الفصل الثالث

الكُمَيت بن زيد الأسدي

مولده وطفولته – بدايته الشعرية – اهتمام الرواة والنقاد بشعره – إخوانياته ووفاؤه – أهاجيه ومعرفته بالأنساب والأشعار وأحوال الجاهلية – حبه لأهل البيت – اعتذاره عن مدح بني أمية.

***

  • (١)

    ولد الكُمَيت بن زيد بالكوفة سنة ستين للهجرة، وبعض مَن ترجموا له لا يُعيِّنون سنة مولده، وإنما يقولون: وُلد أيام مقتل الحسين، وعند تأمل أساليب العرب في تقييد المواليد نجد لهم ملحظًا ظريفًا في ذلك، فهم يقولون إن عمر بن أبي ربيعة ولد في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب ليصح لهم أن يعقِّبوا بهذه النكتة، فيقولوا: فأي خير رُفِع، وأي شر وُضع! لأن عمر الذي مات كان مثال الوقار، أما عمر الذي ولد فكان مثال الطيش، وكذلك قالوا إن الكميت ولد في أيام مقتل الحسين، ليشيروا إلى أنه جاء إلى الدنيا في أيام الأحزان العلوية، وأنه بقصائده الهاشميات سيشفي الأحزان التي أحدقت بالعالم الإسلامي يوم جاء إلى الوجود.

  • (٢)

    مرت طفولة الكميت بين النباهة والخمول، فلم يُعرف عنها شيء ذو بال، ولعل أول ما لفت النظر إلى ذكائه ما وقع له مع الفرزدق، فقد حدثوا أنه وقف وهو صبي على الفرزدق وهو ينشد أشعاره، فراع الفرزدق حسنُ استماع الكميت، وأخذه الزهو والخيلاء، فلما فرغ من إنشاده أقبل على الصبي، وقال: هل أعجبك شعري يا بني؟ فأجاب الكميت: لقد طربت لشعرك طربًا لم أشعر بمثله من قبل! فانتشى الفرزدق، وأخذ العُجبُ منه كل مأخذ، وقال للصبي في نشوة المفتون: أيسرُّك أني أبوك؟ فقال الكميت: أما أبي فلا أريد به بدلًا، ولكن يسرني أن تكون أمي! فحضر الفرزدق، وقال: ما مر بي مثلها.

    وهذه النادرة مع شاعر في منزلة الفرزدق كانت كفيلة بأن تجعل لذلك الطفل شهرة بين الناس.

  • (٣)

    ويأبى الرواة إلا أن يجعلوا الكميت من الأعاجيب؛ فهم لا يريدون أن يجعلوه شاعرًا كسائر الشعراء، يبدأ بداية عادية، ثم يتسامى فيسمو إلى منازل الشعر الرفيع، وإنما يزعمون أنه نبغ دفعة واحدة، ويذكرون أن عمه كان رئيس قومه، وأنه قال يومًا: يا كميت لمَ لا تقول الشعر؟ ثم أخذه فأدخله الماء، وقال: لا أخرجك منه أو تقول الشعر، فمرت به قنبرة، فأنشد متمثلًا:

    يَا لَكِ مِنْ قُنْبُرَةٍ بِمَعْمَرٍ
    خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
    وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي

    فقال له عمه ورحمه: قد قلت شعرًا فاخرج! فقال الكميت: لا أخرج أو أقول لنفسي! فما رام حتى عمل قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه فقال: اجمع لي العشيرة ليسمعوا، فجمعهم له فأنشد:

    طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ
    وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّوْقِ يَلْعَبُ١

    وسنرى أنه ليس بمعقول أن تكون هذه القصيدة أول شعره؛ لأن فيها من القوة ما يقطع بأنها ليست بداية شعرية، وإنما هي صرخة شاعر فحل طال منه الصِّيال.

  • (٤)
    نترك طفولة الكميت وصباه، ونذكر أن شاعريته ملأت الدنيا ضجيجًا، وأصبح في عصره وبعد عصره مضرب الأمثال، فقد عرض بديع الزمان الهمذاني لاسمه في رسالة الذهب والأدب فقال:

    واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت ألفًا ومائتي بيت، من شعر الكميت، فلم يغنِ.

