الفصل الحادي عشر

بديعية ابن حِجَّة الحَمَوي١

موجز ترجمة الحموي – خزانة الأدب – كيف نظم الحموي بديعيته – اهتمامه بالمدائح النبوية – زهوه واختياله – أحكام ذوقية – نظراته في النقد – نموذج من نثره – أهمية خزانة الأدب – نقد بديعية الحموي.

***

  • (١)
    ولد أبو بكر تقي الدين بن علي بن عبد الله الحموي الأزراري٢ في حماة سنة ٧٦٧ﻫ، وتوفي بها سنة ٨٣٧ﻫ، وقد زار القاهرة واتصل بعلمائها وشعرائها وله في ذلك رسائل وأخبار يجدها القارئ مفرقة في كتابه «خزانة الأدب» الذي طُبع بمطبعة بولاق سنة ١٣٣٧ﻫ.
  • (٢)
    ترك ابن حِجَّة طائفة من المؤلفات أكثرها موجود، بين مطبوع ومخطوط،٣ والذي يهمنا هو قصيدته البديعية وشرحها الذي سماه: «خزانة الأدب»، ولتلك القصيدة وذلك الشرح أهمية عظيمة، أما القصيدة فلجودتها بين البديعيات، وأما الشرح فلجمعه طرائف كثيرة من أدب القرن الثامن، وتكاد خزانة الأدب تُعدُّ من أجمل ما صُنِّف في ذلك العهد، ولا يوازيها في الجمال إلا شرح لامية العجم للصفدي، فهذان المصنفان جمعا أخبارًا كثيرة من أدب القرن الثامن، وهو في الواقع أدب هزيل، ولكن مؤرخ الأدب يحتاج إلى التعرف إلى جميع الفنون الأدبية، الغث منها والسمين.

    ومن غريب ما لاحظت أنني أجد أنسًا بهذين الكتابين قد لا أجده عند قراءة كتاب الأغاني، وقد جهدت في تعليل ذلك، ثم تبينت أن غرابة هذا الأدب من أسباب جاذبيته، فأكثر ما درسناه وما تلقيناه عن الأساتذة لا يكاد يخرج عما صُنِّف في العصور الذهبية، ولو شئت لأضفت إلى ذلك أن هذين المصنفين يهتمان في الأغلب بأدب أهل مصر، وأهل الشام، ومزاج الأديب المصري مكون من هذين الأدبين، فلا بدع أن يجد عند الحموي والصفدي روحًا لا يجده عند الأصفهاني.

  • (٣)
    يحدِّثنا الحموي في صدر «خزانة الأدب» عن الظروف التي نظم فيها بديعيته فيقول:

    وبعدُ فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه على منوال «طرز البردة» كان مولانا المقرُّ الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة — جمَّل الله الوجود بوجوده — هو الذي ثقَّف لي هذه الصعدة، وحلب لي ضرعها الحافل لحصول هذه الزبدة، وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي — رحمه الله تعالى — التزم فيها بتسمية النوع البديعي، وورَّى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي — تغمَّده الله تعالى برحمته — لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل، غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوتٍ أَذِن الله أن تُرفع، ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي الأصبع، وربما رضي في الغالب بتسمية النوع، ولم يُعرِب عن المسمى ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقده نظمًا، فاستخار الله مولانا الناصري المشار إليه، ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام، وأجاري الحلي برقة السحر الحلال الذي ينفث في عقد الأقلام، فصرت أشيد البيت، فيرسم لي بهدمه، وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس، ويقول: بيت الصفي أصفى موردًا، وأنور اقتباسًا. فأسنُّ كل ما حده الفكر، وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة، فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقة، فجاءت بديعية هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي مقيدًا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال.

    وفي هذه الكلمات تصريح بأن نظم البديعية كان مما اقترحه الفقيه الكاتب محمد بن البارزي بعد أن وقف بدمشق على بديعية عز الدين الموصلي، وفيها أيضًا تعريف بالطريقة التي نُظمت بها البديعية، فقد كان الحموي ينظم والبارزي ينقد، وكانت المفاضلة بين بديعية الموصلي والحلي والحموي مما يهتم به ذلك الفقيه الأديب، فكان لا يسمح للناظم بالانتقال من بيت إلى بيت إلا بعد الاطمئنان إلى تفوُّقه على الموصلي والحلي، وذلك كله يبين ما في بديعية الحموي من التكلف والافتعال.

