيَ حماسية عن معركة الخط الأحمر الرفيع والجندي الشاب الذي مات في ميدان المعركة بعيدًا عن بلاده. هؤلاء الجنود الشباب كانوا يموتون دائمًا «وسط سيل من الرَّصاص والشظايا»، على ما أتذكر. حيرني الأمر طفلًا؛ فقد كان يُمكنني تخيلُ طلقات الرصاص، ولكن ما شكَّل صورة غريبة في ذهني كان تطايُرَ الشظايا في الهواء. عندما حُرِّرت بلدة مافيكنج، هلَّل الناس بشدة، وأحيانًا كانوا يُصدِّقون بغضِّ النظر عن أي شيء الحكايات التي تروج عن البويريين القائلة بأنهم كانوا يرمون الأطفال الرضَّع في الهواء ويشوونهم على حرابهم كاللحم على الأسياخ. استاء العجوز بروير بشدة من مناداة الأطفال إياه ﺑ«كروجر»، لدرجة أن حلق لحيته قرب نهاية الحرب. كان موقف الناس من الحكومة مُماثلًا تمامًا؛ فقد كانوا جميعًا إنجليزًا أوفياءَ لأوطانهم، وأقسموا على أن الملكة فيكتوريا كانت أفضلَ ملِكة على الإطلاق، وأن الأجانب أشرار، ولكن في الوقت نفسِه لم يُفكِّر أحدٌ قطُّ في دفع الضرائب، حتى رسوم ترخيص كلابهم إن استطاعوا إيجاد أي طريقة لتجنب ذلك.

قبل الحرب وبعدها، كانت لوير بينفيلد دائرة انتخابية لليبراليين. وفي أثناء الحرب عُقِدَت انتخاباتٌ فرعية وفاز فيها المحافظون. كنت صغيرًا جدًّا على أن أفهم كلَّ ذلك، وكل ما كنت أعرفه هو أنني كنت محافظًا؛ لأنني أحببتُ أعلامهم الزرقاء أكثرَ من الأعلام الحمراء، وأتذكر ذلك على وجه التحديد بسبب رجل سكران سقط على أنفه على الرصيف خارج حانة جورج. وكان من الغريب أنه لم يُلاحِظه أحد، وظل في مكانه لساعاتٍ تحتَ الشمس الحارقة وجسمه ينزف من حوله حتى جف الدم، وتحول إلى اللون الأرجواني. وفي وقت انتخابات عام ١٩٠٦، كنت كبيرًا بما يكفي لِفَهم ما يحدث، بدرجة أو بأخرى، وأصبحت حينئذٍ ليبراليًّا؛ لأن الجميع كانوا كذلك. وقد طاردوا مرشح المحافظين لمسافة نصف ميل، وألقَوْا به في بِركة مليئة بالطحالب. لقد كان الناس يأخذون السياسة في تلك الأيام على محمل الجد؛ فكانوا يَشْرعون في تخزين البيض الفاسد الذي سيَلْقون به أعداءهم من المرشحين قبل الانتخابات بأسابيع.

في وقت مبكر للغاية في حياتي عندما اندلعَت حرب البوير، أتذكر الشِّجار الكبير الذي كان بين أبي وعمي إيزيكيال. كان لعمي إيزيكيال متجرٌ صغير لبيع الأحذية في أحد الشوارع المتفرعة من هاي إستريت، وكان يُصلح الأحذية كذلك. كان عملًا صغيرًا وكان يصغر أكثرَ فأكثر، الأمر الذي لم يكن يُهم عمي إيزيكيال كثيرًا؛ لأنه لم يكن متزوجًا. كان أخًا غير شقيق لأبي وكان أكبر منه بكثير؛ إذ كان يكبره بعشرين سنة على الأقل، وفي السنوات الخمس عشرة أو ما يقرب من ذلك التي عرَفتُه فيها، لم يتغيَّر على الإطلاق. كان رجلًا عجوزًا حسَن المظهر، طويلًا بعض الشيء، ذا شعرٍ أبيض ولحية بيضاء لم أرَ لها مثيلًا، كانت بيضاء كزغب الزهرة الشائكة. وكان دائمًا ما يُخبِّط على مئزره الجلدي ويقف باستقامة شديدة — كي يُصحح ما فعله الانحناء لساعات طويلة على قالب صنع الأحذية، على ما أعتقد — ثم يُدوي بآرائه قاذفًا بها مباشرةً في وجهك ومنتهيًا بما يُشبه القَوْقأة الغامضة. كان عجوزًا شديدَ الإيمان بالليبرالية كليبراليِّ القرن التاسع عشر، ذلك النوع الذي لا يكتفي بسؤالك عما قاله جلادستون في عام ١٨٧٨، بل يُمكنه أن يُجيبك عن سؤاله، وهو أحد القلائل في لوير بينفيلد الذين لم تتغيَّر آراؤهم طوال وقت الحرب. وكان دائم الإدانة لجو تشامبرلين وبعض الأشخاص الذين أسماهم «حثالة بارك لين». يُمكنني سماعه الآن في إحدى مناقشاته مع والدي، وهو يقول: «هم وإمبراطوريتهم المتراميةُ الأطراف! لا يُمكِنهم أن يبعدوا كثيرًا عن ناظري. ها ها ها!» ثم أسمع صوت أبي الهادئَ القلق حيَّ الضميرِ يردُّ عليه بعبء الرجل الأبيض ودوره تجاه السود المساكين الذين عاملهم هؤلاء البوير بطريقة شائنة. لمدة أسبوع أو ما شابه بعد أن أعلن عمي إيزيكيال أنه مؤيد للبوير ومُعادٍ للإمبريالية البريطانية، كادا لا يتحدَّثان، وتشاجرا مرة أخرى عندما بدآ في تداول روايات الفظائع التي ارتكبها كِلا الجانبَين. كان أبي قلقًا للغاية من الحكايات التي سمعها، وكان يتناقش فيها مع عمي إيزيكيال. وسواءٌ أكان عمي إيزيكيال معاديًا للإمبريالية البريطانية أم لا، فبالتأكيد لم يكن يستطيع أن يرى أن ما فعله هؤلاء البوير من إلقاء الأطفال الرضع في الهواء وشَيِّهم لهم على الحِراب أمر جيد، حتى إن كانوا مجردَ أطفال سود. ولكن عمي إيزيكيال ضحك في وجه أبي ساخرًا من كلامه؛ فقد أساء أبي فَهْم الأمر! فلم يكن البوير هم مَن يرمون الأطفال الرضع في الهواء، بل الجنود البريطانيون! ظل ممسكًا بي ليُوضح له ما يحدث — ولا بد أنني كنت في ذلك الحين في الخامسة من عمري تقريبًا — قائلًا: «إنهم يُلقونهم في الهواء ويضعونهم في الأسياخ كالضفادع، أؤكد لك! مثلما قد أُلقِيَ بهذا الطفل هنا!» ثم أرجحَني في الهواء وكاد أن يُلقي بي، وكان يُمكنني تخيلُ نفسي بوضوح وأنا أطير في الهواء وأسقط بقوة على سِن حربة.

كان أبي على النقيض التام من عمي إيزيكيال. لا أعلم الكثير عن جدي وجدتي؛ فقد ماتا قبل أن أُولَد. وكل ما أعرفه هو أن جدي كان إسكافيًّا، وقد تزوج في عمر كبير من أرملة بائع حبوب، وهكذا حصلنا على المتجر. لم تكن هذه المهنة تُناسب أبي في الواقع، لكنه أتقنها جيدًا وكان يعمل بلا كلل. وفيما عدا يوم الأحد وفي أحيان نادرة في المساء خلال الأسبوع، أنا لا أتذكره إلا والطحينُ على ظهر يدَيه وبين خطوط وجهه وعلى ما تبقى من شعره. تزوج أبي في الثلاثينيَّات من عمره، ولا بد أنه كان في الأربعين من عمره تقريبًا في أول صورة له في ذهني عنه. كان رجلًا قصيرًا، أشيب بعض الشيء وضئيلَ البِنية للغاية، وكان دائمًا يرتدي قميصًا دون أي شيء فوقه، ومئزرًا أبيض، وكان يعلوه غبارُ الطَّحين دائمًا. كان رأسه مستديرًا وأنفه غيرَ حاد، وكان بشارب كثيف ونظارة، وكان شعره سمنيَّ اللون كشعري؛ ولكنه فقد معظمه وكان دائمًا يُغطيه الطحين. تحسَّن حال جدي كثيرًا بزواجه من أرملة بائع الحبوب؛ وتعلَّم أبي في مدرسة وولتن للقواعد اللغوية، التي كان المزارعون والتجار ميسورو الحال يُرسلون أبناءهم إليها؛ بينما كان عمي إيزيكيال يُحب التباهيَ بأنه لم يدخل مدرسة في حياته وأنه كان يُعلِّم نفسه القراءة على ضوء شمعة بعد ساعات العمل. ولكنه كان سريعَ البديهة أكثر بكثير من أبي؛ فقد كان بإمكانه مجادلةُ أي شخص، وكان يُردد الكثير من عبارات كارلايل وسبنسر. أما أبي فلم يكن حاضرَ الذهن مثله، ولم يكن مغرمًا قط بقراءة الكتب أو ما كان يُسميه «التعلم عن طريق القراءة»، ولم تكن لغته الإنجليزية جيدة. في أوقات ما بعد الظهيرة يوم الأحد، حيث الوقت الوحيد الذي كان يستريح فيه، كان يجلس بجانب الموقد في غرفة المعيشة ليستمتع بما كان يُطلق عليه «القراءة الجيدة» لصحيفة يوم الأحد. كانت صحيفته المفضلة هي صحيفة «صنداي بيبول»، بينما كانت أمي تُفضل صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد»؛ لأنها تعرض أخبار جرائمِ قتل أكثرَ من وجهة نظرها. يُمكنني رؤيتهما الآن في أحد أيام الأحد فيما بعد الظهيرة — وفي فصل الصيف بالطبع؛ فأنا أتذكر الصيف دائمًا — مع رائحة لحم الخنزير المشوي، والخُضاة التي لا تزال تنساب في الهواء، وأمي بجوار المِدْفأة تَشرع في قراءة آخر جريمة قتل، ولكنها يغلبها النُّعاس وفمها مفتوح؛ وأبي في الجانب الآخر من المدفأة يرتدي خُفه ونظارته، ويحاول بصعوبة قراءة السطور العديدة ذات الطباعة المشوشة. كل ذلك مع الشعور اللطيف للصيف الذي يُحيط بك من كل مكان، ونبات إبرة الراعي في النافذة، وهديل طائر الزُّرزور الآتي من مكان ما، وأنا أجلس أسفل الطاولة ومعي مِجلة «بي أو بي» متخيلًا غطاء المائدة خيمة. بعد ذلك وفي موعد تناول الشاي، كان أبي وهو يَقْضم الفُجل والبصل الأخضر يتحدث متأملًا عما قرأه، من الحرائق وغرق السفن، وفضائح المجتمع الراقي، وتلك الآلات الطائرة الجديدة، والرجل (الذي ألاحظ أنه يظهر في صحف أيام الأحد حتى يومِنا هذا مرة كل ثلاث سنوات) الذي ابتلعه حوت في البحر الأحمر ولفظه بعدها بثلاثة أيام ليخرج من جوفه حيًّا ومغطًّى بعصارته الهضمية البيضاء. كان أبي دائم الشك نوعًا ما في هذه القصة، وفي أمر آلات الطيران الجديدة؛ بخلاف ذلك كان يُصدق كل شيء يقرؤه. حتى عام ١٩٠٩ لم يُصدق أحد في لوير بينفيلد أن الإنسان قد يتعلم الطيرانَ في يوم من الأيام، وكان المعتقد السائد أنه إن أراد الله أن يجعلنا نطير لأعطانا أجنحة؛ ولكن عمي إيزيكيال كان يرد على ذلك بغضب بأنه إن أراد الله أن نسوق لخلقَنا بعجلات، ولكن حتى هو لم يُصدق خبر آلات الطيران الجديدة.

لم يكن أبي يُعير انتباهَه لمثل هذه الأمور إلا فيما بعد ظهيرة يوم الأحد، وربما في المساء الوحيد في الأسبوع الذي يُطلُّ فيه سريعًا على حانة جورج ليشرب كوبَين من الجِعَة. أما في غير ذلك من الأوقات، فقد كان دائمًا غارقًا في العمل بشكل أو بآخر. لم يكن في الواقع ثَمة الكثيرُ مما يُمكن القيام به، ولكنه بدا منشغلًا دائمًا؛ إما في العُلِّية خلف الفِناء مكافحًا لإصلاح جوال أو بالة، أو في مساحة التخزين الصغيرة المليئة بالأتربة خلف طاولة البيع في المتجر، حيث يجمع الأعدادَ في دفتر ملاحظات بقلم رصاص صغير. كان رجلًا شديد الأمانة والكرم، وشديد الحرص على توفير البضاعة الجيدة، ولم يخدع أحدًا، الأمر الذي لم يكن حتى في تلك الأيام أفضل الطرق لتحقيق أرباح كبيرة في العمل. كان سيُلائمه أكثر لو أنه شغل منصبًا رسميًّا صغيرًا، كمدير مكتب البريد على سبيل المثال، أو ناظر محطة في إحدى القرى، ولكنَّه لم يكن لديه من الجُرأة وحبِّ المغامرة ما يدفعه إلى اقتراض بعض المال وتوسيعِ عمله، ولم يكن لديه من الخيال كذلك ما يجعله يُفكر في خطوطِ بيع جديدة. كان ذلك من طباعه المتأصلة حتى إن أمارة الإبداع الوحيدةَ التي بيَّنها، وهي اختراع خليط جديد من الحبوب لطيور الأقفاص (خلطة بولينج، هكذا كان اسمه، حيث كانت مشهورة على نطاقِ ما يقرب من خمسة أميال)، كانت في الواقع بفضل عمي إيزيكيال. كان عمي مولَعًا بالطيور وكان لديه عددٌ كبير من طيور الحَسُّون في متجره المظلِم الصغير، وكان يعتقد أن طيور الأقفاص تفقد ألوانها بسبب قلة التنوع في غذائها. في الساحة خلف المتجر، كان لأبي قطعةُ أرض صغيرةٌ جدًّا يزرع فيها ما يقرب من عشرين نوعًا من الحشائش أسفل شبكة سلكية، وكان يُجففها ويخلط حبوبها ببذور الكناري العادية. كان من المفترض أن يكون جاكي طائرُ الدغناش المعلَّق في نافذة المتجَر إعلانًا لخلطة بولينج. وبالتأكيد، على خلاف معظم طيور الدغناش في الأقفاص، لم يتحوَّل قط لون جاكي إلى اللون الأسود.

أما أمي، فلا أتذكرها إلا وهي سمينة، ولا شك أنني ورثت منها ضعف الغُدَّة النُّخامية، أو أيًّا كان سبب بدانتي.

كانت امرأة ضخمة البِنية، أطول من أبي بقليل، وكان شعرها أفتحَ كثيرًا من شعره، وكانت تُحب ارتداءَ الفساتين السوداء؛ ولكن فيما عدا يوم الأحد، لا أتذكَّرها إلا مرتديةً مِئزرها. قد أكون مبالغًا، ولكن ليس كثيرًا، عندما أقول إنني لا أتذكرها قط إلا وهي تطبخ. عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، يبدو أنك ترى الناس دائمًا في أماكنَ معينة وفي مواقف مميزة بعينها. ويبدو لك أنهم يفعلون الأشياء نفسَها دائمًا، تمامًا مثلما أُفكر في أبي، فأتذكره دائمًا خلف طاولة البيع في المتجر وشعره مغطًّى بالكامل بالطحين، ويجمع الأعداد بقلم رصاص صغير يُرطبه بين شفتَيه، وتمامًا كذلك مثلما أتذكر عمي إيزيكيال بلحيتِه البيضاء وهو يفرد جسمه ويخبِّط على مئزره الجلدي، وأيضًا مثلما أتذكر أمي عند طاولة المطبخ وساعداها مُغطَّيان بالدقيق، وتفرد قطعة من العجين.

أنت تعرف بالتأكيد شكل المطابخ التي كانت في بيوت تلك الأيام، ذلك المكان الضخم المظلم المنخفض بعض الشيء ذو العارضة الخشبية الكبيرة في السقف والأرضية الحجرية والقبو أسفله. كان كل شيء ضخمًا، أو هكذا بدا لي عندما كنت طفلًا. كان ثمة حوضٌ حجَري كبيرٌ بلا صنبور، ولكن بمضخَّة من الحديد؛ وخِزانة تُغطِّي أحد الجدران ويصل ارتفاعها للسقف، وموقد ضخم يُحرَق فيه نصف طنٍّ من الحطَب والفحم كلَّ شهر، وقد مر عليه وقتٌ طويل فغُطِّي بالرَّصاص الأسود. أرى أمي عند الطاولة تفرد قطعة كبيرة من العجين، وأرى نفسي أزحف حولها وألعب بقطع من حطَب الموقد وقِطَع الفحم ومصائد الخنافس الصفيح (فقد كنا نضعها في كل الزوايا المظلمة، واعتدنا وضع الجِعَة فيها كطُعم)، وكنت من حين إلى آخر أصعد إلى الطاولة لأتذوَّق وأستجديَ قضمات من الطعام. لم تكن أمي تُوافق على تناول الطعام بين الوجبات، وكانت دائمًا تُجيبني قائلةً: «امضِ إلى حالك الآن! لن أدَعك تُفسد على نفسك عشاءك. عيناك أكبر من بطنك.» ولكن في أحيان نادرة، كانت تقطع لي شريحة رفيعة من قشر الفواكه المسكِرة.

طالما أحببتُ مشاهدة أمي وهي تصنع المعجَّنات؛ فثمَّة سحر في مشاهدة أي أحد وهو يفعل شيئًا يفهمه جيدًا، وأنا كنت أشاهد امرأة تعرف جيدًا كيف تطبخ؛ أعني كيف تلفُّ العجين. كانت ذات هيئة متحفِّظة ومميزة وتتَّسم بالهيبة؛ هيئة تدل على الرضا عن النفس، ككاهنة تُقيم طقسًا مقدَّسًا، وكانت هي في قرارة نفسِها ترى نفسَها هكذا بالفعل. كان لأمي ساعدانِ عريضان وقويَّان وضاربان إلى الحمرة، وكانا عادةً ملطَّخَين بالطحين. وعندما كانت تطبخ، كانت حركاتها كلُّها مُحكَمة وصارمة على نحوٍ عجيب؛ ففي يدَيها مضرب البيض والمفرمة ومرقاق العجين تقوم بعملها كما هو المفترض منها. وعندما كنت تراها وهي تطبخ كنت تعلم أنها في عالم تنتمي إليه، وبين أشياء تفهم فيها جيدًا. وفيما عدا عندما كانت تقرأ صحف يوم الأحد وتتحدَّث في بعض الأمور المتعلقة بالقيل والقال في بعض الأحيان، لم يكن العالَمُ يعني شيئًا لها؛ فعلى الرغم من أنها كانت تقرأ بسهولة أكثرَ من أبي، واعتادت على خلافه قراءةَ الروايات القصيرة والصُّحف، فقد كانت جاهلة بشكل لا يُمكن تصوره. كنت مدركًا لذلك حتى عندما كنت في العاشرة من عمري. لا يُمكنها بالتأكيد إخبارك بما إذا كانت إيرلندا تقع في شرق إنجلترا أم في غربها، وأشك في أنه كان بإمكانها في أي وقت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى أن تُخبرك باسم رئيس الوزراء. إضافة إلى ذلك، لم يكن لديها أدنى رغبة في معرفة مثل تلك الأشياء. عندما قرأت كتبًا بعد ذلك عن بلدان الشرق حيث تعدُّد الزوجات والحرملك السري حيث تُحبَس النساء ويُراقبهن الحُرَّاس السود المخصيون، فكرت في مدى صدمة أمي إذا سمعت بهذا الأمر. بإمكاني سماعُ صوتها وهي تقول: «يا للهول! كيف يحبسون زوجاتهم هكذا؟! هذا غير معقول!» لن تكون صدمتها هنا بسبب معرفتها بأمر الحُرَّاس المخصيِّين، ولكن في الحقيقة لأنها عاشت حياتَها في مساحة صغيرة وذات خصوصية كأي حرملك؛ فحتى في بيتنا كانت ثَمة أماكنُ لم تطَأْها قدَماها قط؛ فلم تذهب قطُّ إلى العُلِّية خلف الساحة، وكانت نادرًا ما تذهب إلى المتجر. لا أعتقد أنني رأيتها يومًا تخدم أحد الزبائن، ولم تكن تعرف مكان أي شيء في المتجر، وربما لم تكن تعرف الفرق بين القمح والشوفان حتى تُطحَن حبوبهما. ولِمَ عليها أن تعرف الفرق؟ العمل بالمتجر كان يُمثِّل عمل أبي «عمل الرجل»، وحتى فيما يتعلق بأموره المادية، فلم يكن لديها فضولٌ كبير لمعرفتها. أما عملها، «عمل المرأة»، فقد كان الاهتمام بالمنزل وإعداد الطعام وغسل الملابس ورعاية الأطفال. وكانت تستاء كثيرًا إذا رأت أبي أو أيَّ رجل يُحاول خياطة زر بنفسه.

كما هو الحال في مواعيد الوجبات وفي غيرها من الأشياء، كان منزلُنا من تلك المنازل التي يسير فيه كلُّ شيء بانضباطٍ كالساعة. أو لا، ليس كالساعة لأن هذا يُوحي بشيء ميكانيكي. لقد كانت الأمور تسير سيرًا طبيعيًّا؛ إذ كنت تعلم أن الإفطار سيكون على الطاولة في صباح الغد، تمامًا كما تعلم أن الشمس ستُشرق في الصباح. وكانت أمي طوال حياتها تذهب إلى الفِراش في الساعة التاسعة، وتستيقظ في الخامسة، وكانت على ما يبدو تعتقد أن السَّهر مفسدة، وأنه للمنحطِّين والأجانب والأرستقراطيِّين. وعلى الرغم من أنها لم تُمانع في الاستعانة بكيتي سيمونز لتمشيتي أنا وجو، لم تكن لتتقبل قط فكرة أن تُساعدها امرأة في أعمالها المنزلية؛ فقد كانت تعتقد اعتقادًا راسخًا أن الخادمات دائمًا ما يجرفن الأتربة أسفل خِزانة المطبخ. كانت وجباتنا جاهزة دائمًا في أوقاتها المحددة، وكانت وجباتٍ دسمةً؛ لحم البقر المسلوق، مع الدامبلنج، ولحم البقر المشوي مع بودينج يوركشاير، ولحم الضأن المسلوق مع براعم الكَبَر، ورأس خنزير، وفطيرة التفاح، وبودينج الزبيب، ولفائف بالمربى … كل ذلك يسبقه ويعقبه صلاةُ ما قبل الأكل. كانت لا تزال الأفكار القديمة حول تنشئة الأطفال قائمةً على الرغم من أنها بدأت تفقد مكانتها بسرعة. نظريًّا، كان الأطفال لا يزالون يُضرَبون ويذهبون للنوم ولم يتناولوا سوى الخبز والماء، وبالطبع كنتَ تُحرَم من تناول الطعام على المائدة إذا أصدرتَ المزيد من الضوضاء أثناء تناول الطعام، أو أصابَتك غصَّة بسبب الطعام أو الشراب، أو رفضتَ تناول شيء «جيد لصحتك»، أو «قمت بالرد على الكِبار». ولكن عمليًّا، لم يكن ثمة الكثير من الانضباط في عائلتنا، ومن بين والدَيَّ كانت أمي الأكثر حزمًا. أما أبي، فعلى الرغم من ترديده الدائم لمقولة «إن تركت العصا يفسد الولد»، فلم يكن في واقع الأمر حازمًا معنا، وخاصة مع جو، الذي كان عنيدًا منذ صغره. كان دائمًا يُهدد بأنه سيضرب جو ضربًا مبرحًا، وكان يروي لنا الحكايات — التي أعتقد الآن أنها كانت كذبًا — حول الجَلْد المرعب الذي كان والده يجلده له بحزام جلدي، ولكننا لم نرَ أي أثر لذلك. وفي الوقت الذي كان فيه جو في الثانية عشرة من عمره، كان قويًّا لدرجة أن أمي لم تعد تستطيع أن تُثبته أسفل ركبتَيها لتضربه، وبعد ذلك لم يكن يُصيبه شيء من العقاب.

في ذلك الوقت، كان لا يزال من المقبول من الآباء أن يُكرروا الأوامر والنواهيَ لأبنائهم طوال اليوم، وكنَّا دائمًا ما نسمع رجلًا يتباهى بأنه «سيقتل ابنه ضربًا» إذا رآه يُدخِّن أو يسرق تفاحًا أو عُشًّا للطيور. بعض العائلات كانت تعامل أبناءها هكذا بالفعل؛ فقد أمسك السروجي العجوز لوفجروف بولدَيه ضخمَي البِنْية اللذَين كانا في السادسة عشرة والخامسة عشرة وهما يُدخنان في سقيفة الحديقة، وأثخنهما ضربًا حتى كان بإمكانك سماعُ صوت ضربه لهما في كل مكان بالبلدة. كان لوفجروف مدخنًا شرهًا. لم يَبدُ أن الضرب كان له أي تأثير على الإطلاق؛ فكل الأولاد كانوا يسرقون التفاح وأعشاش الطيور، ويتعلمون التدخين عاجلًا أو آجلًا، ولكن الاعتقاد في أن الأطفال يجب أن يُعامَلوا بقسوة كان لا يزال قائمًا. كانت تقريبًا جميع الأشياء التي تستحق القيام بها ممنوعة، نظريًّا على الأقل. وفي اعتقاد أمي، كان كل شيء يُريد أن يفعله الأولاد «خطرًا»؛ فالسباحة خطر، وتسلق الأشجار خطر، وكذلك التزحلق، واللعب بكرات الثلج، والتعلُّق بالعربات من الخلف، واللعب بالمرجام والنبلة، وحتى الصيد. وكانت كذلك كل الحيوانات خطرة، باستثناء نايلير والقطتَين والدغناش جاكي؛ فكل حيوان لديه طرُقه الخاصة المعروفة التي يُهاجم الأطفال بها: الخيول تعض، والخفاش يعلق بالشعر، وحشرة أبو مِقص تدخل إلى الأذن، والبجع يكسر السيقان بضربة من أحد جَناحَيه، والثيران تركل، والثعابين «تلدغ». كل الثعابين تلدغ في اعتقاد أمي، وعندما أخبرتها بما قرأت في موسوعة بيني من أنها لا تلدغ بل تعض، لم تقل شيئًا سوى أن أمرتني ألا أرد على كلامها. كما كانت تعتقد أن السحالي والديدان البطيئة والعلاجيم والضفادع والسمندلات تلدغ؛ كل الحشرات تلدغ، ما عدا الذباب والخنافس. وكذلك كانت ترى أن جميع أنواع الأطعمة، ما عدا الأطعمة التي نأكلها في وجباتنا بالمنزل، إما سامة أو «مضرة بالصحة»؛ فالبطاطس سامة للغاية، وكذلك الفِطر إلا إذا اشتريته من بائع الخضار، وعنب الثعلب يُسبِّب المغص، والتوت يُسبِّب طفحًا جلديًّا. وكان في اعتقادها أيضًا أنك إذا استحممت بعد الوجبات، فستموت بسبب تشنُّج العضلات، وإذا جرحت يدك بين الإبهام والسبابة، فستُصاب بالتيتانوس؛ وإذا غسلت يدَيك في ماء سَلْق البيض، فستظهر فيها ثآليل. كذلك كل شيء تقريبًا في المتجر كان سامًّا بالنسبة لأمي؛ ولذلك وُضِعت البوابة عند المدخل. طعام الأبقار سام، وكذلك ذرة الدجاج، وبذور الخردل، وحبوب كارسوود الخاصة بالدواجن. والحلوى أيضًا مضرة والأكل بين الوجبات مضر، ولكن من الغريب أنه كانت ثَمة أنواع معينة من الأطعمة التي كانت تسمح أمي بتناولها بين الوجبات؛ فعندما كانت تصنع مربى البرقوق، كانت تتركنا نأكل شرابها الذي كانت تُزيله من أعلاها، وكنا نأكل منه بنهَم حتى نمرض. وعلى الرغم من أن كل شيء تقريبًا في العالم كان إما مُضرًّا أو سامًّا، فقد كانت ثَمة أشياء معينة في اعتقاد أمي ذاتَ فائدةٍ غامضة؛ فالبصلُ كان علاجًا لكلِّ شيء تقريبًا، وربط جوربٍ حول العُنق كان علاجًا لاحتقانِ الحلق، والكبريت في ماء شُرب الكلاب يعمل كدواء منعِش ومنشط؛ لذلك كان بعضٌ من الكبريت موضوعًا في وعاء شرب نايلير القديم خلف الباب الخلفي، وظل كذلك لسنوات دون أن يتغيَّر.

اعتدنا تناولَ الشاي في الساعة السادسة؛ فقرابة الساعة الرابعة تكون أمي قد انتهت تقريبًا من أعمالها المنزلية، وبين الرابعة والسادسة اعتادت تناوُلَ كوبٍ من الشاي في هدوء و«قراءة صحيفتها»، كما كانت تُطلِق على الأمر. في الحقيقة، لم تكن تقرأ عادةً الصحيفة إلا يوم الأحد؛ فصحف باقي أيام الأسبوع لم يكن بها إلا الأخبار اليومية، ونادرًا ما يكون بها أخبار عن جرائم قتل، ولكن مُحرري صحف يوم الأحد أدركوا أن الناس لا يهتمون في الواقع بما إذا كانت جريمة القتل حديثة أم لا؛ وعندما لم يكن لديهم جرائم جديدة، كانوا يُعيدون نشر جريمة قديمة مع التعديل فيها، وقد ترجع هذه الجرائم في بعض الأحيان إلى عهد الدكتور بالمر والسيدة مانينج. أعتقد أن أمي كانت ترى العالم خارج لوير بينفيلد في الأغلب على أنه مكان لارتكاب جرائم القتل. وكان لجرائم القتل سحرٌ رهيب عليها؛ لأنها — كما كانت تقول عادةً — كانت لا تعلم كيف يُمكن أن يُصبح البشر بهذا الشر؛ بحيث يقطعون أعناق الزوجات، ويدفنون الآباء أسفل الأرضيات الإسمنتية، ويُلقون الرُّضع في الآبار. كيف لأي شخص أن يفعل مثل تلك الأشياء؟! حدثت فظائع جاك السفاح الشهير تقريبًا في الوقت الذي كان فيه أبي وأمي متزوجَين، والمصاريع الخشبية الكبيرة التي اعتدنا إغلاق نوافذ المتجر بها كل ليلة كانت ترجع إلى تلك الفترة. كان قد انتهى عهد مصاريع نوافذ المتاجر، ولم تَعُد موجودة في معظم متاجر هاي إستريت، ولكن أمي شعرت بالأمان في وجودها، وكانت دائمًا تقول إنها كان يُراودها شعور مرعب بأن جاك السفاح مختبئٌ في لوير بينفيلد. كما ضايقَتها كثيرًا قضية كريبن، ولكن ذلك كان بعد سنوات عديدة عندما شارفتُ على البلوغ. يُمكنني سماعُ صوتها الآن وهي تقول: «لقد أخرج أحشاء زوجته ودفن جثتها في مخزن الفحم! هذا غير معقول! ترى ماذا كنت سأفعل بذلك الرجل إن أمسكت به!» الغريب في الأمر أنها عندما كانت تُفكِّر في بشاعة ذلك الطبيب الأمريكي الصغير الذي مزَّق زوجته (وأخفى فعلته بمهارة حيث أخرج كل عظامها من جسمها ورمى برأسها في البحر، على حد تذكري للأحداث)، كانت الدموع تنزل من عينَيها.

أما معظم أيام الأسبوع، فكانت تقرأ في الغالب مجلة «هيلداس هوم كومبانيون»، التي كانت في تلك الأيام جزءًا من الأثاث المعتاد لأي منزل كمنزلنا، وفي الواقع لا تزال كذلك حتى الآن، على الرغم من أن المجلات النسائية الأكثر بساطة التي ظهرَت منذ الحرب قد حلت محلَّها بعض الشيء. ألقيت نظرة على نسخة منها منذ بضعة أيام. لقد تغيرت ولكن أقل كثيرًا مما تغير كل شيء، فهي لا تزال تحتوي على القصص المتسلسلة نفسِها التي تستمر ستة أشهر (وجميعها تنتهي بالنهايات السعيدة)، ولا يزال بها النصائح المنزلية نفسُها، والإعلانات نفسها لماكينات الخياطة وعلاجات مشاكل السيقان. لم يتغير فيها الكثير سوى الطباعة والرسومات التوضيحية. في الماضي كانت البطلة تبدو كعداد البيض، والآن تبدو كالأسطوانة. كانت أمي تقرأ ببطء وتُصر على أخذ الفائدة التي تُساوي ثلاثة بنسات ثمن المجلة. وكانت تجلس على الكرسي ذي الذراعَين الأصفرِ القديم بجوار المدفأة، وتضع قدَمَيها على سياجها الحديدي، وتُحضِّر الشاي الثقيل في إبريق صغير تضعه على صفيحة المدفأة؛ وكانت تقرأ صفحات المجلة من أولها لآخرها ببطء: القصة المتسلسلة، والقصتان القصيرتان، والنصائح المنزلية، وإعلانات مرهم زام بوك، والرد على أسئلة المراسلين. كانت عادةً تستمر في قراءة المجلة طوال الأسبوع، وفي بعض الأسابيع لم تكن تستطيع حتى إنهاء قراءتها. وأحيانًا كانت حرارة النار أو أزيز الذباب الأزرق في فترة ما بعد الظهيرة في فصل الصيف يجعل النُّعاس يغلب عليها، وفي حوالي الساعة السادسة إلا ربع كانت تهبُّ مستيقظة وتنظر إلى الساعة على رف المدفأة وتقلق؛ لأن موعد الشاي سيتأخر، ولكنه لم يكن يتأخر قط.

في تلك الأيام وحتى عام ١٩٠٩ بالتحديد، كان أبي لا يزال قادرًا على استئجار صبي ليُساعده في المتجر، واعتاد على ترك المتجر له لينضم إلينا وقتَ تناول الشاي وظهر يدَيه مغطًّى بالكامل بالطحين. حينها كانت تتوقف أمي عن تقطيع شرائح الخبز لوهلة، وتقول له: «هلا باركت لنا المائدة يا زوجي.» وبينما كنا نحني رءوسنا جميعًا إلى صدورنا، كان أبي يُتمتم بخشوع: «اجعلنا يا رب شاكرين بحق لما أعددت لنا من طعام، آمين.» بعد ذلك عندما كبر جو قليلًا، أصبحت تقول له: «بارك لنا المائدة اليوم يا جو.» وكان جو يُتمتم بالصلاة. لم تُبارك أمي المائدة قط؛ فقد كان يجب أن يكون المبارِك من الذكور.

كان الذباب الأزرق يطنُّ دائمًا في الصيف في وقت ما بعد الظهيرة. ولم يكن منزلنا صحيًّا؛ فقط بعض منازل الأغنياء في لوير بينفيلد هي التي كانت كذلك. أظن أنه لا بد أن البلدة كان بها خمسمائة منزل، ولم يكن بالتأكيد منها إلا عشرة منازل فقط بها حمام، أو خمسون فقط بها ما يُمكننا وصفه الآن بدورة المياه. في الصيف، كنت أشم دائمًا رائحة القمامة في ساحتنا الخلفية، وكانت جميع المنازل تُعاني من وجود الحشرات بها. كان لدينا خنافس في الألواح الخشبية لجدران المنزل، وصراصير ليل في مكان ما خلف الموقد بالمطبخ، هذا بالطبع بالإضافة إلى ديدان الطحين التي كانت في المتجر. في تلك الأيام، لم تكن حتى ربة المنزل الجيدة كأمي ترى ما يدعو إلى الاعتراض من وجود الخنافس في المنزل؛ فقد كانت جزءًا من المطبخ مثلها مثل الخِزانة أو مِرقاق العجين. ولكن الحشرات كانت في ازدياد، والمنازل في الشارع القذر خلف مصنع الجعة، حيث تعيش كيتي سيمونز، كانت يجتاحها البق. أمي أو أي من زوجات أصحاب المتاجر كانت ستموت خجلًا إذا كان في بيتها بق. في الواقع، كان من الأفضل أن يقول المرء إنه لا يعرف حتى شكل البق.

كان الذباب الأزرق الكبير يُهاجم السلم ويستقر بلهفة على الأغطية السلكية التي نُحكِم بها تغطية اللحم. وقد اعتاد الناس على أن يقولوا: «تبًّا للذباب!» لكن الذباب كان قدَرَنا، وبخلاف أغطية اللحم والورق اللاصق والقاتل للذباب، لم يكن باستطاعتك فعل شيء للتخلص منه. قلت منذ قليل إن أول ما أتذكره هو رائحة قش العنبريس، ولكن رائحة القمامة هي أيضًا من أولى الروائح التي تأتي إلى ذاكرتي. عندما أتذكر مطبخ أمي بأرضيته الحجرية ومصائد الخنافس والسياج الصُّلب والموقد الأسود، أكاد أسمع دائمًا طنين الذباب الأزرق وأشم رائحة القمامة، وكذلك نايلير الذي كانت له رائحة قوية كبقية الكلاب. وثمة روائح وأصوات أسوأ بكثير. ترى أيها ستسمعه أولًا؛ طنين الذباب الأزرق، أم أزيز طائرة قاذفة للقنابل؟

٣

بدأ جو في الذَّهاب إلى مدرسة وولتن للقواعد اللُّغوية قبلي بعامَين، ولم يذهب أيٌّ منا إليها إلا في عمر التاسعة؛ فقد كان الذَّهاب إلى المدرسة يعني السير بالدراجات مسافة أربعة أميال صباحًا ومساءً، وكانت أمي تخاف أن تسمح لنا بالذَّهاب وسط الزحام، الذي كان في ذلك الوقت يعني عددًا قليلًا للغاية من السيارات.

