الفصل الأول

نشأة المدائح النبوية

الفرق بين المدح والرثاء – دالية الأعشى – لامية كعب بن زهير – مدائح حسان – مدائح علي بن أبي طالب – ميمية الفرزدق – مدح أهل البيت – النسيب في صدور المدائح النبوية.

***

  • (١)

    المدائح النبوية من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص.

    وأكثر المدائح النبوية قيل بعد وفاة الرسول، وما يقال بعد الوفاة يُسمَّى رثاءً، ولكنه في الرسول يُسمَّى مدحًا، كأنهم لحظوا أن الرسول موصول الحياة، وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء. وقد يمكن القول بأن الثناء على الميت لا يسمى رثاء إلا إذا قيل في أعقاب الموت؛ ولذلك نراهم يقولون: «قال حسان يرثي النبي » ليفرقوا بين حالين من الثناء: ما كان في حياة الرسول، وما كان بعد موت الرسول، بخلاف ما يقع من شاعر ولد بعد وفاة النبي ، فإن ثناءه عليه مديح لا رثاء؛ لأنه لا موجب للتفرقة بين حال وحال، ولأن الرثاء يُقصَد به إعلان التحزن والتفجع، على حين لا يُرَاد بالمدائح النبوية إلا التقرب إلى الله بنشر محاسن الدين، والثناء على شمائل الرسول.

  • (٢)

    ولم يُعنَ أحد من القدماء أو المحدثين بتأريخ هذا الفن في اللغة العربية؛ لأن الذين أجادوه لم يكونوا في الأغلب من فحول الشعراء، ولأنه لم يطَّرد في التاريخ، ولم يكن فنًّا ظاهرًا بين الفنون الشعرية كالرثاء، والوصف، والنسيب، وإنما هو فن نشأ في البيئات الصوفية، ولم يهتم به من غير المتصوفة إلا القليل، غير أنه مع ذلك جدير بالدرس؛ لأن فيه بدائع من القصائد والمقطوعات، ولأن له شمائل غير شمائل المديح، ولأن لأصحابه غايات دينية وأدبية خليقة بأن تُدرس، وبأن يُرفع عنها إصر الخمول.

    وسنحاول في هذا الكتاب تأريخَ هذا الفن من بدء ظهوره إلى اليوم، والإشادةَ بالشخصيات القوية التي نشرت أعلامه في تاريخ اللغة العربية، وتحليلَ القصائد التي أثَّرت في البيئات الشعبية، والكشفَ عما في آثار هذا الفن من الألفاظ والتعابير والمصطلحات. ولسنا نزعم أننا سنستقصي كل ما يتصل بهذا الفن، فذلك يحتاج إلى مجلدات، وإنما نرجو أن نُشعر القارئ بأنا كشفنا النقاب عن فن مجهول كان خليقًا بأن يشغل الباحثين في تاريخ الأدب، ولكنهم انصرفوا عنه، كما انصرفوا عن درس البلاغة الدينية، مع أنه في جملته أجود من بعض ما شُغلوا به كتشبيهات ابن المعتز، ومدائح البحتري، وخمريات أبي نواس.

  • (٣)

    من أقدم ما مُدِح به الرسول قصيدة الأعشى التي يقول في مطلعها:

    أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا
    وَعَادَكَ مَا عَادَ السَّلِيمَ الْمُسَهَّدَا١
    وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا
    تَنَاسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ خُلَّةَ مَهْدَدَا٢
    وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ
    إِذَا أَصْلَحَتْ كَفَّاهُ عَادَ فَأَفْسَدَا
    كُهُولًا وَشُبَّانًا فَقَدْتُ وَثَرْوَةً
    فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا
    وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ
    وَلِيدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا

    وفيها يقول لناقته:

    فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
    وَلَا مِنْ حَفًى حَتَّى تَزُورَ مُحَمَّدًا
    نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ
    أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
    لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تَغِبُّ وَنَائِلٌ
    وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا
    مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ
    تُرَاحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى

    ولكن هذا ليس من المدائح النبوية؛ أي ليس من الفن الذي ندرسه في هذا الكتاب؛ لأن الأعشى لم يقل هذا الشعر وهو صادق النية في مدح الرسول، وإنما كانت محاولة أراد بها التقرب من نبي الإسلام، وآية ذلك أنه انصرف حين صرفته قريش، ولو كان صادقًا ما تحول، فقد حدثوا أن قريشًا رصدوه على طريقه حين بلغهم خبره وسألوه أين يريد، فأخبرهم أنه يريد محمدًا ليسلم، فأفهموه أنه ينهاه عن الزنا والقمار والربا والخمر، فقال: لقد تركني الزنا وما تركته. وأبدى زهادته في القمار رجاء أن يصيب من النبي عوضًا منه، وقال عن الربا: ما دِنْتُ ولا ادَّنْتُ.

    وأبدى جزعه عند ذكر الخمر وقال: أوَّه! أرجع إلى صُبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها.

    فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سَنتَك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفًا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك!

    وجمع له أبو سفيان من قريش مائة ناقة، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوخة٣ رمى به بعيره فقتله.٤

    وهذه القصة تدل على أن مدحه للرسول لم يكن إلا محاولة كسائر محاولات الشعراء الذين يتكسبون بالمديح، وليست قصيدته أثرًا لعاطفة دينية قوية حتى تلحق بالمدائح النبوية.

  • (٤)
    وكذلك الحال في قصيدة «بانت سعاد» التي قالها كعب بن زهير في مدح الرسول ، فإنها لم تُنظَم إلا في سبيل النجاة من القتل، وحديث ذلك أن كعبًا خرج هو وأخوه بُجَير إلى رسول الله حتى بلغا أبرق العَزَّاف،٥ فقال كعب لبُجَير: الْحَقِ الرجل، وأنا مقيم ها هنا، فانظر ما يقول لك. فقدِمَ بُجَيرٌ على رسول الله فسمع منه وأسلم، وبلغ ذلك كعبًا فقال:
    مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً
    فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
    شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيَّةً
    فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا٦
    وَخَالَفْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتَّبَعْتَهُ
    عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا٧
    عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا
    عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
    فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ
    وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا٨

    وبعث بها إلى بجير، فكره أن يكتمها رسول الله، فأنشده إياها، ثم قال بجير لكعب:

    مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي
    تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهْيَ أَحْزَمُ
    إِلَى اللهِ — لَا الْعُزَّى وَلَا اللَّاتِ — وَحْدَهُ
    فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاةُ وَتَسْلَمُ
    لَدَى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ
    مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
    فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهْوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ
    وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ
    فلما بلغ كعبًا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوِّه، فقالوا: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بدًّا قال قصيدته التي يمدح فيها الرسول، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل من جهينة، فغدا به إلى رسول الله حين صلى الصبح، فصلى معه، ثم أشار له إلى رسول الله فقال: هذا رسول الله، قم إليه فاستأمنه. فقام حتى جلس إليه فوضع يده في يده، وكان رسول الله لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله: نعم! فقال: أنا، يا رسول الله، كعب بن زهير! ثم أنشده القصيدة.٩

    وهذه الظروف ترينا أن كعب بن زهير لم يقل لاميته وهو مأخوذ بعاطفة دينية قوية، تسمو به إلى روح التصوف، إنما هي قصيدة من قصائد المديح، يقولها الرجل حين يرجو أو يخاف، وليست من المدائح النبوية في شيء.