  • (٤)

    والحموي — وإن نظم البديعية إجابة لاقتراح البارزي — كان من المولعين بنظم المدائح النبوية، وله في ذلك قصيدة اسمها: «أمان الخائف» قال في أولها:

    شَدَتْ بِكُمُ الْعُشَّاقُ لَمَّا تَرَنَّمُوا
    فَغَنَّوْا وَقَدْ طَابَ الْمَقَامُ وَزَمْزَمُ
    وَضَاعَ شَذَاكُمْ بَيْنَ سَلْعٍ وَحَاجِرٍ
    فَكَانَ دَلِيلَ الظَّاعِنِينَ إِلَيْكُمُ
    وَجُزْتُمْ بِوَادِي الْجِزْعِ فَاخْضَرَّ وَالْتَوَى
    عَلَى خَدِّهِ بِالنَّبْتِ صُدْغٌ مُنَمْنَمُ
    وَلَمَّا رَوَى أَخْبَارَ نَشْرِ ثُغُورِكُمْ
    أَرَاكُ الْحِمَى جَاءَ الْهَوَى يَتَنَسَّمُ

    ومنها:

    فَيَا عربَ الْوَادِي الْمَنِيعِ حِجَابُهُ
    وَأَعْنِي بِهِ قَلْبِي الَّذِي فِيهِ خَيَّمُوا
    رَفَعْتُمْ قِبَابًا نَصْبَ عَيْنِي وَنَحْوَهَا
    تَجُرُّ ذُيُولَ الشَّوْقِ وَالْقَلْبُ يَجْزِمُ٤
    وَيَا مَنْ أَمَاتُونَا اشْتِيَاقًا وَصَيَّرُوا
    مَدَامِعَنَا غُسْلًا لَنَا وَتَيَمَّمُوا
    مَنَعْتُمْ تَحِيَّاتِ السَّلَامِ لِمَوْتِنَا
    غَرَامًا وَقَدْ مِتْنَا فَصَلُّوا وَسَلِّمُوا
    يَقُولُونَ لِي فِي الْحَيِّ أَيْنَ قِبَابُهُمْ
    وَمَنْ هُمْ مِنَ السَّادَاتِ قُلْتُ هُمُ هُمُ
    عُرَيْبٌ لَهُمْ طَرْفِي خِبَاءٌ مُطَنَّبٌ
    بِدَمْعِي وَقَلْبِي نَارُهُمْ حِينَ تُضْرَمُ
    أُوَرِّي بِذِكْرِ الْبَانِ وَالرَّنْدِ وَالنَّقَا
    وَسَفْحِ اللِّوَى وَالْجِزْعِ وَالْقَصْدُ أَنْتُمُ

    وفيها يقول في التخلص إلى مدح الرسول:

    تَقَنَّعْتُ فِي حُبِّي لَهُمْ فَتَعَصَّبُوا
    عَلَيَّ وَهُمْ سَادَاتُ مَنْ قَدْ تَلَثَّمُوا
    لَهُمْ حَسَبٌ عَالٍ بِبَطْحَاءِ مَكَّةٍ
    لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ فِي الْأَصْلِ مِنْهُمُ

    ويقول في ختام هذه القصيدة:

    عَسَى وَقْفَةٌ أَوْ قَعْدَةٌ لِابْنِ حِجَّةٍ
    عَلَى بَابِكُمْ يَسْعَى بِهَا وَهْوَ مُحْرِمُ
    فَقَدْ جَاءَ يَشْكُو مِنْ ذُنُوبٍ تَعَاظَمَتْ
    وَقَدْرُكَ فِي يَوْمِ الشَّفَاعَةِ أَعْظَمُ
    وَقَدْ نَالَهُ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ
    هُمُومٌ وَسَيْفُ الْهَمِّ لِلظَّهْرِ يَقْصِمُ
    وَعَارِضُهُ قَدْ شَابَ فِي زَمَنِ الصِّبَا
    عَسَى بِكَ مِنْ ذَا الْعَارِضِ الصَّعْبِ يَسْلَمُ
    فَيَا وِرْدَنَا الصَّافِي طُيُورُ قُلُوبِنَا
    عَلَيْكَ إِذَا مَا نَابَهَا الضَّيْمُ حُوَّمُ
    عَلَيْكَ سَلَامٌ نَشْرُهُ كُلَّمَا بَدَا
    بِهِ يَتَغَالَى الطِّيبُ وَالْمِسْكُ يَخْتِمُ