ذهبنا لعدة سنوات إلى مدرسة في منزل السيدة العجوز هاوليت، التي كان يذهب إليها معظم أبناء أصحاب المتاجر لِتَقيَهم عار الذهاب إلى المدارس الابتدائية المؤسسة بأموال الضرائب، على الرغم من أن الجميع كان يعرف أن الأم هاوليت كانت نصابة عجوزًا ومعلمة سيئة. كانت تتجاوز السبعين، وكانت لا تسمع جيدًا على الإطلاق، وكانت بالكاد ترى وهي مرتدية نظارتها، ولم يكن لديها من الأدوات سوى عصًا وسبورة وبضعة كتب مهترئة لقواعد اللغة والعديد من ألواح الكتابة الأَرْدُوازية ذات الرائحة الكريهة. وكانت بالكاد تُسيطر على الفتيات، أما الأولاد فقد كانوا يضحكون عليها ويتغيَّبون عن الحضور كما يشاءون. حدثت ذات مرة فضيحةٌ مرعبة في المدرسة؛ إذ وضع أحد الأولاد يده تحت ثوب فتاة، ولكني لم أكن أفهم الخطأ الذي ارتكبه الولد في ذلك الوقت، ونجحت الأم هاوليت في التكتم على الأمر.

وعندما كنت تفعل شيئًا سيئًا، كانت تقول: «سوف أُخبر والدك.» ولكنها نادرًا جدًّا ما كانت تُخبر الآباء بالفعل. وكنا أذكياء بما يكفي لمعرفة أنها لا تجرؤ على فعل ذلك كثيرًا، وحتى عندما كانت تضربنا بالعصا، كان كِبرُ سنها وعدمُ لياقتها يجعلان من السهل علينا تفاديَ الضربات.

كان جو في الثامنة من عمره فقط عندما انضم إلى مجموعة مشاكسة من الفِتْيان، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم اليد السوداء. كان قائدهم سِيد لوفجروف، الابن الأصغر للسروجي، الذي كان في الثالثة عشرة من عمره تقريبًا، وكان ثمة ولدان آخران من أبناء أصحاب المتاجر، وولد يعمل في مصنع الجعة، ومزارعان كانا في بعض الأوقات يتهرَّبان من العمل لمقابلة المجموعة لبضع ساعات. كان المزارعان ضخمَي البِنية، وكانا يدخلان على المجموعة بقوة وعلى نحو مفاجئ مرتديَين بِنطالَين قصيرَين مصنوعَين من قماش قطني مضلَّع، وكانا يتحدثان بلُكْنة محلِّية متدنية، وكان بقية الأولاد في المجموعة يعدُّونهما أقلَّ شأنًا منهم، ولكنهم كانوا يتساهلون معهما؛ لأنهما يعلمان عن الحيوانات الكثير مما لا يعلمه الآخَرون، حتى إن أحدهما، وكانت كنيته جينجر، كان يصطاد الأرانب بيدَيه في بعض الأحيان؛ فكان إذا رأى أرنبًا على العشب، ينقض عليه كنسر باسطًا جَناحَيه. كان ثمة فارق اجتماعي كبير بين أبناء أصحاب المتاجر وأبناء العمال والمزارعين، ولكنَّ الفتَيَين المحلِّيَّين لم يكونا عادةً يُوليان اهتمامًا كثيرًا للأمر حتى بلغا السادسة عشرة تقريبًا. وكان للمجموعة كلمة سر و«اختبار» كان يتضمَّن جرح أحد الأصابع وتناول دودة أرض، وكانوا يتفاخرون بأنهم عصابة مرعبة. بالتأكيد تمكنوا من تحويل أنفسهم إلى أشخاص مؤذية؛ فقد كانوا يكسرون النوافذ، ويُطاردون الأبقار، ويخلعون مقارع الأبواب، ويسرقون كمًّا كبيرًا من الفاكهة. في بعض الأحيان في الشتاء، كانوا يجلبون بعض حيوانات ابن مِقْرَض ويذهبون لاصطياد الجرذان عندما يسمح لهم المزارعون بذلك. وكانت لديهم جميعًا المراجم والنِّبال، وكانوا دائمًا يدَّخرون المال لشراء مسدس صغير، الذي كان بخمس شلنات في تلك الأيام؛ ولكن مدخراتهم لم تزد قط عن ثلاثة بنسات. أما في الصيف، فقد اعتادوا الذهاب لصيد السمك وسرقة بيض أعشاش الطيور. عندما كان جو في مدرسة السيدة هاوليت، كان يتغيب عن المدرسة مرة في الأسبوع على الأقل، وحتى عندما ذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية، كان يتغيَّب مرةً كل أسبوعَين تقريبًا. كان ثَمة فتًى في مدرسة القواعد اللغوية، وكان ابن بائع مزادات، يُمكنه تقليد خط أي شخص، وكان إذا أعطيته بنسًا يُزوِّر لك خطابًا من أمك يقول إنك كنت مريضًا بالأمس. بالطبع كنت فتًى مشاغبًا وجديرًا بالانضمام إلى مجموعة اليد السوداء، ولكن جو كان دائمًا يمنعني، ويقول إنهم لا يُريدون معهم أي أطفال لعينة.

وكان ما يروق لي فيما يفعلون حقًّا هو صيد السمك. في عمر الثامنة، لم أكن قد صدت السمك بعد إلا بشبكة اشتريتها ببنس واحد يُمكنك في بعض الأحيان أن تصطاد بها سمك أبي شوكة. كانت أمي دائمة القلق من تركنا نذهب إلى أي مكان بجوار الماء، وقد «حرَّمَت» صيد السمك كعادة الآباء في ذلك الوقت في «تحريم» كلِّ شيء تقريبًا، ولم أكن في ذلك الحين قد فهمت أن البالغين لا يرون إلا مواضع أقدامهم. ولكن فكرة صيد السمك كانت تسحرني وتملؤني بالإثارة، وفي كثير من الأحيان كنت أذهب إلى البِركة عند الطاحونة وأُلقي نظرة على أسماك الشَّبُّوط الصغيرة وهي تتشمس على سطح البركة، وفي أحيان أخرى تحت شجرة الصَّفصاف في الركن، كنت أرى سمك الشَّبُّوط الكبير الأشبه بالألماس، الذي كان يبدو لي ضخمًا — إذ كان طوله ست بوصات على ما أظن — وهو يقفز فجأة إلى السطح ليلتهم اليرقات بسرعة ثم يغطس في الماء مرة أخرى. كنت أقضي ساعات ملصقًا أنفي بنافذة متجر والاس في هاي إستريت، حيث تُباع عُدَد صيد السمك والبنادق والدراجات. واعتدت الاستلقاء في السرير مستيقظًا في الصباح في الصيف أُفكر في الحكايات التي أخبرني بها جو عن صيد السمك، وكيف يمزج معجون الخبر، وكيف تهتز فلينة الصنارة وتغطس، وكيف تشعر بتقوُّس القصبة وبسحب السمكة للخيط. أتعجبُ من ذلك الإشعاع السحري الذي تُلقي به الأسماك وصيدها في أعين الأطفال. يشعر بعض الأطفال بالشيء نفسِه تجاه البنادق والرماية، وبعضهم الآخر يشعرون به تجاه الدرَّاجات النارية أو الطيارات أو الخيول. إنه ليس بالشيء الذي يُمكنك شرحُه أو تبريره؛ إنه سحر بحت. في صباح أحد الأيام — في شهر يونيو ولا بد أنني كنت في الثامنة من عمري — علمتُ أن جو كان ينوي التغيب عن المدرسة والذهاب لصيد السمك، وقررت أن أتبعه. ولكن بطريقة ما خمَّن جو ما كنت أُفكر فيه، وأخذ يُهاجمني ونحن نرتدي ملابسنا قائلًا:

«حسنًا أيها الصغير جورج! لا تظن أنك ستذهب معي للقاء مجموعة أصدقائي اليوم، بل سترجع إلى المنزل.»

«لا، أنا لا أظن شيئًا. أنا لا أفكر في الأمر.»

«بل تفكر! تفكر في الذهاب للقاء المجموعة.»

«لا، لا أفكر!»

«بل تفكر!»

«لا، لا أفكر!»

«بل تفكر! ولكنك سترجع إلى المنزل. نحن لا نريد أي أطفال لعينة معنا.»

كان جو قد تعلم لتوه كلمة «لعين»، وكان دائم الاستخدام لها. وقد سمعه أبي مصادفةً مرة وهو يقولها، وأقسم إنه سيقتله ضربًا، ولكن كعادته لم يفعل شيئًا. انطلق جو بعد الإفطار بدراجته ومعه حقيبته وقبعة المدرسة، وكان ذلك مبكرًا عن موعده بخمس دقائق كما هي عادته عندما كان ينوي التغيب عن المدرسة؛ وعندما جاء موعد مغادرتي المنزل للذهاب إلى مدرسة الأم هاوليت، تسللت واختبأت في الزقاق خلف الحقول. كنت أعلم أن المجموعة ذاهبة إلى البِركة التي عند الطاحونة، وكنت أنوي أن أتبعهم حتى لو قتلوني لفِعْل ذلك. كنت أعلم أنهم ربما يضربونني وأنني قد لا أتمكن من الرجوع إلى المنزل على الغداء، ومِن ثَم ستعلم أمي أنني قد تغيبت عن المدرسة وسأُضرَب مرة أخرى، ولكني لم أكترث لأي من ذلك؛ فقد كنت أتطلَّع بشدة لصيد السمك مع المجموعة. وكنت ماكرًا أيضًا. انتظرت حتى ابتعد جو قليلًا بدراجته وأخذ الطريق إلى الطاحونة، ثم ذهبت إلى الزقاق ولففت حول المروج في الجانب البعيد للسياج، وذلك حتى أقترب من البِركة قبل أن تراني المجموعة. كان صباحًا رائعًا من صباحات شهر يونيو. وكان عُشب الحوذان بزهره الأصفر يصل إلى ركبتَيَّ، وكانت ثمة نسمة من الرياح تُحرِّك قمم أشجار الدَّردار، وكانت أوراق الأشجار كسُحب خضراء ناعمة وغالية كالحرير. كانت الساعة التاسعة صباحًا، وكنت في الثامنة من عمري، وكل شيء حولي كان يدلُّ على بداية فصل الصيف: السياجات المتشابكة الضخمة حيث الورود البرية لا تزال مزهرة، والقليل من السُّحب البيضاء الناعمة المتحركة فوق الرءوس، والتلال المنخفضة على مَبْعدة، والكُتل الزرقاء المعتمة للغابة حول أبر بينفيلد. ولكن لم يكن أي من ذلك يَعنيني؛ فكل ما كنت أفكر فيه هو البِركة الخضراء وأسماك الشَّبُّوط والمجموعة ومعهم الخطافات وخيوط الصيد وطُعم معجون الخبز. كانوا كما لو أنهم في الجنة وكان عليَّ الانضمام إليهم. سرعان ما تمكنت من التسلسل إليهم، وقد كانوا أربعة: جو وسِيد لوفجروف وصبي مصنع الجعة وأحد ابنَي أصحاب المتاجر، أظن أن اسمه كان هاري بارنز.

استدار جو ورآني؛ فقال: «يا إلهي! إنه الصبي.» وجاء لي كقِط ذكر مستعد للشِّجار، وقال: «حسنًا، ها أنت ذا! ماذا قلت لك؟ ارجع إلى المنزل بأقصى سرعة.»

كنت أنا وجو نميل إلى التحدث بلهجة الطبقة العاملة عندما نكون غاضِبَين. تراجعتُ من أمامه.

وقلت: «لن أرجع إلى المنزل.»

«بل ستفعل.»

قال سِيد: «اقرص أذنه يا جو؛ فنحن لا نريد أي أطفال معنا.»

قال جو: «هل ستذهب إلى المنزل؟»

«لا.»

«اذهب إلى المنزل على الفور يا ولد! اذهب إلى المنزل على الفور.»

ثم أخذ يُهاجمني، وفي اللحظة التالية كان يُطاردني ويُمسك بي بين الحين والآخر، ولكني لم أبتعد عن البِركة وجريت في دوائر. ولكنه سرعان ما أمسك بي وأطاح بي أرضًا، ثم جثا على عَضُدَيَّ وأخذ يلوي أذني، وهو ما كان عقابه المفضل لي الذي لم أكن أتحمله. أخذت أنوح في ذلك الوقت، ولكني لم أستسلم وأعِدْه بالذهاب إلى المنزل؛ فقد كنت أُريد البقاء وصيد السمك مع المجموعة. وفجأة، وقف الباقون في صفي وطلبوا من جو النزول عن صدري والسماح لي بالبقاء إن أردت. ومِن ثَم بقيت في النهاية.

كان معهم خطَّافات وخيوط صيد وفلينات وقليلٌ من معجون الخبز في خِرْقَة، وصنَع كلٌّ منا لنفسه عصًا من أفرع شجرة الصَّفصاف التي كانت في زاوية البِركة. وكانت المزرعة على بُعد مائتَي ياردة فقط تقريبًا، وكان علينا أن نختبئ جيدًا لأن العجوز بروير كان يُغضبه بشدة صيد السمك. لم يكن الأمر في الواقع يعنيه في شيء، فلم يكن يستخدم البِركة إلا في إمداد ماشيته بالماء، ولكنه كان يكره الأولاد. كان الباقون لا يزالون يشعرون بالغيرة مني، وظلوا يطلبون مني أن أتنحى جانبًا ويُخبرونني بأنني ما أنا إلا طفل، وأنني لا أعرف شيئًا عن الصيد. كما قالوا إنني أتسبب في جلَبة تُرعب الأسماك فتفر هاربةً، على الرغم من أن جلبتي كانت أضعفَ بكثير من الجلبة التي كان يُحدثها أيٌّ منهم. وفي النهاية، لم يسمحوا لي بالجلوس بجوارهم وأرسلوني إلى جانب آخر من البِركة، حيث كان الماء ضَحْلًا أكثر ولم يكن ثمة الكثير من الظل، وقالوا إن طفلًا مثلي بالتأكيد سيظل يرش الماء ويرعب الأسماك فتفر هاربةً. كانت رقعة رديئة من البِركة حيث لا تأتي أي أسماك عادةً. كنت أعلم ذلك، وبدا أنني علمت بشيء من الفطرة أماكن وجود الأسماك. ومع ذلك، كنت أصطاد في النهاية، إذ كنت أجلس على الضفَّة العُشبية وقصبة الصيد في يدَيَّ، والذباب يطن من حولي، ورائحة النعناع البري النفاذة تكاد تُفقِدك الوعي، وكنت أشاهد الفلينة الحمراء تطفو على المياه الخضراء، وكنت فرحًا بشدة على الرغم من أن آثار دموعي كانت لا تزال مختلطة بالأتربة وتُغطي كامل وجهي.

الرب وحده يعلم كم من الوقت جلسنا في ذلك المكان. وكان الصباح يطول أكثر فأكثر، وتزداد حرارة الشمس على نحوٍ متزايد، ولم يكن أحد منا قد اصطاد سمكة. كان يومًا هادئًا وحارًّا وصافيًا ما يُمكِّن من الصيد. طفَت الفلينات فوق الماء دونما اهتزاز. وكان يُمكنك أن ترى أعماق البِركة كما لو كنت تنظر عبر زجاج داكن الخُضرة. وفي منتصف البِركة، كان يُمكنك رؤية الأسماك تعوم أسفل السطح مباشرةً وتتشمس، وفي بعض الأحيان في العُشب المائي بالقرب من الجانب كان يأتي سَمَنْدل زاحفًا لأعلى ويستقر هناك بأصابعه على العُشب وأنفه خارج بعض الشيء من الماء. ولكن الأسماك لم تكن تُمسك بالطعم. ظل الآخرون يصرخون بأنهم قد اصطادوا شيئًا، ولكن ذلك لم يحدث قط. وامتد وقت جلوسنا أكثر فأكثر وازدادت حرارة الجو، وكاد الذباب يأكلني حيًّا، وكانت رائحة النَّعناع البري أسفل الضفة كرائحة متجر حلوى الأم ويلر. واشتد بي الجوع، وما زاد الأمر سوءًا أنني لم أكن أعلم على وجه التحديد من أين سيأتيني غدائي، ولكني جلست ساكنًا كالفأر ولم أصرف عينَيَّ عن الفلينة. أعطاني الآخرون بعضًا من الطُّعْم بحجم البِلْية تقريبًا، وأخبروني أنه كافٍ لي، ولكني لوقت طويل لم أتمكَّن حتى من وضعه في خطافي؛ ففي كل مرة كنت أسحب فيها الخيط كانوا يسبُّونني لإحداثي ضجة تُخيف السمك على بُعد خمسة أميال.

أظن أننا قد مكثنا نحو ساعتَين قبل أن تهتز فلينة صنَّارتي فجأة. وكنت أعلم أنني حصلت على سمكة. لا بد أنها سمكة كانت تمرُّ بالصدفة ورأت طُعْمي. لا شك في حركة الفلينة عندما تأكل السمكة الطُّعْم؛ فهي تختلف كثيرًا عن حركتها عندما تشد الخيط من غير قصد. في اللحظة التالية تمايلَتْ تمايلًا حادًّا وكادت تغطس في الماء. لم أستطع تمالك نفسي أكثر من ذلك، فصرخت على الآخرين قائلًا:

«لقد اصطدت سمكة!»

صاح سِيد لوفجروف على الفور: «تبًّا!»

ولكن في اللحظة التالية لم يكن ثمة شك في الأمر؛ فقد غطسَت الفلينة باستقامة أسفل الماء، وكنت ما زلت أستطيع رؤيتها تحت الماء، بلونها الأحمر المعتم، وشعرت بضغط القصبة في يدي. يا إلهي، يا له من شعور رائع! اهتز الخيط واشتد وبه سمكة في طرَفِه! رأى الآخرون قصبتي تتقوس، وفي اللحظة التالية ألقَوا جميعًا بقصباتهم واندفعوا ملتفين حولي. سحبت الصنارة سحبة كبيرة، وخرجت السمكة — سمكة فضية اللون كبيرة ورائعة — محلقةً في الهواء. وفي هذه اللحظة، صِحنا جميعًا صيحة خوف. انزلقت السمكة من الخطاف وسقطَت على النَّعناع البري أسفل الضفة، ولكنها سقطت في الماء الضحل حيث لا يمكنها الرجوع للبركة، وربما لثانية ظلت مستلقيةً هناك على جانبها بلا حول ولا قوة. رمى جو بنفسه في الماء، ورشنا جميعًا بالماء، وأمسك بها بكِلتا يدَيه صائحًا: «أمسكت بها!» ثم رمى بها على العُشب وكنا جميعًا جاثمين حولها. يا له من منظر ونحن نُحدق فيها بإعجاب! كان الكائن المسكين المُحتضَر يُرفرف لأعلى ولأسفل، وكانت حراشفه تتلألأ بكل ألوان الطيف. كانت سمكة شَبُّوط ضخمة يبلغ طولها سبع بوصات على الأقل، ولا بد أن وزنها كان ربع رطل. عجبًا لصريخنا عندما رأيناها! ولكن بعد ذلك ببرهة أحسسنا كما لو أن ظلًّا قد سقط علينا، فرفعنا رءوسنا لنرى، وقد كان العجوز بروير يقف فوقنا بقبعته اللبادية المستديرة الطويلة — وهي واحدة من تلك القبعات التي اعتاد الناس ارتداءها والتي كانت بين القبعة العالية والقبعة المستديرة — ورِباطَي ساقَيه المصنوعَين من جلد البقر وعصاه البندقيةِ اللون السميكة في يدَيه.

انكمَشْنا مرتعدين فجأة كما تفعل طيور الحَجَل عندما يحوم صقرٌ فوق رءوسها. نظر إلينا واحدًا تلو الآخر، وكان لديه فمُ عجوز كريه بلا أسنان، وكان يبدو منذ أن حلق لحية ذقنه كطائر كسَّار البندق.

قال: «ماذا تفعلون هنا أيها الأولاد؟»

لم يكن ثمَّة الكثير من الشك حول ما كنا نفعله. لم يُجبه أحد.

فزأَر فجأة: «سأعلمكم كيف تصطادون في بركتي!» ثم انقضَّ علينا ضاربًا إيانا في كل اتجاه.

تفرقَت مجموعة اليد السوداء وهربت. تركنا كل القصبات خلفنا وكذلك السمكة. وطاردَنا العجوز بروير عبر المروج، وكانت ساقاه متيبستَين ولم يستطع الحركة بسرعة، ولكنه كان قد ضربنا ضربًا عنيفًا قبل أن نغيب عن ناظره. تركناه في منتصف الحقل وهو يصرخ فينا بأنه يعلم أسماءنا جميعًا وسيُخبر آباءنا. كنت في الخلف وتلقيت معظم الضربات؛ فظهرَت عليَّ بعض آثار الضرب الحمراء الكريهة في سمانتَي ساقَيَّ عندما وصلنا إلى الجانب الآخر من السياج.

قضيتُ ما تبقى من اليوم مع المجموعة. ولم يكونوا قد حسَموا أمرهم بشأن ما إذا كنت قد أصبحت عضوًا بعد، ولكنهم كانوا يُعاملونني جيدًا في ذلك الوقت. كان على صبي مصنع الجعة العودةُ إلى العمل، حيث كان متغيبًا عنه في الصباح بحجة كاذبة أو أخرى. أما بقيتنا، فقد ذهَبنا للسير طويلًا بتسكُّع وتعالٍ، في ذلك النوع من جولات السير التي يذهب فيها الأولاد عندما يكونون بعيدًا عن المنزل ليوم كامل، وخاصةً عندما يتغيبون دون إذن. كانت هذه أول جولة سير حقيقية خاصة بالأولاد، وهي مختلفة اختلافًا كبيرًا عن جولات السير التي كنت أذهب فيها أنا وأخي مع كيتي سيمونز. تناولنا الطعام في أحد خنادق المياه الجافة في طرف البلدة، الذي كان مليئًا بالعلب المعدنية الصدئة ونبات الشمر البري. أعطاني الآخرون بعضًا من طعامهم، وكان مع سِيد لوفجروف بنس، فاشترى أحدهم به مشروب بيني مونيستير الذي تقاسمناه معًا.

كان الطقس شديد الحرارة، وكانت رائحة الشمر نفَّاذة للغاية، والغازات الموجودة في مشروب بيني مونيستير جعلتنا نتجشَّأ. بعد ذلك قُمنا للتجوُّل على الطريق الأبيض المُغْبَرِّ إلى أبر بينفيلد؛ كانت تلك هي المرةَ الأولى التي أسلك فيها ذلك الطريق، على ما أعتقد، وإلى غابة أشجار الزان المفروشة بأوراق الأشجار الميتة والجذوع الناعمة الضخمة التي تصل إلى السماء فتبدو الطيور على الفروع العلوية متناهيةِ الصغر كالنقاط. كان يُمكنك الذَّهاب إلى أي مكان تُريده في الغابة في تلك الأيام. وكان منزل بينفيلد مغلقًا، ولم يَعُد الناس به يربُّون طيور التَّدْرُج، وكان أقصى ما يُمكنك أن تراه هناك هو سائق عربة يُحمِّل بعض الأخشاب. كانت ثمة شجرةٌ مقطوعة بالمنشار، وبدَت حلقات جذعها كلوح تصويب، وقد صوَّبنا عليها بالحجارة. ثم صوَّب بعضنا على الطيور بالمراجم، وأقسم سِيد لوفجروف إنه أصاب شرورًا، وإنه قد ألصقه بشوكة في الشجرة، ولكن جو قال إنه يكذب، وتجادَلا وكادا أن يتشاجرا. ثم نزلنا إلى تجويف طباشيري مليء بطبقات من أوراق الشجر الميتة، وأخذنا نصرخ لنسمع صدى صوتنا. صرخ واحد منا بكلمة بذيئة، فصرخنا جميعًا بكل الكلمات البذيئة التي نعرفها، وسخروا مني لأنني لم أكن أعرف سوى ثلاث فقط. قال سِيد لوفجروف إنه يعلم كيف يُولَد الأطفال، وإن الأمر مشابه تمامًا لما يحدث لدى الأرانب باستثناء أن الطفل يخرج من سُرَّة المرأة. وأخذ هاري بارنز يحفر كلمته على جذع شجرة، ولكنه سئم من الأمر بعد أول حرفَين. ثم دُرنا مقتربين من كوخ في منزل بينفيلد. قيل إنه في مكان ما في هذه الأنحاء كانت ثمة بِركة بها أسماك ضخمة، ولكن لم يجرؤ أحد قط على الدخول لأن العجوز هودجز، ساكن الكوخ الذي كان بمنزلة الحارس، كان «يكره» الأولاد. كان يحرث حديقة خَضراواته بالقرب من الكوخ عندما مررنا بالمكان. خاطبناه بوقاحة من وراء السور حتى طاردَنا وأبعدَنا، ثم نزلنا إلى شارع وولتن وخاطبنا سائقي العربات بوقاحة كذلك مع الاستمرار بالسير في الجانب الآخر من السياج حتى لا يَنالونا بسياطهم. وبجوار شارع وولتن، كان ثمة مكان كان بالماضي مقلعَ حجارة ثم مكبًّا للقُمامة، ثم في النهاية غمرته شجيرات توت العُلَّيق الأسود. وكانت به أكوام ضخمة من العلب المعدنية القديمة الصدئة، وإطارات الدراجات، والقدور ذات الثقوب، والزجاجات المحطمة، والأعشاب التي تنمو في كل مكان حول كل ذلك، وقد قضينا ما يربو على الساعة واتسخنا من رءوسنا إلى أخمَص أقدامِنا ونحن نبحث عن أعمدة الأسوار الحديدية؛ لأن هاري بارنز أقسم إن الحدَّاد في لوير بينفيلد سيدفع ستة بنسات لمن يجيء له بقنطار من الحديد الخردة. ثم وجد جو عُشًّا على إحدى شجيرات توت العليق الأسود لطائر سُمْنَة ميت وكان به صغاره غير مكتملي الريش. وبعد مفاوضات طويلة حول ما نفعل بها، أخرجناها من العُش وألقيناها بالحجارة، ثم دهسناها بأقدامنا في النهاية. وقد كان عددها أربعًا، ودهس كلٌّ منا واحدًا. كان قد اقترب موعد الشاي، وكنا نعلم أن العجوز بروير سيفي بكلمته وأن آباءنا في انتظارنا ليُوسِعونا ضربًا، ولكننا قد اعتصرَنا الجوع فلم نعد نستطيع التغيب عن المنزل أكثرَ من ذلك. عُدنا أدراجنا أخيرًا إلى المنزل، مع مشاجرة أخيرة في الطريق؛ حيث رأينا جرذًا ونحن نمرُّ على المزارع وطاردناه بالعصي، وأتى خلفنا العجوز بينيت مدير محطة السكك الحديدية — الذي يعمل في مزرعته كل ليلة وكان شديد الفخر بها — وكان في غضب شديد؛ لأننا خُضْنا بأرجلنا في الأرض التي كان يزرعها بصلًا.

مشيت عشرة أميال ولم أتعب، وتبعت المجموعة طوال النهار وحاولت فعل كلِّ شيء يفعلونه، وكانوا يُنادونني ﺑ «الطفل» ويُوبِّخونني كلما سنحَت الفرصة، ولكنني تمكَّنت بشكل أو بآخرَ من أن أفعل ما أردت. كان في داخلي شعور رائع، شعور لا يُمكنك معرفةُ شيء عنه إلا إذا جرَّبته، ولكن إذا كنتَ رجلًا، فستشعر به عاجلًا أم آجلًا. علمت أنني لم أعد طفلًا وأنني أصبحت صبيًّا. وإنه لمن الرائع أن يغدوَ المرء صبيًّا، حيث التجولُ في أماكن لا يُمكن للكبار الإمساكُ بك فيها، ومطاردةُ الجرذان، وقتل الطيور، ورمي الحجارة، ومخاطبة سائقي العربات بوقاحة، والصياح بكلمات بذيئة. إنه شعور بالقوة والتفوق، وبمعرفة كل شيء، والخوف من لا شيء، وكل ذلك مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بكسر القواعد وقتل الكائنات الحية. الطرق المغبَّرة البيضاء، والشعور بالحرارة والعرق على الملابس، ورائحة الشمر والنَّعناع البري، والكلمات البذيئة، والرائحة الكريهة لمكبِّ القُمامة، ومذاق شراب الليمون الفوار الذي يجعل المرء يتجشَّأ، ودهس الطيور الصغيرة، والشعور بالسمكة وهي تشد الخيط؛ كل ذلك كان جزءًا من هذا الشعور. حمدًا لله أنني رجل؛ فالنساء لا يَشعرن بذلك الشعور.

بالطبع طاف العجوز بروير على الجميع وأخبرهم بأمرنا. بدا أبي شديدَ العبوس، وأخذ حِزامًا من المتجر، وقال إنه «سيقتل جو ضربًا»، ولكن جو قاوم وصاح ورفس، وفي النهاية لم يتمكَّن أبي من أن ينال منه إلا ببعض الضربات. ومع ذلك، ضربه مدير المدرسة بالعصا في اليوم التالي. حاولت المقاومة أيضًا، ولكني كنت صغيرًا لدرجة مكَّنَت أمي من أن تضعني أسفل ركبتها وضربتني بالحزام. ومِن ثَم أكون بذلك قد ضُرِبتُ ثلاث مرات في ذلك اليوم؛ مرة من جو، ومرة من العجوز بروير، ومرة من أمي. قررت المجموعة في اليوم التالي أنني لم أكن قد أصبحت عضوًا بالفعل فيها بعد، وأنه يجب عليَّ أن أخوض «الاختبار» (تلك الكلمة التي عرَفوها من قصص الهنود الحمر). كانوا صارمين في إصرارهم على أن آخذ قضمة من الدودة قبل أن أبتلعها. علاوة على ذلك، ولأنني كنت الأصغرَ ولأنهم كانوا يشعرون بالغيرة مني لأنني الوحيد الذي تمكن من صيد شيء؛ فقد قالوا جميعًا بعد ذلك إن السمكة التي اصطدتها لم تكن كبيرة. عادةً عندما يتحدث الناس عن الأسماك، تبدو أكبرَ في كل مرة؛ ولكن سمكتي كانت تبدو أصغر فأصغر، حتى سمعتهم يقولون إنهم يخالونها لا تزيد حجمًا عن سمكة المِنَّوَة.

ولكن الأمر لم يَعنِني؛ فقد ذهبت للصيد، ورأيت الفلينة تغطس في الماء وشعرت بالسمكة تشد الخيط، ومهما قالوا من أكاذيبَ فلم يتمكنوا من أن يسلبوني ذلك الشعور.

٤

في السنوات السبع التالية، منذ كنتُ في الثامنة وحتى أصبحت في الخامسة عشرة، فإن الشيء الأساسي الذي أتذكره هو صيد السمك.

لا أتذكر أنني كنتُ أفعل شيئًا آخر. الأمر وما فيه هو أنك عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، تبدو أشياء بعينها وكأنها كانت تأخذ الحيز الأكبر من الوقت حتى تُغطي على كل شيء آخر. تركت مدرسة الأم هاوليت وذهبت إلى مدرسة القواعد اللُّغوية بحقيبة جلدية وقبعة سوداء ذات أشرطة صفراء؛ وحصلت على دراجتي الأولى، كما حصلت بعد ذلك بوقت طويل على بنطالي الطويل الأول. كانت دراجتي الأولى بترس ثابت؛ لأنَّ الدراجات ذات الترس الحر كانت باهظة الثمن في ذلك الحين. وعندما كنت تقودها على طريق منحدر، كنت ترفع قدمَيك لأعلى على المسند الأمامي وتترك الدواستَين تدوران مصدرتَين أزيزًا. كانت هذه من المعالم المميزة لأوائل القرن العشرين؛ ولدٌ ينحدر بدراجته على الطريق، ورأسه للوراء، وقدماه في الهواء. ذهبت إلى مدرسة القواعد اللغوية في خوف وارتجاف من الحكايات المرعبة التي أخبرني بها جو حول المدير العجوز ذي اللِّحية الكبيرة (كان اسمه ويكسي)، الذي كان بطبيعة الحال رجلًا قصيرًا ومرعبًا بوجه كوجه الذئب، وكان يضع في آخر حجرة الدراسة الكبيرة صندوقًا زجاجيًّا به عِصيٌّ والتي كان يُخرج إحداها في بعض الأحيان ويُلوح بها في الهواء بطريقة مرعبة. ولكن المفاجئ في الأمر أنني أبليت بلاءً حسنًا في المدرسة؛ فلم أتخيل قط أنني سأكون أفضلَ في الدراسة من جو، الذي كان أكبر مني بسنتَين وكان يتنمَّر عليَّ كلما فتح فاه. في الواقع، كان جو شديد الغباء، وكان يُضرَب بالعصا مرة تقريبًا كل أسبوع، وكان تقريبًا ترتيبه متأخرًا على مستوى المدرسة حتى بلغ السادسة عشرة من عمره. في الفصل الدراسي الثاني، حصلت على جائزة في الحساب وأخرى في مادة غريبة كنا نتعامل فيها غالبًا مع الزهور المضغوطة وكانوا يُسمونها مادة العلوم، وعندما كنت في الرابعة عشرة من عمري كان ويكسي يتحدث عن المنح الدراسية وجامعة ريدينج. كان أبي، الذي كان لديه طموح لجو ولي في تلك الأيام، مهتمًّا بشدة بضرورة ذَهابي إلى «الجامعة». وكانت ثمة فكرة تحوم في الأرجاء أنني سأُصبح معلمًا في مدرسة، وأن جو سيُصبح بائعَ مزادات.

ولكنني ليست لديَّ أي ذكريات كثيرة مرتبطة بالمدرسة. وعندما أختلط برجال من الطبقات العليا، كما حدث خلال الحرب، أُفاجأ بحقيقة أنهم لم يتعافَوْا قط من آثار تلك التربية المرعبة التي يتعرض لها الأولاد في المدارس العامة، التي إما أن تُسطِّح عقولهم ليُصبحوا أنصافَ أذكياء أو يَقضوا بقية حياتهم يُقاومونها. لكن الأمر لم يكن كذلك مع الأولاد في طبقتي، طبقة أبناء أصحاب المتاجر والمزارعين؛ فقد كنت تذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية وتظل فيها حتى تبلغ السادسة عشرة، وذلك فقط لتُبين أنك لم تكن من أبناء الطبقة العاملة. ولكن المدرسة كانت في الأساس مكانًا تُريد الهروب منه، فلم يكن لديك أيُّ شعور بالولاء، ولا ذلك الشعور الأبلهُ بالانتماء إلى الحجارة الرماديَّة القديمة (وقد كانت قديمةً بالفعل بالتأكيد، فقد أسس المدرسة الكاردينال وولزي)، ولم تكن ثَمة رابطةُ عنق للطلاب السابقين ولا حتى أغنية للمدرسة. وكان يُمكنك فعلُ ما تشاء في الأيام التي كانوا يعطون لنا فيها نصفَ يوم دراسي؛ لأن الألعاب لم تكن إلزامية، وعادةً ما كنَّا لا نُمارسها. كنا نلعب كرة القدم مرتدِين الحمالات؛ وعلى الرغم من أنه كان يُعَد من المناسب لعب الكريكيت بالحزام، كنت ترتدي قميصك وبنطالك العاديَّين. اللعبة الوحيدة التي كنت أهتم بها كانت كريكيت الجذوع، التي كنا نلعبها في الفناء الحصوي في وقت الراحة بمضربٍ مصنوع من خشبِ صناديق التعبئة وكرةٍ من موادَّ متعددة.

ولكنني أتذكَّر رائحة حُجرة الدراسة الكبيرة، حيث رائحةُ الحبر والغبار والأحذية، وكتلة الحجارة في الفناء التي كانت درَجًا للصعود وكانت تُستخدَم لسنِّ السكاكين، ومتجر الخباز الصغير في الجهة الأخرى حيث يُباع نوع من الكعك التشيلسي، الذي كان بحجمٍ ضعف حجم الكعك التشيلسي الذي تراه في أيامنا هذه، وكان يُسمَّى لاردي باستيرز، وكان بنصف بنس. فعلت كلَّ ما تفعله في المدرسة. حفرت اسمي على طاولة الدرس وضُرِبت على ذلك، كنت تُضرَب دائمًا على ذلك إذا ما شُوهِدت، ولكن كان من المتعارَف عليه بين الأولاد أنه كان ينبغي عليك حفرُ اسمك. كما لطخت أصابعي بالحبر، وقضمت أظفاري، وصنعت أسهمًا من الورق، ولعبت لعبة الكونكرز، ونشرت وسط زملائي نكاتًا بذيئة، وتعلمت ممارسة العادة السرية، وخاطبت العجوز بلورز معلم اللغة الإنجليزية بوقاحة، وتنمرت بقسوة على ويلي سيميون القصير، ابن الحانوتي الذي كان معتوهًا ويُصدِّق كل شيء تُخبره به. وكانت خدعتنا المفضلة إرساله إلى المتاجر لشراء أشياء لا وجود لها، وقد انطلَت على ويلي المسكين كل الدُّعابات القديمة؛ فكان المغفل الذي ذهب لشراء طوابع بريد ببنس، والمطرقة المطاطية، ومفك الأعسر، وقِدْر الطِّلاء المخطط. وكنا نُمارس الألعاب الرياضية في أحد الأيام فيما بعد الظهيرة، ووضعناه في حوض، وطلبنا منه أن يرفع نفسه لأعلى بالمقابض. انتهى الحال به في إحدى المِصحَّات، يا له من مسكين! ولكننا لم نكن نستمتع بالحياة إلا في أيام الإجازات.