    وعُنِي ابن الأعرابي بدرسه، وكان ابن الأعرابي لا يشغل نفسه إلا بالشعراء الفحول الذين يعرفون الأنساب، أو يمتُّون بعِرق إلى الأساليب الجاهلية، وكان الجاهليون عندهم أئمة البيان.

    ولم يُعْنَ ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت فحسب، بل كان يذكِّر به من يغفلون عنه حين يعرضون عليه ما عرفوا من معاني الشعراء.٢

    وقد شهد له الفرزدق بقوة الشاعرية، فإنه لما قدم الكوفة أسرع إليه الكميت، فقال له: إني قد قلت شيئًا فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فأنشده قوله في أهل البيت:

    طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ
    وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّوْقِ يَلْعَبُ
    وَلَمْ تُلْهِنِي دَارٌ وَلَا رَسْمُ مَنْزِلٍ
    وَلَمْ يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَضَّبُ
    وَلَا السَّانِحَاتُ الْبَارِحَاتُ عَشِيَّةً
    أَمَرَّ سَلِيمُ الْقَرْنِ أَمْ مَرَّ أَعْضَبُ
    وَلَكِنْ إِلَى أَهْلِ الْفَضَائِلِ وَالنُّهَى
    وَخَيْرِ بَنِي حَوَّاءَ وَالْخَيْرُ يُطْلَبُ
    إِلَى النَّفَرِ الْبِيضِ الَّذِينَ بِحُبِّهِمْ
    إِلَى اللهِ فِيمَا نَالَنِي أَتَقَرَّبُ
    بَنِي هَاشِمٍ رَهْطِ النَّبِيِّ فَإِنَّنِي
    بِهِمْ وَلَهُمْ أَرْضَى مِرَارًا وَأَغْضَبُ
    خَفَضْتُ لَهُمْ مِنِّي جَنَاحَيْ مَوَدَّةٍ
    إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ وَمَرْحَبُ
    وَكُنْتُ لَهُمْ مِنْ هَؤُلَاكَ وَهَؤُلَا
    مِجَنًّا عَلَى أَنِّي أُذَمُّ وَأُقْصَبُ
    وَأُرْمَى وَأَرْمِي بِالْعَدَاوَةِ أَهْلَهَا
    وَإِنِّي لَأُوذَى فِيهِمُو وَأُؤَنَّبُ
    فقال له الفرزدق: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فلا نطرب، ولا طرب من كان قبلنا إلا إلى ما تركت أنت الطرب إليه، ثم قال له: يا ابن أخي أَذِعْ ثُمَّ أَذِعْ، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي.٣

    وشهادة الفرزدق لها قيمة؛ فقد كان من المتقدمين من يرى الشعراء أصحاب الحق الأوَّل في نقد الشعر لأنهم أعرف بعيون الكلام، وأبصر بالمآزق التي يتعرض لها الشعراء.

    وبلغ من شاعرية الكميت أن صارت ديباجته عنوانًا عليه يعرفه بها الرواة، وإن لم يُقرَن اسمه إلى شعره، فقد حدَّثوا أن هشامًا اتهم خالد بن عبد الله، وكان يقال له: «إنه يريد خلعك» فوُجِدَ بباب هشام يومًا رقعة فيها شعر، فدُخِل بها على هشام فقُرئت عليه، وهي:

    تَأَلَّقَ بَرْقٌ عِنْدَنَا وَتَقَابَلَتْ
    أَثَافٍ لِقَدْرِ الْحَرْبِ أَخْشَى اقْتِبَالَهَا
    فَدُونَكَ قِدْرَ الْحَرْبِ وَهْيَ مُقِرَّةٌ
    لِكَفَّيْكَ وَاجْعَلْ دُونَ قِدْرٍ جِعَالَهَا
    وَلَنْ تَنْتَهِي أَوْ يَبْلُغَ الْأَمْرُ حَدَّهُ
    فَنَلْهَا بِرِسْلٍ قَبْلَ أَلَّا تَنَالَهَا
    فَتَجْشَمَ مِنْهَا مَا جَشِمْتَ مِنَ الَّتِي
    بِسُورَاءَ هَرَّتْ نَحْوَ حَالِكَ حَالَهَا٤
    تَلَافَ أُمُورَ النَّاسِ قَبْلَ تَفَاقُمٍ
    بِعُقْدَةِ حَزْمٍ لَا تَخَافُ انْحِلَالَهَا
    فَمَا أَبْرَمَ الْأَقْوَامُ يَوْمًا لِحِيلَةٍ
    مِنَ الْأَمْرِ إِلَّا قَلَّدُوكَ احْتِيَالَهَا
    وَقَدْ تُخْبِرُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ بِسِرِّهَا
    وَإِنْ لَمْ تَبُحْ مَنْ لَا يُرِيدُ سُؤَالَهَا