    ولم نقف على هذه القصيدة كاملة، وما أثبتناه هنا ليس إلا شذرات جمعناها مما تفرق منها في خزانة الأدب، ولم نُشِرْ إلى هذه القصيدة إلا لندلَّ على أن الحموي كان يتجه إلى هذا الفن، فإن بديعيته لم توضع في الأصل لمدح الرسول، وإنما هي قصيدة فنية مدح بها النبي مدحًا صناعيًّا لتلحق بأمثالها من البديعيات، وبيان ذلك أن الشاعر لم يكن يهمُّه عند نَظْم البيت أن يبلغ مبالغ الصادقين في مدح الرسول، وإنما كان يهمُّه أن يجيد الإفصاح عما يقصد إليه من فنون البديع، وآية ذلك أنه لم يهتمَّ في شرح البديعية بشيءٍ يُذكر من السيرة النبوية، وإنما وقف عند الفنون البديعية، ومجاراته للموصلي والحلي وقفت أيضًا عند هذه الغاية، فلم ينظر فيها إلى المدح كما نظر إلى الفن؛ أعني علم البديع. والخلاصة أن خزانة الأدب — وهي مجلد ضخم يقع في ٥٧٠ صفحة من القطع الكبير — لا يمكن على الإطلاق أن تُعدَّ كتابًا في السيرة أو الشمائل النبوية، إنما هي كتاب في الأدب الصِّرف الذي قام على أساس المحسنات البديعية، ولم يَفُتْ هذا مُصنِّفي فهارس دار الكتب المصرية، فقد وضعوها في فهرس البلاغة، ولم يرد لها ذكر في فهرس الأدب ولا فهرس التاريخ.

  • (٥)
    والحموي في خزانته يزهو بنفسه ويختال، وهو يذكِّر بابن الأثير في كتاب المثل السائر، وإن كان ابن الأثير بالنسبة إليه من المتواضعين، وزَهْو الحموي يدلنا على أن النقد في عصره لم يكن قويًّا، ولو كان للنقد في زمانه سلطان لما أسرف في الاختيال. وإلى القارئ بعض الشواهد:
    • (أ)

      قال في براعة المطلع:

      «وأذكرني مهيار بحسن براعته ما كتبت به إلى سيدنا ومولانا قاضي القضاة: صدر الدين، ملك المتأدبين، أبي الحسن علي بن الآدمي … وهي رسالة مشتملة على نَظْم ونثر، فصدَّرت الجواب بقصيدة ترفُل في حُلل النسيب على طريق مهيار، وكلها براعة استهلال، أولها:

      وَصَلَتْ وَلَكِنْ بَعْدَ طُولِ تَشَوُّقِ
      وَدَنَتْ وَقَدْ رَقَّتْ لِقَلْبِي الشَّيِّقِ

      وما أحلى ما قلت بعده:

      فَثَمِلْتُ مِنْ طَرَبٍ بِرَجْعِ حَدِيثِهَا
      فَكَأَنَّمَا قَدْ نَادَمَتْ بِمُعَتَّقِ»٥
    • (ب)

      وقال في الحديث عن إحدى قصائده النبوية:

      «ومن ألطف الإشارات إلى أن هذا التغزُّل صدر قصيدة نبوية قولي:

      أُوَرِّي بِذِكْرِ الْبَانِ وَالرَّنْدِ وَالنَّقَا
      وَسَفْحِ اللِّوَى وَالْجِزْعِ وَالْقَصْدُ أَنْتُمُ
      ولم أزل في براعة الاستهلال أستهل أهلَّة هذه المعاني إلى أن وصلت إلى حسن التخلص.»٦
    • (جـ)

      وقال في تفضيل بديعيته:

      «وأما براعة بديعيتي، فإنها ببركة ممدوحها نور هذه المطالع، وقبلة هذا الكلام الجامع، فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء بالشرط المقرر لكلٍّ منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنَّفت بأقراط غَزَلها الأسماع … إلخ.»٧
    • (د)

      وقال يتحدث عن إحدى قصائده:

      «وقلت بعد المطلع أخاطب النسيم بما هو أرق منه.»٨
    • (هـ)