ثمة أشياءُ جيدة كان بإمكاننا أن نفعلها في تلك الأيام. في الشتاء، اعتدنا على استعارة اثنَين من حيوان ابن مقرض — لم تكن أمي تسمح قط لي ولجو بالاحتفاظ بهما في المنزل، وقد كانت تقول إنها «أشياء ذات رائحة كريهة» — ونتجول حول المزارع ونطلب من أصحابها السماح لنا بصيد بعض الجرذان. كانوا يَسمحون لنا في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى كانوا يَطردوننا، ويقولون إننا أكثرُ إزعاجًا من الجرذان. وفي أواخر الشتاء، كنا نتبع آلة درس القمح ونُساعد في قتل الجرذان في أثناء مهاجمتها لأكوام القمح. في أحد أيام الشتاء، لا بد أن ذلك كان في عام ١٩٠٨، فاض نهر التيمز ثم تجمَّد حتى أضحى مناسبًا للتزلُّج لأسابيع؛ وكسر هاري بارنز تَرْقوتِه على الجليد. وفي بداية الربيع، كنا نذهب لصيد السناجب باستخدام عصيٍّ غليظة، ثم بعدها للعبث بأعشاش الطيور. كان لدينا اعتقادٌ أن الطيور لا يُمكنها العد، وأنه لا بأس إن ترَكنا لها بيضةً واحدة، ولكننا كنا وحوشًا صغيرة قاسية، وكنا في بعض الأحيان ندكُّ العش وندوس على البيض أو صغار الطيور. كانت لدينا لعبة أخرى نلعبها عندما كانت الضَّفادع الصغيرةُ تخرج من بيضها؛ إذ كنا نُمسِكها وندسُّ فوهةَ منفاخ الدراجة في مؤخراتها، فتنتفخ لأعلى حتى تنفجر. هكذا حال الأولاد، لا أعلم لماذا. أما في الصيف، فكنا نركب الدراجات وندور حول بورفورد وير ونستحمُّ فيها، حيث غرق وولي لوفجروف — قريب سِيد — عام ١٩٠٦ بعدما عَلِق في الأعشاب في القاع، وعندما انتشَلوا جُثمانه بالخطاف وارتفع إلى السطح، كان وجهه شديدَ السواد.

ولكن صيد السمك كان أمتعَ الأشياء. ذهبنا عدةَ مرات إلى بِركة العجوز بروير، واصطدنا سمكَ شبوط وتنش صغيرًا، واصطَدْنا ذات مرة سمكةَ أنقليس كبيرة، كما اصطدنا في بِرَك أبقار أخرى، والتي كنا نمشي إليها في يوم السبت بعد الظهيرة. ولكن بعد أن حصلنا على الدراجات، بدأنا في صيد السمك في نهر التيمز عند بورفورد وير. بدا الأمر أكثر نضوجًا عن صيد السمك في بِرَك الأبقار، حيث لم يكن هناك مُزارعون يطردوننا، وكانت أسماك النهر كبيرة، ولكن على حد علمي لم يتمكَّن أحدٌ من صيدها.

يا له من شعور غريب، ذلك الشعور الذي أُكنُّه تجاه صيد السمك، الذي لا يزال لديَّ في الحقيقة. لا يُمكنني أن أصف نفسي بالصياد؛ فلم أصطَد في حياتي قطُّ سمكةً طولها قدَمان، ومضت ثلاثون سنةً الآن منذ آخر مرة أمسكت فيها قصبة الصيد بيدي. ولكنني عندما أُعيد النظر في كل فترة صباي من عمر الثامنة إلى عمر الخامسة عشرة، أجد أن ذكرياتي تتمحور حول تلك الأيام التي كنا نذهب فيها للصيد. كل تفصيلة راسخة بوضوح في ذاكرتي. أتذكر كلَّ يوم على حدةٍ وكلَّ سمكة على حدة، فليس ثَمة بِركةُ أبقار أو ماء راكد لا يُمكنني تصوره إذا ما أغمضت عينَيَّ وفكرت في تلك الأيام. يُمكنني تأليفُ كتاب عن فنيات الصيد. عندما كنَّا أطفالًا، لم يكن لدينا الكثير من الأدوات؛ فقد كانت تتكلف الكثير ومعظم البنسات الثلاثة التي كنا نأخذها في الأسبوع (التي كانت مصروف الجيب المعتاد في تلك الأيام)، كانت تذهب على الحلوى وكعك اللاردي باستيرز.

كان الأطفال الصغار جدًّا يصطادون عادةً بالدبابيس المثنيَّة، التي كانت غير مسنونة بما يكفي لتتمكَّن من الصيد؛ ولكن كان بإمكانك صنعُ خطاف جيد جدًّا (على الرغم من أنه بالطبع لم يكن له شوكة) بثني إبرة على نيران شمعة باستخدام كماشة. يعرف صِبْية المزارع كيف يضفرون شعر الخيول حتى يُصبح كالأحشاء، ويُمكنك صيد سمكة صغيرة بضفيرة واحدة من شعر الخيل. في وقت لاحق، استخدمنا القصبات التي كنا نشتريها بشلنَين وحتى البكرات التي لا يُعتاد استخدامها في الصيد. يا إلهي! ترى كم ساعة قضيتها محدقًا في نافذة متجر والاس؟! حتى البنادق عيار ٤١٠. والمسدسات الصغيرة لم تُثِر اهتمامي بقدر ما أثارته أدوات صيد السمك. وأتذكر نسخة كتالوج جاماج التي حصلت عليها من مكان ما — أظن أنه كان صندوق قمامة — ودرستها كما لو كانت الكتابَ المقدس. ما زلت قادرًا حتى الآن على سرد جميع تفاصيل بدائل الأحشاء والأسلاك وخطافات ليميريك ومضارب الصيد ومفكات الخطافات وبكرات نوتينجهام، وغيرها الكثير من الأدوات والفنيات.

ثم نأتي لأنواع الطُّعْم التي كنا نستخدمها. كان في متجرنا دائمًا الكثير من دود الطحين، الذي كان جيدًا ولكن ليس للغاية؛ فالنغف كان أفضل، وكان علينا التوسلُ للعجوز جرافيت الجزار ليُعطينا إياه، واعتادت المجموعة استخدام القُرعة أو لعبة حادي بادي ليُقرروا من يذهب ويطلبها منه؛ لأن جرافيت لم يكن عادةً يتقبل الأمر. كان شيطانًا عجوزًا ضخمًا خشن الوجه ذا صوت كنباح كلب الدرواس، وعندما ينبح — كما كان يفعل عادةً عندما يتحدث للأولاد — كانت جميع السكاكين والأدوات المعدنية في مئزره الأزرق تهتزُّ مجلجلةً. كنت تذهب إليه بصفيحة دبس سكَّر فارغة، وتنتظر حتى لا يُوجَد لديه زبائن، ثم تقول بكل أدب:

«إذا سمحت يا سيد جرافيت، ألديك أيُّ نغف اليوم؟»

فيصيح عادةً قائلًا: «ماذا؟! نغف! نغف في متجري! لم أرَ شيئًا كهذا منذ سنين. أتظن أن لدي نغفًا في متجري؟»

كان لديه بالتأكيد، وكان في كل مكان. ولكنه كان يقتله بعصًا في نهايتها قطعة من الجلد، يُمكنه بها الوصولُ إلى مسافات بعيدة، ويدهسه بها حتى يُصبح كالعجينة. كنت تخرج من عنده في بعض الأحيان خاليَ الوفاض، ولكن جرَت العادة على أن يُناديك بمجرد مغادرتك المتجر، ويقول:

«أنت! اذهب إلى الفناء الخلفي وألق نظرة، فلربما تجد نغفة أو اثنتَين إذا ما أمعنت النظر.»

وكنت عادةً ما تجدها في مجموعات صغيرة في كل مكان. وكانت رائحة الفناء الخلفي لجرافيت كساحة قتال؛ فلم يكن يملك الجزارون ثلاجات في ذلك الوقت. يعيش النغف أطول إذا احتفظت بها في نُشارة الخشب.

يرقات الدبابير جيدة كذلك، ولكن من الصعب جعلها تلتصق في الخطاف إلا لو حمصتها أولًا. عندما كان يجد أحد عشًّا للدبابير، كنا نخرج في الليل ونسكب عليه زيت التربنتين ونسد الحفرة بالطين. وفي اليوم التالي تكون الدبابير كلها قد ماتت، ويُمكنك الحفر وإخراجها من العش وأخذ يرقاتها. وذات مرة حدث خطأٌ في هذه العملية، حيث لم يقع الزيت في الحفرة أو شيء من هذا القبيل، وعندما فتحنا الحفرة خرجت كل الدبابير التي حُبِست طوال الليل دفعة واحدة وأخذت تطن. لم تكن لسعاتُها على أجسامنا مؤلمة للغاية، ولكن كان من المؤسف أنه لم يكن أحد يقف بساعة توقيف؛ لأننا جرينا جميعًا بأقصى سرعة. يكاد يكون الجندب أفضل طُعْم للأسماك، خاصةً لسمك الشوب؛ إذ يُمكنك أن تُثبته في الخطاف دون أي مجهود، فقط تضرب به على سطح الماء جيئةً وذَهابًا، أو كما يُسمون تلك الحركة «الوثب على سطح الماء». ولكن لا يُمكنك أبدًا الحصول على أكثر من اثنَين أو ثلاثة منه في المرة الواحدة. هناك كذلك ذباب القارورة الخضراء، الذي كان أيضًا صعبًا في اصطياده، وهو أفضل طُعْم لسمك الدَّاس، خاصةً في الأيام التي تكون فيها المياه هادئة. وكان عليك وضعه في الخطاف حيًّا كي يتلوَّى أمام الأسماك. يلتهم سمك الشَّوب الدبابير، ولكن وَضْع دبور حيٍّ في الخطاف كان يتطلب مهارة عالية.

يا لها من أعداد كبيرة من الأشياء التي كان بإمكاننا استخدامُها كطعوم! هناك معجون الخبز الذي تصنعه بضغط الخبز الأبيض المبلل في خِرْقَة، ومعجون الجبن ومعجون العسل ومعجون اليانسون. وهناك القمح المسلوق كذلك الذي لا بأس به في اصطياد سمك الرَّوْش. كما كانت الديدان الحمراء طُعمًا جيدًا كذلك لسمك القوبيون، وكنت تجدها في أكوام السماد الشديد القِدَم. وكان يُمكنك كذلك أن تجد نوعًا آخر من الديدان كان يُسمَّى دود الأرض، وهو نوع من الديدان مخطَّط وذو رائحة تشبه رائحة حشرة أَبي مِقص، وكان طُعمًا جيدًا لسمك الفَرْخ. كانت كذلك ديدان الأرض العادية جيدة لسمك الفَرْخ، وكان عليك وضعها في أشنَّة للحفاظ عليها طازَجة وحية، لكن إذا حاولت إبقاءها في الأرض فستموت. أيضًا ذلك الذُّباب البُني الذي تجده في روث البقر كان جيدًا جدًّا لاصطياد سمك الرَّوْش. كان يُمكنك أن تصطاد سمك الشَّوب بحبة كرَز — أو هكذا كانوا يقولون — وقد رأيت سمكة رَوْش اصطيدت بزبيبة مأخوذة من كعكة.

في تلك الأيام، من السادس عشر من شهر يونيو (عندما يبدأ موسم صيد الأسماك غير المنتمية لعائلة السلمون) وحتى منتصف الشتاء، لم تكن تراني عادةً إلا وفي جيبي علبة صفيح بها ديدانٌ أو نغف. خُضت بعض المشاجرات مع أمي حول الأمر، ولكنها استسلمَت في النهاية وخرج الصيد من قائمة المحرَّمات، حتى إن أبي أهداني قصبةَ صيدٍ بقيمة شلنَين في الكريسماس عام ١٩٠٣. كان جو في الخامسة عشرة من عمره تقريبًا عندما بدأ في مطاردة الفتيات، ومنذ ذلك الحين كان نادرًا ما يذهب للصيد؛ إذ اعتبره لعبة أطفال. ولكن كان ثمة نحوُ ستةٍ من الأولاد الآخرين الذين كانوا مهووسين بالصيد مثلي. يا إلهي! ما أجمل أيام الصيد هذه! أتذكر في الأيام الحارة التي تشتدُّ فيها الرطوبة فيما بعد الظهيرة عندما كنت أمدد رجلَيَّ تحت طاولتي في حجرة الدراسة، وكان صوت العجوز بلورز يُزعجنا بشرح الخبر وصيغ الشَّرْط وصِلة الموصول، ولم يكن حينها في ذهني إلا الماء الراكد بجوار بورفورد وير والبِركة الخضراء أسفل شجر الصَّفصاف وسمك الدَّاس الذي يعوم جَيئةً وذَهابًا. ثم أتذكر الاندفاع الرهيب على الدراجات بعد تناول الشاي إلى تشامفورد هيل وإلى أسفل النهر لقضاء ساعة في الصيد قبل الغروب. وأتذكر أيضًا المساء في أيام الصيف الهادئة وحركة الماء الواهنة في البِركة وحلقات المياه التي ترتفع فيها الأسماك، والذباب الصغير الذي يكاد يأكلك حيًّا، وقطعان سمك الدَّاس التي تحتشد حول خُطافك، ولكنها لا تقضم الطُّعم أبدًا. وأتذكر أيضًا ذلك النوعَ من الحماس المرتبط بمُشاهدتك لظهور الأسماك السوداء التي تحتشد حولك وأنت تَأمُل وتُصلي (أجل، كنت أصلي بالفعل) أن تُغير إحدى الأسماك رأيَها وتقضم طُعمك قبل أن تُظلِم السماء بشدَّة. يأتي دائمًا حينَها وقتُ عبارة «لنجلس خمسَ دقائق أكثر»، ثم «فقط خمس دقائق أكثر»؛ حتى تُضطرَّ في النهاية إلى السير بجوار دراجتك إلى البلدة لأن تاولر، الشُّرطي، كان يطوف في الأرجاء وقد يقبض عليك بتُهمة القيادة بلا مصباح. أتذكر كذلك تلك الأوقات في إجازات الصيف حيث نذهب لقضاء اليوم بأكمله خارج المنزل ومعنا البيض المسلوق والخبز والزبد وزجاجة من عصير الليمون، ونُمارس الصيد، ثم نسبح، ثم نُمارس الصيد مرة أخرى، وأحيانًا كنا نصطاد شيئًا. وفي الليل كنت أرجع إلى المنزل بيدَين متَّسختَين، وأكون جائعًا للغاية حتى إنني قد آكل ما تبقى من معجون الخبز الذي أعددته للصيد، مع ثلاث أو أربع سمكات داس ذات رائحة كريهة وملفوفة في مِنديلي. كانت أمي دائمًا ترفض طبخ السمك الذي أُحضره لها؛ فلم ترَ قط أن أسماك النهر قابلة للأكل، باستثناء الترُوتَة والسلمون، وكانت تقول عنها إنها «أشياءُ موحِلة كريهة». أكثر الأسماك التي أتذكرها جيدًا هي تلك التي لم أصطَدها، وخاصةً السمك الضخم الذي كنت تراه دائمًا عندما تذهب للسير بمحاذاة مسار جر القوارب بعد ظهيرة يوم الأحد ولا يكون معك قصبة صيد. لم يكن الناس يصطادون في أيام الأحد، حتى إن مجلس حماية نهر التيمز لم يكن يسمح به. وكان عليك في أيام الأحد أن تذهب فيما كان يُسمَّى «نزهة هادئة» ببدلتك السوداء الثقيلة والياقة العريضة البيضاء التي تكاد تنشر رقبتك. وقد كان في يوم الأحد أن رأيت سمكة كراكي طولها ياردة كاملة نائمة في المياه الضحلة بالقرب من الضفة، وكدت أصيبها بحجر. وفي بعض الأحيان في البرك الخضراء على حافة القصب، قد ترى سمكة ترُوتَة التيمز الضخمة تَسبح أمامك. تصبح أحجام سمك الترُوتَة ضخمة للغاية في نهر التيمز، ولكن غالبًا ما يصعب اصطياده. ويقولون إن أيًّا من صيادي نهر التيمز الكبار، وهم هؤلاء الرجال كبار السن ذَوو الأنوف الكبيرة الأطراف، الذين تراهم في كل مواسم العام متدثرين في معاطفهم وجالسين على الكراسيِّ الصغيرة القابلة للطي ومعهم صناراتهم التي يبلغ طول الواحدة منها عشرين قدمًا، على استعداد أن يُفرِّغ عامًا كاملًا من حياته لصيد سمكة تروتة من نهر التيمز. لا أجد ذلك غريبًا؛ فأنا أتفهَّم موقفهم، وكنت أتفهم موقفهم أكثر حينها.

بالطبع كانت تحدث أشياء أخرى في حياتي. لقد كان يَزيد طولي ثلاث بوصاتٍ في كل عام، وبدأت أرتدي البناطيل الطويلة، وفزت ببعض الجوائز في المدرسة، ودخلت فصولًا استعدادًا لطقس التأكيد الديني، ورويتُ نِكاتًا بذيئة، وبدأت أحبُّ القراءة، وأصبحت مهووسًا بالفئران البيضاء والنفش الشبكي وطوابع البريد. ولكنني دائمًا أتذكر صيد السمك. وأتذكر النهار في الصيف والمروج المنبسطة بجوار النهر، والتِّلال الزرقاء البعيدة، وشجر الصَّفصاف أعلى الماء الراكد، والبِرَك بالأسفل التي تبدو كزجاج شديد الخضرة. كما أتذكر المساء في الصيف والسمك الذي يشقُّ المياه، وطيور السبد التي تحوم حول رأسك، ورائحة زهور المنثور والنبات المستخرَج منه تبغُ اللاذقية. لا تُسئ فهم مقصدي مما أحكيه لك؛ فلستُ أحاول أن أعرض عليك أيًّا من تلك الأشعار عن أيام الطفولة؛ لأنني أعلم أن كل ذلك هُراء. العجوز بورتيوس (صديقي المدرس المتقاعد، الذي سأُحدِّثك عنه فيما بعد) رائعٌ في نسج أشعار الطفولة، وهو في بعض الأحيان يقرأ عليَّ بعضًا منها من الكتب، ككتب ووردزوورث ولوسي جراي، حيث المروج والبساتين وكل تلك الأمور. وغنيٌّ عن البيان أنه لم يكن لديه أطفال. إن الحقيقة هي أن الأطفال ليسوا شاعريِّين بأي شكل من الأشكال، فما هم إلا حيوانات صغيرة متوحشة، باستثناء أنه لا يوجد حيوان يملك ربع أنانيتهم. الأولاد لا يهتمون بالمروج والبساتين وما إلى ذلك، ولا ينظرون قط إلى المناظر الطبيعية، ولا يهتمون بالزهور، ولا يستطيعون التفريق بين أنواع النباتات ما لم تُؤثر فيهم بشكل ما، كأن تكون طعامًا جيدًا بالنسبة لهم. إن قتل الكائنات هو أقرب ما ينزل منزلة الشعر لدى الأولاد. وعلى الرغم من ذلك، فإن لديهم في جميع الأوقات تلك الحيويةَ الغريبة، تلك القوة التي تجعلهم يرغبون في الأشياء التي تزهد فيها عندما تكبر، والشعور بأن الوقت يتمدَّد أكثر فأكثر أمام أعينهم، وأن أي شيء يفعلونه يمكن أن يستمروا في فعله للأبد.

كنت صبيًّا قبيحًا بعض الشيء، وكان شعري سمني اللون، وكان يُقَص دائمًا قصيرًا فيما عدا خصلة في الأمام. لا أحاول القول بأن طفولتي كانت مثالية، وعلى عكس كثير من الأشخاص، ليست لديَّ أي رغبة في الرجوع إلى أيام الصبا. أغلب الأشياء التي اعتدتُ الاهتمام بها أشعر تجاهها الآن بلا مبالاة شديدة، فلم يعد يعنيني إن لم أرَ كرة كريكيت مرة أخرى، ولن أُعطيك ثلاثة بنسات للحصول على كمٍّ كبير من الحلوى، ولكن ما زال لديَّ، وكان لديَّ دائمًا، ذلك الميلُ الشديد تجاه صيد السمك. قد تعتقد أنه أمر تافه، بلا شك، لكنني في الواقع أتمنى لو أذهب للصيد الآن، حتى وأنا بهذا الجسم البدين وفي الخامسة والأربعين من عمري ولديَّ طفلان ومنزل في الضواحي. لماذا؟ لأنني إن جاز القول لديَّ حنين تجاه طفولتي، ولا أعني تجاه طفولتي بالتحديد، ولكن تجاه الثقافة التي نشأت فيها، والتي هي الآن على ما أعتقد على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. وصيد السمك هو مثال حي بشكل أو بآخر على تلك الثقافة، فبمجرد أن تُفكر في صيد السمك تُفكر في أشياء لا تنتمي إلى العالم الحديث. إن فكرة الجلوس طوال النهار أسفل شجرة صفصاف بجوار بركة هادئة — وفرصة أن تجد بِركة هادئة للجلوس بجوارها — في حد ذاتها تنتمي إلى وقت ما قبل الحرب وأجهزة الراديو والطائرات وهتلر. كان ثمة إحساسٌ بالسكينة حتى في أسماء الأسماك الإنجليزية غير المنتمية إلى عائلة السلمون. الرَّوْش، والأرد، والدَّاس، والأبيض، والبَرْبِيس، والأبراميس، والقوبيون، والكراكي، والشَّوب، والشَّبُّوط، والتنش. إنها أسماء لطيفة، ومَن وضعوها لم يسمعوا قطُّ عن البنادق الآلية، ولم يعيشوا في رعب من الطرد من أعمالهم، أو يقضوا وقتهم في تعاطي الأسبرين، أو الذهاب إلى السينما، أو التفكير في كيفية تجنب دخول معسكرات الاعتقال.

تُرى هل يذهب أحد لصيد السمك في يومنا هذا؟ في أي مكان على مسافة مائة ميل من لندن لم تعد ثمة أسماك متبقية لصيدها. ولم تصمد إلا بضعةُ نوادي صيدٍ كئيبة بمحاذاة ضفاف القنوات، بينما يذهب المليونيرات لصيد سمك التروتة في برك خاصة حول فنادق أسكتلندية، في نوع من اللعب الباذخ الذي يقوم على صيد أسماك داجن بذباب اصطناعي. ولكن من لا يزال يصطاد السمك في مجاري الطواحين أو الخنادق المائية حول الحصون أو بِرك الأبقار؟ وأين هي الأسماك الإنجليزية غير المنتمية إلى عائلة السلمون اليوم؟ عندما كنت طفلًا، كانت الأسماك في كل بِركة ومَجرًى مائي، ولكن اليوم جميع البرك جُففت؛ وإن وجدت مجرًى مائيًّا غيرَ مسمَّم بكيماويات المصانع، تجده مليئًا بالعلب المعدنية الصدئة وإطارات الدراجات النارية.

أفضل ذكرياتي عن الصيد هي عن الأسماك التي لم أصطَدها قط. أعتقد أن هذا أمرٌ شائع بالقدر الكافي.

عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري تقريبًا، ساعد أبي بشكل ما العجوزَ هودجز حارسَ منزل بينفيلد، ولكنني نسيت ماذا فعل له؛ ربما أعطاه بعض الدواء لعلاج دواجنه من الديدان أو شيئًا من هذا القبيل. كان هودجز شيطانًا عجوزًا سيئ الطبع، ولكنه لم يكن ينسى المعروف. في أحد الأيام بعد ذلك بفترة وجيزة عندما أتى إلى المتجر لشراء ذرة الدجاج، قابلني عند الباب وأوقفني بطريقته الفظَّة. كان له وجه يُشبه شيئًا منحوتًا من جذر شجرة، بسِنتَين فقط في فمه، وكانا باللون البُني الداكن وشديدَي الطول.

وقال لي: «أنت يا ولد! أنت تصطاد السمك، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«كما اعتقدت. حسنًا، اسمع: إذا أردت الصيد، يُمكنك أن تأتي بصنارتك وتُحاول في البركة بالأعلى خلف القصر؛ فهناك الكثير من أسماك الأبراميس والشيم، ولكن لا تُخبر أحدًا بما قلته لك، ولا تحضر معك أيًّا من هؤلاء الأوغاد الصغار الآخرين، وإلا فسأسلخ ظهورهم.»

قال ذلك ثم ذهب يعرج حاملًا جوال الذرة فوق كتفه، كما لو كان يشعر أنه قد قال الكثير بالفعل. بعد ظهيرة يوم السبت التالي، ذهبت بدراجتي إلى منزل بينفيلد وجيبايَ مليئان بالديدان والنغف، وبحثت عن العجوز هودجز في كوخه. كان منزل بينفيلد في ذلك الوقت غير مأهول منذ عشر سنوات أو عشرين سنة؛ فالسيد فاريل — المالك — لم يعد يتحمَّل تكاليف العيش فيه، ولم يستطع أو يُرِد تركه، فعاش في لندن على دخل إيجار مزارعه وترك المنزل والأراضيَ خَرِبةً. كانت جميع الأسيجة خضراء وبالية، وكانت الحديقة في حالة فوضى ومليئة بنبات القُرَّاص، وكان الزرع كالغابة، وحتى الحدائق انحسرت إلى مروج، ولم يتبقَّ سوى بعض شجيرات ورد قديمة كثير العقد شاهدةً على حيث كانت الأحواض. لكنه كان منزلًا بديع الجمال، ولا سيما إن نظرت إليه من بُعد. كان منزلًا ضخمًا أبيض اللون بصفِّ أعمدة في الأمام ونوافذ طويلة، وقد بُني على ما أظن في عصر الملكة آن تقريبًا على يد شخص سافر إلى إيطاليا. إذا ذهبت إلى هناك الآن، فسأشعر على الأرجح بشعور معيَّن من السعادة لتجولي حول ذلك الخراب العام، والتفكير في الحياة التي كانت في ذلك المكان يومًا ما، وفي الناس الذين بنَوا مثل تلك الأماكن؛ لأنهم تخيلوا أن الأيام الجميلة ستدوم للأبد. عندما كنت صبيًّا، لم أكن أُفكر في المنزل أو الأراضي، بل كنت أبحث عن العجوز هودجز، الذي كان في ذلك الوقت قد انتهى لتوه من تناول غدائه وكان عابسًا بعض الشيء، وطلبت منه أن يُريَني الطريق إلى البركة، التي كانت على بعد عدة مئات من الياردات خلف المنزل، وكانت مختفية بالكامل وسط غابة أشجار الزان. ولكن حجمها كان جيدًا، تكاد تقترب في حجمها من حجم بحيرة؛ إذ كان عرضها يقترب من المائة والخمسين ياردة. كان من المذهل، حتى بالنسبة لي وأنا في مثل هذا العمر، أنه يُمكنك الاستمتاع بالعزلة هناك؛ فأنت على بعد اثنَي عشرَ ميلًا من ريدينج وأقلَّ من خمسين ميلًا من لندن. ستشعر في ذلك المكان بعزلة كما لو أنك على ضفاف نهر الأمازون؛ فالبِركة كانت محاطة بالكامل بأشجار الزان الضخمة، التي كانت في إحدى البقاع تنزل إلى الحافة، وتنعكس صورتها في الماء. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك رُقعة من العُشب بها تجويف من أحواض النَّعناع البري؛ وفي الأعلى عند أحد أطراف البِركة كان ثمة مصفُّ قواربَ خشبيٌّ قديم بالٍ وسط عُشب البِرَك.

كانت البركة تعَجُّ بأسماك الأبراميس، الصغيرة منها فقط، التي كانت بطول أربع إلى ستِّ بوصات. وبين الحين والآخَر، قد ترى إحداها تستدير على جانبها وتُومض بلون بُني ضارب إلى الحمرة أسفلَ الماء. كانت ثَمة أسماك كراكي أيضًا، ولكن لا بد أنها كانت كبيرة. لم أرَها قط، ولكن أحيانًا كانت تستدير إحداها بينما تتشمس بين العُشب، وتغمر المكان برذاذ الماء كما لو أن طوبة قد أُلقِيَت في الماء. لم يكن ثمة طائلٌ من محاولة اصطيادها، ولكنني بالطبع كنتُ أحاول دائمًا في كل مرة أذهب فيها إلى هناك. حاولت اصطيادها باستخدام سمك الدَّاس والمِنَّوَة الذي اصطدته في نهر التيمز واحتفظت به حيًّا في برطمان مربى؛ حتى إنني حاولت اصطياده بطُعم دوَّار مصنوعٍ من بعض الصفيح، ولكن السمك كان يأكل بنهم ولا يعَضُّ على الصنارة، وعلى أي حال كان سيكسر أيًّا من أدوات الصيد التي كانت معي. لم أرجع قطُّ من البركة دون اثنتَي عشرة سمكة أبراميس صغيرة على الأقل. وفي بعض الأحيان في إجازات الصيف، كنتُ أذهب إلى هناك وأقضي اليومَ بأكمله، ومعي قصبة الصيد ونسخة من صحيفة «تشامز» أو مجلة «يونيون جاك» أو غيرهما، ورغيفٌ من الخبز والجُبن لفَّته لي أمي. وكنت أقضي عدة ساعات في الصيد، ثم أستلقي في التجويف العشبي وأقرأ مجلة «يونيون جاك»، ثم تُثيرني مرة أخرى رائحةُ معجون الخبز وارتطام الأسماك قافزة في الماء، فأرجع إلى البِركة في جولة صيدٍ أخرى، وهكذا طوال اليوم في فصل الصيف. أفضل ما في الأمر أن تكون وحدك، وحدك تمامًا، على الرغم من أن الطريق لم يكن يبعد أكثر من ربع ميل. لقد كنت كبيرًا بما يكفي لمعرفة أنه من الجيد أن يختليَ المرء بنفسه بين الحين والآخر. وسط الأشجار في كل مكان حولك، بدَت البِركة كما لو أنها لك وحدك، ولا شيء يتحرك أبدًا سوى السمك الذي يطوف في الماء والحمام المارِّ فوق رأسك. على أي حال، في السنتَين تقريبًا اللتَين كنت أذهب فيهما للصيد هناك، تُرى كم مرةً ذهبت للصيد؟ لا يزيد ذلك على اثنتَي عشرة مرة؛ فقد كانت البركة تبعد مسافةَ ثلاثة أميال بالدراجة عن المنزل، وكان الأمر يستغرق مني فترةَ ما بعد الظهيرة كلَّها على أقل تقدير. وفي بعض الأحيان كانت تطرأ بعض الأمور، وأحيانًا أخرى كانت تُمطر عندما أنوي الذهاب. تعلم بالتأكيد كيف تسير الأمور.

في أحد الأيام بعد الظهيرة، لم تكن الأسماك تلتقط الطُّعم، وبدأت أستكشف نهاية البِركة الأبعد عن منزل بينفيلد، حيث فاض الماء قليلًا وأصبحت الأرض سبخية، وواجهت صعوبةً في شق طريقي عبر ما يُشبه غابة من شجيرات توت العُلَّيق الأسود وفروع الأشجار الميتة التي سقطت من الأشجار. تخطيت كلَّ ذلك في عناءٍ لمسافةِ ما يقرب من خمسين ياردة، ثم فجأة وجدت أرضًا مقطوعةَ الأشجار وبِركة أخرى لم أسمع بوجودها من قبل. كانت بِركة صغيرة لا يتعدى عرضها عشرين ياردة، وكانت داكنة اللون بعض الشيء بفعل فروع الأشجار التي كانت تتدلَّى عليها، لكن الماء كان شديد الصفاء والعمق، وكان بإمكاني أن أرى لمسافة عشر أقدامٍ أو خمس عشرة قدمًا أسفلَ السطح. تسكَّعت هناك قليلًا، كما يفعل الأولاد، مستمتعًا بالنداوة والرائحة السبخية، ثم رأيت شيئًا كاد ينتزع روحي من جسدي.

لقد كانت سمكة ضخمة. ولا أُبالغ إذ أقول إنها كانت ضخمة؛ فقد كان طولها من طول ذراعي تقريبًا. عامت بسلاسة في البِركة، ثم غاصت في أعماق المياه، ثم صارت ظلًّا واختفَت في الماء الأكثر دكانة على الجانب الآخر. شعرت كما لو أن سيفًا قد اخترق جسدي، فقد كانت أكبر بكثير من أكبر سمكة رأيتها يومًا، حية أو ميتة. ووقفت هناك دون أن أتنفَّس، ثم بعدها ببرهة انسابت سمكة ضخمة وسميكة أخرى في الماء، ثم سمكة أخرى ثم سمكتان أُخريان معًا؛ كلٌّ منهما بالقرب من الأخرى. أصبحت البِركة مليئة بالأسماك، وقد كانت على ما ظن أسماك الشَّبُّوط، ولربما كانت أبراميس أو تنش، ولكنها على الأرجح أسماكُ الشَّبُّوط؛ لأن أسماك الأبراميس أو التنش ليست بهذا الحجم الضخم. أعلم ما حدث؛ فقد كانت هذه البِركة موصولة في وقتٍ ما بالبِركة الأخرى، ثم جف المجرى وأحكمت الأشجار الخناق على البركة الصغيرة فنُسِيَت. إنها من الأمور التي تحدث بين الفينة والأخرى؛ تُنسى إحدى البِرَك على نحوٍ ما، فلا يعود أحدٌ يصطاد فيها لسنوات أو لعقود، فتنمو الأسماك إلى أحجام ضخمة. قد يرجع عمر الكائنات التي كنت أُشاهدها إلى مئات السنين، ولم يعلم بأمرها أحدٌ غيري في العالم، فأغلبُ الظن أن أحدًا لم ينظر إلى تلك البِركة منذ عشرين سنة، وربما حتى العجوز هودجز ووكيل أملاك السيد فاريل قد نسياها.

حسنًا، لك أن تتخيل ما شعرت به. بعد وقت ليس بالطويل، لم أستطع تحمُّل عذاب المشاهدة. فهرولت إلى البركة الأخرى ولملمت أدوات الصيد؛ فلم تكن ثمة فائدةٌ من محاولة صيد تلك المخلوقات الضخمة بالأدوات التي كانت معي، ولربما التقَطوها كما لو كانت شعرة، ولم أعُد أستطيع أن أرجع لصيد سمك الأبراميس الصغير. ولكن أشعرتني رؤية سمك الشَّبُّوط الكبير بألم في بطني كما لو كنت على وشك أن أمرض. ركبت دراجتي وانطلقت أسفل التلِّ ذاهبًا إلى المنزل. كان سرًّا من الرائع أن يحظى به طفل، تلك البِركة المظلمة المخفيَّة في الغابة والسمك الضخم الذي يعوم في أرجائها؛ سمك لم يقترب أحدٌ منه بصنارة، وسيلتهم أول طُعم تُقدِّمه إليه. كان الأمر يتطلب خيطَ صيد قويًّا للغاية للتمكن من صيده. وقد رتبت لكل شيء بالفعل، فقد خططت أن أشتريَ الأدوات التي يُمكنني بها صيده إن سرقت بعض المال من درج النقود. بطريقة ما، لم أكن أعلم كيف، كان عليَّ الحصول على نصف كراون، وشراء خيط صيدٍ حريري طويل مخصَّص لسمك السلمون وبعض الأحشاء أو الأسلاك السميكة والخطافات رقم خمسة، والذهاب ببعض الجُبن والنغف ومعجون الطحين ودود القمح ودود الأرض والجنادب وكل طُعم قد يستهوي سمك الشَّبُّوط. ونويت أنني بعد ظهيرة يوم السبت التالي مباشرةً سأرجع وأُحاول صيد تلك الأسماك.

ولكن ما حدث هو أنني لم أرجع إلى هناك قط، فلا يرجع المرء إلى تلك الأماكن أبدًا. لم أسرق قط بعضَ المال من درج النقود، ولم أشترِ خيط صيد السلمون، ولم أحاول صيد سمك الشَّبُّوط هذا؛ فقد حدث بعد ذلك مباشرةً شيءٌ منَعني من ذلك، ولكن إن لم يكن قد منعني ذلك الشيء لكان قد منعني شيء آخر؛ فهكذا هي الحياة.

أعلم، بالطبع، أنك تعتقد أنني أُبالغ في وصفي لحجم تلك الأسماك، ولربما تعتقد أنها كانت مجرد أسماك متوسطة الحجم (بطول قدم واحدة مثلًا)، وأنها كبرت بالتدريج في ذاكرتي. ولكن لم يكن الأمر كذلك؛ فالناس تكذب عند وصف الأسماك التي اصطادوها، ويكذبون أكثر عند الحديث عن الأسماك التي التقطَت الطُّعم وهربت منهم، ولكنني لم أصطَد أيًّا منها أو أحاول حتى أن أصطادها، وليس لديَّ دافعٌ للكذب. أقول لك بحق إنها كانت ضخمة.

٥

الصيد!

سأعترف هنا بشيء، أو بالأحرى بشيئَين؛ الأول هو أنني عندما أسترجع شريط حياتي، لا يُمكنني بصراحة أن أقول إن ثمة شيئًا فعلته يومًا قد أبهجني كالصيد؛ فكل شيء عداه أصبح مملًّا بالمقارنة به، حتى النساء. لا أُحاول أن أقول إنني من هؤلاء الرجال الذين لا يُهمهم النساء، فقد قضيت الكثير من الوقت في مطاردتهن، وسأفعل ذلك مجددًا الآن إن أُتيحَت لي الفرصة. ولكنك إن خيرتني بين أي امرأة، أي امرأة مهما كانت، وبين اصطياد سمكة شَبُّوط تزن عشرة أرطال، فسأختار الشَّبُّوط دائمًا. الاعتراف الثاني هو أنني بعدما أتممت عامي السادس عشر لم أصطَد مرة أخرى.