    فأمر هشام أن يُجمَع له مَن بحضرته من الرواة، فجُمِعوا فأمر بالأبيات فقرئت عليهم فقال: شعرَ مَن تُشبِه هذه الأبيات؟

    فأجمعوا جميعًا من ساعتهم أنه كلام الكميت.

    فقال هشام: نعم! هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله.٥

    ودلالة الأسلوب على صاحبه مظهر من مظاهر قوة الشخصية بغض النظر عن القيمة الذاتية لآثار الكتاب والشعراء.

    وكان بشار يتحامل على الكميت، ويقول: ما كان الكميت شاعرًا، فقيل له: كيف وهو الذي يقول:

    أَنِصْفُ امْرِئٍ مِنْ نِصْفِ حَيٍّ يَسُبُّنِي
    لَعَمْرِي لَقَدْ لَاقَيْتُ خَطْبًا مِنَ الْخَطْبِ
    هَنِيئًا لِكَلْبٍ أَنَّ كَلْبًا يَسُبُّنِي
    وَأَنِّيَ لَمْ أَرْدُدْ جَوَابًا عَلَى كَلْبِ
    فبُهت بشار، وأجاب بجواب سخيف.٦

    وتحامُل بشار على الكميت ليس بشيء، فإن الشعراء قد يجازي بعضهم بعضًا أسوأ الجزاء، وقد يكون من أسباب حقد بشار على الكميت رغبته في أن يغيظ أشياعه من الرواة والنقاد، وما قيمة تحامل بشار بجانب شهادة الجاحظ الذي قال: ما فتح للشيعة الحِجَاجَ إلا الكميت بقوله:

    فَإِنْ هِيَ لَمْ تَصْلُحْ لِحَيٍّ سِوَاهُمُ
    فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى أَحَقُّ وَأَوْجَبُ
    يَقُولُونَ لَمْ يُورَثْ وَلَوْلَا تُرَاثُهُ
    لَقَدْ شَرِكَتْ فِيهِ بَجِيلٌ وَأَرْحَبُ٧

    وكان الجاحظ من أعلم الناس بتطور الحركات العقلية في الأحزاب الإسلامية.

    ومن أقرب الشهادات إلى معاني الوفاء ما وقع يوم التقت رَيَّا بنت الكميت، وفاطمة بنت أبَان بن الوليد بمكة، وهما حاجَّتان، فتساءلتا حتى تعارفتا، فدفعت بنت أبان إلى بنت الكميت خلخالي ذهب كانا عليها، فقالت لها بنت الكميت: جزاكم الله خيرًا يا آل أبان! فما تتركون برَّكم بنا قديمًا ولا حديثًا. فقالت لها بنت أبان: بل أنتم فجزاكم الله خيرًا، فإنا أعطيناكم ما يبيد ويفنى، وأعطيتمونا من المجد والشرف ما يبقى أبدًا ولا يبيد، يتناشده الناس في المحافل، فيُحيي ميت الذكر، ويرفع بقية العقب.٨

    وكان الكميت أجاد مدح أبان بن الوليد.

    وكان بنو أسد يعدُّون الكميت من مفاخرهم، ويقولون: فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منزل منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت؛ لأنه رأى النبي في النوم، فقال له أنشدني:

    طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ
    فأنشده فقال له: بوركت وبورك قومك!٩

    وحدَّث أبو عكرمة الضبي عن أبيه فقال: أدركت الناس بالكوفة يقولون:

    من لم يروِ: «طربت وما شوقًا إلى البِيض أطرب» فليس بهاشمي.

    ومن لم يروِ: «ذكر القلب إِلْفه المهجورا» فليس بأموي.