  • (٥)

    تقع لامية كعب في ثمانية وخمسين بيتًا، وهي من الشعر المحكم الرصين — وإن خلت من قوة الروح — وتجري على التقاليد الأدبية لشعراء الجاهلية، فيبدؤها الشاعر بهذا النسيب:

    بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
    مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
    وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا
    إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
    هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً
    لَا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ
    تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ
    كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ١٠
    أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ
    مَوْعُودَهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ
    لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
    فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ١١
    فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا
    كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
    وَلَا تَمَسَّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ
    إِلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
    فَلَا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
    إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
    كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا
    وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الْأَبَاطِيلُ
    أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا
    وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
    أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلِّغُهَا
    إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ١٢

    وهنا ينتقل فيصف الناقة وصفًا مفصلًا يُذكِّر بدالية طرفة بن العبد، وهو في ذلك يتابع ما كان معروفًا لذلك العهد من التقاليد الشعرية، إلى أن يقول في مدح الرسول:

    وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
    لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
    فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمُ
    فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ١٣
    كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ
    يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
    أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
    وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
    مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الـ
    ـقُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
    لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ
    أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ

    ويقول بعد أبيات:

    إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
    وَصَارِمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
    فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ
    بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَا أَسْلَمُوا زُولُوا
    زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ
    عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ١٤
    شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ
    مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ١٥
    لَا يَفْرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ
    قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا
    يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ
    ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ١٦
    لَا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلَّا فِي نُحُورِهِمُ
    وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ

    وقد نظرت طويلًا في هذه القصيدة فلم أرَ غير ما قررت، فهي قصيدة جاهلية تغلب عليها قوة السبك، ولكنها تكاد تخلو من روح الدين، ولا غرابة في ذلك، فإن كعب بن زهير لم يمدح الرسول إلا لينجو من الموت، ومن كان في مثل حاله لا يُنتَظر منه صدق الثناء.

  • (٦)

    والذي نقول به في هذه القصيدة لم يقُلْ به أحدٌ من المتقدمين، فقد اهتموا بها اهتمامًا عظيمًا، وعدُّوها من أجلِّ ما قيل في مدح الرسول، وعُنِيَ بها الشعراء فشطَّروها وخمَّسوها وعارضوها، وأولع بشرحها فريق من كبار الرجال.

    فمن الذين شطَّروها عبد القادر سعيد الرافعي، وأول تشطيره:

    بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
    وَالنَّوْمُ وَالسُّهْدُ مَقْطُوعٌ وَمَوْصُولُ
    وَالْجِسْمُ بَعْدَ سُعَادٍ مُدْنَفٌ وَصِبٌ
    مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ

    ومن الذين خمَّسوها شعبان بن محمد بن داود المصري المتوفى سنة ٨٢٨ﻫ وله ثلاثة تخاميس، مطلع التخميس الثاني:

    قُلْ لِلْعَوَاذِلِ مَهْمَا شِئْتُمُو قُولُوا
    فَلَيْسَ لِي بَعْدَ مَنْ أَهْوَاهُ مَعْقُولُ
    نَادَيْتُ يَوْمَ النَّوَى وَالدَّمْعُ مَسْبُولُ
    بَانَتْ سُعَادُ … … …
    … … … … …

    وأحمد بن محمد الجرجاوي، ومطلع تخميسه:

    قَلْبِي عَلَى حُبِّ مَنْ أَهْوَاهُ مَجْبُولُ
    وَنَقْلُ شَوْقِي لَدَى الْعُشَّاقِ مَقْبُولُ١٧

    ومن الذين شرحوها مسعود بن حسن بكري القنائي، واسم شرحه «الإسعاد لحل نظم بانت سعاد»، ومحمد صالح السباعي، واسم شرحه «بلوغ المراد على بانت سعاد»، وأحمد بن محمد اليمني، واسم شرحه «الجوهر الوقاد في شرح بانت سعاد»، وابن هشام الأنصاري، وقد رأينا شرحه يُدرَّس في الأزهر غير مرة، فقد صيَّر «بانت سعاد» مادة صالحة للفوائد اللغوية والنحوية، واعتمد الناصري على هذا الشرح، وشرحها عطاء الله بن أحمد مرتين، اسم الشرح الأول «حسن السير بقصيدة كعب بن زهير»، واسم الثاني «طريق الرشاد إلى تحقيق بانت سعاد»، وعلي بن سلطان الهروي، واسم شرحه «فتح باب الإسعاد في شرح بانت سعاد»، ومحمد حسن المرصفي، واسم شرحه «القول المراد من بانت سعاد»، وجمال الدين السيوطي، واسم شرحه «كنه المراد في شرح بانت سعاد».

    ومن الذين عارضوها ابن نباتة المصري، ومطلع قصيدته:

    مَا الطَّرْفُ بَعْدَكُمُ بِالنَّوْمِ مَكْحُولُ
    هَذَا وَكَمْ بَيْنَنَا مِنْ رَبْعِكُمْ مِيلُ

    وابن سيد الناس اليعمري، واسم قصيدته «عُدة المعاد في عروض بانت سعاد»، والمطلع:

    قَلْبِي بِكُمْ يَا أُهَيْلَ الْحَيِّ مَأْهُولُ
    وَحَبْلُهُ بِأَمَانِي الْوَصْلِ مَوْصُولُ

    وعارضها أبو حيان الأندلسي بقصيدة سمَّاها «المورد العذب في معارضة قصيدة كعب»، والمطلع:

    لَا تَعْذُلَاهُ فَمَا ذُو الْحُبِّ مَعْذُولُ
    الْعَقْلُ مُخْتَبَلٌ وَالْقَلْبُ مَتْبُولُ

    وعارضها أيضًا القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم قال:

    لَقَدْ قَالَ كَعْبٌ فِي النَّبِيِّ قَصِيدَةً
    وَقُلْنَا عَسَى فِي مَدْحِهِ نَتَشَارَكُ
    فَإِنْ شَمِلَتْنَا بِالْجَوَائِزِ رَحْمَةٌ
    كَرَحْمَةِ كَعْبٍ فَهْوَ كَعْبٌ مُبَارَكُ

    وتوارث المسلمون احترام قصيدة كعب، حتى قال أبو جعفر الألبري: «حدثني بعض أشياخنا بالإسكندرية بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله ، فقلت: يا رسول الله قصيدة كعب أنشدها بين يديك؟ فقال: نعم، وأنا أحبها وأحب من أحبها. قال: فعاهدت الله أنني لا أخلو من قراءتها كل يوم.»

    قال أبو جعفر: «ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها، تبرُّكًا بمن أُنشِدت بين يديه، ونُسب مدحها إليه.»١٨

    واهتم بها المستشرقون، فترجمها رنيه باسيه إلى الفرنسية، واهتم الدكتور ر. و. بترجمة حاشية الباجوري إلى الفرنسية، وكذلك شغلت الشُّرَّاح والناسخين والطابعين في الشرق والغرب.

    ويمكن الحكم بأن شهرتها في البيئات الأدبية والدينية نقشت اسمها في ذهن كل من شدا في الأدب والدين.

    ومن الواضح أن تلك الرؤيا النبوية لا تدل على شيء أكثر من اهتمام المتصوفين بتلك القصيدة، وإيمانهم بأنها ظفرت من الرسول بأحسن القبول.

    وجملة ما كُتِب في شرح قصيدة كعب، وما قيل في تشطيرها وتخميسها، يبين أثرها في اللغة والأدب، ولولا ما في ألفاظها من الوعورة لشاعت في البيئات الصوفية وأصبحت من جملة الأوراد، وكان لها ما صار للبُردة من السيرورة بين العوام والخواص.

    ومن أسباب وقوفها عند الدوائر الأدبية واللغوية ما جاء فيها من الوصف المطول للناقة، فإنه من المعاني «المحلية» التي لا يتذوقها غير الأعراب.

  • (٧)

    ويأتي بعد شعر الأعشى وشعر كعب شعرُ حسان بن ثابت، وهذا الرجل كان أكبر شعراء الرسول، ويمتاز بالصدق والإخلاص، ولكن شعره على قوة روحه لا يكاد يضاف إلى المدائح النبوية التي ندرسها في هذا الكتاب، فقد كان يمدح الرسول ويقارع خصومه على الطرائق الجاهلية، وكان الرسول أوصاه أن يتعلم الأنساب من أبي بكر ليكون شعره أوجع في الهجاء، وكذلك استطاع بفضل ما عرف من أنساب قريش أن يهجوهم هجاء موجعًا كان النبي يراه أشد عليهم من وقع النبل.