لماذا؟ لأن هذه هي الحياة، ولأننا في هذه الحياة التي نعيشها — لا أعني الحياة البشرية على إطلاقها، بل أعني الحياةَ في هذا العمر بالأخص، وفي هذا البلد بالتحديد — لا نفعل الأشياء التي نُريد أن نفعلها. وذلك ليس لأننا نعمل دائمًا؛ فحتى عامل المزرعة أو الخياط اليهودي لا يعمل دائمًا، بل لأن ثمة شيطانًا داخلنا يدفعنا في كل حين إلى ارتكاب حماقاتٍ أبدية. إن لدينا وقتًا لكل شيء، عدا الأشياء التي تستحق أن نُعطيَها من أوقاتنا. فكِّر في شيء تهتم به بحق، ثم اجمع الساعات، واحسب الجزء من حياتك الذي قضيته بالفعل في فعل هذا الشيء، ثم احسب الوقت الذي قضيته في أشياء كالحلاقة، أو ركوب الحافلات ذهابًا وإيابًا، أو انتظار القطار، أو الانتظار في ملتقى الطرق، أو في تبادل النكات البذيئة، أو في قراءة الصحف.

بعد أن أتممت عامي السادس عشر، لم أذهب للصيد مرة أخرى، فلم يَبدُ قط أن لديَّ وقتًا له. كنت أعمل، وأُطارد الفتيات، وأرتدي أول حذاء بأزرار وأول ياقة عالية (ولكي ترتديَ ياقاتٍ عام ١٩٠٩، تحتاج إلى رقبة كرقبة الزرافة)، وأحضر دورات بالمراسلة في فن البيع والمحاسبة و«تحسين المهارات الذهنية». كان السمك الكبير لا يزال يسبح في أرجاء البِركة خلف منزل بينفيلد، ولم يعلم أحدٌ سواي عنه شيئًا. وكان قابعًا في ذاكرتي؛ فلربما في يوم من الأيام، في عطلة رسمية، أذهب وأصطاده. ولكنني لم أرجع إلى هناك قط. كان لديَّ وقت لكل شيء ما عدا الصيد. من المثير للدهشة أن الوقت الوحيد في تلك الفترة الذي كدت أذهب فيه للصيد كان في أثناء الحرب.

كان ذلك في خريف عام ١٩١٦، مباشرةً قبل أن أُصاب في الحرب. كنا قد خرجنا من الخنادق إلى قرية خلف خط النار؛ وعلى الرغم من أننا كنا في شهر سبتمبر، فقد كان الوحل يُغطينا من رأسنا إلى أخمص أقدامنا. كالعادة، لم نكن نعلم بالتحديد المدة التي سنقضيها هناك، أو أين سنذهب بعد ذلك. ولحسن الحظ، كان قائد السَّرية في حالة سيئة بعض الشيء، فقد أُصيب بالتهاب شُعَبي أو شيء من هذا القبيل، ولذا لم يكن يهتم بإقامة العروض العسكرية المعتادة، وعمليات التفتيش على الأسلحة، ومباريات كرة القدم، وغيرها من الأمور التي كان من المفترض أن تُبقيَ على الروح المعنوية للجنود عندما لا يكونون في ميدان المعركة. قضينا نهار اليوم الأول في الاستلقاء على أكوام القش في الحظائر التي كنا نبيت فيها، وفي كشط الوحل من على جراميقنا، وفي المساء، بدأ بعض الشباب يصطفون أمام منزل عاهرتَين قبيحتَين بائستَين في أطراف القرية. في الصباح، على الرغم من أنه كان مخالفًا للقوانين أن نترك القرية، تمكنت من التسلسل والتجول حول الأطلال المروعة التي كانت حقولًا في يوم من الأيام. كان صباحًا رطبًا وغائمًا، وفي كل مكان حولنا بالطبع كان روث الحيوانات الكريه وركام الحرب، تلك الفوضى فاحشة القذارة التي هي أسوأ في الحقيقة من ميدان المعركة المليء بالجثث. كان هناك أشجار مقطوعة الأغصان، وحُفر قذائف مِدفعية قديمة مُلئت بعض الشيء مرة أخرى، وعبوات معدنية، وروث، ووحل، وعُشب، وأكوام من الأسلاك الشائكة الصدئة والعُشب نامٍ خلالها. أنت بالطبع تعرف ذلك الإحساس الذي تشعر به عندما تخرج من خط النار؛ إحساس بالتيبس في كل مفاصلك، وبداخلك نوع من الفراغ؛ إحساس بأنك لن تعودَ تهتم بأي شيء أبدًا في حياتك. كان إلى حد ما لديَّ شعور بالخوف والإنهاك، ولكنه في الأساس شعور بالضجر. في ذلك الوقت، لم يكن أحد يرى أي سبب لعدم استمرار الحرب إلى الأبد؛ فاليوم أو الغد أو بعد غدٍ كنت ستعود إلى المعركة، وربما في الأسبوع القادم ستُفجِّرك قذيفة فتُصبح كاللحم المحفوظ، ولكن ذلك لم يكن سيئًا بقدر الشعور المروع بالملل في الحرب التي كانت ستستمر للأبد.

كنت أتجول على جانب سياج عندما قابلت شابًّا من سَرِيَّتنا لا أتذكر اسم عائلته، ولكنني أتذكر أن كنيته كانت نوبِّي. كان أسمرَ البشرة محدبًا وبهيئة غجرية، وحتى في زيه العسكري كان يُعطي دائمًا انطباعًا كما لو أنه يحمل زوجًا من الأرانب المسروقة. بحكم المهنة، عرَفت أنه كان بائعًا متجولًا وأنه ينتمي حقيقةً لأبناء الطبقة العاملة، ولكنه من هؤلاء الذين يتكسبون بعض قوتهم بجمع نبات حشيشة الدينار، وصيد الطيور، والصيد غير المشروع، وسرقة الفاكهة في كِنت وإسيكس. وكان ذا خبرة كبيرة في الكلاب، وحيوانات ابن مِقْرَض، وطيور الأقفاص، وديوك القتال، ومثل تلك الأشياء. وبمجرد أن رآني أومأ إليَّ برأسه، وكانت له طريقة خبيثة وشريرة في الكلام؛ إذ قال:

«أنت! يا جورج!» (كان الناس لا يزالون يدعونني جورج فحسب في ذلك الوقت، فلم أكن قد صرت بدينًا بعد.)

ثم أضاف: «جورج! هل ترى هذه المجموعة من شجيرات الحَوْر على الجانب الآخر من الحقل؟»

«أجل.»

«حسنًا، ثمة بركة على الجانب الآخر منها، وهي مليئة بالسمك الشديد الضخامة.»

«سمك؟! أنت تكذب!»

«صدقني إنها مليئة بشدة بالسمك. إنها أسماك الفَرْخ، وهي أسماك مِن أفضلِ ما رأت عيني. تعالَ وشاهدها بنفسك.»

خضنا في الطين معًا، وبالطبع كان نوبِّي على حق؛ فعلى الجانب الآخر من شجيرات الحَوْر، كانت ثمة بركة قبيحة المنظر بضفاف رملية. وكان من الواضح أنها كانت محجرًا في يوم من الأيام، وقد امتلأت بالماء بعد ذلك، وكانت تعُج بأسماك الفَرْخ، التي يُمكنك رؤية ظهورها المخططة باللون الأزرق الداكن تسبح في كل مكان أسفل سطح الماء، ولا بد أن بعضها كان وزنه يصل إلى الرطل. أظن أنه طوال عامَين من الحرب لم يُعكِّر صفوها شيء وكان لديها الوقت للتكاثر. قد لا تتخيل وقع رؤية تلك الأسماك عليَّ. كان الأمر كما لو أنها قد أرجعتني فجأة إلى الحياة. بالطبع كانت ثمة فكرة واحدة في ذهني وذهن صاحبي، وهي كيف نحصل على قصبة وخيط للصيد.

قلت: «يا إلهي! سنحصل على البعض منها.»

«بالتأكيد. هيا نرجع إلى القرية ونحضر بعض أدوات الصيد.»

«حسنًا. لكن يجب أن نحذر؛ فلو عرف الرقيب، فسنُعاقَب.»

«أوه، اللعنة على الرقيب. فليشنقوني ويسلخوني ويُقطعوني إرْبًا إن أرادوا، لكنني سأحصل على بعض من هذا السمك اللعين.»

لا يُمكنك أن تتخيل كم كنا متحمسين لصيد هذا السمك! أو ربما يُمكنك إن كنت قد ذهبت إلى الحرب يومًا، إذ كنت ستعرف ذلك الضجر الجنوني الذي تُسببه الحرب، وكيف تنتهز أي فرصة لأي نوع من التسلية. رأيت رجلَين يتشاجران بضراوة في أحد المخابئ حول نصف مجلة ثمنها ثلاثة بنسات. ولكن الأمر تخطَّى ذلك. لقد كنا نريد الهروب، ربما ليوم كامل، بعيدًا عن أجواء الحرب، والجلوس أسفل أشجار الحَوْر وصيد الفَرْخ بعيدًا عن السَّرية وعن الضوضاء والجدال وعن الزي العسكري والضباط والتحيات العسكرية وصوت الرقيب! الصيد عكس الحرب، ولكن لم يكن من المؤكد على الإطلاق أننا سنحظى به. كانت هذه هي الفكرة التي حمستنا. إذا اكتشف الرقيب الأمر، فسيُوقفنا بالتأكيد، وكذلك أي من الضباط؛ والأدهى من ذلك أنه لم يكن أحدٌ يعلم كم سنقضي في هذه القرية، فقد نظل هناك أسبوعًا، وقد نُغادرها في غضون ساعتَين. وفي الوقت نفسه، لم يكن لدينا أي أدوات للصيد من أي نوع، ولا حتى دبوس أو أي نوع من الخيوط، فكان علينا أن نُعِد بعضها بأنفسنا، وكانت البِركة تعُج بالأسماك! أداة الصيد الأساسية كانت القصبة. وقصبة من خشب الصفصاف هي الأفضل، ولكن بالطبع لم تكن ثمة أشجار صفصاف في أي مكان على مرمى البصر. تسلق نوبِّي شجرة حَوْر، وقطع غصنًا صغيرًا لم يكن جيدًا في الواقع، ولكنه كان أفضل من لا شيء. ثم شذَّبه بمطواته حتى تشكَّل شيء كقصبة الصيد، ثم أخفيناها في العُشب بالقرب من الضفة، وتمكَّنَّا من التسلسل رجوعًا إلى القرية دون أن يرانا أحد.

الأداة الثانية كانت الإبرة لنصنع بها خطافًا، ولكن لم يكن مع أحد إبرة. كان ثمة رجل معه إبر رفو، ولكنها كانت سميكة للغاية ولها طرَف غير حاد. ولم نكن نجرؤ على أن نُعلِم أحدًا بما نُريدها لأجله؛ لخوفنا من أن يسمع الرقيب بالأمر. وفي النهاية، فكرنا في العاهرتَين في أطراف القرية، فبالتأكيد كان لديهما إبرة. وعندما ذهبنا إليهما — كان عليك أن تلف للباب الخلفي عبر فِناء قذر — وجدنا المنزل مغلقًا والعاهرتَين نائمتَين، فقد كانتا بلا شك تستحقان الراحة. نادينا عليهما وطرقنا الباب حتى خرجت لنا بعد عشر دقائق سيدةٌ قبيحة وبدينة ومتدثرة بدثار، وصرخت في وجهنا بالفرنسية. صرخ نوبِّي في وجهها، قائلًا:

«إبرة! إبرة! ألديكِ إبرة؟»

بالطبع لم تكن تفهم ما يقول. حاول نوبِّي بعد ذلك الحديث بلغةٍ مبسَّطة، توقع أن تفهمها كما يفهمها الأجانب، وقال:

«نريد إبرة! لخياطة الملابس! كهذه!»

أشار بيدَيه على نحو من المفترض أنه يُمثل به عملية الخياطة، ولكن العاهرة لم تفهمه وفتحت الباب أكثر قليلًا لندخل. وفي النهاية تمكنَّا من إفهامها وحصلنا على الإبرة. ولكننا كنا في وقت الغداء.

وبعد الغداء عاد الرقيب إلى الحظيرة التي نبيت فيها بحثًا عن رجالٍ للعمل. تمكنَّا من تفاديه في الوقت المناسب بالاختباء أسفل كومة من القش. وعندما غادر أشعلنا شمعة، ووضعنا الإبرة على لهبها فتمكنَّا من ثنيِها لتُصبح أشبهَ بالخطاف. ولم تكن لدينا أي أدوات أخرى غير مطواتَينا، فتسببنا في إصابة أصابعنا بحروق جسيمة. الشيء التالي كان الخيط، ولم يكن مع أي أحد خيوطٌ غير خيوط سميكة، ولكننا في النهاية قابلنا بالصُّدفة رجلًا معه بكرة من خيوط الخياطة. لم يكن يُريد أن يُعطيَنا إياها، وكان علينا أن نُعطيه علبة كاملة من السجائر ليُعطينا الخيط. كان سُمك الخيط رفيعًا جدًّا، ولكن نوبِّي قطعه بالطول إلى ثلاثة خيوط، وربطها بمسمار في الحائط، ثم ضفرها بعناية. في الوقت نفسه وبعد البحث في جميع أرجاء القرية، تمكَّنت من العثور على سدادة قنينة، وقطعتها إلى نصفَين وغرزت فيها عود ثقاب لأصنع فلينة الصيد. كنا في المساء في ذلك الحين، وكانت السماء على وشك الإظلام.

كنا قد حصلنا على الأساسيات، ولكننا كنا بحاجة إلى بعض الأحشاء، ولم يبدُ أن ثمة أملًا كبيرًا في الحصول عليها حتى فكرنا في حاجب المستشفى. لم تكن الخيوط الجراحية الطبيعية جزءًا من أدواته، ولكن كان من الممكن أن يكون لديه بعضٌ منها. بالتأكيد عندما سألناه وجدنا أن لديه لفافةً كاملة منها في حقيبة ظهره، فقد أثارت إعجابه في مستشفًى ما وسرَقها. أعطيناه عُلبة أخرى من السجائر مقابل عشر قطع من تلك الخيوط، والتي كانت هشَّة ومتعفنة، وكان طول القطعة الواحدة يبلغ ستَّ بوصات تقريبًا. بعد حلول الظلام، نقعها نوبِّي حتى أصبحت مرنة، وربطها طرفًا بآخر. بذلك، كنا في ذلك الحين قد حصلنا على كل شيء؛ خطاف، وقصبة، وخيط، وفلينة، وأحشاء، ويُمكننا أن نحفر الأرض ونحصل على الديدان من أي مكان. وكانت البركة تعُج بالأسماك! أسماك الفَرْخ المخططة الضخمة التي كانت تُنادينا لنصطادها! استلقينا لنرتاح ونحن يملؤنا الحماس لدرجة أننا لم نخلع أحذيتنا. غدًا! آه لو يأتي الغد! ويا ليت الحرب تنسانا ولو ليومٍ واحد! عزمنا أمرنا على أنه بمجرد انتهاء طابور التمام سننطلق ونقضي اليوم كلَّه، حتى إن طبَّقوا علينا عقوبة الميدان رقم واحد عند رجوعنا.

حسنًا، أتوقع أنه يُمكنك تخمين باقي ما حدث. كانت الأوامر في طابور التمام هي حملَ جميع العُدَد والتجهز للسير خلال عشرين دقيقة. مشينا مسافة تسعة أميال على الطريق، ثم ركبنا الشاحنات التي نقلتنا إلى نقطة أخرى من خط النار. أما عن البِركة أسفلَ أشجار الحَوْر، فلم أرَها أو أسمع عنها مرة أخرى قط، وأتوقع أن تكون قد سُمِّمت بغاز الخردل فيما بعد.

منذ ذلك الحين، لم أذهب للصيد قط؛ فلم تُواتِني الفرصة قط، فقد أكملت الحرب، ثم صارعت كالجميع من أجل الحصول على وظيفة، ثم حصلت على وظيفة أو لنقل هي التي حصلت عليَّ. كنت شابًّا واعدًا في عملي في أحد مكاتب التأمين — كنت أحد رجال الأعمال الشباب المتحمسين والحازمين والطموحين الذين تقرأ عنهم في إعلانات كلية كلارك — ثم أصبحت من هؤلاء المهمَّشين المعتادين الذين يتَقاضَون من خمسة إلى عشرة جنيهات في الأسبوع، والذين يسكنون منزلًا شبه منفصل في الضواحي الداخلية والخارجية. مثل هؤلاء الناس لا يذهبون للصيد، تمامًا مثلما لا يذهب سماسرة البورصة لقطف زهور الربيع، فلا يُلائمهم هذا الشيء، وإنما لهم وسائلُ تسلية أخرى.

إنني بالطبع أحصل على إجازتي التي تبلغ أسبوعَين في كل صيف. إنك تعلم هذا النوع من الإجازات: مارجيت، يارموث، إيستبورن، هاستينجز، بورنموث، برايتون. يختلف الأمر حسَب وضعِنا المادي كل عام. وعندما تكون متزوجًا من امرأة مثل هيلدا، تُصبح السِّمة المميزة للإجازة هي الحساب الذهني غير المنتهي لمعرفة القدر الذي يحتال عليك فيه صاحب النُّزل. هذا علاوة على كلمة «لا» التي تُقال للطفلَين إن أرادا الحصول على دلو رمال جديد. منذ بضع سنوات، ذهبنا إلى بورنموث، وبعد ظهيرة أحد الأيام اللطيفة ذهبنا في نزهة على الرصيف البحري، الذي لا بد أن طوله كان نحو نصف ميل، وكان على امتداده بالكامل رجالٌ يصطادون بصنارات سميكة بها أجراسٌ صغيرة في أطرافها، وكانت خيوطها تمتد مسافة خمسين ياردة في البحر. إنه نوع من الصيد الممل ولم يكونوا يصطادون أي شيء، ولكنهم على أي حال ذهبوا للصيد. سرعان ما شعر الطفلان بالملل وجعجعوا للرجوع إلى الشاطئ، ورأت هيلدا أحد الرجال وهو يغرس دودة رملية في خُطَّافه، فقالت إن ذلك أصابها بالغثيان، ولكنني مكثت أتسكَّع جَيئة وذَهابًا لأظل هناك وقتًا أطول. وفجأة، صدرت صلصلة مهولة من جرس، وكان الرجل يتمايل مع خيطه، فتوقف الجميع ليُشاهده. وبالطبع خرج الخيط المبلل والقطعة الرَّصاصية وفي طرفها سمكة مسطحة ضخمة (كانت من نوع سمك الفلاوندر على ما أعتقد) متدلية تتلوى. وضعها الرجل على لوح الرصيف البحري، وكانت تُرفرف لأعلى ولأسفل مبتلة ولامعة بظهرها المتثألل الرمادي وبطنها الأبيض ورائحة الملح المنعشة للبحر المنبعثة منها. وهنا تحرَّك شيء بداخلي.

قلت عرضيًّا ونحن مغادرون، فقط لأختبر رد فعل هيلدا:

«أفكر في أن أنتهز فرصة وجودنا هنا وأصطاد قليلًا.»

«ماذا؟! أتريد الذَّهاب للصيد يا جورج؟ ولكنك لا تعرف كيف تصطاد، أليس كذلك؟» قلت لها: «أوه، لقد كنت صيادًا ماهرًا.»

عارضت الفكرة على نحو غامض كعادتها، ولكنها لم تجد ما تُجادلني به سوى أنني إذا ذهبت للصيد فلن تأتي معي لتُشاهدني وأنا أضع تلك الأشياء الزلقة المقرفة في الخُطَّاف. وفجأةً أدركت أنني إن ذهبت للصيد، فإن الأدوات التي سأحتاجها من قصبة وخيطٍ وغيرها ستُكلفنا ما يقرب من جنيه كامل، حيث إن القصبة وحدها بعشرة شلنات؛ فاستثارت غضبًا على الفور. لم ترَ العجوز هيلدا وهي تتحدث عن إنفاق عشرة شلنات. لذا عنفتني قائلةً:

«من غير المعقول أن نُنفق كل ذلك المال على شيء كهذا! هذا سخف! وكيف يجرءون على بيع الواحدة من قصبات الصيد الوضيعة السخيفة تلك بعشرة شلنات! إنه لشيء مُخزٍ. ثم أتذهب للصيد وأنت في عمرك هذا؟! رجل ناضج وبدين مثلك يذهب للصيد! لا تُصغر نفسك يا جورج.»

ثم تدخل الطفلان، فمالت لورنا عليَّ وسألتني بطريقتها السخيفة: «هل أنت طفل يا أبي؟» وبيلي الصغير، الذي كان في ذلك الوقت بالكاد تعلم الكلام، صاح مسمعًا الجميع: «أبي طفل.» وفجأة، كان الطفلان يرقصان حولي، ويُخشخِشان بدَلوَي الرمال خاصتِهما ويغنان:

«أبي طفل! أبي طفل!»

يا لهما من وغدَين صغيرَين مجنونَين!

٦

إلى جانب صيد السمك، كنت أهوى القراءة.

لقد بالغتُ حين أعطيتك الانطباع بأن الصيد هو الشيء الوحيد الذي كنتُ أهتم به. بالطبع يأتي الصيد في المقام الأول، ولكن القراءة كانت ثانيَ أفضلِ الأشياء لديَّ. لا بد أنني كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري عندما بدأت في القراءة، وأعني بالقراءة هنا القراءةَ الطوعية. في تلك السن، كان الأمر أشبهَ باكتشافِ عالم جديد. وما زلت حتى الآن أقرأ كثيرًا، ففي واقع الأمر لا تمر أسابيعُ كثيرة دون أن أقرأ فيها روايتَين؛ فأنا ما يُمكنك أن تُطلِق عليه المشترك النموذجي في مكتبة بوتس، ودائمًا ما أنجذب للكتب التي تُحقق أفضل المبيعات في كل حين («الرفقاء الطيبون»، «رمَّاح البنغال»، «قلعة صانع القبعات»؛ لقد أغرمت بكل واحد منها)، وكنت كذلك عضوًا في نادي كتاب اليسار لمدة عام أو أكثر. وفي عام ١٩١٨، عندما كنت في الخامسة والعشرين، انغمست في القراءة، الأمر الذي غيَّر أفكاري تغييرًا كبيرًا، ولكن لا شيء يُعادل السنوات الأولى هذه التي تكتشف فيها فجأةً أنه بإمكانك أن تفتح صحيفة أسبوعية تشتريها ببنس واحد وتنغمس على الفور في خفايا اللصوص وأوكار المخدرات الصينية وجُزر بولينيزيا وغابات البرازيل.

منذ أن كنت في الحادية عشرة وحتى أصبحت في السادسة عشرة تقريبًا وأنا مُتعتي الكبرى كانت في القراءة. في البداية، كنت أقرأ الصحف الأسبوعية الموجَّهة للأولاد التي كنا نشتريها ببنس، وكانت أوراقها صغيرة ورقيقة وطباعتها رديئة، وكانت الرسوم التوضيحية فيها بثلاثة ألوان على صفحة الغلاف؛ وبعد ذلك بقليل أصبحت أقرأ الكتب؛ شيرلوك هولمز، الدكتور نيكولا، القرصان الحديدي، دراكولا، رافلز. كما كنت أقرأ لنات جولد ورنجر جول، ورجلٍ نسيتُ اسمه كان يكتب قصص الملاكمة بالإيقاع السريع نفسه تقريبًا الذي كان نات جولد يكتب به قصص السباقات. أعتقد أن والدَيَّ لو كانا قد حصلا على تعليم أفضل قليلًا، لكانا جعَلاني أقرأ كتبًا «جيدة»، ككتب ديكنز وثاكراي ومن على شاكلتهما، وفي الواقع، لقد جعلونا نقرأ رواية «كوينتين دوروارد» في المدرسة، وكان عمي إيزيكيال يُحاول في بعض الأحيان حثِّي على القراءة لراسكين وكارلايل. ولكن لم تكن في الواقع ثمة كتب في منزلنا؛ فلم يقرأ أبي كتابًا قط في حياته باستثناء الكتاب المقدس وكتاب «الاعتماد على الذات» للكاتب سمايلز، ولم أقرأ من نفسي كتابًا «جيدًا» إلا في وقت لاحق على ذلك بكثير. لست آسفًا على جريان الأمور على ذلك النحو؛ فلقد قرأت الكتب التي أردت قراءتها، وتعلمت منها أكثر مما تعلمت من الكتب التي كانوا يجعلوننا نقرؤها في المدرسة.

كانت كتب القصص المثيرة القديمة الرخيصة في طريقها إلى الاختفاء بالفعل عندما كنت صغيرًا، وبالكاد أتذكرها؛ ولكن كانت ثمة إصدارات أسبوعية من القصص الموجهة للأولاد، التي لا يزال بعضٌ منها موجودًا اليوم. اختفت قصص بافالو بيل، على ما أعتقد، ولم يعد أحد على الأرجح يقرأ لنات جولد، ولكن يبدو أن كتب نيك كارتر وسيكستون بليك لا تزال محتفظة بمكانتها. بدأت سلسلتا «ذا جيم» و«ذا ماجنيت»، إن كنت أتذكر جيدًا، عام ١٩٠٥ تقريبًا. وكانت مجلة «بي أو بي» لا تزال سيئة الطباعة للغاية في تلك الأيام، ولكن مجلة «تشومز»، التي أعتقد أنها ظهرت في عام ١٩٠٣، كانت رائعة. ثم كانت لدينا كذلك الموسوعة، التي لا أتذكر اسمها بالتحديد، والتي كانت أعدادها تصدر بثمن زهيد. ولم يبدُ أنها تستحق الشراء، ولكن أحد الأولاد في المدرسة كان يُعطينا أحيانًا أعدادًا منها. وإن كنت أعلم الآن طول نهر المسيسيبي أو الفرق بين الأخطبوط والحبار أو التكوين الدقيق لمعدن الأجراس، فهذه الموسوعة هي التي تعلمت منها ذلك.

أما جو، فلم يقرأ قط. لقد كان من هؤلاء الأولاد الذين يذهبون إلى المدرسة لعدة سنوات، ولكنهم لا يستطيعون قراءة عشرة أسطر على نحو متتالٍ. كانت رؤية الأحرف المطبوعة تجعله يشعر بالغثيان. رأيته في مرة وهو يأخذ أحد أعداد مجلة «تشومز» الخاصة بي؛ قرأ فقرة أو فقرتَين ثم انصرف باشمئزاز بالطريقة نفسها التي يتحرك بها الحصان عندما يشم رائحة التِّبن الفاسد. وقد حاول أن يبعدني عن القراءة، ولكن أمي وأبي، اللذَين كانا قد قررا أنني كنت «الأفلح»، دعماني. وكانا شديدَيِ الفخر بأنني أظهرت اهتمامًا في «التعلم عن طريق القراءة» كما أطلقا عليه. ولكن كان من المعتاد من كلَيهما أن يشعرا بالاستياء الغامض من قراءتي لأشياء مثل «تشومز» و«يونيون جاك»؛ واعتقدا أنه ينبغي عليَّ قراءة أشياء «أكثر فائدة»، ولكنهما لم يكونا يعرفان الكثير عن الكتب لمعرفة أي منها «الأكثر فائدةً». وأخيرًا، حصلَت أمي على نسخة مستعملة من «كتاب الشهداء» لفوكس، الذي لم أقرأه، ولكن الرسوم التوضيحية فيه لم تكن سيئة.

طوال شتاء عام ١٩٠٥، كنت أُنفق بنسًا كل أسبوع على مجلة «تشومز»، وكنت أُتابع قصتها المسلسلة «دونوفان الشجاع». كان دونوفان الشجاع مستكشفًا عيَّنه مليونير أمريكي لجلب أشياء مذهلة من بقاع متنوعة من الأرض. في بعض الأحيان كان يجلب ماسات بحجم كرات الجولف من فوهات البراكين في أفريقيا، وأحيانًا أخرى كان يجلب العاج من حيوانات الماموث المتحجرة في غابات سيبيريا المتجمدة، وأحيانًا أخرى كان يجلب كنوز الإنكا المدفونة في المدن المفقودة في بيرو. كان دونوفان يذهب في رحلة جديدة كل أسبوع، وكان دائمًا موفَّقًا. مكاني المفضل للقراءة كان في العِلية خلف الساحة؛ ففيما عدا الأوقات التي كان أبي يُخرج فيها أجولة الحبوب الجديدة، كانت العلية أهدأ مكان في المنزل. كانت ثمة أكوام ضخمة من الأجولة المتراصَّة، وبعضٌ من رائحة الجص المخلوطة برائحة العنبريس؛ كما كانت هناك أكوامٌ من شبكات العناكب تُخيم على جميع الأركان؛ وأعلى المكان الذي كنت أستلقي فيه مباشرةً، كان ثَمة تجويفٌ في السقف ولوح خشبي بارز من الجِص. يُمكنني الشعور بالإحساس نفسه الآن؛ إذ أرى نفسي في أحد أيام فصل الشتاء، وقد حصلت على الدفء الكافي لأزال مُستلقيًا بلا حَراك. أراني مستلقيًا على بطني فاتحًا صفحات مجلة «تشومز» أمامي، وأرى فأرًا يجري إلى أعلى بجوار أحد الأجولة كما لو كان لُعبةً بزنبرك، ثم فجأة يتسمَّر في مكانه ويُشاهدني بعينَيه الصغيرتَين كخرَزتَي كهرمان. أنا في الثانية عشرة من عمري ولكني دونوفان الشجاع، الذي ينصب خيمته على بُعد ألفَي ميل في أعالي الأمازون، ويحتفظ بجذور الأوركيد الغامض الذي يُزهر مرة كل مائة عام في الصندوق الصفيح أسفل سريره في الخيمة. وفي الغابات التي تُحيط بي من كل جانب هنود الهوبي هوبي، الذين يَطْلون أسنانهم باللون القرمزي، ويسلخون الرجال البيض أحياء، يقرعون طبول الحرب. كل ذلك وأنا أشاهد الفأر والفأر يُشاهدني، ويُمكنني أن أشمَّ رائحة الغبار والعنبريس والجِص الرطب، وأنا في أعالي الأمازون؛ إنه النعيم، النعيم الخالص.

٧

كان هذا هو كل شيء في الواقع.

حاولت أن أخبرك قليلًا عن عالم ما قبل الحرب؛ ذلك العالم الذي وجدت عبَقَه عندما رأيت اسم الملك زوجو في الصحيفة، ولكني لم أُخبرك شيئًا؛ فإذا كنت تتذكر عهد ما قبل الحرب فأنت إذن لا تحتاج إلى من يُخبرك عنه، وإذا كنت لا تتذكره فلا طائل من إخبارك عنه. حتى الآن لم أتحدث إلا عن أشياء حدثت لي قبل أن أُتِم عامي السادس عشر؛ وحتى ذلك العمر كانت الأمور على خير حال مع عائلتي. قبل عيد ميلادي السادس عشر بقليل، بدأتُ أفهم بعضًا مما يُطلِق عليه الناس «الواقع»، الذي اكتشفت أن معناه التعاسة.

بعد نحو ثلاثة أيام من رؤيتي لأسماك الشَّبُّوط الكبيرة في منزل بينفيلد، أتى أبي وقت الشاي وهو يبدو عليه القلق الشديد حتى إنه بدا أكثرَ كآبة وشحوبًا عن العادة. أكل بطريقته المهيبة وشرب الشاي ولم يتحدث كثيرًا. في تلك الأيام، كانت له طريقة في تناول الطعام تنمُّ عن أن ثمة ما يَشغَل باله كثيرًا، وكان شاربُه دائمَ التحرك لأعلى وأسفل في حركة جانبية؛ لأنه لم يكن قد تبقى في فمه الكثيرُ من الأسنان الخلفية. وكنت قد قمت لتوي من أمام الطاولة عندما ناداني قائلًا:

«انتظر دقيقة يا جورج يا بُنيَّ. لديَّ شيء أريد أن أقوله لك. اجلس فقط لدقيقة. سمعت يا حبيبتي ما أريد قوله ليلة أمس.»

كانت أمي خلف إبريق الشاي البُني الكبير، طاوية يدَيها على حجرها وقد بدَت عليها التعاسة. استأنف أبي حديثه، وكان يتحدث بجدية بالغة كان يُخفف كثيرًا من وقعها محاولتُه إخراجَ فُتات الخبز المستقر في مكان ما فيما تبقى من أسنانه الخلفية، وقال:

«جورج يا بُنيَّ، ثمة شيء أريد أن أخبرك به. كنت أفكر مليًّا في الموضوع، المتمثل في الوقت الذي ستترك فيه المدرسة. للأسف، ستُضطَر إلى أن تبدأ في الذهاب إلى العمل الآن وأن تكسب بعض المال لترجع به إلى المنزل لأمك. وقد كتبت للسيد ويكسي ليلة أمس، وأخبرته أنني يجب أن أُخرجك من المدرسة.»

بالطبع كان الأمر مُعدًّا سابقًا تمامًا، أعني كتابته للسيد ويكسي قبل أن يُخبرني؛ فقد كان الآباء في تلك الأيام بطبيعة الحال يُرتبون دائمًا كل شيء يتعلق بأبنائهم دون استشارتهم.

استكمل أبي حديثه بمزيد من التمتمة وتعبيرات القلق؛ فلقد «مرَّت عليه أوقات عصيبة مؤخرًا»، وكانت الأمور «صعبة بعض الشيء»، والمحصلة كانت أنه يجب عليَّ أنا وجو أن نبدأ في كسب قوتنا. في ذلك الوقت، لم أكن أعلم أو أهتم كثيرًا بما إذا كان ثمة مشكلة في عمل أبي بالفعل أم لا؛ ولم يكن لديَّ حتى ما يكفي من النزعة التِّجارية التي تُمكِّنني من رؤية الأسباب التي تجعل الأمور «صعبة». الحقيقة كانت أن أبي هُزِم في منافسة؛ إذ كان آل سارازينز، وهم من كبار تجار الحبوب بالتجزئة ولهم فروع في كل أقاليم البلاد، قد حطوا أرجلهم في لوير بينفيلد. لقد استأجروا قبل ستة أشهر متجرًا في السوق؛ وبالغوا في تزيينه بالطِّلاء الأخضر الساطع، والأحرف المطلية بالذهب، مع طلاء أدوات البستنة بالأحمر والأخضر، وعمل إعلانات عملاقة عن البازلاء العطرية بحيث تجذب انتباهك على مسافة مائة ياردة. كان آل سارازينز، بجانب بيعهم لحبوب الزهور، يصفون أنفسهم بأنهم «متعهدو أعلاف دواجن عالميُّون»، وفضلًا عن القمح والشوفان وغيرهما من الحبوب، كانت لديهم خلطات أعلاف دواجن مسجلة باسمهم، وحبوب طيور معبأة بأناقة، وبسكويت كلاب بجميع الأشكال والألوان، وأدوية، ومراهم، ومساحيق ترطيب؛ كما تفرَّع نشاطهم لأشياء مثل مصائد الفئران، وسلاسل الكلاب، وحاضنات البيض، والبيض الصحي، وكل ما يخص رعاية الطيور، والمصابيح الكهربائية، ومبيدات الأعشاب الضارة، والمبيدات الحشرية؛ حتى إنهم في بعض فروعهم كان لديهم قسم خاص للأرانب والفراخ الصغيرة في عمر يوم. لم يستطع أبي، بمتجره القديم الذي يملؤه الغبار ورفضه لبيع أغراض جديدة، أن يخوض ذلك النوع من المنافسة، ولم يكن يرغب في خوضها. أما التجار من أصحاب عربات الخيول والمزارعين الذين يتعاملون مع تجار الحبوب بالتجزئة، فقد حاولوا تجنب مواجهة آل سارازينز؛ ولكن في غضون ستة أشهر، تجمعوا حول أبناء الطبقة العليا الصغيرة في الحي، الذين كانوا في تلك الأيام يملكون العربات الكبيرة والصغيرة. هذا يعني خسارة كبيرة لأبي ولتاجر الذرة الآخر، وينكل. لم أعِ أيًّا من ذلك في وقته؛ فقد كنت أتصرف كالصِّبية تجاه كل شيء، ولم يكن لديَّ أي اهتمام قط بالتجارة، ولم أقف في متجر قط أو بالكاد وقفت؛ وفي الأحيان النادرة التي كان أبي يُريد مني فيها أن أؤدِّي مهمة أو أساعده في شيء ما، كرفع أجولة الحبوب إلى العِلية أو إنزالها منها، كنت دائمًا أتهرب منه كلما أمكنني. لم يكن الأولاد في مدرستي يتصرفون بطفولية كأولاد المدارس العامة؛ فقد كانوا يُقدِّرون قيمة العمل والنقود، لكن بدا من الطبيعي أن يرى الابن أن عمل أبيه أمر ممل. وحتى ذلك الوقت، كانت قصبات الصيد والدراجات وشراب الليمون الفوار وغيرها من الأشياء تبدو لي أكثر واقعية من أي شيء يحدث في عالم الكبار.