    ومن لم يروِ: «هلَّا عرفت منازلًا بالأبرق» فليس بمهلَّبي.

    ومن لم يروِ: «طربت وهاجك الشوق الحثيث» فليس بثقفي.١٠
    وكان إلى هذا كله يوزن رأيه في الحكم على الشعراء، وقد أثبت صاحب الأغاني رأيه في شعر أمية بن أبي الصلت.١١
    وكان هو نفسه مفتونًا بالإجادة، فقد قيل له: إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل. فأجاب: إني إذا قلت أحببت أن أحسن.١٢
    وقد استشهد النحاة بشعره غير مرة، وإن كره ذلك المفضل الذي سلكه مع كُثيِّر وذي الرُّمة والطِّرِمَّاح١٣ على حين كان يراه معاذ الهرَّاء أشعر الأولين والآخرين.١٤
    تلك منزلة الكميت عند القدماء، فإن سألتم أين منزلته في العصر الحديث فإنا نذكر أنه آخر من يهتم به أساتذة الأدب في المعاهد العلمية، وقد سبق المستشرقون إلى إحياء شعره فطبعوا هاشمياته في ليدن سنة ١٩٠٤م، وكتب لها أحدهم مقدمة وتصحيحات باللغة الألمانية.١٥
  • (٥)
    كانت حياة الكميت موزَّعة بين طائفة من الأهواء والميول، فكان من الوجهة النفسية رجلًا يعرف حقوق الإخوان، فيصطفي من يصطفي على أساس العقل، وقد لاحظ معاصروه أن ما كان بينه وبين الطِّرمَّاح من المودة لم يكن بين اثنين على تفاوت المذهب والعصبية فقيل له: فيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة.١٦

    ومعنى هذا أن قرابة العقل كانت تجمع بين الرجلين، وتلك لفتة خُلُقية لا يدرك قيمتها إلا الأقلون، ومن أجل هذا اهتم ابن قتيبة برواية شعره في باب الإخوان من عيون الأخبار، فروى له في باب المودة بالتشاكل هذه الأبيات:

    وَمَا أَنَا بِالنِّكْسِ الدَّنِيءِ وَلَا الَّذِي
    إِذَا صَدَّ عَنْهُ ذُو الْمَوَدَّةِ يَقْرُبُ
    وَلَكِنَّهُ إِنْ دَامَ دُمْتُ وَإِنْ يَكُنْ
    لَهُ مَذْهَبٌ عَنِّي فَلِي عَنْهُ مَذْهَبُ
    أَلَا إِنَّ خَيْرَ الْوُدِّ وُدٌّ تَطَوَّعَتْ
    بِهِ النَّفْسُ لَا وُدٌّ أَتَى وَهْوَ مُتْعَبُ

    وروى له في باب شرار الإخوان:

    وَقَدْ يَخْذُلُ الْمَوْلَى دُعَائِي وَيَجْتَدِي
    أَذَاتِي وَإِنْ يَعْدِلْ بِهِ الضَّيْمُ أَغْضَبِ
    فَأُونِسُ منْ بَعْضِ الصَّدِيقِ مَلَالَةَ الدُّ
    نُوِّ فَأَسْتَبْقِيهِمُو بِالتَّجَنُّبِ

    ويتصل بصدق الأخوَّة في نفسه ما وقع له يوم مدح الحكم بن الصلت بقصيدته:

    طربت وهاجك الشوق الحثيث

    فإنه لما فرغ من إنشاده دعا الحكم بخازنه ليعطيه الجائزة، ثم دعا بأبان بن الوليد فأُدخل عليه وهو مكبَّل بالحديد، فطالبه بما عليه من المال، فالتفت الكميت فرآه فدمعت عيناه، وأقبل على الحكم، فقال: أصلح الله الأمير! اجعل جائزتي لأبان.

    وكان حوشب بن يزيد الشيباني بالمجلس، وكان يكره الكميت وأبان معًا وساءه أن يشفع الكميت لأبان، فقال: أصلح الله الأمير! أتُشفِّع حمار بني أسد في عبد بجيلة؟

    فقال له الكميت: لئن قلت ذاك فوالله ما فررنا عن آبائنا حتى قتلوا، ولا نكحنا حلائل آبائنا بعد أن ماتوا … وكان يقال إن حوشبًا فرَّ عن أبيه في بعض الحروب، فقتل أبوه ونجا هو.