    وأقوى قصيدة في مدائح حسان هي العينية، والظرف الذي قيلت فيه يعيِّن مذهب الشاعر: فهو يقارع الخصوم ويُلاحِيهم، ويتخذ مدح الرسول ومدح أهله سنادًا لما عمد إليه من المقارعة والملاحاة. ومن حديث هذه العينية أن وفد تميم لما قَدِموا على النبي قالوا: جئنا لنفاخرك، وقد جئنا بشاعرنا وخطيبنا، فقام خطيبهم عطارد بن حاجب فتكلم، وقام خطيب الرسول ثابت بن قيس فأجاب، ثم قام شاعرهم الزبرقان بن بدر فقال:

    نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا
    مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا يُقْسَمُ الرُّبُعُ١٩
    وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمِ
    عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ٢٠
    وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَطْعَمَنَا
    مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنِسِ الْقَزَعُ٢١
    ثُمَّ تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمُ
    مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هُوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ
    فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا فِي أُرُومَتِنَا
    لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا٢٢
    فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ
    إِلَّا اسْتَقَادُوا وَكَانَ الرَّأْسُ يُقْتَطَعُ٢٣
    إِنَّا أَبَيْنَا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ
    إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
    فَمَنْ يُقَادِرُنَا فِي ذَاكَ يَعْرِفُنَا
    فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ

    فقام حسان فقال:

    إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ
    قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
    يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ
    تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الَّذِي شَرَعُوا
    قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ
    أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
    سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ
    إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ
    لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ
    عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
    إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ
    فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
    وَلا يَضِنُّونَ عَنْ مَوْلًى بِفَضْلِهِمُ
    وَلَا يُصِيبُهُمُ فِي مَطْمَعٍ طَبَعُ
    لَا يَجْهَلُونَ وَإِنْ حَاوَلْتَ جَهْلَهُمُ
    فِي فَضْلِ أَحْلَامِهِمْ عَنْ ذَاكَ مُتَّسَعُ
    أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ
    لَا يَطْبَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمُ الطَّمَعُ٢٤
    كَمْ مِنْ صَدِيقٍ لَهُمْ نَالُوا كَرَامَتَهُ
    وَمِنْ عَدُوٍّ عَلَيْهِمْ جَاهِدٍ جَدَعُوا٢٥
    أَعْطَوْا نَبِيَّ الْهُدَى وَالْبِرِّ طَاعَتَهُمْ
    فَمَا وَنَى نَصْرُهُمْ عَنْهُ وَمَا نَزَعُوا
    إِنْ قَالَ سِيرُوا أَجَدُّوا السَّيْرَ جُهْدَهُمُ
    أَوْ قَالَ عُوجُوا عَلَيْنَا سَاعَةً رَبَعُوا٢٦
    مَا زَالَ سَيْرُهُمُ حَتَّى اسْتَقَادَ لَهُمْ
    أَهْلُ الصَّلِيبِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ الْبِيَعُ
    خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَى عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا
    وَلَا يَكُنْ هَمَّكَ الْأَمْرُ الَّذِي مَنَعُوا
    فَإِنَّ فِي حَرْبِهِمْ — فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ —
    شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ الصَّابُ وَالسَّلَعُ٢٧
    نَسْمُو إِذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا
    إِذَا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
    لَا فَخْرَ إِنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عَدُوِّهِمُ
    وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ وَلَا جُزُعُ
    كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ
    أُسْدٌ بِبِيشَةَ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ٢٨
    إِذَا نَصَبْنَا لِقَوْمٍ لَا نَدِبُّ لَهُمْ
    كَمَا يَدِبُّ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ٢٩
    أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللهِ شِيعَتُهُمْ
    إِذَا تَفَرَّقَتِ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ
    أَهْدَى لَهُمْ مِدَحِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ
    فِيمَا يُحِبُّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
    فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمِ
    إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمعُوا٣٠

    وهذه القصيدة تمجيد لأتباع الرسول، والشاعر مدفوع إليها بقوة العصبية، وليس فيها من روح الدين إلا إشارته إلى وحي القلب؛ إذ يقول:

    أَهْدَى لَهُمْ مِدَحِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ
    فِيمَا يُحِبُّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
  • (٨)

    ومن جيِّد شعر حسان قصيدته الهمزية في مدح الرسول وهجاء أبي سفيان، وهي كذلك تجري على الطرائق الجاهلية، يبدؤها الشاعر بذكرى الديار الخالية، فيقول:

    عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ
    إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ٣١
    دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ
    تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ٣٢
    وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ
    خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ

    وينتقل إلى الحديث عن طيف محبوبته، فيقول:

    فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ
    يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
    لِشَعْثَاءَ الَّتِي قَدْ تَيَّمَتْهُ
    فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
    كَأَنَّ سَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
    يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ٣٣
    عَلَى أَنْيَابِهَا أَوْ طَعْمَ غَضٍّ
    مِنَ التُّفَّاحِ هَصَّرَهُ اجْتِنَاءُ
    إِذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا
    فَهُنَّ لِطَيِّبِ الرَّاحِ الْفِدَاءُ
    نُوَلِّيهَا الْمَلَامَةَ إِنْ أَلَمْنَا
    إِذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ٣٤
    وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
    وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ٣٥

    وهذا الاستطراد من النسيب إلى الخمريات كان معروفًا في الجاهلية، وقد وقع مثله في لامية كعب التي مدح بها الرسول، ولنا أن نلاحظ أن هذين الشاعرين لم يغيِّرا شيئًا من المذاهب الشعرية حين خاطبا النبي ، ولم يتورعا عن ذكر الخمر والنساء، والتحسر على ملاعب الشباب.

    وليس هذا بغريب، فإن المذاهب الأدبية لا تتغير في عام أو عامين، ومن الإسراف أن ننتظر ذلك، فسنرى حين يمتد بنا البحث أن الكلام عن الخمر والنساء سيصير من المألوف في المدائح النبوية، غير أنه كان عند هذين الشاعرين من الحقائق، وسيصير عند المتأخرين من الرمزيات، فشعثاء وسعاد في همزية حسان ولامية كعب حسناوان كان لهما وجود، والخمر كانت مما عرف هذان الشاعران، ولو في الجاهلية، أما عند المتأخرين من شعراء الصوفية فليلى أو شعثاء أو سعاد، والصهباء أو الشمول، كل أولئك من الأسماء الرمزية، وأثر الحقيقة هنا ليس أقوى من أثر الخيال هناك.

    وانتقل حسان إلى تهديد أعداء النبي ، فقال:

    عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا
    تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كُدَاءُ٣٦
    يُبَارِينَ الْأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ
    عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ٣٧
    تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ
    تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ٣٨
    فَإِمَّا تُعْرَضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا
    وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
    وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ
    يُعِزُّ اللهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ٣٩
    وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا
    وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
    وَقَالَ اللهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا
    يَقُولُ الْحَقَّ إِنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
    شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدِّقُوهُ
    فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
    وَقَالَ اللهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْدًا
    هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ٤٠
    لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ
    سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
    فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
    وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ٤١
    أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي
    مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ٤٢
    بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا
    وَعَبْدُ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ٤٣
    هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ
    وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
    أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
    فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
    هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرًّا حَنِيفًا
    أَمِينَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
    فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ
    وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
    فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي
    لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

    وهنا تظهر بوادر التصوف، فالشاعر كان ينتظر الجزاء من الله حين أجاب عن الرسول ، ويجعل أباه وجدَّه وعرضه وقاءً لعرض النبي من خصومه الألِدَّاء، وكذلك يمكن عَدُّ هذه القصيدة من بذور المدائح النبوية.