كان أبي قد تحدث بالفعل مع العجوز جريميت، البقال، الذي كان يريد فتًى ذكيًّا للعمل معه وكان على استعداد في أن أبدأ عملي في متجره على الفور. في تلك الأثناء، كان أبي سيتخلَّص من الصبي الذي كان يُساعده في المتجر، وكان جو سيبقى في المنزل لمساعدته في المتجر حتى يحصل على عمل. كان جو قد ترك المدرسة قبل ذلك، ولم يكن يفعل شيئًا سوى التسكع منذ ذلك الحين. وكان أبي يتحدث أحيانًا عن إلحاقه بقسم المحاسبة في مصنع الجِعَة؛ حتى إنه كان يُفكر قبل ذلك في جعله يعمل بائع مزادات. ولكنَّ العملَين كانا مستحيلَين تمامًا؛ فقد كان خط يد جو في سن السابعة عشرة سيئًا كخطِّ صبي يجر ماشية الحرث، ولم يكن يحفظ جدول الضرب. في ذلك الوقت، كان من المفترض أن يكون قد «تعلَّم صنعة» في متجر دراجات كبير بضواحي وولتن. إن تصليح الدراجات يُناسب جو، الذي كان كمعظم الحمقى يميل بعض الشيء إلى الأعمال الميكانيكية؛ ولكنه كان غير قادر على الإطلاق على العمل بانتظام، وقضى كل وقته في التسكع مرتديًا رداء العمل المليء بالشحم، ومدخنًا للسجائر، ومنخرطًا في المشاجرات، ومنهمكًا في شرب الخمر (التي كان قد بدأ في شربها في ذلك الوقت بالفعل)، و«مواعدة» الفتيات الواحدة تلو الأخرى، والإلحاح في طلب النقود من أبي. كان أبي يشعر بالقلق والحيرة والاستياء الغامض. ما زلت أراه والطحينُ على رأسه الأصلع، والشعر الأشيب القليل حول أذنَيه، ونظارته، وشاربه الرمادي. لم يستطع أن يفهم ما كان يحدث له؛ لسنوات ظلت أرباحه تعلو ببطء وبوتيرة منتظمة؛ عشرة جنيهات هذه السنة، وعشرون جنيهًا في تلك السنة، ثم فجأة هبطت هبوطًا مروعًا. لم يَستطع فهم الأمر؛ فلقد ورث العمل عن أبيه، وتاجرَ بأمانة، وعمل بجد، وباع بضائع جيدة، ولم يَغُشَّ أحدًا، ولكن أرباحه كانت في هبوط. قال عدة مرات، وهو يُمصمص أسنانه ليُخرج من بينها فتات الطعام، إن الأوقات كانت عصيبة؛ إذ بدَت التجارة شديدة الكساد، ولم يستطع أن يفهم ما حدث للناس، فكما لو أن الخيول لم تعد تأكل. ربما كان السبب هو انتشارَ السيارات، هكذا قرر في النهاية. علَّقت أمي قائلة: «تلك الخردة النتنة!» وكانت أقل قلقًا، وتعلم أنه كان عليها أن تكون أكثر قلقًا. ومرة أو مرتَين أثناء حديث أبي، كانت ثمة نظرة غائبة في عينَيها، وكنت أرى شفتَيها تتحركان. كانت تحاول أن تتخذ قرارًا إذا ما كانت ستطهو غدًا لحم البقر بالجزر أو ساق ضأن أخرى. وباستثناء الأحيان التي يكون فيها شيء تهتم به يحتاج إلى بعد نظر، كشراء البياضات أو القدور، لم يكن تفكيرها في الواقع يمتد لما هو أبعدُ من وجبات الغد. لم يكن المتجر يعمل بشكل جيد وكان أبي قلقًا؛ هذا تقريبًا كل ما كانت تراه في الأمر. ولم يُدرك أحدٌ منا أي شيء عما كان يحدث. مرت على أبي سنةٌ سيئة وخسر ماله، ولكن هل كان حقًّا خائفًا من المستقبل؟ لا أظن ذلك. أتذكر أنه كان العام ١٩٠٩، ولم يكن يعلم ما كان يحدث له؛ فلم يكن قادرًا على إدراك أن آل سارازينز سيبيعون بأثمان أرخص منه ويُدمرونه ويقضون على تجارته. كيف يُمكنه أن يُدرك ذلك؟ فلم تكن الأمور تسير بتلك الطريقة في شبابه؛ وجل ما عرفه هو أن الأوقات كانت عصيبة، وأن التِّجارة شديدة «الكساد» وشديدة «البطء» (كان يُكرر هذه العبارات مرارًا وتَكرارًا)، ولكن الأمور ربما «تزدهر عما قريب».

سيكون من الجيد إن كان باستطاعتي أن أقول إنني كنت مصدرَ عون كبيرٍ لأبي في محنته، وإنني وجدت نفسي فجأة أتصرف كالرجال، وأظهرتُ صفاتٍ لم يتوقعها مني أحد، وما إلى هذا، كما يحدث في الروايات الأخلاقية التي كنتَ تقرؤها منذ ثلاثين سنة. أو أقول بدلًا من ذلك إنني أعلنت عن استيائي وألمي الشديد لاضطراري إلى ترك المدرسة، وأن عقلي الشاب الطموح والشغوف بالمعرفة والتهذيب أراد تجنب العمل الميكانيكي عديم الحس الذي كانوا يدفعونني إليه، وما إلى ذلك، كما في الروايات الأخلاقية التي تقرؤها اليوم. ولكن كِلا الادِّعاءَين سيكونان هراءً صريحًا؛ فالحقيقة هي أنني كنت سعيدًا ومتحمسًا لفكرة الذَّهاب إلى العمل، خاصةً عندما علمت أن العجوز جريميت سيُعطيني أجرًا حقيقيًّا، اثنا عشر شلنًا في الأسبوع، ويُمكنني أن أحتفظ منه بأربعة شلنات لنفسي. أسماك الشَّبُّوط الكبيرة في منزل بينفيلد، التي استولَت على تفكيري في الأيام الثلاثة الماضية، تلاشت تمامًا منه، ولم يكن لديَّ اعتراضٌ على ترك المدرسة بضع فصول دراسية مبكرًا. حدث الأمر نفسه مع أولاد آخَرين في مدرستنا؛ إذ كنت دائمًا تجد ذلك الولد الذي «سيذهب» إلى جامعة ريدينج، أو يدرس ليصبح مهندسًا، أو «سيذهب للعمل» في لندن، أو سيترك عائلته ليصبح بحَّارًا؛ وفجأةً بعد إخطاره المدرسة بيومَين يختفي، وبعد ذلك بأسبوعَين تُقابله وهو على دراجته يُوصِّل الخَضراوات. بعد خمس دقائق من إخبار والدي لي أنَّ عليَّ ترْكَ المدرسة، كنتُ أفكر في البدلة الجديدة التي سأرتديها للذهاب إلى العمل؛ وطلبت على الفور «بدلة كبار» بمعطف على الطراز السائد في ذلك الوقت، أعتقد أنهم كانوا يقولون عنه «مِعطفًا مفتوحًا من الأمام». بالطبع صُدم كلٌّ من أمي وأبي، وقالا إنهما «لم يسمعا قط عن شيء كهذا». لسبب ما لم أَسبُرْ أغوارَه جيدًا قط؛ كان الآباء في تلك الأيام يُحاولون دائمًا منع أبنائهم من ارتداء ملابس الكبار قدر الإمكان. وكانت في كل عائلة مُشاجرة قبل أن يحصل الصبي على أول ياقة عالية، أو قبل أن تربط الفتاة شعرها لأعلى.

بذلك تغيرَت دفة الحوار من مشاكل عمل أبي، وانحدر إلى نوع من الجدال المتذمر الطويل، الذي زاد فيه غضب أبي بالتدريج، وأصبح يُكرِّر مرةً تِلو الأخرى — بطريقته المنفعلة حيث كان يتحدث بلهجةِ أبناء الطبقة العاملة عندما يكون غاضبًا — «خلاصة القول، لا يُمكنك ارتداؤه. فلتُخرِجه من رأسك، لا يُمكنك ارتداؤه.» لهذا لم أحصل على المعطف، ولكنني ذهبتُ إلى العمل لأول مرة في بدلة سوداء جاهزة الصُّنع وياقة عريضة، بدَوتُ فيهما أخرقَ وأكبرَ من عُمري. إن أيَّ سوءٍ شعرتُ به تجاه أمرِ العمل برُمتِه كان في الحقيقة نابعًا من ذلك. أما جو فقد كان أكثر أنانيةً مني؛ فقد استشاط غضبًا عندما اضطُرَّ إلى ترك متجرِ الدراجات، وفي الفترةِ القصيرة التي ظلَّ فيها في المنزل، لم يكن يفعل شيئًا سوى التسكُّع، وكان مصدرَ إزعاجٍ ولم يُساعد أبي في أي شيء.

عملت في متجر العجوز جريميت لستِّ سنوات تقريبًا. كان جريميت ذا مظهرٍ جيد؛ فقد كان من كبار السِّن مُنتصِبي القامة ذَوي اللِّحية البيضاء، وهو نسخةٌ أكثرُ ضخامة بعض الشيء من عمي إيزيكيال، وكان كذلك كعمِّي إيزيكيال ليبراليًّا مخلصًا. ولكنه كان أقلَّ ثورةً وأكثرَ احترامًا لدى أبناء البلدة. كان قد عدَّل مواقفه أثناء حرب البوير، وكان عدوًّا لدودًا للنِّقابات العمالية، وقد طرَد أحدَ مساعديه ذات مرة؛ لأنه كان معه صورة لكير هاردي؛ كما كان «منشقًّا عن كنيسة إنجلترا» — في الواقع كان شخصًا مهمًّا، حقًّا، في الكنيسة المعمدانية، المعروفة محليًّا باسم تين تاب — بينما كانت عائلتي «تابعة لكنيسة إنجلترا» في حين كان عمي إيزيكيال غير مؤمن. كان العجوز جريميت عضو مجلس محلي، ومسئولًا في الحزب الليبرالي المحلي. كانت لحيته البيضاء، وحديثه المتصنِّع عن حرية الاعتقاد والرجال الكبار العظماء، ورصيده الكبير في البنك، والصلوات المرتجلة التي قد تَسمعه أحيانًا يُطلِقها عندما تمرُّ بتين تاب، تجعله بعض الشيء يبدو كبقَّال منشقٍّ أسطوري في القصة، التي أتوقَّع أن تكون قد سمعتَ بها من قبل:

«جيمس!»

«نعم يا سيدي!»

«هل وضعت الرمل في السكر؟»

«نعم يا سيدي!»

«هل خفَّفت دبس السكر بالماء؟»

«نعم يا سيدي!»

«إذن، فلتأتِ للصلاة.»

سمعت هذه القصة همسًا في المتجر مراتٍ لا تُحصى. كنا بالفعل نبدأ اليوم بالصلاة قبل فتح الأبواب. لا يعني ذلك أن العجوز جريميت كان يضع الرمل في السكر؛ إذ كان يعلم أن ذلك لن يُفيد، ولكنه كان رجلًا صارمًا في عمله، وكان يُورد كلَّ أغراض البقالة عالية الجودة للوير بينفيلد وما حولها؛ وكان يعمل تحت يده ثلاثةُ مساعدين في المتجر إلى جانب الصبي الذي كان يُرسله في مهمات خارج المتجر، وسائق الشاحنة، وابنته (التي كانت أرملة) التي كانت مسئولةً عن الأمور المالية. كنت أنا صبيَّ المهمات في أول ستة أشهر من عملي معه؛ ثم غادر أحدُ المساعدين كي «يرتقي بحاله» في ريدينج، وانتقلت أنا للعمل في المتجر وارتديت أول مِئْزَر أبيض في حياتي. وهناك تعلمت ربط الطرود، وتعبئة أكياس الزبيب، وطحن البُن، وتقطيع شرائح اللحم المقدَّد والمدخَّن، وسَن السكاكين، ومسح الأرضيات، ونفض الغبار عن البيض دون كسرِه، وبيع السِّلع الرديئة على أنها جيدة، وتنظيف النوافذ، ووزن رطل من الجُبن بمجرد النظر، وفتح صناديق التعبئة، وتقطيع لوح من الزبد إلى أشكال، وتذكر أماكن التخزين، وهو ما كان المهمة الأصعبَ إلى حد كبير. لا أتذكر كثيرًا من التفاصيل عن البقالة كما أتذكر عن الصيد، ولكني أتذكر قدرًا لا بأس به عنها؛ فحتى يومِنا هذا، لا أزال أتذكر كيف أقطع خيطًا بأصابعي، وإذا وضعتني أمام آلة قطع اللحم المقدَّد، فسأعمل عليها أفضلَ مما أعمل على الآلة الكاتبة. يُمكنني أن أسردَ لك بعض النقاط المهمة عن طرق معرفة درجات الشاي الصيني، وطريقة صُنع السَّمن النباتي، ومعرفة متوسط وزن البيضة، وسعر ألف كيس ورقي.

حسنًا، لما يَزيد على خمسِ سنوات كنتُ هكذا؛ صبيًّا نشيطًا بوجه مستدير وورديٍّ وقصير وشعر سمني اللون (الذي لم أعُد أُقصِّره، ولكني كنت أدهنه بعناية وأُصفِّفه للوراء فيما اعتاد الناس على وصفه بالشعر «المهذب».) وكنت أعمل بجدٍّ خلف طاولة البيع في المتجر بمِئْزري الأبيض والقلم الرَّصاص خلف أذني، وأربط أكياس القهوة سريعًا كالبرق، وأُلاحِق الزبائنَ قائلًا: «حاضر يا سيدتي! بالتأكيد يا سيدتي! هل أُحضِر لكِ شيئًا آخر يا سيدتي؟» وذلك في صوت به مع بعض مَعالم من لهجة الطبقة العاملة. كان العجوز جريميت يجعلنا نكدح كثيرًا في العمل؛ فقد كان يوم عملنا إحدى عشرة ساعة، فيما عدا يومَي الخميس والأحد، أما عن أسبوع الكريسماس فقد كان العمل فيه كابوسًا شاقًّا. على الرغم من ذلك، كانت سنواتٍ جيدةً جديرة بتذكُّرها. لا تظنَّ أنه لم تَكُن لديَّ طُموحات؛ فقد علمتُ أنني لن أظلَّ مساعدَ بقَّال مدى الحياة؛ كنت فقط «أتعلَّم المهنة». وفي وقتٍ ما وبطريقة أو بأخرى سيكون معي ما يَكْفي من المال «لأشقَّ طريقي» بنفسي. كان هذا هو تفكيرَ الناس في ذلك الوقت، ولكن تذكَّرْ أن ذلك كان قبل الحرب، وقبل الأزمات والإعانات. كان العالَمُ كبيرًا بما يكفي لِيسَع الجميع؛ وكان بمقدورِ أي أحد «أن يُنشِئ تجارته»، فقد كان دائمًا ثَمة مكانٌ لمتجر آخر. مرَّت السنوات بسرعة؛ ١٩٠٩، ١٩١٠، ١٩١١. ومات الملك إدوارد وصدَرَت الصحف بإطار الحداد الأسود. وافتُتِحَت دارا سينما في وولتن، وانتشرت السيارات أكثرَ في الطرق، وبدأت الحافلات تسير في أنحاء البلاد كافَّة. وطارت طائرة — ذلك الشيء الهش المتهالك الذي يجلس رجلٌ في منتصفه على ما يُشبه الكرسيَّ — أعلى لوير بينفيلد، وخرج أبناء البلدة كلُّهم من منازلهم مُتدافِعين للتلويح لها. وبدأ الناس يقولون على نحوٍ شديد الغموض إن الإمبراطور الألمانيَّ كان يُبالغ في التعظيم من شأن نفسه، و«إنها» (أي الحرب مع ألمانيا) كانت «آتية في وقت ما». ازداد أجري بالتدريج، حتى وصل أخيرًا قبل الحرب مباشرةً إلى ثمانيةٍ وعشرين شلنًا في الأسبوع. كنت أُعطي أمي عشرة شلنات في الأسبوع لشراء الطعام، ولكن فيما بعدُ عندما ساءت الأمور، أصبحتُ أُعطيها خمسة عشر شلنًا، وعلى الرغم من ذلك كنتُ أشعر في ذلك الحين أنني غنيٌّ أكثر من أي وقت آخَر. زاد طول قامتي بمقدار بوصة أخرى، وبدأ شاربي في الظهور، وكنت أرتدي حذاءً بأزرار وقميصًا بياقة طولُها ثلاث بوصات. في أيام الأحد بالكنيسة كنتُ أرتدي بدلةً رماديَّة داكنة أنيقة، وقبَّعة مُستديرةً سوداء، وأضعُ قفازًا أسودَ من جلدِ الكلاب على المقعد بجواري؛ وكنت أبدو في كلِّ ذلك رجلًا محترمًا مثاليًّا؛ لذا، لم يكن فخر أمي بي يسَعُها. ما بين العمل و«التنزُّه» في أيام الخميس والتفكير في الملابس والفتيات، كانت تأتيني نوباتٌ من الطُّموح، وأتخيل نفسي وقد أصبحتُ رجلَ أعمال كبيرًا مثل ليفر أو وليام وايتلي. وما بين سن السادسةَ عشرة والثامنة عشرة، قمتُ بمحاولاتٍ جادَّة من أجل «تحسين مستوى ذكائي» وتطوير أدائي في مجال إدارة الأعمال. وعالجتُ مشكلة إسقاطي لبعض الحروف أثناء الكلام، وتخلَّصتُ من جانبٍ كبير من لهجة أبناء الطبقة العاملة التي كنت أتحدَّث بها. (كانت اللهجاتُ الريفية في وادي التيمز تتلاشى؛ فباستثناء صِبْية المزارع، كان تقريبًا كلُّ مَن وُلِد بعد عام ١٨٩٠ يتحدث بلهجة الطبقة العاملة.) كما أخذت دورة تدريبية بالمراسلة مع أكاديمية ليتلبرنز للتجارة؛ وتعلَّمتُ إمساك الدفاتر والإنجليزية الخاصة بالأعمال، وقرأتُ بجدِّية كتابًا مليئًا بالأحاديث الفارغة الرنَّانة يُسمَّى «فن البيع»؛ وتطورَت مهاراتي الحسابية وحتى خطِّي في الكتابة. وعندما كنتُ في السابعة عشرة، كنت أجلس لوقت متأخِّر من الليل أتدرَّب وكُلي حماس لتحسين خطي على ضوءِ مصباح غاز صغير على طاولة غرفة النوم. في ذلك الوقت، قرأتُ كثيرًا، وكانت معظم قراءاتي لقصصِ الجريمة والمغامرة، وفي بعض الأحيان، كنتُ أقرأ الكتب ذاتَ الغلاف الورقي التي كان يُمرِّرها الشباب في المتجر خُفيةً فيما بينَهم ويَصِفونها بأنها «مثيرة». (كانت ترجماتٍ لأعمال موباسان وبول دي كوك.) ولكن عندما كنتُ في الثامنة عشرة، تحولتُ فجأة إلى شخصٍ رفيع الثقافة؛ إذِ اشتركت في المكتبة المحلية، وبدأت في القراءة بنهمٍ لكتب ماري كوريلي وهول كين وأنتوني هوب. وفي ذلك الوقت تقريبًا، انضممتُ إلى حلقة القراءة الخاصة بلوير بينفيلد، التي كان يرأسُها راعي الكنيسة وكانت تعقد أمسياتها مرةً كل أسبوع طوال فصل الشتاء تحت اسم «النقاش الأدبي»؛ وبضغط من راعي الكنيسة، قرأتُ قليلًا في كتاب «السمسم والزَّنابق»، حتى إنني قرأتُ كذلك لبراونينج.

ومرَّت السنوات بسرعة؛ ١٩١٠، ١٩١١، ١٩١٢. وكانت تجارة أبي تسوء، لم يتدهور بها الحال فجأة، ولكنها كانت تنحدر. لم يَعُد أبي وأمي قط كسابقِ عهدَيهما بعد أن ترك جو المنزل. حدث ذلك بعد وقت ليس بالطويل من ذَهابي إلى العمل لدى جريميت.

كان جو، في الثامنة عشرة من عمره، قد كبر ليُصبح وحشًا قبيحًا؛ فقد كان شابًّا ضخم البنية، أكبر بكثير من باقي أفراد العائلة، وكان عريض الكتفَين برأسٍ كبير ووجهٍ عابس ومخيف وشاربٍ كبير. وعندما كنتَ تبحث عنه ولا تجده في حانةِ جورج، فستجده يتسكَّع أمام مدخل المتجر، ويداه غائرتان في جيبَيه، عابسًا في وجوه المارَّة كما لو كان يُريد ضربَهم، إلا إذا كانوا من الفتَيات. وإذا جاء أحدٌ إلى المتجر، كان يتنحَّى جانبًا فقط بالقدر الذي يسمح للزَّبون أن يدخل، ودون أن يُخرِج يدَيه من جيبَيه كان يصيح بغضب: «أبي! المتجر!» كان هذا أقصى قدرٍ قدمه من المساعدة. وقد قال أبي وأمي بيأس إنهما «لا يعرفان ماذا يفعلان معه»، وكان يُنفق مبالغ كبيرة على شرب الخمر وتدخينه الشرِه. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي، خرج من المنزل ولم نسمع عنه بعد ذلك قط. كان قد فتح دُرْج النقود بالقوة، وأخذ كلَّ المال الذي كان فيه. لحسن الحظِّ لم يكن فيه الكثيرُ من المال؛ فقد كانت ثمانية جنيهات تقريبًا، ولكنها كانت كافيةً للحصول على أرخص تذاكر السفر على متن سفينة متجهة إلى أمريكا؛ فلطالما أراد الذَّهاب إلى أمريكا، وأعتقدُ أنه فعل ذلك على الأرجح، ولكننا لم نعلم ذلك يقينًا. تسبَّب لنا ذلك في فضيحة نوعًا ما في البلدة، وكان التفسير الشائع أن جو قد هرب لأن فتاةً قد حملت منه؛ فقد كانت تعيش في الشارع الذي كان يعيش فيه آل سيمونز فتاة تُدعى سالي تشيفرز وكانت حاملًا، وكان جو على علاقة بها بالتأكيد، ولكن كان كذلك عشرات الفتيان الآخرين على علاقة بها، ولا يعلم أحد مَن يكون والد الطفل. صدَّق كلٌّ من أمي وأبي هذا التفسير؛ وحتى عندما كانا يجلسان وحدهما، كانا يستخدمانه كذريعة كي يعذرا «ابنهما المسكين» على سرقته للجنيهات الثمانية وهروبه. ولم يكونا قادرَين على استيعاب أن جو قد هرب؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يقبل بحياة بسيطة في بلدة ريفية صغيرة، وأنه أراد أن يعيش حياة التسكع والمشاجرات والنساء. لم نسمع عنه مرة أخرى قط. ربما انحرف تمامًا، وربما مات في الحرب، وربما لم يهتم بالكتابة لنا فحسب. لحسن الحظ وُلِد الطفل ميتًا؛ ومِن ثَم لم تكن ثَمة مشاكل. وفيما يتعلق بسرقة جو للجنيهات الثمانية، تمكن أبي وأمي من إخفاء ذلك السر حتى مماتهما؛ فقد كان في عينَيهما فضيحة أكبر من أمر طفل سالي تشيفرز.

أثقلَت مشكلة جو عاتق أبي. لم تُشكل مغادرة جو فقدانًا لشيء لم يكن قد فقده بالفعل، ولكنها جرَحَته وكبَّدَته العار. ومنذ ذلك الحين، زاد الشيب في شاربه وبدأ يتضاءل في الحجم. ربما ذكرياتي عنه، في هيئة الرجل الأشيب الضئيل الحجم بوجهه القلق المستدير والمليء بالتجاعيد ونظارته التي تعلوها الغبار، ترجع في الواقع إلى ذلك الحين. ببطء، ازداد اهتمامه أكثر فأكثر بالأمور المالية، وقل اهتمامه بالتدريج بالأمور الأخرى؛ فأصبح يتحدث أقل عن السياسة وصحف يوم الأحد، وأكثر عن الأوضاع السيئة للتجارة. بدأت أمي كذلك تتضاءل قليلًا في الحجم؛ إذ أتذكر أنها كانت في طفولتي ممتلئةَ البِنية ونشيطة، بشعرها الأصفر ووجهها المتهلل وصدرها الضخم؛ فقد كانت أشبه بمخلوق كبير من هؤلاء الذين تُوضَع تماثيلهم على رءوس البوارج. أما الآن، فقد أصبح جسمها أكثر ضآلة وأصبحت أكثر قلقًا، وبدَت أكبر من عمرها. كما أصبحت أقل هيبة في المطبخ، وباتت تطبخ أعناق الضأن، وتُصاب بالقلق من سعر الفحم، وأصبحت تستخدم السمن النباتي، الشيء الذي لم تكن تسمح بدخوله المنزل قط. بعد أن تركَنا جو، احتاج أبي إلى تعيين صبي مهمات آخر؛ ولكن منذ ذلك الحين، كان يُعين أولادًا في سنٍّ صغيرة جدًّا لمدة عام أو عامَين فقط، فلم يكونوا قادرين على حمل الأشياء الثقيلة. كنت أحيانًا أساعده عندما أكون في المنزل، ولكنني كنت أنانيًّا فلم أكن أفعل ذلك بانتظام. ما زلت يُمكنني رؤيته وهو يشق طريقه ببطء عبر الساحة، ثم ينحني بشدة ويكاد يكون مخفيًّا وهو يحمل أحد الأجولة الضخمة، كحلَزون قابع أسفل صدَفتِه. أتذكر تلك الأجولة الكبيرة والضخمة، التي تزن مائة وخمسين رطلًا على ما أظن، والتي كانت تضغط على عنقه وكتِفَيه حتى كادت تُسقِطهما أرضًا؛ وأتذكر ذلك الوجه القلق ذا النظارة وهو ينظر إلى أعلى من أسفلها. كانت النتيجة هي أنه أُصيب بفتق في عام ١٩١١، وكان عليه أن يقضي عدة أسابيع في المستشفى؛ فعيَّن مديرًا مؤقتًا للمتجر، ما تسبب في خَسارة جزء آخر من رأس ماله. من أكثر الأشياء المرعبة التي قد تُشاهدها هي صاحب متجر وهو يتدهور به الحال، ولكن الأمر لا يكون مفاجئًا وواضحًا مثل أمر العمال الذين يُطرَدون من وظائفهم ويجدون أنفسَهم مرة واحدة عاطلين عن العمل. إن صاحب المتجر تتقطَّع به السبل تدريجيًّا، مع بعض التأرجح صعودًا وهبوطًا؛ فيخسر بعض المال تارة، ويكسب بعضه تارة أخرى. وبعض من كنت تتعامل معهم لعدة سنوات يتخلَّون عنك فجأة ويذهبون إلى آل سارازينز؛ والبعض الآخر يشترون عشرات الدواجن ويطلبون منك الذرة أسبوعيًّا. وبذلك تكون قادرًا على الاستمرار؛ وما زلت «رئيس نفسك»، ولكن دائمًا مع زيادة بعض الشيء في القلق والضعف، وتقلص في رأس مالك على الدوام. يُمكنك الاستمرار على هذا المنوال لسنوات، وربما طوال حياتك إن كنت محظوظًا. مات عمي إيزيكيال عام ١٩١١، وترك ١٢٠ جنيهًا لا بد أنها كانت لها أثر كبير في تغيير أوضاع أبي المالية. ولم يُضطَر أبي إلى رهن وثيقة تأمينه على الحياة حتى عام ١٩١٣، وهو الأمر الذي لم أسمع عنه في ذلك الوقت، أو لم أكن أفهم ما يعنيه. يُمكنني أن أقول إنني لا أعتقد أنني قد استوعبت أكثر من أن أحوال أبي «لا تسير على ما يُرام»، وأن التجارة كانت «كاسدة»، وأنه كان عليَّ الانتظار كثيرًا حتى أحصل على مالٍ يُمكنني به «بدء تِجارتي». وكنت كأبي، أرى المتجر شيئًا دائمًا؛ وكنت أميل بعض الشيء إلى الغضب منه؛ لأنه لم يُدِر الأمور بشكل أفضل. لم أكن أستطيع أن أرى، وكذلك هو أو أي شخص آخر، أنه كان يُحطَّم ببطء، وأن العمل لن يزدهر مرة أخرى أبدًا؛ وأنه حتى إن عاش إلى عمر السبعين، فلا بد أنه سينتهي به الحال في ملجأ للفقراء. مررت أكثر من مرة بمتجر آل سارازينز في السوق، وكنت أفكر ببساطة في مدى إعجابي بنافذتهم الأمامية المصقولة أكثر من نافذة أبي القديمة التي تكسوها الأتربة، واسم «إس بولينج» الذي تصعب قراءته، والكتابة البيضاء المقطعة، وحُزَم حبوب الطيور الباهتة. لم يكن يخطر ببالي أن آل سارازينز هؤلاء كانوا كالديدان الشريطيَّة التي كانت تأكل في لحم أبي حيًّا. كنت أحيانًا أقتبس في حديثي معه سطورًا من التي كنت أقرؤها في كتب الدورات بالمراسلة عن فن البيع والطرق الحديثة، ولكنه لم يُعِرها انتباهًا قط؛ فقد ورث تجارة منشأة منذ القِدَم، ولطالما كان يعمل بجد وأمانة ويبيع السلع الجيدة، ويُردد أن الأمور ستزدهر عما قريب. الحقيقة أن قلةً قليلة من أصحاب المتاجر في تلك الأيام قد انتهى بهم الحال بالفعل في مَلاجئ الفقراء؛ وإن كنتَ محظوظًا، فستموت ولدَيك بضعة جنيهات. كان سباقًا بين الموت والإفلاس، وحمدًا لله أن الموت قد فاز في سباق أبي، وأمي أيضًا.

أقول لك إن الأعوام ١٩١١، ١٩١٢، ١٩١٣ كانت أعوامًا جيدة. في أواخر عام ١٩١٢، وعبر حلقة القراءة التي كان يترأسها راعي الكنسية، قابلت إلسي ووترز لأول مرة. حتى ذلك الحين، كحال بقية الأولاد في البلدة، كنت أُلاحق الفتيات ونادرًا ما تمكنت من التعرف على فتاة و«التنزُّه» معها لعدة مرات فيما بعد ظهيرة أيام الأحد، ولكن لم تكن لي في الحقيقة حبيبة قط. إنه لأمر غريب، أن تُطارد الفتيات وأنت في نحو السادسة عشرة. في أحد الأجزاء المعروفة في البلدة، كان الأولاد يتجولون أزواجًا ذَهابًا وإيابًا لمشاهدة الفتيات؛ وكانت الفتيات يتجولن أزواجًا ذَهابًا وإيابًا مُتظاهرات بأنهن لا يلحظن الأولاد، وسرعان ما يحدث التواصل بينهم بشكل أو بآخر، وبدلًا من التجول أزواجًا، تجد الفِتية والفتَيات يتجولون في مجموعات من أربعة أفراد، لكنهم لا يتحدثون مطلقًا. وكان المَعلَم الأساسي لتلك النزهات، الذي يكون أسوأ في المرة الثانية عندما تذهب في نزهة مع فتاة بمفردكما، هو الفشلَ الرهيب في فتح أي نقاش. ولكن إلسي ووترز بدَت مختلفة. الحقيقة أنني كنت أنضج.

لا أريد أن أُخبرك بقصتي مع إلسي ووترز، حتى إن كان لديَّ أيُّ قصة لأرويَها؛ فلم تكن سوى جزء من المشهد، جزء «من مشهدِ ما قبل الحرب». قبل الحرب كان الطقس دائمًا صيفيًّا، هذا وهم، كما أسلفت وقلت، ولكني هكذا أتذكره. وكانت الطرق البيضاء المليئة بالغبار تمتد بين أشجار الكَسْتناء، وكنت تشم رائحة زهور المنثور، وترى البِرَك الخضراء أسفل أشجار الصَّفصاف، وتشعر برذاذ ماء بورفورد وير، هذا ما أراه عندما أغمض عينَيَّ وأُفكر في وقت «ما قبل الحرب»، الذي قرب نهايته كانت إلسي ووترز جزءًا منه.

لا أعلم إذا ما كانت إلسي جميلة الآن، ولكنها كانت كذلك فيما مضى. كانت فتاة طويلة، في مثل طولي تقريبًا؛ وكان شعرها ذهبيًّا فاتحًا وكثيفًا، وكانت تلفه فيما يُشبه الضفيرة حول رأسها، وكان لها وجه ناعم ووديع على نحو غريب. كانت من هؤلاء الفتيات اللاتي يَبْدون في أفضل طلاتهن عندما يرتدين اللون الأسود، خاصةً تلك الفساتين السوداء شديدة البساطة التي كانوا يجعلونهن يرتدينها في متاجر الأقمشة؛ فقد كانت تعمل في محل ليلي وايت للأقمشة، على الرغم من أنها في الأصل من لندن. أظن أنها كانت أكبر مني بعامَين.

أنا ممتنٌّ لإلسي؛ لأنها كانت أول شخص علمني كيف أهتم بامرأة؛ ولا أعني الاهتمام بالنساء في العموم، بل أعني بامرأة بعينها. قابلتُها في حلقة القراءة وبالكاد لاحظتها، ثم في يوم من الأيام ذهبت إلى متجر ليلي وايت في ساعات عملي، وهو الشيء الذي لم أكن عادةً أستطيع فعله، ولكن ما حدث هو أننا كان قد نَفِد منا قماش الموسلين الذي نستخدمه في لف الزبد فأرسلني العجوز جريميت لشراء بعضه. تعلم تلك الأجواء التي تكون في متاجر الأقمشة، إذ تكون أنثوية بامتياز؛ حيث الشعور بالهدوء، والضوء الخافت، ورائحة الملابس المنعشة، والطَّنين الخفيف لكرات النقود الخشبية التي تدور ذَهابًا وإيابًا. كانت إلسي متكئة على طاولة البيع تقص قطعة من القماش بالمقص الكبير. كان ثمة شيء في فستانها الأسود وانحناء ثديَيها على طاولة البيع، لا يُمكنني وصفه، ولكني أراه شيئًا ناعمًا وأنثويًّا على نحو غريب. وبمجرد أن تراها ستعلم أنه بإمكانك ضمُّها بين ذراعَيك، وأن تفعل أي شيء تريده معها. كانت حقًّا فائقة الأنوثة، وشديدة الرقة، وشديدة الاستكانة؛ ذلك النوع من النساء اللاتي يفعلن دائمًا ما يقوله الرجال لهن، على الرغم من أنها لم تكن صغيرة أو ضعيفة. ولم تكن كذلك غبية؛ فقط كانت شديدة الهدوء وفي بعض الأحيان مهذَّبة بشدة. غير أنني نفسي كنت مهذبًا في تلك الأيام.

كنا نعيش معًا لمدة عام تقريبًا. بالطبع في بلدة كلوير بينفيلد، لا يُمكنك القول إنك تعيش مع فتاة إلا على سبيل المجاز. كنا رسميًّا «نتنزَّه» معًا، وهو ما كان تقليدًا متعارفًا عليه ولكنه لم يكن كما لو أننا مخطوبان. وكان ثمة شارع يتفرع من الطريق المؤدي إلى أبر بينفيلد، ويخرج إلى أسفل حافة التلال. كان له امتداد طويل، قرابة الميل، وكان مستقيمًا نوعًا ما ومحاطًا بأشجار الكَسْتناء الهندي الضخمة؛ وعلى العشب على الجانب، كان ثمة ممرٌّ للمشاة أسفل الأغصان يُعرَف باسم زقاق العشاق. اعتدنا على الذهاب هناك في المساء في شهر مايو، عندما تكون أشجار الكستناء مزهرة. ثم كانت تأتي بعد ذلك الليالي القصيرة، وكانت السماء تكون مضاءة لساعات بعد انتهائنا من العمل. أتعرف شعور المساء في شهر يونيو؟! ذلك الشفَق الأزرق المستمر، والهواء الذي يُداعب وجهك بنعومة كالحرير. أحيانًا في أيام الأحد فيما بعد الظهيرة، كنا نصعد تل تشامفورد، ثم ننزل إلى المروج المجاورة للمياه بمحاذاة نهر التيمز. عام ١٩١٣! يا إلهي! يا له من عام! الهدوء، والماء الأخضر، واندفاع ماء بورفورد وير! لن تتكرر تلك الأشياء مرة أخرى. لا أعني أن سنة ١٩١٣ لن تتكرر ثانيةً، ولكن أعني ذلك الشعور الذي بداخلك؛ ذلك الشعور بعدم العجَلة وعدم الخوف، ذلك الإحساس الذي تشعر به، ولا تحتاج إلى من يُخبرك به أو لا تشعر به، ولم تتسنَّ الفرصة قط لتعلُّمه.