    وفيه يقول الشاعر:

    نَجَّى حُشَاشَتَهُ وَأَسْلَمَ شَيْخَهُ
    لَمَّا رَأَى وَقْعَ الْأَسِنَّةِ حَوْشَبُ١٧
  • (٦)

    وكما كان الكميت عذب المودة كان مُرَّ العداوة، وقد هاجى فريقًا من الشعراء، وتعرض للحبس بسبب هجائه لبعض الأمراء، عرَّض له الكلبي بهذين البيتين:

    مَا سَرَّنِي أَنَّ أُمِّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ
    وَأَنَّ رَبِّيَ نَجَّانِي مِنَ النَّارِ
    وَأَنَّهُمْ زَوَّجُونِي مِنْ بَنَاتِهِمُ
    وَأَنَّ لِي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ دِينَارِ

    فأجاب الكميت:

    يَا كَلْبُ مَا لَكَ أُمٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ
    مَعْرُوفَةٌ فَاحْتَرِقْ يَا كَلْبُ بِالنَّارِ
    لَكِنَّ أُمَّكَ مِنْ قَوْمٍ شَنِئْتَ بِهِمْ
    قَدْ قَنَّعُوكَ قِنَاعَ الْخِزْيِ وَالْعَارِ١٨
    وحمله غرامه بالهجاء على التفوق في علم الأنساب، فإنه لا شيء أخطر في الخصومات من معرفة قديم المثالب حين تضطرم نار السباب، ويظهر أن الكميت كان عفَّى على الأولين من النسابين، فقد نقل ياقوت أن ابن عبدة النساب قال: «ما عرف النُّساب أنساب العرب على حقيقةٍ حتى قال الكميت النزاريات فأظهر بها علمًا كثيرًا، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحدًا أعلم منه بالعرب وأيامها.»١٩

    وفي الأغاني أن الكميت وحمادًا الراوية اجتمعا في مسجد الكوفة فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال الكميت: أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: ما هو إلا الظن؟ هذا والله اليقين! فغضب الكميت ثم قال: لِكَم شاعر بصير يقال له عمرو بن فلان تروي؟ ولِكَم شاعر أعور أو أعمى اسمه فلان بن عمرو تروي؟ فقال حماد قولًا غير مقنع، فجعل الكميت يذكر رجلًا رجلًا من صنف صنف، ويسأل حمادًا هل يعرفه؟ فإذا قال لا، أنشده من شعره جزءًا جزءًا حتى ضجر السامعون، ثم قال له الكميت: فإني سائلك عن شيء من الشعر، فسأَلَ عن قول يزيد بن طعمة الخطمي:

    طَرَحُوا أَصْحَابَهُمْ فِي وَرْطَةٍ
    قَذْفَكَ الْمَقْلَةَ شَطْرَ الْمُعْتَرَكْ

    فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:

    تَدْرِينَنَا بِالْقَوْلِ حَتَّى كَأَنَّمَا
    تَدْرِينَ وِلْدَانًا تَصِيدُ الرَّهَادِنَا
    فأُفحِم حماد، فقال له الكميت: أجَّلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأتِ بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة: حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمون بها الماء، والشطر: النصيب، والمعترك: الموضع الذي يختصمون فيه في الماء، فيلقونها هناك عند الشرب، وقوله: «تدريننا» يعني النساء؛ أي ختلننا فرميننا، والرهادن: طير بمكة كالعصافير.٢٠

    ولم يقف الكميت بعلمه عند أنساب العرب وأشعارها، بل مضى فعرف أخبار الناس في الجاهلية، وكانت له جدتان أدركتا ذلك العهد، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شكَّ في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه، ومن هنا كان علمه بالبادية في أكثره علم سماع لا علم معاينة، وقد تنبه إلى ذلك ذو الرمة حين أنشده بائيته التي عارض بها قصيدته.

    ما بال عينك منها الماء ينسكب

    فقال له: «ويحك! إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به، ولا تقع بعيدًا منه، بل تقع قريبًا منه.»