      ويقول عن بعض مؤلفاته:

      «وقد عنَّ لي أن أُورِد هنا ما سارت في الخافقين حِكَمه وأمثاله، وانقاد أهل الذوق السليم لطاعته لمَّا ورد عليهم مثاله، وهو تأليفي الذي وسمته بتغريد الصادح.»٩

    ولهذه الكلمات نظائر كثيرة في خزانة الأدب، وأرجو ألَّا يضجر القارئ من هذا الزهو، فهو صورة نفسية لشاعرٍ وكاتبٍ ومؤلفٍ كان في زمانه من الأعلام، وليست مهمة الباحث أن يقدِّم ما يروق، ولكن مهمته أن يقيِّد المحاسن والعيوب.

  • (٦)

    وللحموي أحكام ذوقية وأدبية لا نقبلها اليوم، فهو مثلًا يستعذب هذا البيت:

    يَزِيدُ الْهَوَى دَمْعِي وَقَلْبِي الْمُعَنَّفُ
    وَيُحْيِي جُفُونِي الْوَجْدُ وَهْوَ الْمُكَلَّفُ١٠

    ويستجيد هذا البيت:

    أَخْرِجْ حَدِيثَكَ مِنْ سَمْعِي فَمَا دَخَلَا
    لَا تَرْمِ بِالْقَوْلِ سَهْمًا رُبَّمَا قَتَلَا

    وفي التعليق على هذا المطلع:

    زَارَ الصَّبَاحُ فَكَيْفَ حَالُكَ يَا دُجَى
    قُمْ فَاسْتَذِمَّ بِفَرْعِهِ أَوْ فَالنَّجَا
    يقول: «انظر إلى حُسن هذا الابتداء، كيف جمع مع اجتناب الحشو بين رقة النسيب، وطرب التشبيب، وتناسب القسمين، وغرابة المعنى!»١١

    ويرى مطلع ابن نباتة:

    مَا بِتُّ فِيكَ بِدَمْعِ عَيْنِي أَشْرَقُ
    إِلَّا وَأَنْتَ مِنَ الْغَزَالَةِ أَشْرَقُ

    أجود من مطلع المتنبي:

    أَرَقٌ عَلَى أَرَقٍ وَمِثْلِيَ يَأْرَقُ
    وَجَوًى يَزِيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
  • (٧)
    وله مع هذا نظراتٌ دقيقة في النقد، من ذلك إنكاره أن يستهل ابن نباتة الخطيب خطبته في وفاة النبي بقوله: «الحمد لله المنتقم ممن خالفه، المهلك من آسفه»،١٢ وإن لم يكن أول من أنكر هذا الاستهلال. ومن ذلك أيضًا استكراه الجناس؛ إذ يقول: «أما الجناس فإنه غير مذهبي، ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب، وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإنَّ كلًّا منهما يؤدي إلى العقادة، والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة.»١٣
    ويقول فيمن يؤثرون الجناس: «ولم يحتج إليه بكثرة استعماله إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني التي هي كالنجوم الزاهرة في أفق الألفاظ، وإذا خلت بيوت الألفاظ من سكان المعاني تنزلت منزلة الأطلال البالية.»١٤
    وهو يرى — كما رأى ابن جني من قبله بأجيال — أن المولِّدين يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ، ويؤكد أن لكل زمان بديعًا، وأنه «ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد.»١٥

    واهتمامه بتدوين ما أُثِر عن أهل زمانه يؤيد هذا الرأي، فهو يُوجِز حين يستشهد بكلام القدماء، ويُطنِب حين يستشهد بكلام المحدثين.

  • (٨)

    أما نثر الحموي فهو مملوء بالصنعة والزخرف، وفيه إشارات كثيرة إلى مصطلحات النحو والفقه والعروض، ويكفي هذا الشاهد في وصف البحر حين ركبه من الشام إلى مصر سنة ٨٠٢ﻫ.

    «وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر، وأحدِّث عنه ولا حرج، فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطَّع منه القلب لمَّا دخل إلى دوائر تلك اللُّجج، وشاهدت منه سلطانًا جائرًا يأخذ كل سفينة غصبًا، ونظرت إلى الجواري الحسان، وقد رمت أُزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تُسبى، فتحقَّقت أن رأي من جاء يسعى في الفلك غير صائب، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب، وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله، وقد قُلت من شدة الظمأ: يا تُرى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة!