لم نبدأ فيما يُمكن أن يُطلَق عليه العيش معًا إلا في أواخر الصيف؛ إذ كنت شديد الخجل والبلاهة فلم أستطع بدء الأمر، وكنت شديد الجهل فلم أكن أُدرك وجود رجال قبلي في حياتها. بعد ظهيرة أحد أيام الأحد، ذهبنا إلى غابة أشجار الزان حول أبر بينفيلد؛ حيث يُمكنك دائمًا بالأعلى الاستمتاع بالوحدة. وقد كنت أُريدها بشدة، وأعلم جيدًا أنها كانت تنتظرني أن أبدأ. شيء، لا أعلم ما هو، جعلني أذهب إلى أراضي منزل بينفيلد؛ حيث العجوز هودجز، الذي كان قد تجاوز السبعين من عمره وأصبح سريعَ الغضب جدًّا؛ فقد كان يُمكنه أن يطردنا، ولكنه ربما كان ينام فيما بعد ظهيرة يوم الأحد. تسحَّبنا عبر فتحة في السياج، ونزلنا إلى الممشى بين أشجار الزان حتى وصلنا إلى البركة الكبيرة. كانت قد مرت أربع سنوات أو أكثر منذ مروري بهذا الطريق آخر مرة، ولم أجد أن شيئًا قد تغير؛ فما زالت العزلة التامة، والشعور الخفي النابع من عِظم الأشجار من حولك، ومصفِّ القوارب القديم البالي بين الأعشاب المائية. استلقينا في التجويف العُشبي الصغير بجوار النَّعناع البري، وكنا وحدنا تمامًا كما لو أننا في وسط أفريقيا. قبَّلتها كثيرًا، ثم نهضت وأردت المشي مرة أخرى. كانت رغبتي فيها عارمة، وأردت أن أُقدم على الأمر، ولكنني كنت خائفًا بعض الشيء. ومن المثير للدهشة أنه كانت ثمة فكرة أخرى في رأسي في الوقت نفسِه؛ فقد تذكرت فجأة أنني لسنوات كنت قد نويت العودة إلى ذلك المكان، ولكنني لم أعد قط. والآن وقد أصبحت قريبًا جدًّا منه، بدا من المؤسف ألا أنزل إلى البركة الأخرى وأُلقي نظرة على أسماك الشَّبُّوط الكبيرة. شعرت أنني سأندم بعد ذلك إن أضعت الفرصة، وفكرت في الواقع في السبب الذي منعني من الرجوع من قبل. كانت أسماك الشَّبُّوط في ذهني دائمًا، ولم يعلم بأمرها أحد سواي، وكنت سأذهب لاصطيادها في وقت ما؛ فقد كانت في الواقع أسماكي أنا. وبدأت بالفعل أتجول حول الضفة في ذلك الاتجاه؛ ثم بعدما ذهبت لمسافة ما يقرب من عشر ياردات، تراجعت؛ فقد كان الأمر يتطلب أن تشق طريقك عبر ما يُشبه الغابة من أشجار العُلَّيق والأغصان المقطوعة المتعفنة، وكنت أرتدي أفضل ملابسي التي أرتديها يوم الأحد؛ بدلة رمادية داكنة، وقبعة مستديرة سوداء، وحذاء بأزرار، وياقة تكاد تقطع أذني؛ هكذا كان الناس يرتدون في نزهات ما بعد ظهيرة يوم الأحد في تلك الأيام. إضافة إلى أنني كنت أُريد بشدة إلسي؛ فرجعت ونظرت إليها لبرهة. كانت مستلقية على العُشب وذراعها على وجهها، ولم تتحرك عندما سمعتني وأنا آتٍ إليها. وكانت تبدو في فستانها الأسود — لا أعلم كيف — ناعمة ومستسلمة، كما لو أن جسدها كان شيئًا مرنًا يُمكنك أن تفعل به ما تشاء. كانت لي وكان بإمكاني أن أنعم بها في تلك اللحظة إن أردت. وفجأة، لم أعد خائفًا، ورميت بقبعتي على العُشب (أتذكر أنها تأرجحت قليلًا)، ثم جثَوت وأمسكت بها. يُمكنني حتى الآن أن أشم رائحة النعناع البري. كانت تلك مرَّتي الأولى، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لها؛ ولم نُفسِد الأمر كما قد تتوقع. وانتهى الأمر على ذلك. تلاشت أسماك الشَّبُّوط الكبيرة من ذهني، ولسنوات بعد ذلك في الواقع بالكاد فكرت فيها.

وتوالت السنوات، ١٩١٣، ثم ١٩١٤، ثم جاء ربيع ١٩١٤ حيث أزهرت الأشجار؛ البرقوق الشائك، ثم الزُّعرور البري، ثم الكستناء. أتذكر أيام الأحد فيما بعد الظهيرة عبر مسار جرِّ القوارب، والرياح تُرفرف على أحواض السَّمار، فتتمايل أغصانه معًا في كُتَل كثيفة ومهيبة تبدو بعض الشيء كشعور النساء حين تُداعبها الرياح. وأتذكر كذلك أمسيات شهر يونيو الطويلة، والممشى أسفل أشجار الكستناء، والبومة التي تنعق في مكانٍ ما وجسد إلسي بجانبي. أتذكر كذلك شهر يوليو الذي كان شديد الحرارة في ذلك العام، والعرق الذي كنا نتصبَّبه في المتجر، ورائحة الجبن والقهوة! وأتذكر حينها نسيم المساء العليل بالخارج، ورائحة زهور المنثور وتبغ الغلايين في الممر خلف المزارع، ومواطئ الأقدام حيث الغبار الرَّطْب، وطيور السُّبَد التي تحوم حول الخنافس الكبيرة.

يا إلهي! ما المغزى من أن نقول إن المرء عليه ألا يكون عاطفيًّا عند التفكير في فترة «ما قبل الحرب»؟ تلك الأيام تجعلني عاطفيًّا، وكذلك تجعلك إن تذكرتها. صحيح أنك إن أعدت النظر إلى أي فترة زمنية معينة، فستميل إلى تذكر اللحظات السعيدة؛ ينطبق الأمر نفسه حتى على أيام الحرب؛ لكن من الصحيح كذلك أن الناس في تلك الأيام كان لديهم ما ليس لدينا الآن.

أعلم أنك تسأل الآن عما كان لديهم وليس لدينا. إنهم ببساطة لم يكونوا ينظرون في المستقبل باعتباره شيئًا يخافون منه. لا يعني ذلك أن الحياة كانت أكثر رغدًا مما هي عليه الآن، بل كانت في الواقع أكثر قسوة؛ إذ كان الناس إجمالًا يبذلون جهدًا أكبر في أعمالهم، ويعيشون في مستويات أقل راحة، ويموتون بآلام أبرح. كانت الأيدي العاملة في المزارع تعمل لساعات طويلة مقابل أربعة عشر شلنًا في الأسبوع، وينتهي بهم الحال وقد أصابهم العجز والاهتراء بمعاش تقاعُد قدره خمسة شلنات، وقد يتحصلون على شلنَين ونصف الشلن في بعض الأحيان من الأبرشية. أما ما كان يُعرَف بالفقر «المحترم»، فقد كان أسوأ؛ فعندما «أفلس» واتسون القصير — وقد كان تاجر أقمشة صغير في الطرف الآخر من هاي إستريت — بعد سنوات من الصراع، كانت أصوله الشخصية جنيهَين وتسعة شلنات وستة بنسات؛ ومات تقريبًا فور إصابته بما كانوا يقولون عنه «مشاكل في المعدة»، ولكن الطبيب أعلن أن سبب الوفاة كان الجوع؛ لكنه جاهد حتى النهاية. أما العجوز كريمب، مساعد صانع الساعات الذي كان ماهرًا في عمله ومكث فيه سنوات الصبا والرجولة التي استمرَّت لخمسين سنة، فقد أُصيب بإعتامٍ في عدسة العين واضطُرَّ إلى الذَّهاب إلى ملجأ الفقراء. وكان أحفاده يبكون في الشوارع عندما أخذوه، وعملت زوجته خادمة في المنازل، وبعد جهود يائسة تمكَّنَت من أن تُرسل إليه شلنًا في الأسبوع لمصروف جيبه. كنت ترى أشياءً مروعة تحدث في بعض الأحيان. فالأعمال الصغيرة تتدهور أحوالها؛ والتجار المستقرون يتحولون تدريجيًّا إلى مفلسين محطَّمين؛ والناس تموت بآلام السرطان وأمراض الكبد المبرحة، والأزواج السُّكارى يعدون زوجاتهم كل يوم إثنين أنهم سيُقلعون عن الشراب، وينقضون عهدهم كل يوم سبت؛ والفتيات يُحطمن حياتهن بإنجاب الأطفال غير الشرعيِّين. كانت المنازل بلا حمامات؛ والجليد يملأ أحواض الغسيل في الشتاء فتُضطَر كلَّ صباح إلى تكسيره؛ ورائحة الشوارع الخلفية كالقبر في الأيام الحارة؛ وكانت المقابر في وسط البلدة؛ فلا يمر يومٌ دون أن تتذكر مصيرك. ولكن ما الذي كان لدى الناس في تلك الأيام؟ إنه الشعور بالأمان، حتى عندما لا يكونوا في أمان. بالتحديد، كان شعورًا بالاستمرارية؛ فكلٌّ منهم كان يعلم أنه سيموت، وأظن أن بعضهم كان يعلم أنه سيُفلِس، ولكن ما لم يكونوا يعلمونه هو أن وتيرة الأمور يُمكن أن تتغير. ومهما قد يحدث لهم، ستستمر الأمور كما عرَفوها. لا أعتقد أنه مما أحدث فارقًا كبيرًا أن ما يُطلَق عليه الإيمان الديني كان ما زال سائدًا في تلك الأيام. صحيح أن الجميع تقريبًا كانوا يذهبون إلى الكنيسة، على الأقل في الريف — كنت أنا وإلسي نذهب إلى الكنيسة بطبيعة الحال، حتى عندما كنا نفعل ما يصفه راعي الكنيسة بالخطيئة — وإذا سألت الناس عما إذا كانوا يُؤمنون بالحياة بعد الموت، كانوا يُجيبون عادةً بالإيجاب. ولكنني لم أُقابل أحدًا قط أعطاني انطباعًا بأنه يُؤمن حقًّا بالحياة الآخرة. وأعتقد أن الناس، على الأغلب، لا يتعدى إيمانهم في مثل تلك الأشياء إيمان الأطفال ببابا نويل. لكن في فترات الاستقرار، تلك الفترات التي تبدو فيها الحضارة قائمة على أرجلها الأربع كالأفيال، لا تعني أمور كالحياة الآخرة شيئًا لدى الناس. من السهل أن تموت إن كانت الأشياء التي تهتم بها ستبقى؛ فقد عشت حياتك، وأصبحت متعبًا، وحان الوقت للذهاب تحت التراب، هكذا اعتاد الناس رؤية الأمر. كانت حياتهم تنتهي على المستوى الشخصي، ولكن أسلوب حياتهم مستمر؛ خيرهم وشرهم سيبقى خيرًا وشرًّا. ولم يشعروا بأن الأرض التي كانوا يقفون عليها تتغير تحت أرجلهم.

كان أبي يُفلس، ولكنه لم يعلم ذلك. وكل ما كان يراه هو أن الأوقات عصيبة للغاية، وأن التجارة تتضاءل أكثر فأكثر، وأن فواتيره أصبحت أصعب فأصعب في السداد. حمدًا لله أنه لم يعلم قط أنه قد تدمر، ولم يُفلِس بالفعل قط؛ لأنه مات فجأة (وكان ذلك جراء إصابته بالإنفلونزا التي تطورت إلى التهاب رئوي) في بداية عام ١٩١٥. كان يعتقد حتى النهاية أنه بالادخار، والعمل الجاد، والعدل في المعاملات لا يُمكن للمرء أن يُصاب بشر. ولا بد أن هناك العديد من أصحاب المتاجر الصغيرة الذين كان لديهم مثل ذلك الاعتقاد، الذي أدى بهم ليس فقط إلى الموت مفلسين، ولكن حتى إلى الاضطرار إلى الذَّهاب إلى ملجأ الفقراء. وحتى لوفجروف السُّروجي، الذي كان يُشاهد السيارات والشاحنات تمر أمام عينَيه، لم يُدرك أنه قد انتهى به الحال كحيوان وحيد القرن المشرف على الانقراض. وأمي أيضًا؛ أمي لم يُمهلها القدَرُ لتعرف أن الحياة التي تربت من أجل أن تعيشها — حياة ابنه صاحب المتجر المحترم الذي يخاف الله وزوجة صاحب المتجر المحترم الذي يخشى الله في عصر الملكة الصالحة فيكتوريا — كانت قد انتهت بلا رجعة. الأيام كانت صعبة والتجارة في كساد، وكان أبي قلقًا وكل شيء كان «متفاقمًا»، ولكنك كنت تستمر في طريقك كالعادة. نظام الحياة الإنجليزية القديمة لا يُمكن أن يتغير؛ فدائمًا وأبدًا كانت تُعِد المرأة المحترمة التقية بودينج يوركشاير ومعجنات الدامبلنج بالتفاح في أفران الفحم الضخمة، وترتدي ملابس تحتية من الصوف، وتنام على الريش، وتصنع مربَّى البرقوق في شهر يوليو والمخللات في أكتوبر، وتقرأ مجلة «هيلداس هوم كومبانيون» في فترة ما بعد الظهيرة، والذباب يطنُّ حولها، في عالم خفي صغير ومريح من نوع ما حيث الشاي المغلي والساقان المتعبتان والنهايات السعيدة. لا أقول إن أيًّا من أبي أو أمي لم يتغيرا حتى النهاية؛ فقد اعترَتْهما لحظات من التذبذب وقليل من الإحباط، ولكن على الأقل لم يعيشا ليعلما أن كل شيء كانا يعتقدان فيه قد أكَل عليه الدهرُ وشَرب. كانا يعيشان في نهاية عهد، حيث يتبدد كل شيء في نوع من التغيير المريع، ولكنهما لم يعلما عن ذلك شيئًا؛ فقد ظنا أن عالمَهما خالد. إنك لا تستطيع لومهما؛ فقد كان ذلك ما شعرا به تجاهه.

أتت بعد ذلك أواخر شهر يوليو، وحتى بلدة لوير بينفيلد قد استوعبت حدوث تلك الأمور. ولعدة أيام، كانت ثمة ضجة عارمة وغامضة ومقالات رئيسية لا نهاية لها في الصحف، التي جلبها أبي في الواقع من المتجر لقراءتها بصوت عالٍ على أمي، ثم تفاجأنا بالملصقات في كل مكان:

ألمانيا تُنذر. فرنسا تستعد للقتال.

لعدة أيام (أربعة أيام، على ما أتذكر؛ فقد نسيت التواريخ الدقيقة) ساد شعور غريب بالاختناق، نوع من الانتظار الحَذِر، كاللحظة التي تسبق ضرب العاصفة، كما لو أن إنجلترا كلها كانت صامتة وتستمع. وأتذكر أن الجو كان شديد الحرارة. وكنا كما لو أننا لا يُمكننا العمل في المتجر، على الرغم من أن الجميع في الحي ممن يدَّخرون خمسة جنيهات كانوا يتزاحمون على شراء كميات من المواد المعلبة والطحين والشوفان. كان الوضع كما لو أننا قد أصابتنا حمى شديدة جعلتنا غير قادرين على العمل، فكنا نتصبب العرق ونترقب الأوضاع. في مساء تلك الأيام، كان الناس يذهبون إلى محطة السكة الحديدية ويتصارعون كالشياطين على الصحف المسائية التي كانت تصل في قطار لندن. ثم في فترة ما بعد ظهيرة أحد الأيام، أتى صبي مندفعًا إلى هاي إستريت ومعه صحف مِلء ذراعَيه، وخرج الناس إلى عتبات بيوتهم للصياح في الشارع. كان الجميع يصيح قائلًا: «لقد دخلنا الحرب! لقد دخلنا الحرب!» أخذ الصبي قصاصة من الحُزمة التي كانت معه ولصَقَها على واجهة المتجر المقابل:

إنجلترا تُعلن الحرب على ألمانيا.

اندفعنا كلنا إلى الرصيف — المساعدون الثلاثة — وهللنا. كان الجميع يهتف مهللًا. أجل، كنا نُهلِّل. ولكن العجوز جريميت، على الرغم من أنه استفاد بالفعل من حالة الفزع من الحرب، كان لا يزال يحمل بعضًا من مبادئه الليبرالية؛ وأعلن أنه «ضد الحرب» قائلًا إنها ستكون صفقة فاسدة.

بعد شهرَين، التحقت بالجيش. وبعد ذلك بسبعة أشهر، كنت في فرنسا.

٨

لم أُصَب وأنا في الجيش إلَّا في أواخر عام ١٩١٦.

كنا قد خرجنا لتوِّنا من الخنادق ونسير راجعين في طريقٍ يصل طوله إلى نحو الميل، وكان يُفترَض أنه آمن؛ ولكن الألمان لا بد أنهم قد اكتشفوه في وقت ما قبلنا. وفجأة، بدَءوا في إطلاق بعض القذائف — التي كانت من النوع الثقيل شديد الانفجار — علينا، وكانوا يُلقون قذيفة كلَّ دقيقة. كان هناك صوتُ الدَّوي المعتاد، ثم الانفجار في مكانٍ ما في الميدان على ناحية اليمين. أعتقد أن القذيفة الثالثة هي التي أصابتني؛ وقد عرَفتُ بمجرد أن سمعت صوتها وهي آتية أن اسمي مكتوبٌ عليها. يقولون إن المرء يشعر باقتراب حلول مصائبه دائمًا. لكن القذيفة لم تكن تقول ما تقوله القذائف العادية؛ بل قالت: «لقد جئت من أجلك أيها الوغد، أنت، أنت أيها الوغد، أنت!» حدث كل ذلك فيما يقرب من ثلاث ثوانٍ، وآخر ما حدث كان الانفجار.

شعرت كما لو أن يدًا هائلة من الهواء قد جرفتني معها؛ فسقطتُ في الحال وأنا أشعر بشيء من الانكسار والغضب بين العديد من العلب المعدنية القديمة، والشظايا الخشبية، والأسلاك الشائكة الصَّدِئة، والرَّوث، وعَبْوات الرصاص والمتفجرات الفارغة، وغيرها من القاذورات في الخندق على جانب الطريق. عندما انتشلوني وأزالوا عني بعض الأوساخ، وجدوا أنني لم أُصَب بإصابات بالغة؛ فلم تكن سوى عدة شظايا قذائف صغيرة غُرِزت في أحد رِدفَيَّ وفي الجزء الخلفي من الساقَين، ولكن لحسن حظي كانت إحدى ضلوعي قد انكسرت أثناء سقوطي، ما جعل الأمر خطيرًا بما يكفي كي أرجع إلى إنجلترا. قضيت ذلك الشتاء في مستشفًى ميداني في تلال قرب إيستبورن.

هل تتذكر تلك المستشفيات الميدانية التي كانت في زمن الحرب؟ تلك الصفوف الطويلة من الأكواخ الخشبية التي تُشبه عشش الدواجن المُتراصة أعلى تلك التلال الثلجية الموحشة — «الساحل الجنوبي»، كما اعتاد أن يُطلِق عليه الناس، ما جعلني أتساءل عن شكل الساحل الشمالي — حيث يبدو أن الرياح تهب عليك من كل اتجاه في نفس الوقت، ومجموعات الرجال الذين كانوا يرتدون البدلات من قماش الفلانيلَّة الأزرق الباهت وربطات العنق الحمراء، ويتجوَّلون ذَهابًا وإيابًا باحثين عن مكانٍ بعيد عن الرياح، ولا يجدون قط. في بعض الأحيان، كان الأطفال من مدارس الأولاد عاليةِ الطِّراز في إيستبورن يُرسَلون في طوابير لتوزيع السجائر وحلوى النَّعناع على «الجرحى من التومي»، كما كانوا يُطلِقون علينا. كان يقترب طفلٌ ذو وجه ورديٍّ في سن الثامنة تقريبًا من مجموعةٍ من الرجال الجرحى الجالسين على العُشب، ويشقُّ علبةً من سجائر ماركة وودباين ليفتحها، وبجدِّية شديدة يُعطي كل رجل سيجارة واحدة، تمامًا كما لو كان يُطعِم قرودًا في حديقة الحيوان. وكان أي أحد يملك ما يكفي من القوة ليتجول مسافة أميال في التلال على أمل أن يُقابل أي فتيات؛ ولكن لم يكن ثَمة عددٌ كافٍ من الفتيات لملاحقتهن. في الوادي أسفل المستشفى، كان ما يُشبه الأيكة؛ وقبل الغسَق بكثير، كنت ترى رجلًا وامرأة ملتصقَين أمام كل شجرة؛ وأحيانًا، إذا وجدتَ شجرة سميكة الجذع، تجد رجلًا وامرأة على كل جانب منها. أكثر ما أتذكره عن ذلك الوقت هو الجلوس قُبالةَ شجيرة جولق أثناء هبوب الرياح المجمدة، حيث تكون أصابعي شديدة البرودة لدرجة أنني لم أكن أستطيع ثنْيَها، وطعم حلوى النَّعناع في فمي. هذه هي ذكريات الجنود المعتادة؛ ولكنني كنت أبتعد عن حياة «التومي» على الرغم من ذلك. أرسل قائد السرية اسمي للحصول على رتبة ضابط قبل إصابتي بفترة وجيزة؛ وفي ذلك الوقت، كانوا في أشدِّ الحاجة إلى الضباط، وأي شخص كان بإمكانه أن يَحصل على رتبة ضابط إن أراد، ما لم يكن في الواقع أمِّيًّا. ذهبت على الفور من المستشفى إلى معسكر لتدريب الضباط بالقرب من كولتشيستر.

غريبٌ للغاية ما فعلَته الحربُ بالناس؛ فقبل أقل من ثلاثة أعوام منذ كنتُ بائعًا بمتجر نشيطًا ورشيقًا أقف إلى طاولة البيع في مئزري الأبيض وأقول: «أجل يا سيدتي! بالطبع يا سيدتي! هل أُحضر لكِ شيئًا آخر يا سيدتي؟» حيث كانت حياة البقالة أمامي، وكانت فكرة أن أصبح ضابطًا في الجيش تُعادل حصولي على لقب فارس. وها أنا مختال بقبعتي الرائعة وياقتي الصفراء، وأُؤدِّي واجبي بشكلٍ أو بآخر بين حشد من أفراد الخدمة المؤقتة الآخَرين وبعض ممَّن لم يكونوا مؤقَّتين كذلك. وهذا هو بيت القصيد: وهو عدم شعوري بالغرابة بأي شكل؛ إذ لم يَبدُ شيئًا غريبًا في تلك الأيام.

كان الأمر كما لو أن آلة ضخمة تتحكَّم فيك بالكامل، فلم يكن لديك شعور بالإرادة الحرة، وفي الوقت نفسه لم يكن لديك رغبةٌ في محاولة المقاومة. لو لم يكن لدى الناس بعض من مثل هذا الشعور، فلم يكن لحرب أن تستمرَّ لثلاثة أشهر؛ إذ سيَحمل الجنود عتادهم ويَرحلون إلى بلادهم. لماذا انضمَمتُ للجيش؟ ولماذا انضمَّ إليه ملايينُ الحمقى الآخرين قبل فرض التجنيد الإجباري؟ انضممنا للمتعة من جهة، ومن جهة أخرى من أجل إنجلترا، إنجلترا وطني والإنجليز وكل تلك الأمور. ولكن إلى متى استمر ذلك؟ معظم الشباب الذين عرَفتُهم كانوا قد نَسُوا كل هذا قبل وقت طويل من وصولهم إلى فرنسا. الرجال في الخنادق لم يكونوا وطنيِّين، ولم يكرهوا القيصر، ولم يهتمُّوا قِيدَ أنملة ببلجيكا الصغيرة النبيلة والألمان الذين كانوا يغتصبون الراهبات على الطاولات (كانوا يغتصبونهن دائمًا «على الطاولات»، كما لو أن ذلك سيزيد الأمر سوءًا) في شوارع بروكسل؛ ولكنَّهم لم يُحاوِلوا الهرَب. لقد كانت الآلة المسيطرة تتحكم فيك، ويُمكنها أن تفعل بك ما يحلو لها؛ ترفعك لأعلى وتهبط بك لأسفل بين أماكن وأشياء لم تحلم يومًا بها؛ وإن أوقعت بك على سطح القمر، فلن يبدو الأمر غريبًا. انتهت حياتي القديمة في اليوم الذي انضممت فيه للجيش؛ فقد كان الأمر كما لو أنها لم تَعُد تعنيني. هل تُصدق أنني منذ ذلك اليوم لم أذهب إلى لوير بينفيلد سوى مرة واحدة، وكان ذلك لأحضر جنازة أمي؟ يبدو الأمر لا يُصدَّق الآن، ولكنه بدا طبيعيًّا جدًّا في ذلك الوقت. أعترف أن جزءًا من ذلك كان بسبب إلسي، التي توقفتُ بالطبع عن الكتابة لها بعد شهرَين أو ثلاثة. لا شك أنها قد تعرفت على شخص آخر، ولكنني لم أكن أرغب في مقابلتها. وبعيدًا عن ذلك، ربما، لو تمكنتُ من الحصول على إجازة، لكنت قد ذهبت لرؤية أمي، التي أصابتها نوبات المرض عندما انضممتُ إلى الجيش، وكانت ستكون فخورة بابنها في زيِّه العسكري.

تُوفِّي أبي عام ١٩١٥، وكنت في ذلك الوقت في فرنسا. لا أُبالغ عندما أقول إن موت أبي يُؤلمني الآن أكثر مما آلمني في وقت موته؛ ففي ذلك الوقت، كان الأمر مجردَ خبر سيِّئ تقبَّلتُه تقريبًا دونما اهتمام، بنوع من تبلُّد الحس، كما يتقبل المرء كل شيء في الجيش. أتذكر الزحف نحو بوابة المخبأ للحصول على ضوء كافٍ لقراءة الخطاب، وأتذكر آثار دموع أمي في الخطاب، والإحساس بالألم الذي كنت أشعر به في ركبتَيَّ ورائحة الوحل. كانت وثيقة التأمين على الحياة الخاصة بأبي مرهونةً بأغلب قيمتها، ولكنه كان لديه قدر ضئيل من المال في البنك، وكان آل سارازينز سيشترون المخزون ويدفعون مبلغًا صغيرًا؛ تقديرًا منهم لسُمعة أبي التِّجارية. على أي حال، كانت أمي تمتلك ما يزيد على مائتَي جنيه إلى جانب أثاث المنزل. وذهبَت للعيش مؤقتًا مع إحدى قريباتها، وهي زوجة أحد صغار الملاك الذي كان حاله جيدًا في وقت الحرب، وذلك قرب دوكسلي على بُعد بضعة أميال على الجانب الآخر من وولتن. كان ذلك «وضعًا مؤقتًا» فقط؛ فقد كان ثمة شعور مؤقت تجاه كل شيء. إن كان ذلك قد حدث في الأيام الماضية، التي تكاد لا تتعدى في الواقع عامًا واحدًا، لكان الأمر سيبدو كارثة مرعبة؛ فمع وفاة الأب وبيع المتجر وعدم امتلاك الأم إلا لمائتَي جنيه، كنتَ سترى أمامك على نحوٍ ما مسرحيةً تراجيدية ممتدَّة على مدى خمسة عشر مشهدًا، آخرها جنازة الفقير. ولكن الآن الحرب والشعور بأن المرء لا يملك نفسه قد ألقيا بظلالهما على كل شيء؛ فلم يعد الناس يُفكرون في أشياء كالإفلاس وملجأ الفقراء. كان هذا هو الوضع حتى مع أمي، التي يعلم الله أنها كانت لديها أفكار شديدة الغموض حول الحرب؛ إضافة إلى أنها كانت في أواخر أيامها بالفعل، على الرغم من أن أحدًا منا لم يكن يعلم ذلك.

أتت لرؤيتي في المستشفى بإيستبورن، وكان ذلك بعد ما يزيد على عامَين من رؤيتي لها آخر مرة، وقد صدمني شكلها بعض الشيء حين رأيتها؛ فقد بدت شاحبة وتقلَّص حجمها قليلًا. كان ذلك من ناحية لأنني في ذلك الوقت كنت قد كبرت وسافرت، وبدا كل شيء أصغر في عيني، ولكن لا شك أنها أصبحت أنحف، وكذلك أكثر شحوبًا. حدثتني بطريقتها الهائمة القديمة عن العمة مارثا (القريبة التي أقامت عندها)، والتغييرات التي حلت بلوير بينفيلد منذ اندلاع الحرب، وجميع الصبية الذين «رحلوا» (أي انضمُّوا للجيش)، وعسر الهضم الذي كان يُصيبها والذي كان «متفاقمًا»، وشاهد مقبرة أبي المسكين وجثمانه الجميل. كان كلامها القديم نفسه، الكلام الذي كنت أسمعه لسنوات، ولكنه أصبح بشكل ما ككلام شبح؛ فلم يَعُد يُهِمني كما كان في السابق. لطالما عرَفت أمي كائنًا طيبًا ومُراعيًا ومذهلًا ورائعًا، كتمثال من تلك التماثيل التي يضعونها في مقدمة السفن، وكدجاجة حاضنة لأفراخها، وفي نهاية المطاف أصبحت امرأة ضئيلة الحجم في فستان أسود. كل شيء كان يتغيَّر ويزداد شحوبًا. وكانت تلك آخر مرة أراها على قيد الحياة. وصلتني برقية تقول إنها كانت مريضة بشدة عندما كنت في مدرسة التدريب في كولتشيستر، وتقدمت على الفور للحصول على إجازة لمدة أسبوع؛ ولكن كان الأوان قد فات، إذ ماتت في الوقت الذي كنت فيه في دوكسلي. ما تخيلته هي وأي شخص آخر أنه كان عسر هضم كان نوعًا من الأورام الداخلية، وقد قضت عليها ارتجافةٌ مفاجئة في المعدة. حاول الطبيب التخفيف عني بإخباري أن الورم كان «حميدًا»، ما بدا لي تسميةً غريبة لمعرفتي أن هذا الورم قد قتلها.

حسنًا، دفنَّاها بجوار أبي، وكانت تلك نظرتي الأخيرة على لوير بينفيلد، التي تغيرت كثيرًا في ثلاث سنوات فقط؛ حيث أغلقَت بعض المتاجر، وتغيرت أسماء بعضها الآخر، وتقريبًا كل الرجال الذين عرَفتهم في صِباي كانوا قد رحَلوا، وبعض منهم كانوا قد ماتوا. مات سِيد لوفجروف؛ إذ قُتل في معركة السوم، ومات جينجر واتسون، صبي المزرعة الذي انضم إلى مجموعة اليد السوداء منذ سنوات، ذلك الصبي الذي كان يصطاد الأرانبَ حية؛ وكان في مصر حين وفاته. أحد الشباب الذين كانوا يعملون معي في متجر جريميت فقد ساقَيه. وأقفل العجوز لوفجروف متجره وكان يعيش في كوخ بجوار وولتن على معاش سنوي صغير. أما العجوز جريميت، فقد كان يستفيد من الحرب، وأصبح وطنيًّا وعضوًا في اللجنة المحلية التي حاكمت مُعارضي الخدمة العسكرية. وما أسهم أكثر من أي شيء آخر في فراغ البلدة وإعطائها ذلك المظهر المهجور كان في الواقع خلوها من الخيول؛ فقد استولى الجيش على كل حصان في حالة جيدة منذ مدَّة طويلة. كانت العربات التي تجرُّها الدواب لا تزال موجودة، لكن الحيوانات التي كانت تجرها لم تكن قادرة على الوقوف لولا أعمدة الجر. لمدة ما يقرب من الساعة التي قضيتها هناك قبل الجنازة، تجولت في البلدة متسائلًا عن أحوال الناس ومستعرضًا زيِّيَ العسكري. لحسن الحظ، لم أُقابل إلسي. رأيت كل التغيرات، ولكنني كنت كما لو أنني لم أرَ شيئًا؛ فقد كان عقلي مشغولًا بأمور أخرى، على وجه التحديد السعادة التي غمرتني عندما رآني الناس بزي الملازم الثاني، وشارة أعلى الذراع الأسود (شيء يبدو أنيقًا للغاية على اللون الكاكي)، وبنطالي المضلَّع الجديد. أتذكر جليًّا أنني كنت لا أزال أفكر في ذلك البنطال عندما وقفنا عند الساحة بجوار القبر، ثم رمَوا ببعض التراب على التابوت؛ فأدركت فجأة معنى أن أمي مستلقية أسفل الأرض على مسافة سبع أقدام، وشعرت برعشة خلف عينَيَّ وأنفي، ولكن حتى في تلك اللحظة لم يذهب البنطال عن بالي.

لا تعتقد أنني لم أحزن لموت أمي. لقد حزنت بالفعل؛ فلم أعُد أُحارب في الخنادق، ويُمكنني أن أشعر بالحزن على موت أحد الأشخاص. ولكن ما لم أكن أهتم به أو حتى أعرف أنه كان يحدث قط هو انقضاء الحياة القديمة التي كنت أعرفها. بعد الجنازة، رجعت العمَّة مارثا — التي كانت فخورة للغاية بأن لها «ضابطًا حقيقيًّا» في عائلتها وكانت ستستغلُّ الجنازة لجذب الانتباه إليَّ، إن كنت قد سمحت لها — إلى دوكسلي بالحافلة، واستأجرتُ عربة إلى المحطة كي أستقل القطار إلى لندن ثم إلى كولتشيستر. مررنا في طريقنا بالمتجر، ولم يكن أحد قد أخذه منذ وفاة والدي. كان مغلقًا وكان زجاج النافذة أسودَ وعليه غبار، وقد أحرق لهيب نفخ أحد السمكرية اسم «إس بولينج» على اللافتة. حسنًا، كان في ذلك المكان المنزل الذي عشت فيه طفلًا وصبيًّا وشابًّا؛ حيث كنت أزحف إلى أرضية المطبخ وأشم رائحة العنبريس وأقرأ «دونوفان الشجاع»؛ وحيث كنت أؤدي واجباتي المنزلية لمدرسة القواعد اللغوية، وأخلط معجون الخبز، وأُصلِح ثقوب الدراجة، وأُجرِّب ارتداء أول ياقة عالية في حياتي. بدا لي ذلك المنزل حينها دائمًا كالأهرامات، ولكنني إن رجعت لها مرة أخرى الآن فسيكون بمنزلة شيء عارض. أبي، وأمي، وجو، وصِبْيان المتجر، والكلب نايلير العجوز، والكلب سبوت الذي اقتنته عائلتي بعد نايلير، وطائر الدغناش جاكي، والقطتان، والفئران في العلية؛ كل ذلك قد رحل ولم يتبقَّ شيء سوى الغبار. ولم أعد أكترث بشيء. حزنت على موت أمي، وحزنت كذلك على موت أبي؛ ولكنَّ ذهني كان شاردًا في أشياء أخرى طوال الوقت. كنت فخورًا بعض الشيء برؤية الناس لي في عربة أجرة، وهو الشيء الذي لم أكن حينها قد اعتدت عليه؛ وكنت أُفكر في ارتدائي لبنطالي المضلع الجديد، وفي حذائي العسكري اللامع الجميل الذي يختلف عن الأحذية الخشنة التي يرتديها الجنود والشباب الآخرون في كولتشيستر؛ وكنت أفكر في الجنيهات الستين التي تركتها أمي، وفي كيف سأُنفِقها. كما كنت كذلك أشكر ربي أنني لم أُقابل إلسي.

كان للحرب تأثيرٌ استثنائي على الناس. وما كان أكثر استثنائيةً من أنها تقتل الناس هو طريقتها في بعض الأحيان لإنقاذهم من الموت. كانت كفيضان عظيم يدفعك نحو الموت، وفجأة تقذف بك إلى مكانٍ ما، حيث تجد نفسك تفعل أشياء لا يُمكن تصورُها، وغير مبرَّرة، وتتقاضى عليها أجرًا إضافيًّا. كانت ثَمة كتائب من الجنود العاملين تعمل في رصْفِ طرق في الصحراء التي لا تقود إلى أي مكان؛ وكان ثَمة رجالٌ مهجورون على جزر في المحيط لمراقبة السفن الحربية الألمانية التي كانت قد غرقت قبل ذلك بسنوات، وكانت بعض الوزارات المختلفة مزوَّدةً بجيش من الجنود الذين مهمتهم القيام بالأعمال المكتبية والكتابة على الآلة الكاتبة، الأمر الذي استمر حتى سنواتٍ بعد انتهاء مهمتهم، في إحدى صور البطالة المقنَّعة. كان الناس يُقحمون في وظائف غير ذات معنًى، ثم تنساهم السلطاتُ لسنواتٍ عديدة. هذا ما حدث معي، والذي لولاه ما كنت في الغالب في مكاني اليوم. والتسلسل الكامل للأحداث مشوق للغاية.

بعد فترة وجيزة من إعلان تعييني ضابطًا جاء استدعاء لضباط فيلق خدمة الجيش. وبمجرَّد أن سمع القائد المسئول عن تدريب المعسكر أنني أعلم شيئًا عن مجال البقالة (لم أقل إنني عملت خلف طاولة البيع)، أمرني أن أُرسل اسمي. جرى الأمر على ما يُرام، وكنت للتوِّ على وشك الانتقال إلى مدرسة تدريب أخرى لضباط فيلق خدمة الجيش، التي كانت في مكانٍ ما في ميدلاندز حيث كان هناك حاجة إلى ضابط شابٍّ لديه معرفةٌ بالبقالة للعمل في السكرتارية لدى السير جوزيف تشيم، الذي كان ذا شأن كبير في الفيلق. لا أعلم لماذا اختاروني، ولكنهم على أي حال قد فعلوا؛ فلطالما اعتقدتُ أنهم ربما اختلط عليهم الأمر بين اسمي واسم شخص آخر. بعد ثلاثة أيام، كنت أُؤدِّي التحية العسكرية في مكتب السير جوزيف. كان رجلًا كبير السنِّ نحيفًا، ومنتصب القامة وحسن المظهر، أشيب الشعر وذا أنفٍ حادٍّ أخلف في نفسي انطباعًا قويًّا على الفور؛ إذ بدا جنديًّا محترفًا مثاليًّا ممن استحقوا وسام التميز الخاص بسان مايكل وسان جورج ووسام الخدمة المتميزة، ويُشبه تمامًا الرجل الذي يظهر في إعلانات دي ريشكا كما لو كان شقيقه التوأم؛ ولكنه في حياته المدنية كان مديرًا لسلسلة كبيرة لمتاجر البقالة، التي بلغَت شهرتها مختلِف أنحاء العالم بفضل ما يُسمُّونه نظام تشيم لتخفيض الأجور. توقف عن الكتابة عندما دخلت عليه، ونظر إليَّ متفحصًا، وقال:

«هل أنت من الأعيان؟»

«لا يا سيدي.»

«جيد. إذن لعلك تُنجز لنا عملًا.»