  • (٩)
    وفي ديوان حسان أن رسول الله حين خرج من مكة مهاجرًا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فُهيرة، ودليلهم الليثي عبد الله بن الأريقط مرُّوا على خيمتَي أم مَعْبَد الخزاعية، وكانت امرأة بَرْزة٤٤تحتبي بفناء قبتها، ثم تسقي وتطعم، فسألوها تمرًا ولحمًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مُرمِلين مُسْنِتين،٤٥ فنظر رسول الله إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت شاة خلَّفها الجَهد عن الغنم. قال: هل لها من لبن؟ قالت هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فدعا بها رسول الله ، ومسح بيده ضرعها وسمَّى الله تعالى، ودعا لها في شأنها فتفاجَّت٤٦ عليه، ودَرَّتْ واجترَّتْ، ودعا بإناء يُربِضُ الرهط فحلب فيه حتى علاه البهاء٤٧ ثم سقاها حتى رَوِيت، وسقى أصحابه حتى رَوُوا، وشرب آخرهم، ثم أراضوا،٤٨ ثم حلب فيه ثانيًا بعد بدء حتى امتلأ الإناء ثم غادره عندها، وارتحلوا عنها، فما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعْنُزًا عِجَافًا، تَساوك٤٩ هزالًا، مِخاخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عَجِبَ وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب حيال،٥٠ ولا حلوب في البيت؟! قالت: لا والله، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا. قال: صِفِيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلًا ظاهرَ الوضاءة، أبلجَ الوجه، حسنَ الخَلْقِ، لم تُعِبْه ثُجْلَةٌ،٥١ ولم تُزْرِ به صَعْلَةٌ،٥٢ وسيمًا قسيمًا، في عينيه دَعَجٌ وفي أشفاره وَطَفٌ،٥٣ وفي عنقه سَطَعٌ،٥٤ وفي صوته صَحَلٌ،٥٥ وفي لحيته كَثَاثَةٌ، أَزَجَّ، أقرنَ،٥٦ إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سمَاهُ وعلاهُ البهاء، فهو أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأملحهم من قريب، حلو المنطق فَصْلٌ، لا نَزْرٌ ولا هَزْرٌ، كأن مَنْطِقَهُ خَرزَاتُ نَظْمٍ يتحدَّرن، ربعةٌ: لا بائن من طول، ولا تقتحِمُه عينٌ من قِصَر، غُصنٌ بين غصنين، فهو أنضرُ الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفُّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفودٌ محشودٌ، لا عابسٌ ولا مُفْنِدٌ.٥٧

    قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكر بمكة، ولقد هممت بأن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا، فأصبح صوت بمكة عاليًا، يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:

    جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ
    رَفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
    هُمَا نَزَلَاهَا بِالْهُدَى وَاهْتَدَتْ بِهِ
    فَقَدْ فَازَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
    فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللهُ عَنْكُمُ
    بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُؤْدَدِ
    لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَقَامُ فَتَاتِهِمْ
    وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
    سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا
    فَإِنَّكُمُ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
    دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ
    لَهُ بِصَرِيحٍ دَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِدِ٥٨
    فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا لِحَالِبٍ
    يُرَدِّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ

    فلما سمع بذلك حسان قال يجاوب الهاتف:

    لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ غَابَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ
    وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
    تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلَّتْ عُقُولُهُمْ
    وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ
    هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ رَبُّهُمْ
    وَأَرْشَدَهُمْ، مَنْ يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُدِ
    وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا
    عَمًى وَهُدَاةٌ يَهْتَدُونَ بِمُهْتَدِ
    لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْلِ يَثْرِبٍ
    رِكَابُ هُدًى حَلَّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعُدِ
    نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ
    وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ
    وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ
    فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
    لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ
    بِصُحْبَتِهِ، مَنْ يُسْعِدِ اللهُ يَسْعَدِ
    وقد نقلنا قصة أم معبد وشعر حسان وشعر الهاتف لأن لهذه القطع الثلاث أثرًا في تلوين المدائح النبوية، وحديث أم معبد معروف، وقد أشار إليه القاضي عياض في الشفاء،٥٩ وهو — إن صحت نسبته إلى ذلك العهد — أساس لأكثر ما جاء في المدائح النبوية من الأوصاف الحسية، فسنرى في «الموالد» كيف يوصف الرسول بأنه أبلج الوجه، أدعج العينين، أزج الحاجبين، إلى آخر ما قيل فيه من شائق الصفات. وحسان بن ثابت نفسه يصفه بالحسن والجمال فيقول:
    وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي
    وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
    والإشادة بجمال النبي وحسنه ليست من الفضول، كما يتوهم بعض الناس، فإن فن المديح يوجب هذا اللون من الوصف، وقد عرض الصفدي في شرح لامية العجم إلى هذه المسألة فقال: «وما زال الشعراء يصفون الممدوح بالحسن والصباحة والطلاقة، ويشبهونه بالشمس والبدر والصبح، وذلك مشهور لا يحتاج إلى شاهد يؤيده.»٦٠

    يضاف إلى ذلك أن أصحاب رسول الله درجوا على وصف ملامحه الجسمية، ولذلك مواطن في كتب الحديث، وهو نفسه كان جميلًا، والأنبياء في الغالب كانوا من أهل الجمال؛ لأن الدعوة إلى الحق تحتاج إلى شفيع من الوجه المقبول.

    وما نحب أن يغلب علينا التزمُّت فيفوتنا النص على أثر الصنعة في حديث أم معبد، فالقصة تبدو لنا كالمصنوعة، وهي على كل حال شاهد على ما كان يحب القدماء أن يوصف به الرسول، وشعر الهاتف كذلك مصنوع، وهو مع أبيات حسان من طلائع المدائح النبوية.

  • (١٠)

    ويظهر الروح الديني في مدائح حسان لمن يقرأ مراثيه للرسول، وهي مراثٍ مصبوغة بالصبغة الدينية، يتكلم فيها الشاعر عن المنبر والمُصلَّى والمسجد والوحي، ويذكر بكاء الأرض والسموات، ويتشوق إلى لقاء النبي في الفردوس، ويشير إلى ما ورث عنه المسلمون من الرشد والهدى، وله في ذلك قصائد ثلاث دالية تفيض بالمعاني الرقيقة السمحة، وتنم عن روح ديني مصقول، وهي قصائد لينة من حيث النسج، بحيث نخشى أن تكون من الشعر المنحول، فإنها لو أضيفت إلى رجل كالبوصيري لقُبِلتْ؛ لما يغلب عليها من الرقة واللين، ويكفي أن نقدم أولى هذه القصائد:

    بِطَيْبَةَ رَسْمٌ لِلرَّسُولِ وَمَعْهَدُ
    مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرُّسُومُ وَتَهْمَدُ٦١
    وَلَا تَنْمَحِي الْآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ
    بِهَا مِنْبَرُ الْهَادِي الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ
    وَوَاضِحُ آيَاتٍ وَبَاقِي مَعَالِمٍ
    وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلًّى وَمَسْجِدُ
    بِهِ حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا
    مِنَ اللهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ٦٢
    مَعَالِمُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِ آيُهَا
    أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ مِنْهَا تَجَدَّدُ
    عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ
    وَقَبْرًا بِهِ وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مُلْحِدُ
    ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي الرَّسُولَ فَأَسْعَدَتْ
    عُيُونٌ وَمِثْلَاهَا مِنَ الْجَفْنِ تُسْعِدُ٦٣
    تُذَكرُ آلَاءَ الرَّسُولِ — وَمَا أَرَى
    لَهَا مُحْصِيًا — نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَّدُ٦٤
    مُفَجَّعَةٌ قَدْ شَفَّهَا فَقْدُ أَحْمَدٍ
    فَظَلَّتْ لِآلَاءِ الرَّسُولِ تُعَدِّدُ٦٥
    أَطَالَتْ وُقُوفًا تَذْرِفُ الْعَيْنُ جُهْدَهَا
    عَلَى طَلَلِ الْقَبْرِ الَّذِي فِيهِ أَحْمَدُ
    فَبُورِكْتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَتْ
    بِلَادٌ ثَوَى فِيهَا الرَّشِيدُ الْمُسَدَّدُ٦٦
    وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمِّنَ طَيِّبًا
    عَلَيْهِ بِنَاءٌ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدُ٦٧
    تَهِيلُ عَلَيْهِ التُّرْبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٌ
    عَلَيْهِ وَقَدْ غَارَتْ بِذَلِكَ أَسْعُدُ٦٨
    لَقَدْ غَيَّبُوا حِلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً
    عَشِيَّةَ عَلَّوْهُ الثَّرَى لَا يُوَسَّدُ
    وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ
    وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهُمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
    يُبَكُّونَ مَنْ تَبْكِي السَّمَوَاتُ يَوْمَهُ
    وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكْمَدُ٦٩
    وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيَّةُ هَالِكٍ
    رَزِيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ؟
    تَقَطَّعَ فِيهِ مُنْزلُ الْوَحْيِ عَنْهُمُ
    وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنْجِدُ٧٠
    يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ
    وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ
    إِمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهمُ الْحَقَّ جَاهِدًا
    مُعَلِّمُ صِدْقٍ إِنْ يُطِيعُوهُ يَسْعَدُوا
    عَفُوٌّ عَنِ الزَّلَّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ
    وَإِنْ يُحْسِنُوا فَاللهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
    فَبَيْنَا هُمُ فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ
    دَلِيلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ
    عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحِيدُوا عَنِ الْهُدَى
    حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
    عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنِّي جَنَاحَهُ
    إِلَى كَنَفٍ يَحْنُو عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ٧١
    فَبَيْنَا هُمُ فِي ذَلِكَ النُّورِ إِذْ غَدَا
    إِلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنَ الْمَوْتِ مُقْصِدُ٧٢
    فَأَصْبَحَ مَحْمُودًا إِلَى اللهِ رَاجِعًا
    يُبَكِّيهِ جَفْنُ الْمُرْسَلَاتِ وَيَحْمَدُ٧٣