    وَهَلْ أُبَاكِرُ بَحْرَ النِّيلِ مُنْشَرِحًا
    وَأَشْرَبُ الْحُلْوَ مِنْ أَكْوَابِ مَلَّاحِ؟
    بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف، وحملنا على نعش الغراب، وقامت واوات دوائره مقام مع، فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب، وقارن العبد فيه سوداء استرقت مواليها وهي جارية، وغشيهم منها في اليمِّ ما غشيهم، فهل أتاك حديث الغاشية؟ واقعها الريح فحملت بنا، ودخلها الماء فجاءها المخاض، وانشق قلبها لفَقْد رجالها، وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض، وتوشَّحت بالسواد في هذا المأتم، وسارت على البحر وهي مثل، وكم سُمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل … إِنْ نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود، وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود، وتتشامم وهي كما قيل: أنف في السماء واست في الماء، وكم تُطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء، فبها الهدى وليس لها عقل ولا دين، وتتصابى إذا هبَّت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين، وتوقف أحوال القوم، وهي تجري بهم في موج كالجبال، وتدَّعي براءة الذمة، وكم أغرقت لهم من أموال. هذا وكم ضَعُفَ نحيلُ خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج، وكم وجلت القلوب لمَّا صار لأهداب مجاديفها على مقلة البحر اختلاج، وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها، وكم مرَّ على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها … إلخ.»١٦

    وتلك كتابة كثيرة الافتنان، ولكنها قليلة المحصول.

  • (٩)

    قلت: إن خزانة الأدب تمتاز بجمعها لطرائف كثيرة من أدب القرن الثامن، فَلْنذكر من شواهد ذلك ما أشار إليه المؤلف من معاني ابن نباتة التي أخذها الصلاح الصفدي، قال ابن نباتة:

    وَمُولَعٍ بِفِخَاخٍ
    يَمُدُّهَا وَشِبَاكِ
    قَالَتْ لِيَ الْعَيْنُ مَاذَا
    يَصِيدُ قُلْتُ كَرَاكِ

    أخذه الصفدي فقال:

    أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْكَرَى عِنْدَمَا رَمَى الْـ
    ـكَرَاكِي غَزَالٌ لِلْبُدُورِ يُحَاكِي
    فَقُلْتُ ارْجِعِي يَا عَيْنُ عَنْ وَرْدِ حُسْنِهِ
    أَلَمْ تَنْظُرِيهِ كَيْفَ صَادَ كَرَاكِ

    وقال ابن نباتة:

    اسْعَدْ بِهَا يَا قَمَرِي بَرْزَةً
    سَعِيدَةَ الطَّالِعِ وَالْغَارِبِ
    صَرَعْتَ طَيْرًا وَسَكَنْتَ الْحَشَا
    فَمَا تَعَدَّيْتَ عَنِ الْوَاجِبِ

    أخذه الصفدي فقال:

    قُلْتُ لَهُ وَالطَّيْرُ مِنْ فَوْقِهِ
    يَصْرَعُهُ بِالْبُنْدُقِ الصَّائِبِ
    سَكَنْتَ فِي قَلْبِي فَحَرَّكْتَهُ
    فَقَالَ لَمْ أَخْرُجْ عَنِ الْوَاجِبِ

    وقال ابن نباتة:

    وَبِمُهْجَتِي رَشَا يَمِيسُ قَوَامُهُ
    فَكَأَنَّهُ نَشْوَانُ مِنْ شَفَتَيْهِ
    شُغِفَ الْعِذَارُ بِخَدِّهِ وَرَآهُ قَدْ
    نَعَسَتْ لَوَاحِظُهُ فَدَبَّ عَلَيْهِ

    أخذه الصفدي فقال:

    وَأَهْيَفَ كَالْغُصْنِ الرَّطِيبِ إِذَا انْثَنَى
    تَمِيلُ حَمَامَاتُ الْأَرَاكِ إِلَيْهِ
    لَهُ عَارِضٌ لَمَّا رَأَى الطَّرْفَ نَاعِسًا
    أَتَى خَدَّهُ سِرًّا فَدَبَّ عَلَيْهِ

    وقال ابن نباتة:

    بِرُوحِي عَاطِرُ الْأَنْفَاسِ أَلْمَى
    مَلِيُّ الْحُسْنِ حَالِي الْوَجْنَتَيْنِ
    لَهُ خَالَانِ فِي دِينَارِ خَدٍّ
    تُبَاعُ لَهُ الْقُلُوبُ بِحَبَّتَيْنِ

    أخذه الصفدي فقال:

    بِرُوحِي خَدُّهُ الْمُحْمَرُّ أَضْحَتْ
    عَلَيْهِ شَامَةٌ شَرْط الْمَحَبَّهْ
    كَأَنَّ الْحُسْنَ يَعْشَقُهُ قَدِيمًا
    فَنَقَّطَهُ بِدِينَارٍ وَحَبَّهْ

    ولما وقف ابن نباتة على هذين البيتين قال: لا إله إلا الله! الشيخ صلاح الدين سرق — كما يقال — من الحبتين حبة!

    ولهذا الحديث بقية يجدها القارئ في ص٣٤٨ و٣٥١ من خزانة الأدب، وهو في الأصل منقول عن كُتيِّب لابن نباتة اسمه: «خبز الشعير».

    ودَرْس كتاب الحموي يعطي صورًا كثيرة من أدب القرن الثامن، والمؤلف يدوِّن أخبار ذلك العهد في حماسة قوية تمثِّل إعجابه بأدب الصنعة في تلك الأيام.

    ويزيد في قيمة ما في هذا الكتاب من فنون الاستطراد أنه يتحدث عن علماء وشعراء وكُتَّابٍ لم يبقَ من آثارهم إلا القليل.

  • (١٠)

    وفي هذه الخزانة ألفاظ تستحق الدرس، من ذلك لفظة «أنفعل» في الصفحة الخامسة إذ يقول المؤلف: «وأما قصة إسحق بن إبراهيم الموصلي في هذا الباب فإني أنفعل وأخجل عند سماعها»، ولفظة «استهلَّيتها» في ص٢٣، والصواب «استهللتها» وليست غلطة مطبعية، بل هي من غلط المؤلف، بدليل أنها لا تزال مستعملة في الأزهر؛ إذ يقول الأشياخ في دروس البيان: «اشتقَّينا» في مكان «اشتققنا»، واللغة العامية تؤيد هذا الغلط، فالناس يقولون مثلًا: «استقلينا هذه الكمية»، ويندر أن يفكوا إدغام المثلين.

    وكلمة «لالا» في ص٣٠ إذ يقول المؤلف: ومثله قول الشيخ شمس الدين المزين في غلام مليح، وله «لالا» مليح:

    وَمَلِيحٍ لَالَاهُ يَحْكِيهِ حُسْنًا
    فَهْوَ كَالْبَدْرِ فِي الدُّجَى يَتَلَالَا
    قُلْتُ قَصْدِي مِنَ الْأَنَامِ مَلِيحٌ
    هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا
    وكلمة «سافل» يكثُر ورودها في الخزانة بمعنى ضعيف كقوله: «يشير إلى تقريظ كتبه لبعض أهل الأدب على مصنَّف سافل»، وهي تقابل كلمة inferieur الفرنسية، وكانت في ذلك الحين كلمة خفيفة، وهي اليوم من صور السِّباب.
  • (١١)

    إلى هنا عرف القارئ أشياء عن ابن حجة وعن كتابه «خزانة الأدب»، فلنأخذ في نقد بديعيته في مدح الرسول، وهي تقع في اثنين وأربعين ومائة بيت، وهو عدد ما اهتمَّ بعرضه من ضروب البديع، وهذه المناسبة العددية بين أبيات القصيدة وبين الفنون البديعية ترينا أن المؤلف لم يهتمَّ بالمدح النبوي اهتمامه بالبديع، وإن كان لا يزال يتذكر أن قصيدته مدحة نبوية فقد رأيناه يقول: إنها ببركة ممدوحها نور هذه المطالع.

    وإعجاب الحموي بقصيدته لا يمنعنا من القول بخلوِّها من النفحات الشعرية، فليست إلا منظومة تذكر بأمثالها من منظومات «المتون»، وأهميتها ترجع إلى الناحية التعليمية، وَلْنُسارع فنختبر النسيب في هذه البديعية.