فيما يقرب من ثلاث دقائق، استطاع بخبرته أن يعلم أنني لم تكن لديَّ أي خبرة في السكرتارية، ولم أكن أعرف الاختزال، ولم يسبق لي استخدام الآلة الكاتبة، وأنني قد عملت في متجر للبقالة مقابل ثمانية وعشرين شلنًا في الأسبوع؛ ولكنه قال إنني سأتعلم كل ذلك، وإنه كان هناك الكثير من أبناء الطبقات العليا في هذا الجيش اللعين، ولكنه كان يريد شخصًا يُمكنه العدُّ لأكثر من عشرة. أُعجِبت به وتطلعت إلى العمل معه، ولكن في هذه اللحظة تحديدًا فرَّقَت بيننا مرة أخرى القوى الغامضة التي بدَت أنها كانت تُدير الحرب؛ فقد كان يتشكل كيان يُدعى قوات دفاع الساحل الغربي، أو بالأحرى كانوا يتحدثون عنه، ونشأَت فكرة غامضة عن إقامة مستودعات للمؤن وغيرها من المخازن في نقاط مختلفة على طول الساحل. وكان من المفترض أن يكون السير جوزيف مسئولًا عن المستودعات في جنوب غرب إنجلترا. وفي اليوم الذي انضممت فيه لمكتبه، أرسلني لفحص المؤن في مكان يُدعى مستودع الميل اثنَي عشر على ساحل كورنوول الشمالي؛ أو بالأحرى كانت وظيفتي هي معرفة ما إذا كانت ثَمة مؤن هناك بالفعل أو لا. لم يبدُ أحد متأكدًا من الأمر، فذهبت إلى هناك واكتشفت أن المؤن عبارة عن إحدى عشرة صفيحة من لحم البقر المعلَّب، وذلك عندما وصلتني برقية من وزارة الحربية أخبرتني أن أتولى أمر المؤن في مستودع الميل اثنَي عشر وأظل هناك حتى إشعار آخر. أرسلت برقية بالرد أقول فيها: «لا توجد مؤن في مستودع الميل اثنَي عشر.» ولكن سبق السيف العزل؛ ففي اليوم التالي وصلَني خطاب رسمي يُخبرني أنني أصبحت القائد العامَّ لمستودع الميل اثنَي عشر. وهذه في الحقيقة هي نهاية القصة؛ فقد ظللت في رتبة القائد العام لمستودع الميل اثنَي عشر حتى نهاية الحرب.

لم يكن أحد يعلم شيئًا عن المغزى من كل ذلك؛ فلا فائدة من أن تسألني عن ماهيَّة كِيان قوات دفاع الساحل الغربي، أو عما كان من المفترض أن يفعله. حتى حينها لم يتظاهر أحدٌ بمعرفة شيء، ولكنه على أي حال لم يكن له وجود؛ فلم يكن سوى مشروعٍ خطَرَ على ذهن أحد المسئولين — أظن أنه كان نتيجة إشاعة غامضة عن غزو ألماني قادم عبر إيرلندا — ولم تكن مستودعات الطعام التي كان من المفترض أن تُوجَد على طول الساحل إلا من وحي الخيال. الأمر برمته لم يستمرَّ إلا لثلاثة أيام كالفقاعة، ثم نسيَه الجميع ونَسوني معه. أما الصفائح الإحدى عشرة للَّحم البقري المعلب التي رأيتها، فقد كان الضباط الذين كانوا في ذلك المكان في وقت سابق في مهمة غامضة أخرى قد تركوها وراءهم؛ كما تركوا كذلك رجلًا عجوزًا ضعيف السمع بشدة اسمه الجندي ليدجبِرد، ولكني لم أعرف قط ما كان من المفترض أن يفعله ليدجبرد هناك. يا ترى هل ستُصدق أنني ظللت أحرس صفائح اللحم البقري المعلَّب الإحدى عشرة تلك منذ منتصف عام ١٩١٧ وحتى بداية عام ١٩١٩؟ ربما لن تُصدقني ولكنها الحقيقة، وحتى ذلك لم يبدُ غريبًا حينها. وبحلول عام ١٩١٨، كنت قد تخلصت من عادة توقع حدوث الأشياء بالطرق المنطقية.

كانوا يُرسلون إليَّ مرةً كل شهر نموذجًا رسميًّا طويلًا يُطالبوني فيه بذكر عدد المعاول وحالتها، وأدوات الحفر، ولفات الأسلاك الشائكة، والبطاطين، وملاءات الأرض المضادة للماء، وعِدد الإسعافات الأولية، وألواح الحديد المموج، وصفائح مربى البرقوق والتفاح التي في عُهدتي. كنت ببساطة أكتب «صفرًا» أمام كل البنود وأُرسل النموذج، ولم يحدث شيء قط. وفي لندن، كان ثمة أحد يُدخل بيانات النماذج في هدوء؛ ويُرسل المزيد من النماذج ويُدخل بياناتها، وهكذا. هكذا كانت تسير الأمور. أصحاب المناصب الرفيعة الغامضون الذين كانوا يُديرون الحرب كانوا قد نسوا وجودي، ولم أُذكِّرهم بنفسي؛ فقد كنت في مكان منعزل لم يكن يُؤدي إلى أي مكان آخر، وبعد عامَين في فرنسا لم يكن الشعور بالوطنية يغمرني لدرجة تجعلني أريد الخروج من تلك الحالة.

كنتُ في جزء منعزل من الساحل حيث لم تكن ترى إنسانًا قط سوى بعض الفلاحين الذين بالكاد سمعوا عن اندلاع حرب في البلاد؛ وعلى بُعد ربع ميل أسفل تل صغير، كان صوت البحر يُدوِّي ويَموج على سهول شاسعة من الرمال. كانت السماء تُمطر في تسعة أشهر من السنة، وفي الأشهر الثلاثة الأخرى تهب الرياح الأطلسية العاتية. لم يكن ثمة شيء سوى الجندي ليدجبرد وأنا وكوخان من أكواخ الجيش — أحدهما كان كوخًا مقبولًا بغرفتين، والذي كنت أقيم فيه — وصفائح اللحم البقري المعلب الإحدى عشرة. وكان ليدجبرد شيطانًا عجوزًا فظًّا، ولم أتمكن قطُّ من معرفة الكثير عنه سوى أنه كان يزرع الخَضراوات ويبيعها للتجار في الأسواق قبل أن ينضم إلى الجيش. تشوقت أن أعرف كيف رجع سريعًا إلى سابق عهده؛ فحتى قبل أن أذهب إلى مستودع الميل اثنَي عشر، كان قد حفر قطعة أرض صغيرة حول أحد الكوخَين وبدأ في زراعة البطاطس، كما حفر قطعة أرض أخرى في الخريف حتى زرع ما يقرب من نصف فدان. وفي بداية عام ١٩١٨، شرع في تربية الدجاج، الذي تزايدت أعداده بحلول نهاية الصيف؛ وعلى مَشارف نهاية العام، ربى فجأة خنزيرًا لا أعلم من أين جلبه. لا أعتقد أنه قد خطر في باله أن يتساءل عما نفعله في ذلك المكان، أو ما هي قوات دفاع الساحل الغربي وما إذا كان لها وجود بالفعل. ولن أستغرب إن سمعت أنه ما زال هناك يُربي الخنازير ويزرع البطاطس في البقعة التي كانت يومًا مستودعَ الميل اثنَي عشر؛ بل أتمنى أن يكون ما زال هناك بالفعل، وأتمنى له حظًّا سعيدًا.

في ذلك الوقت، كنت أفعل شيئًا لم تتسنَّ لي الفرصة من قبل أن أفعله عندما كنت أعمل بدوام كامل. كان هذا الشيء هو القراءة.

ترَك الضباط الذين كانوا في ذلك المكان قبلي بضعة كتب، أغلبها من الطبعات الرخيصة وكلها تقريبًا من ذلك النوع التافه الذي كان يقرؤه الناس في ذلك الوقت: قصص إيان هاي وسابر وكريج كينيدي وأشياء من هذا القبيل. ولكن في وقتٍ ما كان هناك شخصٌ يعرف جيدًا الكتب التي تستحق القراءة وتلك التي لا تستحق. أنا نفسي في ذلك الوقت لم تكن لديَّ مثل تلك المعرفة؛ فالكتب الوحيدة التي قرأتها طواعيةً كانت القصص البوليسية، وفي بعض الأحيان النادرة كنت أقرأ الكتب الجنسية البذيئة. في الواقع، أنا لم أُخطط لأن أكون رفيع الثقافة حتى الآن؛ ولكن إن سألتني حينها عن اسم كتاب «جيد»، لأجَبْتك برواية «المرأة التي أعطيتها لي»، أو (تخليدًا لذكرى راعي الكنيسة) «السمسم والزنابق». على أي حال، كان الكتاب «الجيد» بالنسبة لي هو الكتابَ الذي لا يهتم أحد بقراءته. ولكني وجدت نفسي في ذلك المكان، في وظيفة ليس فيها شيء لأفعله، وبجواري البحر يندفع على الشاطئ والأمطار تنهمر على الواجهة الزجاجية للنافذة — وصف كامل من الكتب التي كانت كما لو أنها تُحدق في وجهي على الرف المؤقت الذي أعده أحد الضباط السابقين على حائط الكوخ. بطبيعة الحال، بدأت أقرأ فيها من الغِلاف إلى الغلاف، وحاولت في البداية جاهدًا انتقاءَ الأفضل، كخِنزير ينتقي طعامه من دلو مليء بالقُمامة.

ولكنني وجدت بينها ثلاثة أو أربعة كتب كانت مُختلِفة عن الكتب الأخرى. لا، لا بد أنك قد أسأت الفَهم! لا تتسرع وتظن أنني فجأة قد وجدتُ كتبًا لمارسيل بروست أو هنري جيمس أو من شابههما؛ فلم أكن لأقرأها حتى إن كنت قد وجدتها. ولكن تلك الكتب التي أتحدث عنها لم تكن ذات مستوًى ثقافي عالٍ على الإطلاق؛ ولكنك من حين لآخر قد تجد كتابًا في المستوى الذِّهني الذي وصلتَ إليه تمامًا في تلك اللحظة، لدرجة أنه يبدو كما لو أنه قد كُتب خِصِّيصى لأجلك. أحد تلك الكتب كان «تاريخ السيد بولي» لإتش جي ويلز، وكان في طبعةٍ رخيصة للغاية متهالكة الأوراق. هل تتخيل الأثر الذي ترَكه في نفسي، وكيف لشخص مثلي، بالطريقة التي تربَّيت بها ابنًا لصاحب متجر في بلدة ريفية، أن يقع كتاب كذلك في يده؟ من تلك الكتب أيضًا كان «شارع سينستر» لكومبتون ماكنزي، الذي كان فضيحة الموسم قبل عدة سنوات سابقة على ذلك الحين، وكنت قد قرأت بعض الإشاعات الغريبة عنه في لوير بينفيلد. وجدت أيضًا رواية «النصر» لكونراد، التي أصابتني أجزاءٌ منها بالملل. ولكنْ كتبٌ كتلك تجعلك تبدأ في التفكير. كان هناك كذلك عددٌ قديم من مِجلة ذات غِلاف أزرق، وكان بها قصة قصيرة ﻟ «دي إتش لورانس»، ولكنني لا أتذكَّر اسمها. كانت قصة عن مجند إلزامي في الجيش الألماني دفع برئيسه الرقيب الأول من أعلى حافَة أحد الحصون، ثم هرَب وقُبض عليه في غرفة نوم فتاته. حيَّرتني تلك القصة كثيرًا؛ فلم أستطع فهم ما تدور حوله، ولكنها تركت لديَّ شعورًا غريبًا بأنني أريد أن أقرأ قصصًا أخرى مماثلة لها.

حسنًا، كانت لديَّ لعدة أشهر تعطُّش إلى قراءة الكتب أشبه بالعطش إلى الماء. وقد كان ذلك أول انخراط حقيقي لي في القراءة حَظِيت به منذ أيام ديك دونوفان. في البداية، لم تكن لديَّ أيُّ فكرة عن كيفية الحصول على الكتب، وقد ظننت أن الطريقة الوحيدة لذلك هي عن طريق شرائها، واعتقدت أن ذلك مثير للاهتمام؛ إذ يُبين لك الاختلافَ الذي تصنعه النشأة، فأنا أعتقد أن أبناء الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التي تتحصَّل على خمسمائة جنيه في السنة، يعلمون كل شيء عن مكتبة مودي ونادي كتب التايمز منذ نعومة أظفارهم. بعد ذلك الحين بوقت ليس بطويل، علمت بوجود مكتبات الاستعارة، واستخرجتُ اشتراكًا من مكتبة مودي، وآخر من مكتبة في بريستول. لعلك تسأل عما كنت أقرؤه خلال السنة التالية أو نحو ذلك! حسنًا، كنت أقرأ لويلز، وكونراد، وكيبلينج، وجالزوورثي، وباري باين، ودبليو دبليو جاكوبس، وبيت ريدج، وأوليفر أونيونز، وكومبتون ماكينزي، وإتش سيتون ميريمان، وموريس بارينج، وستيفن ماكينا، وماي سينكلير، وأرنولد بينيت، وأنتوني هوب، وإلينور جلين، وأو هنري، وستيفن ليكوك، وحتى سيلاس هوكينج وجان ستراتون بورتر. تُرى كم اسمًا تعرفه في تلك القائمة؟ نصف الكتب التي أخذها الناس على محمل الجِدِّ في تلك الأيام أصبحت منسيَّة الآن. ولكنني في البداية التهمتُها دفعةً واحدة كحوت وقع وسط سِرب من أسماك القريدس. وقد وجدت متعة بالغة في قراءتها. أصبحتُ بالطبع بعدئذٍ بقليل أكثرَ ثقافةً وبدأتُ أعرف كيف أُفرق بين الكتب التافهة وغير التافهة. حصَلت على رواية «أبناء وعشاق» للورانس، واستمتعت بها بعضَ الشيء، واستمتعت كثيرًا بقراءة «دوريان جراي» لأوسكار وايلد، و«ألف ليلة وليلة الجديدة» لستيفنسون. أما الكاتب الذي كان له التأثير الأكبر عليَّ، فقد كان ويلز. قرأت كذلك «إستر ووترز» لجورج مور وأعجبتني، وجرَّبت عدة روايات لهاردي ولكني كنت دائمًا أعلق في منتصفها. كانت لي تَجرِبة أيضًا مع مؤلفات إبسن، التي تركَت لديَّ انطباعًا غريبًا أن السماء تمطر دائمًا في النرويج.

كان ذلك غريبًا حقًّا، وحتى في تلك الأيام كان الأمر يبدو لي غريبًا. كنت قد أصبحت ملازمًا ثانيًا وتخلصتُ تقريبًا من لهجة أبناء الطبقة العاملة، وكان بإمكاني التمييز بين أرنولد بينيت وإلينور جلين، وكل ذلك في غضون أربع سنوات فقط منذ كنت أقطع الجبن خلف طاولة البيع في المتجر مرتديًا مئزري الأبيض وأتطلع إلى اليوم الذي أُصبح فيه صاحبَ متجرٍ للبقالة. قبل أن أَزيدك من الشِّعر بيتًا، أعتقد أنني يجب أن أعترف أن الحرب قد جلَبَت لي الخير والشر على السواء. في كل الأحوال، شكَّلَت تلك السنة التي قرأت فيها الروايات التعليمَ الحقيقي الوحيد الذي حصلتُ عليه، من ناحية المعرفة النظرية. لقد كان لها تأثيرٌ خاص على عقلي، وعلمَتني منهجًا للنظر في الأشياء، ذلك المنهج النقدي، الذي على الأرجح لم أكن لأكتسبه لو كنت قد شقَقتُ طريقي في الحياة بطريقة عادية مخطَّط لها. ولكن — أتساءل عما إذا كان بمقدورك فَهمُ هذا — الشيء الذي غيَّرَني حقًّا، أي الذي كان له أثرٌ عليَّ بالفعل، لم يكن بالأحرى الكتبَ التي قرأتها بقدرِ ما كان غيابَ المعنى من الحياة البغيضة التي كنت أعيشها.

كانت الحياة بالفعل خاليةً من المعنى على نحو لا يُمكن التعبير عنه في ذلك الوقت عام ١٩١٨. هكذا كنت هناك، أجلس بجوار الموقد في كوخ تابع للجيش، وأقرأ الروايات؛ وعلى بُعد بضع مئات الأميال في فرنسا كانت الأسلحة تُدوي وكانت أسراب الأطفال البائسين، الذين كانوا يُبللون سراويلهم من الخوف، يُقادون إلى الحصون كمن يقذف بقطع الفحم الصغيرة في أتون. كنت من المحظوظين؛ فالقادة الكبار كانوا قد صرَفوا النظر عني، وها أنا كنت هناك في جُحري الآمن الصغير المحجوب عن الأنظار أتقاضى أجرًا من وظيفة لا وجود لها. كنت أدخل في نوبة هلع في بعض الأحيان، وكنت على يقين من أنهم سيتذكرونني ويُخرجونني من ذلك المكان؛ ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث. النماذج الرسمية، في أوراقها الرمادية الرملية، كانت تأتيني مرة في الشهر؛ وكنت أملَؤها وأُعيد إرسالها؛ ثم كان يأتي المزيد من النماذج، وأملؤها ثم أُعيد إرسالها، وهكذا. لم يكن في الأمر برمَّتِه منطقٌ على الإطلاق، كما لو أنه حلم من أحلام رجل مجذوب. وكان تأثير كل ذلك، بالإضافة إلى الكتب التي كنت أقرؤها، هو أن ترك في نفسي شعورًا من عدم الإيمان بأي شيء.

لم أكن الوحيدَ في هذا الشأن؛ ففي وقت الحرب كانت البلاد مليئةً بالأطراف السائبة والأركان المنسيَّة، ففي ذلك الوقت كان هناك بالفعل ملايينُ الأشخاص العالقين في أماكن مهجورة بشكل أو بآخر. هناك جيوش بأكملها كانت تتفكك على جبهات نسي الناس أسماءها. وثمة وزارات ضخمة كان بها حشد من الموظفين والكاتبين على الآلة الكاتبة يتقاضَون جميعًا جُنيهَين في الأسبوع وأكثر وهم لا يفعلون شيئًا سوى تكويم تلال من الأوراق. علاوة على ذلك، فقد كانوا يعلمون جيدًا أنَّ كل ما كانوا يفعلونه هو تكويم تلال من الأوراق. ولم يَعُد أحد يُؤمن بالقصص الوحشية وبما يُروج عن شأن بلجيكا المسكينة النبيلة. كان الجنود يعتقدون أن الألمان كانوا أناسًا طيِّبين، وكانوا يكرهون الفَرنسيِّين كراهية السم. وكان كل ضابط صغير يرى الأركان العامة حَفنةً من المتخلفين عقليًّا. موجة من عدم الإيمان بأي شيء كانت تجتاح إنجلترا، وقد وصلت حتى إلى مستودع الميل اثنَي عشر. قد يبدو من المبالغة إن قلت إن الحرب قد حولت الناس إلى مثقَّفين، ولكنها بالفعل حولَتهم إلى عدميِّين آنذاك. هؤلاء الذين يمضون في حياتهم بطريقة عادية، ولا يتعدَّى تفكيرهم في أنفسهم من التعقيد تفكيرَهم في الحلوى الدسمة، قد تحولوا إلى بَلاشفة فقط بفعل الحرب. تُرى كيف كان سيكون حالي الآن لو لم تقع الحرب؟ لا أعلم، ولكن بالتأكيد كنت سأكون مختلفًا عما أنا عليه الآن. إن لم تقتلك الحرب، فستجعلك تبدأ في التفكير؛ فبعد تلك الفوضى التي تتعدى حماقتها الوصف، لا يُمكنك الاستمرار في النظر إلى المجتمع باعتباره أبديًّا ولا يرقى إلى الشك كالأهرامات؛ لأنك علمت أنه لم يكن سوى خدعة كبيرة.

٩

سلبتني الحرب حياتي القديمة التي كنت أعرفها؛ ولكن في الفترة الغريبة التي أتت بعدها، نسيتها تقريبًا برمَّتها.

أعلم أنه على نحوٍ ما لا ينسى المرءُ أيَّ شيء قط؛ إذ تتذكر تلك القطعة من قشر البرتقال التي رأيتها في قناة تصريف المياه منذ ثلاثين عامًا، وذلك الملصق الملوَّن لمدينة توركاي الذي لمحته مرة في غرفة الانتظار بإحدى محطَّات القطار. ولكنني أتحدث عن نوع مختلف من الذاكرة؛ فعلى نحوٍ ما أتذكر حياتي القديمة في لوير بينفيلد: أتذكَّر قصبة الصيد خاصتي، ورائحة العنبريس؛ وأتذكَّر أمي خلف إبريق الشاي البُنِّي، وطائر الدغناش جاكي، ومَعْلَف الخيول في السوق. ولكن لم يَعُد أيٌّ من ذلك حيًّا في ذهني؛ فقد أصبحت كلُّها أشياء بعيدة، أشياء انتهيتُ منها. لم يحدث قط أنْ خطر ببالي أنني أردتُ العودة يومًا إلى تلك الأيام.

لقد كان زمانًا غريبًا، تلك السنوات التي تلَت الحرب مباشرةً؛ فهي أكثر غرابة من أيام الحرب نفسها، ولكن الناس لا يتذكرونها بوضوح. على نحو مختلف تمامًا، كان الشعور بعدم الإيمان بأي شيء أقوى من أي وقت مضى. ملايين الرجال سُرِّحوا فجأة من الجيش ليجدوا أن البلد الذي حاربوا من أجله لا يُريدهم، وكان لويد جورج ورفقاؤه يعملون على تعزيز أي أوهام كانت لا تزال موجودة. كانت مجموعات من الرجال الذين كانوا في الخدمة يسيرون جيئة وذهابًا في تظاهرات في الشوارع يُقعقعون صناديق جمع الأموال، وكانت النساء المقنَّعات يُغنِّين في الشوارع، وكان رجالٌ بالزي العسكري يعزفون على آلة الأرغن اليدوية. بدا كل شخص في إنجلترا يُصارع للحصول على عمل، وفي ذلك أنا. ولكنني كنت محظوظًا أكثر من معظمهم، فقد حصلت على تعويض بسيط عن إصابتي؛ وبه ومع القليل من المال الذي ادَّخرته خلال السنة الأخيرة من الحرب (إذ لم يتسنَّ لي الكثير من الفرص لإنفاقه)، خرجت من الجيش بما لا يقلُّ عن ثلاثمائة وخمسين جنيهًا. أعتقد أنه من المثير للاهتمام ملاحظة رد فعلي. هكذا كان معي ما يكفي من المال لأفعل ما تدربتُ على فعله وما حلمت به لسنوات، وهو أن أفتح متجرًا؛ فلديَّ رأس مال كبير. إذا تحليتَ بالصبر والحذر، يُمكنك أن تُدير عملًا جيدًا بثلاثمائة وخمسين جنيهًا، ولكن صدقني لم تخطر الفكرة على ذهني قط؛ فلم أمتنع فقط عن اتخاذ أي خطوات نحو امتلاك متجر، بل لم يخطر ببالي إلا بعدها بسنوات — تقريبًا في ١٩٢٥ في الواقع — أنه كان عليَّ أن أمتلك واحدًا. الحقيقة كانت أنني خرجت لتوي من دائرة أصحاب المتاجر، وذلك كان ما فعله الجيش فيَّ؛ إذ يجعلك ترى نفسك كأحد الأعيان، ويُعطيك فكرة راسخة عن أن المال دائمًا سيأتيك من مكانٍ ما. إن كنتَ قد اقترحت عليَّ حينها، في ١٩١٩، أنه ينبغي عليَّ أن أمتلك متجرًا — للتبغ أو الحلوى أو ما شابه، أو متجرًا عامًّا في قرية فقيرة — لكنتُ قد ضحكتُ على ما تقول؛ فقد كنتُ قد ارتديت الإشارات الدالة على الرتبة على كتفي، وعلا وضعي الاجتماعي. في الوقت نفسه، لم يكن لديَّ الوهم، الذي كان شائعًا للغاية بين الضباط السابقين، أنني سأقضي ما تبقى من حياتي في احتساء شراب الجن الوردي؛ فقد كنت أعلم أنَّ علَيَّ أن أحصل على وظيفة، والوظيفة بالطبع ستكون في مجال «الأعمال»، فقط لم أكن أعرف نوعَ الوظيفة التي يجب أن أبحث عنها، ولكنها كان يجب أن تكون ذات مكانة عالية وأهمية كبيرة، من نوعيةِ تلك الوظائف التي يمتلك أصحابُها سيارة وهاتفًا وإن أمكن سكرتيرة بشعر مموَّج على نحو دائم. خلال العام الأخير أو نحو ذلك من الحرب، كان لدى كثيرٍ منا رُؤًى كتلك؛ فمَن كان بائعًا متجولًا رأى نفسه مندوبَ مبيعاتٍ متجولًا، ومن كان مندوبَ مبيعات متجولًا رأى نفسه مديرًا عامًّا. كان ذلك تأثير الحياة العسكرية؛ تأثير ارتداء الإشارات على الأكتاف، وامتلاك دفتر شيكات وتسمية وجبة المساء بالوجبة الرئيسية. في الوقت نفسه أيضًا، كانت ثَمة فكرةٌ تحوم بالأرجاء — في أذهان الرجال من ذَوي المناصب العالية والضباط على حدٍّ سواء — أننا عندما نخرج من الجيش ستكون هناك وظائف بانتظارنا وأننا سنتكسَّب منها على أقل تقدير ما كنا نتكسَّبه في الجيش. بالطبع إن لم تُتداوَل أفكار كتلك، لم تكن حربًا لتُخاض قط.

حسنًا، لم أحصل على تلك الوظيفة؛ إذ يبدو أنه لم يكن أحد متحمسًا لأن يدفع لي ألفَيْ جنيه في السنة مقابل جلوسي على مكتب عصري وإملائي لخطابات على سكرتيرة ذات شعر أصفر فِضِّي. لقد اكتشفت الشيء نفسه الذي اكتشفه ثلاثة أرباع الضباط السابقين، وهو أننا من الناحية المالية كنا أيام الجيش أفضل مما قد نكون عليه في أي وقت قادم؛ فقد تحولنا فجأة من جنود في خدمة جلالة الملك إلى بائسين عاطلين عن العمل، لا يرغب أحد في توظيفهم. وسرعان ما تراجعت طموحاتي من ألفَي جنيه في السنة إلى ثلاثة أو أربعة جنيهات في الأسبوع، ولكن حتى الوظائف التي كان يتكسب أصحابها ثلاثة أو أربعة جنيهات في الأسبوع لم يبدُ أنه كان لها وجود. كل الوظائف الممكنة كانت مشغولة بالفعل، إما من قِبَل الرجال الذين كانوا قد كبروا ببضع سنوات على القتال، أو بالصِّبية الذين كانوا أصغر من سنِّ القتال ببضعة أشهر؛ أما هؤلاء اللقطاء المساكين الذين صادف ميلادهم بين عامَي ١٨٩٠ و١٩٠٠، فقد تُرِكوا في العراء. وعلى الرغم من كل ذلك لم أُفكر قط في العمل في مجال البقالة. ربما كان بإمكاني الحصول على وظيفة مساعد بقَّال؛ العجوز جريميت إن كان لا يزال حيًّا ويعمل بالتجارة (لم أكن على تواصل مع أحدٍ في لوير بينفيلد ولم أكن أعلم) كان بإمكانه أن يُوصيَ التُّجار بي؛ ولكني دخلت في دائرة مختلفة. حتى إن لم تكن أفكاري الاجتماعية قد ارتقت، لم أكن لأتخيل بعد ما رأيته وتعلمته أن أرجع إلى مكاني الآمن القديم خلف طاولة البيع؛ فقد كنت أرغب في السفر وكسب الكثير من المال. وعلى وجه التحديد كنتُ أريد العمل في وظيفة مندوب مبيعات متجول، التي علمت أنها ستُناسبني.

ولكن لم أجد وظائف شاغرة لمندوبي مبيعات متجولين، أعني وظيفة بمرتب مُغْرٍ؛ فكل ما كان أمامي كانت وظائف بالعمولة. بدأ هذا النوع من البيع في الانتشار على نطاق واسع؛ فهي طريقة بسيطة وجيدة لزيادة المبيعات والإعلان عن مُنتجاتك دون خوض أي مخاطر، ودائمًا ما تزدهر في الأوقات الصعبة. وكانت تلك الشركات تُؤثر عليك بأن تُوحي لك أنه ربما سيكون لديهم لك وظيفة بأجر ثابت في غضون ثلاثة أشهر، وعندما تسأم منهم فهناك دائمًا شخص مسكين على استعداد للعمل مكانك. بطبيعة الحال، لم يستغرق الأمر مني وقتًا طويلًا للعثور على وظيفة من تلك الوظائف بالعمولة؛ وفي الواقع، عملت في العديد منها وتركتها بمعدَّل سريع. حمدًا لله أنني لم أتجول طارقًا الأبواب قط لبيع المكانس الكهربائية أو القواميس. ولكنني كنت أتجول لأبيع أدوات المائدة، ومساحيق الصابون، وخط إنتاج نازع سدادات فلينية حاصل على براءة اختراع، وفتَّاحات العلب المعدنية، وأدوات مماثلة، وأخيرًا خط إنتاج للَّوازم المكتبية: دبابيس الورق، والورق الكربوني، وأشرطة الآلات الكاتبة، وأشياء من هذا القبيل. لم يكن الأمر سيئًا؛ فأنا مِن النوع الذي «يستطيع» بيع الأشياء بالعمولة؛ لأن لديَّ الصفات المناسبة لتلك الوظيفة والسلوكيات المطلوبة فيها. ولكنني لم أقترب بأي حال من الأحوال من التحصُّل على مكاسب تكفل لي عيشة جيدة؛ فلا يُمكنك ذلك في وظيفة كتلك، وبالطبع أنت لا تُخطط لذلك.

عملت في تلك المهنة إجمالًا لمدة عام. كان عامًا غريبًا. الرحلات عبر البلدات، والأماكن البشعة التي تصلها، وضواحي بلدات وسط البلاد التي لن تسمع عنها طوال حياتك العادية، ولو بلغتَ مائة عام، ونُزل المبيت والإفطار حيث رائحة الملاءات الممتزجة دائمًا بنفحة من بقايا الطعام والبيض المقلي على الإفطار ذي الصفار الأكثر بهتانًا من ليمونة حامضة. ومندوبو المبيعات الملاعين المساكين الآخرون الذين تُقابلهم دائمًا، والذين كانوا أرباب أُسَر في منتصف العمر، وكانوا يرتدون معاطف بالية وقُبَّعات مستديرة، ويؤمنون بصدق أن التجارة ستتخطَّى أزمتها عاجلًا أم آجلًا وأن دخلهم سيَزيد ليُصبح خمسة جنيهات في الأسبوع. والمشي من متجر لآخر، والجدال مع أصحاب المتاجر الذين لا يرغبون في سماعك، والتنحي جانبًا والشعور بالمهانة عندما يأتي زبون. لا أعتقد أن شيئًا من ذلك قد ضايقَني على وجه الخصوص؛ ولكن أسلوب الحياة هذا يُعَد جحيمًا لبعض الرجال. هناك بعض الرجال الذين لا يقدرون حتى على الدخول إلى المتاجر وفتح حقيبة العينات خاصتهم دون التعبير عن امتعاضهم. ولكنني لست من ذلك النوع؛ فأنا قويُّ الشكيمة، ويُمكنني إقناع الناس بشراء أشياء لا يحتاجونها؛ وحتى إن أغلقوا الباب في وجهي، فلا يُزعجني ذلك. بيع الأشياء بالعمولة هو بالفعل ما أحب عمله، على شرط أن أرى أنه يُمكنني من خلاله كسب الكثير من المال. لا أعلم ما إذا كنت قد تعلمت الكثير في تلك السنة، ولكني تخلصتُ من أمور كثيرة؛ حيث انتزعتُ مني هُراء الجيش، ونشطَت في ذهني الأفكار التي خزنتها فيه أثناء سنة الركود التي كنت أقرأ فيها الروايات. لا أعتقد أنني قرأتُ كتابًا واحدًا، باستثناء القصص البوليسية، طوال الوقت كنت أتجوَّل فيه في الطرقات بائعًا. لم أعد مثقفًا، بل نزلتُ إلى حقائق الحياة الحديثة. ربما تسألني: ما هي حقائق الحياة الحديثة؟ حسنًا، أهمها هو الصراع الأبدي المسعور على بيع الأشياء، الذي يصل إلى بيع النفس لدى معظم الناس، المتمثل في الحصول على وظيفة والحفاظ عليها. أعتقد أنه لم يمرَّ شهر واحد منذ الحرب، في أي مجال عمل قد يخطر على بالك، إلا وكان عددُ الرجال يَفوق عددَ الوظائف المتاحة؛ فقد خلَّف هذا شعورًا مُروِّعًا غريبًا في حياتنا، كما لو كنا في سفينة تغرق، بها تسعة عشر شخصًا وأربعة عشر طوقَ نجاة فقط. وقد تتساءل عما إذا كان في ذلك أيُّ شيء يتعلق بالحداثة، وعن علاقة ذلك بالحرب. حسنًا، يبدو أن الأمر كذلك بالفعل؛ فهذا الشعور بأنه عليك دائمًا وأبدًا خوض الصراعات والتكالب على الأمور، وأنك لن تنال أي شيء ما لم تنتزعه من غيرك، وأن ثمة شخصًا آخر دائمًا يسعى لأخذ وظيفتك منك، وأنهم في الشهر التالي أو الشهر الذي يليه سيخفضون عدد الموظفين وأنك ستُطرَد من منصبك؛ أقسم إن كل ذلك لم يكن موجودًا في أيام ما قبل الحرب.

ولكن مع ذلك لم أكن معدمًا؛ فقد كنتُ أكسب القليل، وكنت لا أزال أحتفظ بالكثير من الأموال في البنك — ما يقرب من مائتَي جنيه — ولم أكن خائفًا من المستقبل. كنت أعلم أنني عاجلًا أم آجلًا سأحصل على وظيفة منتظمة. وبالفعل بعد ما يقرب من عام وبضربة حظ حدث ذلك. أقول بضربة حظ، ولكنني في الواقع كنت دائمًا أتخطى المصاعب؛ فلستُ من ذلك النوع الذي يقبل المعاناة، ولكني من المحتمل أن ينتهيَ بي الحال في ملجأ للفقراء تمامًا كما هو من المحتمل أن ينتهي بي في مجلس اللوردات؛ فأنا من النوع المتوسِّط، ذلك النوع الذي يجذبه نوعٌ من القانون الطبيعي نحو مستوى الجنيهات الخمس في الأسبوع. وأينما وجدتُ أمامي أي وظيفة أيًّا كانت تُحقق ذلك، فسأبذل ما في جهدي للحصول عليها.

حدث ذلك عندما كنت أتجول لبيع دبابيس الورق وأشرطة الآلات الكاتبة؛ حيث تسللتُ إلى مبنًى مكتبيٍّ ضخم في شارع فليت استريت، وكان ممنوعًا فيه التجولُ للبيع في الحقيقة؛ ولكني تمكنتُ من إعطاء عامل المصعد انطباعًا بأن حقيبة العينات التي أحملها حقيبة أوراق. مشيت في أحد الممرات بحثًا عن مكاتب شركة صغيرة لمعاجين الأسنان، أوصاني أحد الأشخاص بتجربة البيع لها، ولكني رأيت شخصًا شديد الأهمية في الجهة الأخرى من الممر. علمتُ على الفور أنه شخص مهم. تعلم كيف هي سمات رجال الأعمال الكبار هؤلاء؛ إذ يبدو أنهم يشغلون مساحاتٍ أكبرَ ويتحدثون بصوتٍ عالٍ أكثر من أي شخص عادي، وتخرجُ منهم هالةٌ من المال يُمكنك رؤيتها على بعد خمسين ياردة. عندما اقترب مني، أدركت أنه السير جوزيف تشيم. بالطبع كان في ملابس مدنية، ولكني لم أجد صعوبة في التعرف عليه. أظن أنه كان في ذلك المكان لحضور مؤتمر عمل أو ما شابه. وكان يتبعه موظفان، أو سكرتيران أو أيًّا كانا؛ كانا كأنما يحملان ذيل ثوبه رغم أنه لم يكن يرتدي ثوبًا ذا ذيل، ولكن شيئًا في المشهد يُشعرك بأن الأمر كذلك. بالطبع تنحيت جانبًا على الفور، ولكن من المفاجئ أنه عرَفَني على الرغم من أنه لم يرَني منذ عدة سنوات، وما فاجأني أيضًا أنه وقف وتحدث معي، قائلًا:

«مرحبًا! لقد رأيتك في مكان ما من قبل. ما اسمك؟ إنه على طرَفِ لساني.»

«بولينج يا سيدي. كنت في فيلق خدمة الجيش.»

«بالطبع. أنت الشاب الذي قال إنه ليس من الأعيان. ماذا تفعل هنا؟»

كان بإمكاني أن أُخبره أنني أبيع أشرطة الآلات الكاتبة، ولكن ربما كان سيُنهي ذلك كل شيء؛ ولكن أتى لي خاطرٌ مفاجئ كالذي يأتي المرءَ من حين لآخر، شعورٌ بأنه بإمكاني أن أستفيد من هذا الموقف إذا تعاملتُ معه بشكل ملائم، فقلت بدلًا من ذلك:

«حسنًا يا سيدي، في الواقع أنا أبحث عن وظيفة.»

«وظيفة، حقًّا؟ ممم. إنه ليس بالأمر السهل هذه الأيام.»