    إلى أن يقول:

    فَبَكِّي رَسُولَ اللهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً
    وَلَا أَعْرِفَنْكِ الدَّهْرَ دَمْعُكِ يَجْمُدُ٧٤
    وَمَا لَكِ لَا تَبْكِينَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِي
    عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يَتَغَمَّدُ؟٧٥
    وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ
    وَلَا مِثْلُهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ
    أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ
    وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلًا لَا يُنَكَّدُ
    وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيفِ وَتَالِدٍ
    إِذَا ضَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلِدُ٧٦
    وَأَكْرَمَ حَيًّا فِي الْبُيُوتِ إِذَا انْتَمَى
    وَأَكْرَمَ جَدًّا أَبْطَحِيًّا يُسَوَّدُ٧٧
    رَبَاهُ وَلِيدًا فَاسْتَتَمَّ تَمَامَهُ
    عَلَى أَكْرَمِ الْخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدُ
    تَنَاهَتْ وَصَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّهِ
    فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأْيُ يُفْنَدُ
    أَقُولُ وَلَا يُلْفَى لِقَوْلِي عَائِبٌ
    مِنَ النَّاسِ إِلَّا عَازِبُ الْعَقْلِ مُبْعَدُ٧٨
    وَلَيْسَ هَوَائِي نَازِعًا عَنْ ثَنَائِهِ
    لَعَلِّي بِهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ أَخْلُدُ
    مَعَ الْمُصْطَفَى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ
    وَفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أَسْعَى وَأَجْهَدُ

    وهذه القصيدة ضعيفة من الوجهة الشعرية، ولكنها من خير الشواهد لما نحن بسبيله من تأريخ المدائح النبوية، والقارئ يلاحظ أن هذه المرثية لم تُقَل عقب وفاة الرسول ، وإنما قيلت بعد موته بزمان، بدليل قوله:

    مَعَالِمُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِ آيُهَا
    أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ مِنْهَا تَجَدَّدُ
    عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ
    وَقَبْرًا بِهِ وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مُلْحِدُ

    ورثاء النبي بعد موته بمدة فيه نزعة صوفية، ويؤيد هذا ما جاء في ختام القصيدة من رغبة الشاعر في أن يثيبه الله على مدحه بالخلد في جنة الخلد، ورجائه أن يكون من جيران المصطفى في الدار الباقية، وهو يعلن أنه في نيل ذلك اليوم يسعى ويجهد، فبكاء الرسول في هذه المرثية ليس إلا ثناءً عليه وعلى دينه القويم، وليس من الرثاء المألوف الذي يقع من الشاعر حين يُفجَع في رئيس أو صديق.

    ومن الألفاظ التي تجب الإشارة إليها بين ألفاظ هذه القصيدة كلمة «طيبة»، وسيكثُر ذكرها في المدائح النبوية، وكذلك وصف الرسول بأنه «الهادي»، أما كلمة «الطريقة» في قوله:

    فَبَيْنَا هُمُ فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ
    دَلِيلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ

    فستصير كلمة اصطلاحية عند الصوفية، وسنراهم يقولون: «كل شيخ له طريقة»، وسيقولون: «الطريقة الشاذلية» و«الطريقة الخلوتية» إلى آخر ما ابتدعوا من الطرائق.

    وفي قصيدة أخرى يقول:

    يَا بِكْرَ آمِنَةَ الْمُبَارَكِ بِكْرُهَا
    وَلَدَتْهُ مُحْصَنَةً بِسْعَدِ الْأَسْعُدِ

    ووصف الرسول بأنه ابن آمنة من كلمات التمجيد التي أذاعها حسان، وستكثر في المدائح النبوية، وقوله في ختام إحدى القصائد:

    صَلَّى الْإِلَهُ وَمَنْ يَحُفُّ بِعَرْشِهِ
    وَالطَّيِّبُونَ عَلَى الْمُبَارَكِ أَحْمَدِ

    سيصير من التعابير المألوفة في كلام من يمدحون الرسول.

    وعبارة «صلى الإله» جملة دعائية، كان حسان يقولها في الرسول، وفي أصحابه، كقوله يرثي أصحاب الرجيع:

    صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى الَّذِينَ تَتَابَعُوا
    يَوْمَ الرَّجِيعِ فَأُكْرِمُوا وَأُثِيبُوا

    ونجد مويلك المزموم يرثي امرأته فيقول:

    صَلَّى عَلَيْكِ اللهُ مِنْ مَفْقُودَةٍ
    إِذْ لَا يُلَائِمُكِ الْمَكَانُ الْبَلْقَعُ

    ونرى آخر يقول:

    صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى صَفِيَّيْ مُدْركٍ
    يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَجْمَعِ الْأَشْهَادِ

    ولكن هذه العبارة ستُقصَر فيما بعد على الرسول، وستحل محلها في الرثاء عبارة «يرحمه الله» كقول أحد الشعراء:

    يَرْحَمُكَ اللهُ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ
    لَمْ يَكُ فِي صَفْوِ وُدِّهِ كَدَرُ
  • (١١)

    وبعد مدائح حسان ومراثيه تجيء الفقرات المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، ونثر علي من المشكوك في صحته ولكنا نستشهد به لأمرين؛ الأول: تصويره لما كان يفهم القدماء من حال علي الروحية، فهو — على فرض وضعه — صورة للأدب الذي كان يتمثلون ذيوعه في تلك الأيام في خطب أصحاب الرسول.

    الثاني: أننا نرجِّح صحة ما نُسب إلى علي في التحميدات والعظات، فإن الذين طعنوا في صحة نثره وقفوا عند المصاولات التي وقعت بينه وبين معاوية بن أبي سفيان.

    يضاف إلى هذين الأمرين أن المدائح النبوية التي وقعت في خطب علي لا يظهر فيها تكلف، فهي فقرات افتُتِحت بها بعض الخطب، وليس فيها قصد إلى مدح الرسول.

    ولهذا المنهج أهمية، فسنرى الثناء على النبي يطرد في أكثر الخطب المنبرية، ونكاد نجزم بأن حمد الله والثناء على نبيه صحب الخطب منذ ازدهر هذا الفن على المنابر الإسلامية؛ بدليل أنهم دهشوا لخلو خطبة زياد من الحمد فسموها البتراء.

    والمدائح النبوية في كلام علي ذات أفانين، فتارة يثني على النبي وعلى كتابه ويبين ما كان عليه الناس قبل البعثة، فيقول:
    أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجًا بالبينات، وتحذيرًا بالآيات، وتخويفًا بالمَثُلات،٧٩ والناس في فتن انجذم٨٠ فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري٨١ اليقين، واختلف النجر،٨٢ وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، إذ عُصِي الرحمن، ونُصِر الشيطان، وخُذِل الإيمان … إلخ.٨٣
    وفي هذا المعنى يقول في خطبة ثانية:
    أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعترام٨٤ من الفتن، وانتشار٨٥ من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة٨٦ لأهلها عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودِثَارها السيف.٨٧

    وفي هذه القطعة يصف علي كيف كانت الحياة قبل بعثة الرسول، ويغلب عليه الفن، فيلوِّن كلامه بفنون من الخيال، ويذكر أن الدنيا كانت كاسفة النور، وأنها كانت مصفرة الورق، وأن ثمرها كان ميئوسًا منه، وأنها كانت غائرة الماء، ثم يمضي فيذكر تجهمها وعبوسها، ويجعل من ثمرها الفتنة، ومن طعامها الجيفة، ويقضي بأن شعارها الخوف، ودثارها السيف.