    فقال الكميت: أَوَتدري لِمَ ذلك؟ قال: لا. فقال: لأنك تصف شيئًا رأيته بعينك، وأنا أصف شيئًا وُصِفَ لي وليست المعاينة كالوصف.٢١

    وهذا كله يدلنا على أن الكميت استعد للثقافة الشعرية استعدادًا بلغ فيه أقصى الجهد، وكثير من شعره يجري مجرى التلميح لما وقع بين القبائل، على نحو ما نرى في هذا البيت:

    كَأَنَّ الْغُطَامِطَ مِنْ غَلْيِهَا
    أَرَاجِيزُ أَسْلَمَ تَهْجُو غِفَارًا٢٢
  • (٧)

    ننتقل إلى الأهم من أمر الكميت، وهو حبه لأهل البيت، وليس من المغالاة أن نقول إن حبه للرسول وأهله كان أقوى ما عُرِف من عواطف الشعراء لذلك العهد، وهو في حبه هذا يمثل الروحانية أصدق تمثيل، وما ظنكم برجل يفنى في حبه فناءً تنمحي الدنيا في سبيله، أو تكاد، ويمضي فيتغنى بحب الرسول وأهل بيته في أيامٍ كان مدح الرسول فيها يعرِّض الشاعر لغضب بني أمية، وبيدهم الحَوْل والطَّوْل، وما كان بنو أمية بكافرين حتى يؤذيهم مدح الرسول، ولكنَّ السياسة كما أشرنا من قبلُ كانت ترى في مدح الرسول تزكية للهاشميين، وكان الكميت يصرِّح بأنهم انتهبوا الخلافة بغير حق، وهي في رأيه ميراث الرسول لا يصلح لها إلا أهله الأقربون.

    وشواهد التاريخ تدلنا على أن الهاشميين كانوا في حالٍ من اليأس لا يَرهَبهم فيها عدو، ولا يرجوهم صديق، وهذا يزيد في أقدار من تعصبوا لهم من الشعراء، ولا سيما إذا لاحظنا أن الكميت كان يتوجع لبني هاشم توجعًا يثير الدمع، وكان يحن إلى مودتهم حنينًا هو أقباس من التصوف، وكانت له معهم نوادر تفصح عن صدق سريرته أجمل إفصاح، وإليك هذا المثال:

    دخل الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد، فقال له: جُعلت فداك! ألا أنشدك؟

    فقال أبو عبد الله: إنها أيام عظام! فقال الكميت: إنها فيكم. فقال هات! وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب فأنشده، وكَثُر البكاء حين أتى على هذا البيت:

    يُصِيبُ بِهِ الرَّامُونَ عَنْ قَوْسِ غَيْرِهِمْ
    فَيَا آخِرًا أَسْدَى لَهُ الْغَيَّ أَوَّلُ

    فرفع أبو عبد الله يديه، وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وما أخَّر، وما أسرَّ وما أعلن، وأعطه حتى يرضى!

    ومن المؤكد عندنا أن هذه الدعوة كانت أحب إلى قلب الكميت من سني العطاء، ودليلنا على ذلك أنه دخل يومًا على أبي عبد الله فأعطاه ألف دينار وكسوة، فقال له الكميت: «والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم، فأنا أقبلها لبركتها، وأما المال فلا أقبله» وكذلك رد المال، وقَبِل الثياب.٢٣

    ودخل على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا أهلَ البيت!

    وجيء بقدح فيه سويق فحركته بيدها، وسقت الكميت فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينارًا ومركب، فهملت عيناه، وقال: «والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا.»٢٤

    فإن لم يكن هذا الولاء تصوفًا وروحانية، فأين يكون التصوف، وأين تكون الروحانية؟ وكان هو نفسه يؤمن بأنه يسير في طريق الحق، ويعتقد بأنه يتقرب إلى الله بحب أهل البيت، وشاهدُ ذلك أنه رأى النبي في نومه، وهو مختفٍ بعد أن هرب من السجن، فقال له الرسول: مِمَّ خوفك؟

    فقال: يا رسول الله، من بني أمية، وأنشده:

    أَلَمْ تَرَنِي مِنْ حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ
    أَرُوحُ وَأَغْدُو خَائِفًا أَتَرَقَّبُ

    فقال له رسول الله: اظهر فإن الله قد أمَّنك في الدنيا والآخرة.