نظر إليَّ متفحصًا لبرهة. كان حامِلَا الذيل على مسافة قليلة منه؛ ورأيتُ وجهه العجوز الوسيم، وحاجبَيه الرماديَّين الكثيفَين، وأنفه الذي ينم عن الذكاء، وهو يرمقني وأدركتُ أنه قد قرَّر مساعدتي. غريبة هي سلطة هؤلاء الرجال الأغنياء؛ فلقد كان عابرًا بجواري بقوته ومجده وتابِعاه خلفه، ثم في لحظةِ صفاء عدَّل من وِجهته كإمبراطور يرمي فجأة عملةً معدنية لشحاذ، وقال:

«إذن أنت تُريد وظيفة. ماذا يُمكنك أن تفعل؟»

نشط إلهامي مرةً أخرى، ولكن بلا فائدة هذه المرة؛ فالمبالغة في ذِكْر المزايا غير مُجدٍ مع رجل كهذا، فقررت قول الحقيقة. قلت: «لا شيء يا سيدي. ولكني أرغب في العمل كمندوب مبيعات متجول.»

«مندوب مبيعات! ممم. لست متأكدًا من أنه يُمكنني أن أجد لك شيئًا في الوقت الحالي. سأرى.»

زمَّ شفتَيه لأعلى. لوهلة، أو ربما لنصف دقيقة، أخذ يُفكر بعمق شديد. كان الأمر مثيرًا. حتى في ذلك الوقت كنت أدرك أنه مثير. هذا الرجل الكبير المهم، الذي كان يمتلك على الأقل نصف مليون جنيه، كان بالفعل مهتمًّا بأمري؛ فلقد عارضتُ طريقه وأضعتُ على الأقل ثلاثَ دقائق من وقته، كل ذلك بسبب ملحوظةٍ صادفَ أني أبديتُها منذ سنوات سابقة. لقد عَلِقتُ في ذاكرته، ومِن ثَم كان مستعدًّا للتعامل مع المشكلة الصغيرة المتمثلة في إيجاد وظيفة لي. أستطيع القول إنه في ذلك اليوم قد طرَد عشرين موظفًا. وأخيرًا قال:

«ماذا عن العمل في شركة للتأمين؟ إنه شيء مستقر إلى حدٍّ ما، كما تعلم؛ فالتأمين أصبح ضرورة، مثلُه مثل الطعام.»

بالطبع أحببت فكرة العمل في شركة للتأمين، وكان السير جوزيف «متحمسًا» لشركة فلاينج سلامندر. الواقع، كان «متحمسًا» للعديد من الشركات. وتقدَّم أحدُ تابعَيه بدفتر للملاحظات، وعلى الفور أخرج قلم الحبر الذهبي من جيب صدريته وكتب توصية من أجلي إلى أحد أصحاب المناصب الرفيعة في فلاينج سلامندر. شكرته ومضى في طريقه، وتسللتُ أنا في الاتجاه الآخر، ولم يرَ أيٌّ منا الآخرَ ثانيةً.

وهكذا، حصلتُ على الوظيفة؛ وكما قلت من قبل فقد حصلَت عليَّ الوظيفةُ هي الأخرى. إنني أعمل في فلاينج سلامندر منذ ما يقرب من ثمانية عشر عامًا؛ وقد بدأت بالعمل في المكتب، ولكني الآن أعمل في وظيفة يُطلِقون عليها مفتش، أو عندما يكون ثَمة داعٍ للإبهار، يُطلِقون عليَّ مُمثلًا. أعمل يومَين في الأسبوع من المكتب المحلي؛ وبقية الوقت أتجول بين مقابلة العملاء الذين يُرسِل أسماءهم الوكلاءُ المحليون، وتقييم المتاجر وغيرها من الممتلكات، ومن حينٍ لآخر إجراء صفقة أو صفقتَين لحسابي الخاص؛ وأكسب حوالي سبعة جنيهات بالتقريب في الأسبوع. في الحقيقة تلك هي نهاية قصتي.

عندما أرجع بالذاكرة، أُدرك أن حياتي الحقيقية — إن كنتُ قد عشت حياة بهذا المعنى بالفعل — انتهَت في سن السادسة عشرة؛ فكلُّ شيء كان مهمًّا بالفعل بالنسبة لي قد حدث قبل ذلك العمر. ولكن الأمور كانت لا تزال تحدث — الحرب، على سبيل المثال — حتى وقت حصولي على الوظيفة في فلاينج سلامندر؛ ولكن بعد ذلك، حسنًا، يقولون إن الأشخاص السعداء ليس لديهم تاريخ، وكذلك من يعملون في مكاتب التأمين؛ منذ ذلك اليوم وما بعده، لم يكن ثمة شيء في حياتي يُمكنك أن تصفه بالحدث، عدا ما حدث بعدئذٍ بعامَين ونصف العام في بداية عام ١٩٢٣ حين تزوجت.

١٠

كنتُ أعيش في نُزل في إيلينج. كانت السنوات تتعاقب أو بالأحرى تزحف. وكانت لوير بينفيلد قد غاب أثرها تقريبًا عن ذاكرتي. كنت نموذجًا لموظف المدينة الشابِّ العادي، الذي ينطلق ليلحق بقطار الساعة الثامنة والربع ويتآمر على زملائه الآخرين في العمل. وكنت أحظى بتقدير كبير في الشركة، وراضيًا تمامًا عن حياتي؛ فقد كان وهم النجاح فيما بعد الحرب يتملَّكني، بقدر أو بآخر. لا بد أنك تتذكر تلك الكلمات المعسولة: النشاط، والحركة، والثبات، والشجاعة. المضي قدمًا أو ترك المسار. ثمة مكان للجميع في القمة. لا شيء يعرقل الرجل الجيد عن النجاح. والإعلانات في المجلات عن الشاب الذي ربتَ رئيسُه في العمل على كتفه، والمدير التنفيذي المتسم بالحزم والحماس الذي يكسب الكثير من المال، ويعزو نجاحه إلى دورة تدريبة ما، حصَل عليها بالمراسلة. من الطريف أننا صدَّقنا ذلك جميعًا، حتى رجال مثلي من الذين لم يُطبقوا الكثير منه؛ وذلك لأنني لست وصوليًّا أو بائسًا، ولأنني بطبيعتي لا يُمكنني أن أكون أيًّا منهما. ولكن هكذا كانت روح العصر. تقدم! انجح! وإن رأيت رجلًا قد سقط فشلًا، فأجهِز عليه قبل أن يستعيد قُواه. بالطبع كان ذلك في بداية العشرينيات من القرن العشرين، حيث كانت بعض آثار الحرب قد اختفت ولم تكن الأزمات قد أنهكَتْنا بعد.

كان لديَّ عُضوية ممتازة في مكتبة بوتس، وحضرت حفلات رقص رخيصةَ الثمن، وانضممت إلى نادي تنس محلِّي. تعرف نواديَ التنس تلك التي تكون في الضواحي الأنيقة، حيث الأجنحة الخشبية الصغيرة، والسياجات العالية ذات الشبكات الحديدية؛ التي يثب فيها الشباب مرتَدِين الملابس البيضاء القبيحة جيئة وذهابًا، ويصيحون «خمسة عشر، أربعين!» و«تعادل!» بأصوات فيها محاكاة لا بأس بها للطبقة العليا. تعلمت لعب التنس، ولم يكن رقصي شديد السوء، وأبليت بلاءً حسنًا في التعرف على الفتيات. في سن الثلاثين تقريبًا، لم أكن شابًّا قبيحًا، بوجهي الأحمر وشعري السمني اللون؛ وفي تلك الأيام كانت لا تزال ميزة لصالح الشاب أن يكون قد خدم في الحرب. لم أنجح، حينئذٍ أو في أي وقت آخر، أن أبدوَ كرجلٍ نبيل؛ ولكن من ناحية أخرى قد لا تعرف أنني ابن صاحب متجر صغير من بلدة ريفية. تمكنت من إثبات نفسي في مجتمع إيلينج شديد التنوع، حيث تتداخل طبقةُ صغار الضباط مع طبقة المهنيين العاديين. قابلت هيلدا لأول مرة في نادي التنس.

كانت هيلدا في ذلك الوقت في الرابعة والعشرين من عمرها. كانت فتاة خجولة قصيرة ونحيفة، بشعر داكن وحركات جميلة، وكانت تُشبه كثيرًا الأرانب البرية، ويُعزى ذلك إلى عينَيها الكبيرتَين للغاية. كانت من هؤلاء الأشخاص الذين لا يتحدثون كثيرًا، ولكنهم يظلون على الحياد في أي محادثة دائرة، ويُعطون انطباعًا بأنهم يستمعون. وكانت إن فتحت فمَها، فلا تقول عادةً إلا «أوه، أجل، أعتقد ذلك أيضًا»؛ موافقةً على أي شيء يُقال في آخر الحديث. أما في التنس، فقد كانت تقفز بكل رشاقة ولم يكن لعبها سيئًا، ولكن كانت لها طريقة صبيانية بائسة نوعًا ما. كان اسم عائلتها فنسنت.

إذا كنت متزوجًا، فقد تتساءل أحيانًا في نفسك: «ما الذي جعلني بحق الجحيم أتزوج؟» ولطالما قلت ذلك عن زواجي بهيلدا. مرة أخرى، أرجع بذاكرتي خمسة عشر عامًا، لأسأل نفسي: لماذا تزوجت هيلدا؟

لقد تزوجتها، من ناحية، بالطبع، لأنها كانت شابة وجميلة جدًّا. وفوق كل ذلك، لا يسَعُني القول إلا أنه كان من الصعب للغاية عليَّ أن أفهم ما تُريده بالفعل؛ لأنها جاءت من أصول مختلفة تمامًا عني. لذا، كان عليَّ أن أتزوجها أولًا ثم أتعرَّف عليها بعد ذلك، بينما إن كنت قد تزوجت إلسي ووترز مثلًا، لكنت سأعرف مِمَّن تزوجت. كانت هيلدا تنتمي إلى طبقة لم أكن أعلم عنها شيئًا إلا من القيل والقال، طبقة الضبَّاط المعدَمين. لأجيال عديدة في الماضي كان في عائلتها الجنود، والبحَّارة، ورجال الدِّين، والضباط الإنجليز الهنود، وما إلى ذلك. لم يكن لديهم أيُّ أموال قط، ولكنَّ أيًّا منهم لم يفعل أي شيء قط يُمكنني اعتباره عملًا. فلتقل ما شئت، ولكنَّ ثمة شيئًا فيهم يجذب من ينتمون مثلي إلى طبقة أصحاب المتاجر الأتقياء، طبقة بسطاء التدين، ومن يتناولون وجبة تتضمن الشاي بعد الظهيرة. لا يُؤثر ذلك فيَّ الآن، ولكن كان له أثره حينها. لا تُسئ فهم ما أقول، فلا أعني أنني تزوجت هيلدا لأنها تنتمي إلى طبقةٍ كنت أخدمها يومًا من وراء طاولة البيع، في محاولة لتسلق السلم الاجتماعي، ولكن كل ما في الأمر أنني لم أتمكن من فهمها، ومِن ثَم خدَعني مظهرها. ومن الأشياء الأخرى التي لم أفهمها بالتأكيد هو أن الفتيات في عائلات الطبقة المتوسطة المعدمة تلك كن على استعداد للزواج من أي شيء يرتدي بنطالًا، وذلك فقط للهروب من المنزل.

لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تأخذني هيلدا لمقابلة عائلتها. ولم أعلم إلا في ذلك الحين أنه كانت ثمة مستعمرة كبيرة من الإنجليز الهنود في إيلينج. اكتشفت عالمًا جديدًا! كان ذلك بمثابة اكتشافٍ لي.

هل تعرف هذه العائلات من الإنجليز الهنود؟ من المستحيل تقريبًا أن تتذكر عندما تكون في منازلهم أن الشوارع خارجها كانت في إنجلترا، وأننا كنا في القرن العشرين؛ فبمجرد أن تطأ قدماك عتبات بيوتهم، تُصبح في الهند في ثمانينيَّات القرن التاسع عشر. لا بد أنك تعلم هذه الأجواء، حيث أثاث المنازل من خشب الساج المنحوت، والصواني من النُّحاس الأصفر، ورءوس النمور المتربة على الجدران، والسيجار التريشينوبولي، والمخلل الأحمر الحار، والصور الفوتوغرافية الصفراء لرجال مرتدين لخوذات تقيهم من الشمس، والكلمات الهِنْدستانية التي من المفترض أنك تعرف معناها، والحكايات الخالدة عن اصطياد النمور، وما قاله سميث لجونز في بونا عام ١٨٨٧. إنه عالم صغير خاص بهم خلقوه لأنفسهم، كحويصلة يحتمون بها. بالنسبة لي، كان بالطبع كل شيء جديدًا ومثيرًا للاهتمام نوعًا ما. لم يذهب العجوز فنسنت والد هيلدا إلى الهند فقط، بل إلى مكان أكثر غرابة، بورنيو أو ساراواك، لا أتذكر أيهما. كان النموذج المثالي لهؤلاء، فقد كان أصلع تمامًا، ويكاد لا يُرى وجهه خلف شاربه؛ وكان لديه الكثير من الحكايات عن أفاعي الكوبرا وأوشحة الخصر العريضة، وما قاله حاكمُ المقاطعة في عام ١٨٩٣. وكانت والدة هيلدا باهتة كالصور الفوتوغرافية المعلقة على الجدران. وكان لديهما كذلك ابن، اسمه هارولد، يعمل في وظيفة رسمية في سيلان، وكان في المنزل في إجازة في الوقت الذي قابلت فيه هيلدا أول مرة. كان لديهم منزل صغير مظلم في أحد تلك الشوارع الخلفية المخفية في إيلينج. وكانت به دومًا رائحة السيجار التريشينوبولي، وكان مليئًا عن آخره بالرماح، وقصبات النفخ، والزخارف من النحاس الأصفر، ورءوس الحيوانات البرية؛ لذا، فبالكاد يُمكنك الحركة فيه.

تقاعد العجوز فنسنت في عام ١٩١٠، ومنذ ذلك الحين أظهر هو وزوجته نشاطًا كبيرًا، ذهنيًّا وبدنيًّا، كزوج من المَحار. كنت في ذلك الوقت قد انبهرت بشكل غامض بهم لكونهم عائلة بها رواد وعقداء، بل وحتى أميرال. وكان موقفي من عائلة فنسنت، وموقفهم مني، مثالًا جيدًا على الحمق الذي قد يغدو عليه الناسُ عندما يخرجون عن عالمهم. ضعني بين أهل التجارة — سواءٌ أكانوا مُديري شركات أو باعة متجولين — وسأكون قادرًا على الحكم عليهم جيدًا. ولكنني ليست لديَّ أي خبرة في طبقة الضباط ورجال الدين والذين يعيشون من رِيع العقارات، وكنت أميل إلى التقرب من هؤلاء المستبعدين المنقرِضين. فقد كنت أنظر إليهم باعتبارهم أعلى مني منزلةً اجتماعيًّا وفكريًّا، بينما أساءوا فهمي، فظنوا أنني رجلُ أعمال واعدٌ سيجني الكثير من المال قريبًا. لأشخاص مثلهم، كانت «الأعمال»، سواءٌ أكانت التأمين البحري أو بيع الفول السوداني، مجرد لغز خفي. وكل ما كانوا يعرفونه أنها وسيلة مبتذلة لجني الأموال. اعتاد العجوز فنسنت الحديث بانبهار عن عملي «في الأعمال» — أتذكر مرة أنه خانه التعبير وقال: «في التجارة» — ولكن كان من الواضح أنه لم يكن يفهم الفرق بين العمل موظفًا والعمل لحسابك الخاص. وكانت لديه فكرةٌ غامضة بأنه بما بأنني كنت «في» شركة فلاينج سلامندر، فإنه لا بد أنني سأرتقي إلى قمتها عاجلًا أو آجلًا عن طريق الترقية. وأعتقد أنه من المحتمل أن يكون لديه كذلك تصورٌ عني في المستقبل وأنا أُقرِضه المال. هارولد بالتأكيد كان لديه ذلك التصور، إذ كنت أستطيع رؤيته في عينه. في الواقع، حتى بما هو عليه دخلي الآن، كنت على الأرجح سأُقرِض هارولد المال في هذه اللحظة إن كان حيًّا. لحسن الحظ أنه مات بعد بضع سنوات من زواجنا، من مرض مِعَوي أو شيء من هذا القبيل، وكذلك مات العجوزان فنسنت.

حسنًا، تزوجت هيلدا، وكان الأمر من بدايته فاشلًا. لعلك تسأل لماذا تزوجتُها؟ ولكن لماذا تزوجتَ أنت زوجتك؟ تحدث تلك الأمور لنا. تُرى هل ستُصدقني إن قلت لك إنني خلال أول عامَين أو ثلاثة أعوام من الزواج كنت أفكر جديًّا في قتل هيلدا؟ بالطبع لا يُقدِم المرء في الواقع قط على تلك الأمور، وإنما هي نوع من الخيال الذي نستمتع بالتفكير فيه. إلى جانب ذلك، الرجل الذي يقتل زوجته دائمًا ما يُقبَض عليه. وعلى الرغم من أنه يُمكنك بذكاءٍ ادعاءُ حجة غياب عن مسرح الجريمة، فالشرطة تعلم جيدًا أنه أنت مَن فعلها، وسوف يُثبتونها عليك بطريقة أو بأخرى. عندما تُقتَل الزوجة، يكون زوجها دائمًا هو المشتبه فيه الأول، ما يُعطيك لمحة جانبية صغيرة عن فكرة الناس الحقيقية عن الزواج.

يعتاد المرء على كل شيء بمرور الوقت. بعد عام أو عامَين، لم أعد أريد قتلها وبدأتُ أتعجب منها. فقط أتعجب. ولساعات في بعض الأحيان في ما بعد الظهيرة يوم الأحد أو في المساء عندما أرجع إلى المنزل من العمل، كنت أستلقي على سريري بكامل ملابسي باستثناء الحذاء، وأتعجب من أمر النساء. لماذا هن هكذا، وكيف أصبحن على ما هن عليه، وهل يفعلن ذلك عن عمد؟ يبدو أنه من أكثر الأمور رعبًا السرعة الشديدة التي تذبل بها بعض النساء بعد الزواج؛ فكما لو أنهن قد عشن لغرض واحد فقط، وبمجرد تحقيقه يذبلن مثل الزهرة التي نثرت بذورها. ما يُحبطني حقيقةً هو الاتجاه الكئيب من الحياة الذي ينطوي عليه الأمر. إذا كان الزواج مجردَ خدعة مكشوفة — أوقعَت بك المرأة فيها ثم التفتَت لك وقالت: «الآن أيها الوغد أمسكتُ بك، وستعمل من أجلي بينما أستمتع أنا بحياتي!» — فلن أُمانع كثيرًا. ولكن لا شيء من هذا يحدث، فالنساء لا يُرِدن أن يحظَين بأوقات جيدة، بل يُردن فقط أن يتهدلن في منتصف العمر بأقصى سرعة ممكنة. وبعد المعركة المروعة من أجل الحصول على رجل والزواج منه، تسترخي المرأة نوعًا ما، ويختفي كلُّ شبابها وجمالها وطاقتها وبهجتها في الحياة بين ليلةٍ وضُحاها. كان هذا ما حدث مع هيلدا. إنها تلك التي اعتقدتُ أنها فتاة رقيقة وجميلة — وفي الواقع كانت كذلك بالفعل في بداية معرفتي بها — ذلك الكائن الذي يفوقني رُقيًّا، وخلال ثلاث سنوات فقط أصبحَت امرأة في منتصف العمر كئيبةً وعديمةَ الحيوية. لا أُنكر أنني كنت جزءًا من المشكلة؛ ولكن بصرف النظر عمَّن كانت ستتزوج، فلم يكن ليختلف الوضع على الإطلاق.

ما تفتقده هيلدا — اكتشفت ذلك بعد أسبوع تقريبًا من زواجنا — هو بعضُ المرح في الحياة، أي قدر من الاهتمام بأشياء؛ لا لشيء إلا لأنها تجدها مشوقة. إن مبدأ فعل شيء لأنك تستمتع به هو أمر يصعب عليها فَهمُه. لم أكتشف الحال الحقيقي لعائلات الطبقة المتوسطة الفقيرة هذه إلا من خلال هيلدا. الحقيقة الأساسية عنهم هي أنهم قد فقدوا كامل حيويتهم بسبب قلة المال. في مثل تلك العائلات، التي تعيش على المعاشات والمرتبات السنوية الصغيرة — أي على الدخول التي لا تزداد أبدًا بل تقلُّ عادةً — فإن ثمة شعورًا بالفقر ومسح بقايا الطعام بقشور الخبز والتفكير أكثر من مرة قبل صرف أقل المبالغ يزيد على ما تجده لدى أي عائلة من عمال المزارع، ناهيك عن عائلةٍ كعائلتي. كانت هيلدا تقول لي عادةً إن الشيء الأول تقريبًا الذي يُمكنها تذكُّره هو الشعور المروع بأنه لم يكن لديهم قط ما يكفي من المال لأي شيء. بالطبع في مثل ذلك النوع من العائلات، تكون قلة المال دائمًا في أسوأ حالاتها عندما يكون الأطفال في عمر المدرسة. وعلى هذا الأساس يكبرون، خاصةً الفتيات، بأفكار راسخة بأن المرء دائمًا يعيش في ضنك، وأنه يجب أن يكون بائسًا بسبب ذلك.

عشنا في بداية زواجنا في شقة صغيرة وضيقة، وواجهنا صعوبةً في العيش على راتبي. بعد ذلك، عندما نُقِلت إلى فرع غرب بلتشلي، كانت الأحوال أفضل. ولكن سلوك هيلدا لم يتغيَّر؛ إذ كانت دائمًا لديها ذلك الشعور الكئيب المروع تجاه نقص الأموال، فاتورة الحليب، فاتورة الفحم، الإيجار، مصاريف المدرسة! عشنا حياتنا كلَّها معًا على نَغْمة أننا «في الأسبوع التالي سنكون في ملجأ للفقراء». لا أعني أن هيلدا بخيلة، بالمعنى العاديِّ للكلمة، ناهيك عن أنها ليست أنانية؛ فحتى عندما يكون معنا بعض النقود المدَّخَرة التي يُمكننا إنفاقها، أجد صعوبة في إقناعها بأن تشتريَ لنفسها بعض الملابس اللائقة. ولكن لديها هذا الشعور بأنه يجب على المرء أن يعيش في قلق مستمر بسبب نقص المال، أي أن تعيش في أجواء من الكآبة بسبب الإحساس بالمسئولية. ولكنني لست مثلها؛ فلديَّ موقف ينتمي أكثر إلى الطبقة العاملة تجاه المال؛ إذ إن الحياة خُلِقَت لكي نعيشها، وإن لم نكُن سعداءَ الأسبوع التالي، حسنًا، فالأسبوع التالي ما زال بعيدًا. ما يصدمها في الواقع هو أنني أرفض أن أشعر بالقلق، وهي دائمًا تُدينني لهذا السبب، فتجدها تقول: «ولكن يا جورج! لا يبدو أنك مُدرِك للأمر! ليس لدينا مال على الإطلاق! إن الأمر في غاية الخطورة!» وتُحب الدخول في نوبة هلع لأن شيئًا أو آخر «خطير». ومؤخرًا، أصبحت تُمارس تلك الخدعة: عندما تكون مكتئبة من شيء، تحدب كتفَيها وتطوي ذراعَيها أمام صدرها. إذا وضعت قائمة بملاحظات هيلدا خلال اليوم، فستجد أن أهم الملاحظات تتمثل في ثلاث عبارات؛ «لا يُمكننا تحمُّل نفقة ذلك»، و«إنه توفير كبير»، و«لا أعلم من أين سنحصل على المال من أجل ذلك». إنها تفعل كل شيء لأسباب سلبية. عندما تُعِد كعكة، لا تُفكر في الكعك، وإنما في كيفية إنقاذ الزبد والبيض من التلف. وعندما أكون معها في السرير، فكل ما تفكر فيه هو تجنب الحمل. وإن ذهبت إلى السينما، تتلوى سخطًا طوال الوقت على ثمن التذكرة. أما طريقتها في تدبير المنزل، مع كل التأكيد على «استهلاك الأشياء» و«إصلاح الأشياء»، فلو كانت أمي قد رأتها لأصابتها بتشنُّجات. على الجانب الآخر، لم تكن هيلدا متكبرة على الإطلاق، فلم تنظر لي باحتقار قط؛ لأنني لست من النبلاء، بل على العكس، كنت من وجهة نظرها أقربَ إلى اللوردات في عاداتي. ونحن لا نذهب إلى أي مطعم إلا ونخوض شجارًا هامسًا مروعًا؛ لأنني أعطي النادلة بقشيشًا كبيرًا. ومن الغريب أنه في السنوات القليلة الماضية، أصبحتُ بلا شك من الطبقة المتوسطة الدنيا أكثر مني في رؤاها وحتى في شكلها بوجه عام. بالطبع كل هذا «التوفير» لم يُؤدِّ إلى أي شيء، فهو لا يُؤدي إلى شيء أبدًا؛ إذ نعيش على نحو جيد أو سيئ كما يعيش الآخرون في شارع إلزمير. ولكن القلق المستمر حول فاتورة الغاز وفاتورة الحليب والسعر المرتفع للزبد وأحذية الطفلَين ومصاريف المدرسة لا يتوقف. الأمر أشبهُ بلُعبة مع هيلدا.

انتقلنا إلى غرب بلتشلي عام ١٩٢٩، واشترينا منزلنا في شارع إلزمير في العام التالي قبل مولد بيلي بقليل. وبعدما أصبحتُ مفتشًا، كنت أتغيب عن المنزل كثيرًا وكانت لديَّ فرصة أكبر أن أُقابل نساءً أُخرَيات. بالطبع كنت خائنًا، لا أقول إنني كذلك طوالَ الوقت، ولكن حيثما تسنح الفرصة. من المثير للدهشة أن هيلدا كانت تشعر بالغيرة؛ فمن ناحية، باعتبار أن مثل تلك الأمور لا تعنيها كثيرًا، لم أتوقع أن تهتم بالأمر. ولكن ككل النساء اللاتي يشعرن بالغيرة، فإنها أحيانًا ما تمكر مكرًا لا يُمكنك التفكير في أنها قادرة عليه. في بعض الأحيان، تكاد الطريقة التي تكتشف بها الأمر تجعلني أومن في التخاطر، ناهيك عن درجة الشكِّ نفسِها التي تكون لديها حتى عندما لا أكون قد ارتكبت أي ذنب، فأنا دائمًا موضعُ شك بشكلٍ أو بآخر، على الرغم من أنني، يعلم الله، في السنوات القليلة الماضية — السنوات الخمس الماضية على أي حال — كنت بريئًا تمامًا؛ فما باليد حيلة إن كنت في مثل بدانتي.

وإجمالًا، أعتقد أنني وهيلدا لسنا أسوأ حالًا من نصف أزواج شارع إلزمير تقريبًا. أحيانًا كنت أُفكر في الانفصال أو الطلاق، ولكنك في وضعنا لا تُقدِم على تلك الأشياء؛ لأنك لا يُمكنك تحملها. ثم يمر الوقت وتُقلع عن المقاومة. عندما تعيش مع امرأة خمس عشرة سنة، يُصبح من الصعب أن تتخيل حياتك من دونها، فقد أصبحَت جزءًا من مسيرة الحياة. ربما تجد أشياء لا تُعجبك في الشمس والقمر، ولكن هل تُريد تغييرهما بالفعل؟ إلى جانب ذلك، كان لدينا طفلان، والأطفال هم «حلقة الوصل»، كما يقولون، أو «الرِّباط»، أو بالأحرى فإن علاقتك بهم تُصبح كالثقل والقيد.

تعرفَت هيدا مؤخرًا على صديقتَين رائعتَين، السيدة ويلر والآنسة مينس. السيدة ويلر أرملة، واستشففت أن لديها أفكارًا قاسية تجاه الرجال؛ إذ يُمكنني أن أشعر بحركاتها الاستنكارية عندما أدخل عليهن الغرفة. إنها سيدة صغيرة البِنية ذابلة، وتُعطيك انطباعًا غريبًا بأنها كانت هكذا طوال عمرها بهيئتها الشاحبة العجوز، ولكنها مليئة بالطاقة. ولديها تأثير سيئ على هيلدا، لأن لديها الحماسَ نفسه «للتوفير» و«إصلاح الأشياء»، ولكن بطريقة مختلفة بعض الشيء؛ فهو معها يأخذ شكل الاعتقاد بأنه يُمكنك أن تقضي وقتًا جيدًا دون دفع المال؛ فهي دائمًا تكتشف طرقًا غير مكلفة للشراء والتسلية. بالنسبة لأشخاص كهؤلاء، لا يعنيهم ما إذا كانوا يُريدون الشيء بالفعل أم لا؛ فكل ما يعنيهم هو ما إذا كان بإمكانهم الحصولُ عليه بثمن بخس. في أوقات تخفيضات بواقي المتاجر الكبيرة، تكون السيدة ويلر دائمًا في مقدمة الصفوف؛ وأقصى دواعي فخرها أن تخرج دون أن تشتري أي شيء بعد جولة من الصراع العنيف حول طاولات البيع طوال اليوم. أما الآنسة مينس، فهي مختلفة عن ذلك تمامًا، فهي بالفعل حالة يُرثى لها، مسكينة هي الآنسة مينس. هي امرأة طويلة ونحيفة في الثامنة والثلاثين من عمرها تقريبًا، ذات شعر أسود كالجلد اللامع ووجه جميل جدًّا وباعث على الثقة. وهي تعيش على دخل ثابت وصغير نوعًا ما، معاش سنوي أو ما شابه، وأتخيل أنها من بقايا مجتمع غرب بلتشلي القديم منذ كان بلدة قروية صغيرة قبل تعاظم البناء في الضاحية. يبدو جليًّا أن والدها كان من رجال الدين وأنه قمعها بشدة في حياته. إنها من المنتجات الفرعية الخاصة للطبقات المتوسطة، هؤلاء النساء اللاتي ذبلن قبل حتى أن يتزوجن ليفررن من منازل عائلاتهن. إن الآنسة مينس المسكينة العجوز، على الرغم من كل تجاعيدها، لا تزال تمامًا كالأطفال؛ فلا يزال عدم الذهاب إلى الكنيسة مغامرةً كبيرة بالنسبة لها، ودائمًا ما تُهمهِم حول «التقدم الحديث» و«الحركة النسائية»، ولديها تلهُّف غريب لفعل شيء تُسميه «تطوير ذهنها»، فقط هي لا تعلم بالتحديد كيف تبدأ فيه. أعتقد أنها في البداية قد صاحبت هيلدا والسيدة ويلر لشعورها الشديد بالوحدة، ولكنهما الآن تصطحبانها أينما ذهبَتا.

يا له من وقت ذلك الذي يقضينه معًا هؤلاء الثلاث! أحيانًا أكاد أحسدهن. السيدة ويلر هي الروح القائدة؛ فلا يمكنك أن تُفكِّر في أي نوع من أنواع الحماقات، إلا وتجدها قد جذبتهما إليه في وقت أو آخر؛ أي شيء من الثيوصوفية إلى اللعب بالخيوط، طالما يُمكنك فعله دون أن تتكلَّف الكثير من المال. تحمَّسْن كذلك لعدة أشهر لعلوم التغذية، وحصلت السيدة ويلر على نسخة مستعمَلة من كتاب بعنوان «الطاقة الإشعاعية»، الذي يدَّعي أنه ينبغي عليك أن تعيش على الخَس وغيرِها من الأشياء التي لا تُكلف المال. بالطبع راق هذا لهيلدا، التي بدأت على الفور في تجويع نفسها، وقد كانت ستُجرب الأمر معي ومع الأطفال كذلك، ولكني استخدمتُ سلطتي لمنع الأمر. بعد ذلك جرَّبن العلاجَ عن طريق الإيمان، ثم فكرن في تمرين الذاكرة؛ ولكن بعد العديد من المراسَلات، اكتشفن أنهن لن يستطعن الحصول على الكتيبات مجانًا، الأمر الذي كان فكرة السيدة ويلر. ثم جربن الطبخ في صناديق التبن المعزولة، ثم جرَّبن شيئًا كريهًا يُسمَّى نبيذ النحل، الذي كان من المفترض ألا يُكلِّفَهن شيئًا على الإطلاق لأنه يُصنَع من الماء؛ ولكنهن أقلعن عن ذلك عندما قرأن مقالًا في الصحيفة يقول إن نبيذ النحل يُسبب السرطان. بعد ذلك، انضممن لأحد نوادي السيدات التي تُنظم رحلات للمصانع؛ ولكن بعد حسابات كثيرة، قررَت السيد ويلر أن الشاي المجاني الذي تُعطيه المصانع لهن لا يُعادل ثمن العضوية. أيضًا تمكنت السيدة ويلر بعد جهد من التعرف على شخص يمنح تذاكر مجانية للمسرحيات التي تُنتِجها بعض الجمعيات المسرحية. عرَفتُ أن الثلاثة جلسن لساعات للاستماع لمسرحية رفيعة المستوى لم يتظاهَرن حتى أنهن فَهِمن منها شيئًا — ولم يستطعن حتى أن يُخبرنك باسم المسرحية — ولكنهن شعرن بأنهن كنَّ يحصلن على شيء بلا مقابل. وصل الأمر إلى أنهن جرَّبن استحضارَ الأرواح؛ إذ تعرفَت السيد ويلر على وسيط روحاني فقير كان معدمًا، لدرجة أنه عقَد لهن جلسات بثمانية عشر بنسًا حتى يتمكنَّ من الاطلاع على الغيب مقابل ستة بنسات في المرة. رأيته مرة عندما جاء إلى منزلنا لعقد إحدى جلسات استحضار الأرواح، وكان شيطانًا عجوزًا متوعك الصحة، ومن الواضح أنه كان في رعب قاتل من أثر الهذيان الارتعاشي الذي كان مصابًا به. وكان يرتعش بشدة لدرجة أنه عندما كان يخلع معطفه في الردهة، أصيب بنوبة من التشنج وسقطَت لفافة من الشاش من رجل بنطاله. تمكنت من إعادة دسِّها في بنطاله قبل أن تراني السيدات. وقد علمت أنهم يستخدمون الشاش في صنع الإكتوبلازم، وأظن أنه كان ذاهبًا إلى جلسة استحضار أخرى بعد ذلك؛ فلا يُمكن أن يتجلى لك الأموات بثمانية عشر بنسًا. إن أكبر اكتشافات السيدة ويلر في البضع السنوات الأخيرة هو نادي كتاب اليسار. أعتقد أن أخبار نادي كتاب اليسار وصلَت غرب بلتشلي عام ١٩٣٦، وقد انضممتُ إليه بعدئذٍ بقليل، وكان تقريبًا الوقت الوحيد الذي يُمكنني تذكُّر أنني كنت أُنفق المال فيه دونما اعتراض من هيلدا؛ إذ ترى أنه من المعقول بعض الشيء أن تشتريَ كتابًا إن تمكَّنت من الحصول عليه بثلث ثمنِه الأصلي. إنها امرأة غريبة حقًّا. حاولَت الآنسة مينس بالتأكيد قراءة كتاب أو كتابَين، ولكن ذلك ما كان ليحدث مع المرأتَين الأخريَين؛ فلم يكن لهن أي صلة مباشرة مع نادي كتاب اليسار أو أي فكرة عما كان يُقدمه. في الواقع، أعتقد أن السيدة ويلر في البداية ظنت أنه شيء له علاقة بالكتب التي تُترَك في عربات السكة الحديدية ويبيعونها للناس بأثمان قليلة. ولكن ما كن يعلمنه جيدًا هو أنه بإمكانهن الحصولُ على كتب قيمتها سبعة شلنات وستة بنسات بنصف كراون فقط، ولذا يقلن دائمًا إنها «فكرة جيدة». بين الحين والآخر، يعقد فرع نادي كتاب اليسار اجتماعاتٍ ويَسمح للناس بالحديث، وتأخذ السيدة ويلر دائمًا الاثنتَين الأخريَين معها. إن لديها حماسًا للقاءات العامة من أي نوع، شريطةَ أن تكون دائمًا في مكان مغلق ومجانية. يجلس الثلاثة كقطع الحلوى؛ فلا يعرفن موضوع الاجتماع ولا يُشكِّل لهن أيَّ اهتمام، ولكنهن يشعرن بشعور غريب، خاصة الآنسة مينس، وهو أنهن يُطوِّرن من فكرهن، وأن ذلك لا يُكلفهن شيئًا.

حسنًا، تلك هي هيلدا. ها قد رأيت ما هي عليه. إجمالًا، أعتقد أنها ليست أكثر سوءًا مني. أحيانًا عندما كنت في بداية زواجنا، كنت أشعر أنني أريد أن أخنقها، ولكن بعد ذلك وصلتُ إلى مرحلة عدم الاهتمام. ثم أصبحت بدينًا ومستكينًا. لا بد أننا كنا في عام ١٩٣٠ عندما أصبحت بدينًا. حدث الأمر فجأة كما لو أن كرة مدفع قد ضربتني وعلقَتْ بداخلي. تعلم ذلك الشعور؛ حيث تذهب في إحدى الليالي إلى السرير، ولا زلت تشعر أنك شاب بشكل أو بآخر، وتتطلع للفتيات وغيرها من الأمور؛ ولكن في الصباح التالي تستيقظ بوعي تام بأنك مجرد رجل بدين عجوز مسكين، ليس أمامه شيءٌ ليفعله قبل وفاته سوى أن يكدَّ لشراء أحذية لأطفاله.

نحن الآن في عام ١٩٣٨، وفي كل ترسانة في العالم يُثبتون السفن الحربية لحرب أخرى، والاسم الذي صادفتُ رؤيته في عناوين الصحف قد حرَّك فيَّ الكثير من الذكريات التي من المفترض أن تكون قد ماتت منذ عدة سنين مضَت، والتي لا يعلم عددَها إلا الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