    والافتنان في وصف ما كانت عليه الجاهلية من الظلمات سيصير أساسًا لأكثر ما يكتب في بيان فضل الرسول، وهذه معانٍ لم يخلقها علي بن أبي طالب، وإنما وُضِعت أصولها الأولى في القرآن.

    وفي مكان آخر يذكر أن النبوة قديمة، تنقلت من صلب إلى صلب حتى وصلت إلى سيدنا محمد ، ويقول في وصف الأنبياء:
    استودعهم في أفضل مستودَع، وأقرَّهم في خير مستقَر، تناسخهم كرائم الأصلاب، إلى مطهَّرات الأرحام، كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف، حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وآله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتًا، وأعز الأرومات٨٨ مغرسًا: من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتخب منها أمناءه، عِترتُه خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوال، وثمرات لا تُنال، فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوءُه، وشهاب سطع نوره، وزندٌ برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل.٨٩

    وهذا المعنى سيعتمد عليه مؤلفو «الموالد» وسيذكرون أن نور النبوة تنقل من صلب إلى صلب حتى وصل إلى نبي الإسلام. والاهتمام بطهارة نسب الرسول يرجع إلى العقلية العربية التي تعوِّل كثيرًا على طهارة الأنساب، وفي بعض الآثار تنزيهٌ لنسب الرسول عن سفاح الجاهلية، ولهذا معناه في تقدير شرف الأصل.

    وعلي بن أبي طالب قد يُفتَن ببعض المعاني فيعود إليها من خطبة إلى خطبة، ومن حديث إلى حديث، ولننظر كيف يعود فيصف ما كان عليه الجاهليون:
    بعثه والناس ضُلَّالٌ في حيرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة، والموعظة الحسنة.٩٠

    وكلمة «الطريقة» مرت بنا في شعر حسان، وعادت إلينا في كلام علي، وقد أشرنا إلى أنها ستصير كلمة اصطلاحية عند الصوفية.

    ولننظر أيضًا كيف يعود فيتحدث عن أرومة الرسول:

    مستقره خير مستقر، ومنبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، ومماهد السلامة، قد صُرِفت نحوه أفئدة الأبرار، وثُنيت إليه أزِمَّة الأبصار.٩١

    ويصور هذا المعنى بصورة أخرى فيقول:

    اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة.٩٢

    ويمدح النبي بالزهد فيقول:

    قد حقر الدنيا وصغَّرها، وأهونها وهوَّنها، وعلم أن الله زواها عنه اختيارًا، وبسطها لغيره احتقارًا، فأعرض عنها بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشًا، أو يرجو فيها مقامًا.٩٣

    وهذه النزعة ستكون كذلك أصلًا لكثير من المدائح النبوية.

    ومما تجب الإشارة إليه الجمع بين الثناء على الرسول والدعاء له ولدينه في قول علي:
    أورى قبسًا لقابس، وأنار علمًا لحابس، فهو أمينك المأمون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة، اللهم اقسم له مقسمًا من عدلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نُزُله، وشرِّف لديك منزلته، وآته الوسيلة، وأعطه السناء والفضيلة، واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا نادمين، ولا ناكثين ولا ضالين ولا مضلين.٩٤

    وكلمة «الوسيلة» سيكثر ورودها في كلام الصوفية، وهذه القطعة ستكون نمطًا لكثير من الأدعية والصلوات.

    ولو مضينا نستقري ما في كلام علي من أمثال هذه الفقرات لطال بنا القول، فلنكتفِ بما أسلفنا من كلامه، فما نريد الاستقصاء، وإنما الغرض أن ندل على ما في خطبه من أصول المدائح النبوية.

  • (١٢)
    والذي يتأمل كلام علي يجده ينتقل من مدح النبي إلى مدح آل البيت، وكذلك يفعل الكميت بن زيد الأسدي في قصائده الهاشميات، وسنعود إليها بدرس خاص وندرس معها تائية دعبل، ونشير الآن إلى أن الفرزدق اتفق له أن يقف موقفًا يمدح فيه الرسول وعترته، فقد حدَّثوا أنه حج بعدما كبر وقد أتت له سبعون سنة، وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام، فرأى علي بن الحسين رضي الله عنهما في غمار الناس في الطواف فقال: من هذا الشاب الذي تبرق أسرَّة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟ فقالوا: هذا علي بن الحسين.٩٥

    فقال الفرزدق:

    هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ
    وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
    هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمِ
    هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
    هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ
    بِجِدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ قَدْ خُتِمُوا
    وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَذَا بِضَائِرِهِ
    الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ
    إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا
    إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
    يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ
    فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
    بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ
    مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
    يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ
    رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
    اللهُ شَرَّفَهُ قِدْمًا وَعَظَّمَهُ
    جَرَى بِذَاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ الْقَلَمُ
    أَيُّ الْخَلَائِقِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ
    لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نَعَمُ
    مَنْ يَشْكُرِ اللهَ يَشْكُرْ أَوَّلِيَّةَ ذَا
    فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ
    كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا
    تُسْتَوْكَفَانِ وَلَا يَعْرُوهُمَا عُدُمُ
    سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ
    يَزِينُهُ اثْنَانِ حُسْنُ الْخَلْقِ وَالشِّيَمُ
    حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فُدِحُوا
    حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نِعَمُ
    مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ
    لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤُهُ نَعَمُ
    لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ مَأْمُونٌ نَقِيبَتُهُ
    رَحْبُ الْفنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يَعْتَزِمُ
    عَمَّ الْبَرِيَّةَ بِالْإِحْسَانِ فَانْقَشَعَتْ
    عَنْهَا الْغيَابَةُ وَالْإِمْلَاقُ وَالْعُدُمُ
    يُنْمَى إِلَى ذِرْوَةِ الدِّينِ الَّتِي قَصُرَتْ
    عَنْهَا الْأَكُفُّ وَعَنْ إِدْرَاكِهَا الْقَدَمُ
    مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ
    وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهُ الْأُمَمُ
    مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ نَبْعَتُهُ
    طَابَتْ مَغَارِسُهُ وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ
    يَنْشَقُّ ثَوْبُ الدُّجَى عَنْ نُورِ غُرَّتِهِ
    كَالشَّمْسِ تَنْجَابُ عَنْ إِشْرَاقِهَا الظُّلَمُ
    مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دَيْنٌ وَبُغْضُهُمُ
    كُفْرٌ وَقُرْبُهُمُ مَنْجًى وَمُعْتَصَمُ
    مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللهِ ذِكْرُهُمُ
    فِي كُلِّ بَدْءٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الْكَلِمُ
    إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ
    أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ
    لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بَعْدَ جُودِهِمُ
    وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرُمُوا
    يُسْتَدْفَعُ الشَّرُّ وَالْبَلْوَى بِحُبِّهِمُ
    وَيُسْتَرَبُّ بِهِ الْإِحْسَانُ وَالنِّعَمُ
    لَا يَنْقُصُ الْعُسْرُ بَسْطًا مِنْ أَكُفِّهِمُ
    سِيَّانَ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا وَإِنْ عَدِمُوا
    يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحُلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ
    خِيمٌ كَرِيمٌ وَأَيْدٍ بِالنَّدَى دِيَمُ

    وفي هذه القصيدة الجيدة نفحات من التصوف، فالشاعر يقرن شكر الله بشكر آل الرسول ويرى أن حبهم دين وبغضهم كفر، وتلك أقصى غايات الصدق في الحب، ويؤيد هذا ما وقع للشاعر بعد إنشاد هذه القصيدة؛ فقد غضب هشام وحبسه، وأنفذ له زين العابدين وهو في الحبس اثني عشر ألف درهم فردها وقال: «مدحته لله تعالى لا للعطاء.»