    لِي فِي ابْتِدَا مَدْحِكُمْ يَا عُرْبَ ذِي سَلَمِ
    بَرَاعَةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي الْعَلَمِ
    بِاللهِ سِرْ بِي فَسِرْبِي طَلَّقُوا وَطَنِي
    وَرَكَّبُوا فِي ضُلُوعِي مُطْلَقَ السَّقَمِ
    وَرُمْتُ تَلْفِيقَ صَبْرِي كَيْ أَرَى قَدَمِي
    يَسْعَى مَعِي فَسَعَى لَكِنْ أَرَاقَ دَمِي
    وَذَيَّلَ الْهَمُّ هَمْلَ الدَّمْعِ لِي فَجَرَى
    كَلَاحِقِ الْغَيْثِ حَيْثُ الْأَرْضُ فِي ضَرَمِ
    يَا سَعْدُ مَا تَمَّ لِي سَعْدٌ يُطَرِّفُنِي
    بِقُرْبِهِمْ وَقَلِيلُ الْحَظِّ لَمْ يُلَمِ
    هَلْ مَنْ يَفِي وَيَقِي إِنْ صَحَّفُوا عَذَلِي
    وَحَرَّفُوا وَأَتَوْا بِالْكَلْمِ فِي الْكَلِمِ
    قَدْ فَاضَ دَمْعِي وَفَاظَ الْقَلْبُ إِذْ سَمِعَا
    لَفْظِيَّ عَذْلٍ مَلَا الْأَسْمَاعَ بِالْأَلَمِ
    أَبَا مُعَاذٍ أَخَا الْخَنْسَاءِ كُنْت لَهُمْ
    يَا مَعْنَوِيُّ فَهَدُّونِي بِجَوْرِهِمِ

    يكفي هذا للاستشهاد، فنسيب القصيدة كله من هذا القبيل، والمهم أن ندلَّ القارئ على قيمة هذا النسيب، فهل رأى فيه معنًى جيدًا، أو لفظًا طريفًا؟ وهل يمكن الربط بين المعاني في أمثال هذه الأبيات؟ إن الشاعر نفسه لم يشرح معانيها في كتابه؛ لأنه لم يُرِد بها التشبيب، وإنما وقف عند ما قصد إليه من ضروب البديع، وهو نفسه حين فاضل بين أبياته وأبيات الموصلي والحلي لم يتحدث عن معاني النسيب، وإنما تحدث عن تأدية الفنون البديعية. والصنعة تظهر بصورة أوضح في مثل هذين البيتين في مخاطبة العذول:

    يَا عَاذِلِي أَنْتَ مَحْبُوبٌ لَدَيَّ فَلَا
    تُوَارِبِ الْعَقْلَ مِنِّي وَاسْتَفِدْ حِكَمِي
    جَمْعُ الْكَلَامِ إِذَا لَمْ تُغْنِ حِكْمَتُهُ
    وَجُودُهُ عِنْدَ أَهْلِ الذَّوْقِ كَالْعَدَمِ

    فالبيت الأول تكلَّفه الشاعر ليشير إلى المواربة، والبيت الثاني حكمة مُفتعلة أشار بها إلى الكلام الجامع، وأظهرُ من هذين في التعمُّل قولُه في التذييل والتفويف:

    وَاللهِ مَا طَالَ تَذْيِيلُ اللِّقَاءِ بِهِمْ
    يَا عَاذِلِي وَكَفَى بِاللهِ فِي الْقَسَمِ
    خَشِّنْ أَلِنْ إِحْزَنِ افْرَحِ امْنَعِ اعْطِ أَنِلْ
    فَوِّفْ أَجِدْ وَشِّ رَقِّقْ شُدَّ حُبَّ لُمِ

    ولا موجب للوم الشاعر على هذا الكلام الثقيل، فقد أنصف من نفسه حين قال في شرح البيت الثاني: «التفويف تأمَّلته فوجدته نوعًا لم يَفِدْ غير إرشاد ناظمه إلى طريق العقادة، والشاعر إذا كان معنويًّا وتجشَّم مشاقه تقصر يده عن التطاول إلى اختراع معنًى من المعاني الغريبة وتجفوه حِسان الألفاظ، ولم يعطف عليه برقة، وتأنف كل قرينة صالحة أن تسكن له بيتًا.»