    والمدح لله هو عين التصوف، ولا يغض من هذا قبوله العطية بعد ذلك؛ فقد تلطف زين العابدين وقال: «إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئًا لا نستعيده.»٩٦

    وكذلك يكون قبول هذه العطية بابًا من الأدب في رعاية أسباط الرسول عليه الصلاة والسلام.

    وقد يمكن القول بأن مدح الفرزدق للنبي وأهله هو بداية الصدق في المدائح النبوية؛ ذلك بأن مدائح حسان وقعت في أيامٍ كان مدح النبي فيها ينفع الشاعر ولا يضره، أما مدح النبي وأهله في أيام الفرزدق فكان بابًا من الشر يُفتَح للمادحين؛ لأن تلك المدائح ما كانت تروق خلفاء بني أمية، وكيف تروقهم وهي تزكية لخصوم أولئك الخلفاء؟! إن أقوى حجة عند خصوم بني أمية كانت قرابتهم من الرسول، فلا بدع أن يكون مدح الرسول تنويهًا بشأن أولئك المعارضين، ألم تر كيف غضب هشام وسجن الفرزدق؟

    ومعنى هذا أن السياسة كانت بدأت تستقل عن الدين بعض الاستقلال، فمدح الرسول وأبنائه في نظر خلفاء بني أمية كان ضربًا من التمرد والشغب والخروج على الدولة، وتعليل ذلك سهل؛ فموقف علي بن الحسين من بني أمية شبيه بموقف خلفه الشريف الرضي من بني العباس، والشريف هو الذي يقول:

    رُدُّوا تُرَاثَ مُحَمَّدٍ رُدُّوا
    لَيْسَ الْقَضِيبُ لَكُمْ وَلَا الْبُردُ

    وتراث محمد كان أهم ما فيه ولاية أمر المسلمين، وقد انتُزِعتْ من آل البيت، انتزعها بنو أمية، ثم بنو العباس.

    نقول هذا لنبين أثر الشجاعة الصوفية عند الفرزدق حين مدح علي بن الحسين في حضرة هشام بن عبد الملك، وقوله حين رفض العطية: «مدحته لله تعالى لا للعطاء» يُذكِّر بالكميت، وقد دخل عليه جعفر بن محمد بعطاء وكسوة فقال: «والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله.»

    فإن لم يكن مثل هذا الحب تصوفًا وروحانية، فما منزلته بين نوازع الود والوفاء؟

  • (١٣)

    رأينا كيف نشأت المدائح النبوية وكيف تطورت: رأينا كيف كان النبي يُمدَح، كما يُمدَح الرؤساء المسيطرون، في شعر الأعشى وكعب بن زهير، وكيف مُدِح بشيء من روح العطف والحنان في شعر حسان، وكيف مُدِح تديُّنًا في خُطب علي بن أبي طالب، وكيف درج الشعراء بعد ذلك على الجمع بين مدحه ومدح آل البيت، فلنذكر الآن أن هذا الفن بلغ أشُده في القرن الرابع، وسندرس ما وقع منه في شعر الكميت ودعبل والشريف الرضي ومهيار الديلمي، ونسارع فنقرر أن من أهم الشواهد على نضج هذا الفن في ذلك العصر أن الثعالبي جمع منه شذرات في كتابه «سحر البلاغة»، وهو كتاب يمثل النزعات الفنية في عصر المؤلف، ومادة ذلك الكتاب لم تؤخذ عن كاتب واحد، ولا شاعر واحد، وإنما هي فقرات أخرجها من ألفاظ عدد كبير من الكتاب والشعراء.

    وإلى القارئ طائفة من تلك التعابير:

    سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة – جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور – محمد نبي الله وصفوته، وخيرته من بريته – خيرة الله من خلقه، وحجته في أرضه، والهادي إلى حقه، والمُنبِّه على حكمه، والداعي إلى رشده – مبارك مولده، سعيد مورده – ساطع صباحه، متوقد مصباحه – مظفرة حروبه، ميسرة خطوبه – آخر الأنبياء في الدنيا عصرًا، وأولهم يوم الدين ذكرًا، وأرجحهم عند الله ميزانًا، وأوضحهم حجة وبرهانًا.

    وإليك طائفة أخرى في الصلوات:

    صلى الله على محمد خير من افتُتِحت بذكره الدعوات، واستُنجِحت بالصلاة عليه الطلبات – صلى الله على محمد خير نبي مبعوث، وأفضل وارث وموروث – صلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعي إلى الصدق – صلى الله على بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب: محمد الذي أدى الأمانة مخلصًا، وصدع بالرسالة مبلِّغًا مُلَخِّصًا – صلى الله على أتمِّ بريته خيرًا وفضلًا، وأطيبهم فرعًا وأصلًا، وأكرمهم عودًا ونجرًا، وأعلاهم منصبًا وفخرًا.

    وبعد هذين اللونين من مدح الرسول والصلاة عليه نقل الثعالبي فقرات في الثناء على آل البيت، وهذا دليل آخر على الجمع بين مدح النبي ومدح عترته، وأغلب الظن أن هذه الطريقة كانت مما سنَّ الشيعة في مختلف الأمصار الإسلامية، وسنرى كيف يعود المادحون فيفردون النبي بالثناء حين يسلمون من النزعات الحزبية، والتشيع تحزب، وإن غلب على كثير من أهله صدق اليقين.

  • (١٤)
    هذا وقد رأى القارئ أن أقدم قصيدة قيلت في مدح الرسول بُدِئت بالنسيب، وسيرى ذلك سُنَّة في أكثر المدائح النبوية، فلنقيد هنا أنهم نصوا على «أن الغزل الذي يُصدَّر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل، ويتشبب مطربًا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعُذيب والغوير ولعلع وأكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد والتغزل في ثقل الردف، ودقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد وخضرة العذار، وما أشبه ذلك.»٩٧

    وهذا الأدب يُلحَظ أيضًا في مدح أهل البيت، وقد عاب ابن حجة على السَّري الرفاء أن يتغزل في صدر قصيدة مدح بها الفاطميين وجدهم الرسول بمثل هذا التشبيب:

    نَطْوِي اللَّيَالِيَ عِلْمًا أَنْ سَتَطْوِينَا
    فَشَعْشِعِيهَا بِمَاءِ الْمُزْنِ وَاسْقِينَا٩٨
    وَتَوِّجِي بِكُئُوسِ الرَّاحِ رَاحَتَنَا
    فَإِنَّمَا خُلِقَتْ لِلرَّاحِ أَيْدِينَا
    قَامَتْ تَهُزُّ قَوَامًا نَاعِمًا سَرَقَتْ
    شَمَائِلُ الْبَانِ مِنْ أَعْطَافِهِ اللِّينَا
    تُدِيرُ خَمْرًا تَلَقَّاهَا الْمِزَاجُ كَمَا
    أَلْقَيْتَ فَوْقَ جَنِيِّ الْوَرْدِ نَسْرِينَا
    فَلَسْتُ أَدْرِي أَتَسْقِينَا وَقَدْ نَفَحَتْ
    رَوَائِحُ الْمِسْكِ مِنْهَا أَمْ تُحَيِّينَا

    والمواطن التي أشار إليها ابن حجة مواطن عربية متصلة من قُرب أو من بُعد بمدينة الرسول ، والقول بالوقوف عندها في التغزل فيه تعسف، فمن حق الشاعر إن تغزل أن يصدُق، وقد حنَّ البوصيري مثلًا إلى أحبابه بذي سَلَم وكان أولى لو تشوق إلى أحبابه في بلبيس أو فاقوس، وعذر ابن حجة أن مثل ذلك النسيب هو في الأغلب تمهيد للمديح، والكلام عن تلك المواطن بالذات يقع في المدائح النبوية وكأنه براعة استهلال.

١  السليم: هو الملدوغ، وإنما سُمِّي بذلك تفاؤلًا له بالسلامة كما سُمِّيت الصحراء مفازة.
٢  مهدد: من أسماء النساء. والخُلة بالضم: المودة والحب.
٣  قرية باليمامة.
٤  راجع مهذب الأغاني، ج١، ص١٦٣.
٥  أبرق العَزَّاف: ماء لبني أسد بن خزيمة، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة. قالوا: وإنما سُمي العزاف لأنهم يسمعون فيه عزيف الجن.
٦  المأمون هو النبي، والشاعر يتهكم. والنهل بالتحريك: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثاني.
٧  وَيْبٌ كَوَيْلٍ. نقول: ويبَكَ وويبٌ لك، وويبٌ لزيد، وويبًا له، وويب غيره، ومعنى الكل: ألزمه الله ويلًا (القاموس المحيط).
٨  لعًا لك: دعاء بالانتعاش، قال الأعشى:
بذات لوثٍ عَفَرْنَاةٍ إذا عثرت
فالتعس أدنى لها من أن أقول لعَا
٩  انظر مهذب الأغاني، ج١، ص١٦٤.
١٠  الظلم كأنه ظلمة تركب متون الأسنان من شدة الصفاء. والنهل بالتحريك: الشرب الأول. والعلل: الشرب الثاني.
١١  سِيط: مُزِج.
١٢  العتاق: النوق النجيبة. والمراسيل: جمع مرسال، وهي الناقة السهلة السير.
١٣  لا أبا لك، ولا أبا لغيرك، ولا أبا لشانئك، يقولونه في الحث، حتى أمر بعضهم لجفائه بقوله: «أمطر علينا الغيث لا أبا لكا.» ويقال: لعمر أبيك، ولعمر أبي سواك (راجع أساس البلاغة).
١٤  الميل: جمع أميل، وهو من يميل على السرج والجبان. والمعازيل: جمع معزال، وهو من لا رمح معه.
١٥  العرانين: جمع عرنين، وهو الأنف.
١٦  التعريد: الهرب. قال الزمخشري في الأساس: «وسمعت في طريق مكة صبيًّا من العرب يقول وقد انتحى عليه بعير: ضربته فعرَّد عني.» وعرَّد النجم: غار، قال حاتم:
وعاذلة هبَّت بليل تلومني
وقد غاب عيوق السماء وعرَّدا
وعرد الماء: قلص. قال رؤبة: ومنهل معرد الجمام.
١٧  وفي دار الكتب المصرية تخميس مشروح لم يُعرَف مؤلفه (رقم ١٥٦٥ أدب).
١٨  نفح الطيب، ج١، ص٩٣٢، طبع ليدن.
١٩  الربع: ويقال أيضًا المرباع. يراد به ربع الغنيمة، وهو نصيب الرئيس دون أصحابه ممن يكسبون الحرب.
٢٠  قسرْنَا: قهرْنَا. والنِّهاب: جمع نهب، وهو الغنيمة.
٢١  القزع: الغيم.
٢٢  الكُوم: جمع كوماء، وهي الناقة الضخمة السنام. والنحر عبطًا: هو النحر من غير علة. والأَرُومة: الأصل.
٢٣  استقادوا: أعطوا مقادتهم وخضعوا.
٢٤  لا يطبعون: من الطبع بالتحريك، وهو دنس الأخلاق.
٢٥  من الجدع: وهو القطع.
٢٦  ربعوا: أقاموا.
٢٧  الصاب والسلع من الأشجار: المرة المذاق.
٢٨  مكتنع: قريب. والفَدَع بالتحريك: الميل.
٢٩  الذرع: ولد البقرة الوحشية.
٣٠  شمعوا: مزحوا.
٣١  ذات الأصابع، والجواء، وعذراء: أسماء مواضع بالشام.
٣٢  الروامس: الرياح التي تثير التراب فتطمس به الآثار.
٣٣  السبيئة: الخمر. وبيت رأس: موضع بالأردن مشهور بالخمر.
٣٤  ألام الرجل: فعل ما يُلام عليه. والمغث: القتال. واللِّحاء: السباب.
٣٥  نهنهه اللقاء: أخافه، والنهنهة في الأصل: الزجر.
٣٦  كداء: الثنية العليا بمكة.
٣٧  الأسل: الرماح.
٣٨  متمطرات: مسرعات. الخُمُر: جمع خمار.
٣٩  الجِلَاد: القتال.
٤٠  عرضتها اللقاء: أي همتها وغايتها مقاتلة الأعداء.
٤١  نحكم: من الإحكام، وهو المنع، قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكمو أن أغضبا
٤٢  المغلغلة: الرسالة تُحمَل من بلد إلى بلد. وبرح الخفاء: أي ظهر الأمر وانكشف.
٤٣  عبد الدار: بطن من قريش.
٤٤  البرزة: المرأة الكهلة التي تبرز للناس ولا تحتجب احتجاب الشوابِّ.
٤٥  المُرمِل: الفقير الذي نفد زاده. والمُسْنِت: الذي أصابته السنة؛ أي القحط والجدب، ومنه قول ابن الزبعري:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
٤٦  تفاجت: أفرجت ما بين رجليها وسكنت.
٤٧  البهاء: بريق الرغوة.
٤٨  أراضوا: كرَّروا الشرب حتى رَوُوا.
٤٩  تساوك: تمشي مشيًا ضعيفًا.
٥٠  الحيال: جمع حائل، وهي التي لم تحمل. والعازب: البعيدة المرعى.
٥١  الثُّجلَة: عِظَمُ البطن واستخاؤه.
٥٢  الصَّعلة: صِغَرُ الرأس.
٥٣  الوَطَف: طول أشفار العين.
٥٤  السطع: الطول.
٥٥  الصحل: رقة الصوت.
٥٦  الزَّجج: دقة شعر الحاجبين. والقَرَن: وصل ما بينهما.
٥٧  المفند: الذي تقل الفائدة في كلامه.
٥٨  الحائل: هي التي لم تحمل.
٥٩  الشفاء، ص٥٠.
٦٠  الغيث المنسجم، ج١، ص١٢٨.
٦١  تهمد: تبلى وتبيد.
٦٢  الحجرات: مساكن الرسول، مفردها حجرة.
٦٣  أسعدت العيون: أعانت على البكاء.
٦٤  التبلد: الحيرة.
٦٥  شفها: أضعفها.
٦٦  المسدد: الموفق.
٦٧  الصفيح: الحجر الرقيق العريض. والمنضد: الذي رُصف بعضه فوق بعض.
٦٨  الأَسعُد: جمع سعد، وهي النجوم.
٦٩  أكمد: من الكمد وهو الحزن.
٧٠  يغور: يبلغ الغور، وهو المنخفض من الأرض، وضده النجد.
٧١  يمهد: يهيِّئ المكان الوثير، والمهد: المرقد اللين.
٧٢  مقصد: مصيب، يقال: رماه فأقصده.
٧٣  المرسلات: هي هنا الملائكة.
٧٤  جمد الدمع: سكن.
٧٥  يتغمد: يغطي ويستر.
٧٦  التالد: المال القديم، ومثله التليد. والطريف: هو المال المُكتَسب.
٧٧  الأبطحي: نسبة إلى الأبطح بمكة.
٧٨  العقل العازب: هو الذاهب.
٧٩  المثلات بفتح فضم: العقوبات.
٨٠  انجذم: انقطع.
٨١  السواري: جمع سارية، وهي العمود والدعامة.
٨٢  النجر: الأصل، والمراد به المرجع.
٨٣  نهج البلاغة، ج١، ص٣١-٣٢.
٨٤  اعترام: شدة.
٨٥  الانتشار: التفرق.
٨٦  التجهُّم: الاستقبال بوجه كريه.
٨٧  نهج البلاغة، ص١٧١، ج١.
٨٨  الأرومات: الأصول.
٨٩  ص٢٠١-٢٠٢، ج١، نهج البلاغة.
٩٠  ص٢٠٢، ج١ منه أيضًا.
٩١  ص٢٠٣.
٩٢  ص٢٢٣.
٩٣  ص٢٣٢، ج١.
٩٤  ص٢٢١، ج١.
٩٥  مهذب الأغاني، ج٥، ص١٤٩. وفي وفيات الأعيان، ج٣، ص١٤٢، أنه لما حج هشام في أيام أبيه، طاف وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين، وكان من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرجًا، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام فيملكونه، وكان الفرزدق حاضرًا، فقال: أنا أعرفه، فقال: من هو يا أبا فراس؟ فقال قصيدته.
٩٦  وفيات الأعيان، ج٣، ص١٤٣.
٩٧  خزانة الأدب للحموي، ص١٤.
٩٨  المزن: السحاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