    ومعنى هذا أنه لم يقصد بنظمه غير التمثيل للنوع البديعي، أما هو فلا يراه من ألوان البيان، ولكن هذا الشرح وما فيه من تكلُّف التخيُّل جاء أثقل من التفويف!

    ومما يؤكِّد أن الصنعة هي المقصودة من هذه المنظومات أن الحموي عاب قول الحلي:

    لَا لَقَّبَتْنِي الْمَعَالِي بِابْنِ بَحْدَتِهَا
    يَوْمَ الْفَخَارِ وَلَا بَرَّ التُّقَى قَسَمِي

    وقال: «فيه نقص؛ لأنه غير صالح للتجريد، ولم يأتِ ناظمه بجواب القسم إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده، وهو:

    إِنْ لَمْ أَحُثَّ مَطَايَا الْعَزْمِ مُثْقَلَةً
    مِنَ الْقَوَافِي تَؤُمُّ الْمَجْدَ عَنْ أَمَمِ
    وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدًا على نوعه بمجرده، وإذا كان البيت له تعلُّق بما بعده أو بما قبله لا يصلح أن يكون شاهدًا على ذلك النوع.»١٧

    وهو بهذا التعقُّب يدلُّنا على أن أصحاب البديعيات كانت لهم تقاليد، منها أن يكون كل بيت شاهدًا على نوعه بمجرده، ولا ندري كيف لا يصلح البيت أن يكون شاهدًا على النوع المقصود إذا كان له تعلُّق بما بعده أو بما قبله، إن ذلك لمظهر جديد من تكلُّف أصحاب البديعيات.

  • (١٢)

    فإذا تجاوزنا النسيب إلى المديح رأيناه يتخلص فيقول:

    وَمَنْ غَدَا قِسْمُهُ التَّشْبِيبَ فِي غَزَلٍ
    حُسْنُ التَّخَلُّصِ بِالْمُخْتَارِ مِنْ قِسَمِي
    مُحَمَّدُ ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ الْأَمِينُ أَبُو الْـ
    ـبَتُولِ خَيْرُ نَبِيٍّ فِي اطِّرَادِهِمِ
    عَيْنُ الْكَمَالِ كَمَالُ الْعَيْنِ رُؤْيَتُهُ
    يَا عَكْسَ طَرْفٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَنْهُ عَمِي
    أَبْدَى الْبَدِيعُ لَهُ الْوَصْفَ الْبَدِيعَ وَفِي
    نَظْمِ الْبَدِيعِ حَلَا تَرْدِيدُهُ بِفَمِي
    كَرَّرْتُ مَدْحِي حَلَا فِي الزَّايِدِ الْكَرَمِ ابْـ
    ـنِ الزَّايِدِ الْكَرَمِ ابْنِ الزَّايِدِ الْكَرَمِ

    وهذه القطعة تكفي لبيان ما في المديح من تكلُّف، وهو مديح غير مقصود لذاته، وإنما أُريدَ به الوصول إلى عرض فنون البديع؛ فالبيت الأول في التخلص، والثاني في الاطراد، والثالث في العكس، والرابع في الترديد، والخامس في التكرار. فالناظم يلتزم كلمة خاصة في كل بيت، ويلتزم بجانب ذلك التمثيل، وهذا وذاك من موجبات التكلُّف والافتعال، والقصيدة كلها على هذا النمط فلا مُوجِب للإسهاب.

١  أهمية هذا الفصل ترجع إلى ما فيه من بيان أثر البديعيات في الفنون الأدبية، والبديعيات فرع من المدائح النبوية، والأدب عليها أغلب.
٢  الأزراري: لقب غلب عليه؛ لأنه كان اتخذ عمل الحرير وعقد الأزرار صناعة له في صباه.
٣  انظر كتاب الأعلام للأستاذ خير الدين الزركلي، ج١، ص١٦٣-١٦٤.
٤  لاحظ ما في هذا البيت من الأخيلة النحوية، ولاحظ ما في الأبيات التالية من الأخيلة الفقهية.
٥  ص١١.
٦  ص١٥.
٧  ص١٦.
٨  ص٣٩.
٩  ص١١٧.
١٠  ص٤.
١١  ص٦.
١٢  ص٢٠.
١٣  ص٢٥.
١٤  ص٢٦، وانظر كلامه عن التفويف ص١٤٠.
١٥  ص٥.
١٦  ص٢٣، ٢٤.
١٧  ص١٨٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