    وقد اطمأنت جماهير المسلمين إلى صدق الكميت، وكان خصومه من الشعراء يعادونه في هيبة وحذر خوفًا من غضب الرسول، وقد حدثوا أن دعبلًا لما ناقض الكميت في قصيدته التي هجا بها قبائل اليمن رأى النبي في النوم فنهاه عن ذكر الكميت بسوء.٢٥

    والعلم الذي نعرفه، وهو علم قليل، يشرح هذه الأحلام شرحًا مقبولًا، وهو يجعلها دليلًا على نيات من يحلمون، فإذا استطاع العلم بعد اليوم أن يثبت صلة الأرواح بالأحياء، فسنعرف يومئذٍ أن الكميت كان قريبًا كل القرب من روح الرسول.

  • (٨)
    وقد أُثِرت عن الكميت مواطن مدح فيها بني أمية، فكيف يتفق ذلك لشاعر أخلص في حب أهل البيت؟ ونجيب بأنه كان ينتمي أحيانًا إلى بني أمية ليقي أعراض بني هاشم، فقد لامه ابنه على أن افتخر ببني أمية، وهو يهاجي الكلبيَّ عدوَّه، فأجاب: «يا بني، أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية، وهم أعداء عليٍّ عليه السلام، فلو ذكرت عليًّا لترك ذكري، وأقبل على هجائه، فأكون قد عرَّضت عليًّا له، ولا أجد له ناصرًا من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت إنْ نقضَهَا عليَّ قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلتُهُ غمًّا وغلبته.»٢٦

    وكان الأمر كما قال: أمسك الكلبي عن جوابه فغلب عليه وأفحم الكلبي.

    ودخل يومًا على أبي جعفر محمد بن علي، فقال له: يا كميت، أنت القائل:

    وَالْآنَ صِرْتُ إِلَى أُمَيـَّ
    ـةَ وَالْأُمُورُ إِلَى مَصَايِرْ
    فأجاب الكميت: نعم! قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم.٢٧

    وهذا الجواب غاية في أدب النفس؛ فالشاعر لا ينكر أنه مدح بني أمية وإنما يعترف بأنه لم يُرِد بذلك إلا الدنيا، أما الآخرة فقد أرادها بمدح أهل البيت.

    ولنتذكر أنه قال هذا القول بمسمع من بني أمية، وبأيديهم مفاتيح الخزائن ومقاليد السجون؛ فهو منهم بين الرجاء والخوف، ولم يمنعه ذلك الموقف الحرج من التصريح بأنه لم يمدحهم إلا للدنيا الفانية، وهذا التصريح هو في ذاته قصيدة هجاء، وهل ينكر أحد أن الاعتراف يهدم الاقتراف؟

    على أنه إن صح أن الشعر دليل على وجدان الشاعر، فسيبقى من شواهد صدقه أن شعره في الهاشميين أقوى من شعره في بني أمية، فليست أشعاره في الأمويين إلا قصائد مديح لها نظائر وأمثال في اللغة العربية، أما قصائده الهاشميات فهي أعز من أن يكون لها نظائر وأمثال.

١  شرح شواهد المغني، ص١٣.
٢  انظر معجم الأدباء، ج١، ص١٢٣.
٣  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢٠٧.
٤  سوراء بضم السين: موضع بالجزيرة.
٥  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢٠٦.
٦  انظر الأغاني، ج٣، ص٢٢٥.
٧  شرح شواهد المغني، ص١٤.
٨  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٠.
٩  شرح شواهد المغني، ص١٣.
١٠  شواهد المغني، ص١٤.
١١  الأغاني، ج٤، ص١٢٢.
١٢  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢٠٩.
١٣  شرح شواهد المغني، ص١٤.
١٤  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٠.
١٥  انظر الهاشميات في فهرس الأدب بدار الكتب المصرية.
١٦  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢٠٣.
١٧  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢٠٩.
١٨  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١١.
١٩  معجم الأدباء، ج١، ص٤١٠.
٢٠  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٢ و٢١٣.
٢١  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٤.
٢٢  الغطامط: صوت الغليان. وأسلم وغفار: قبيلتان كانت بينهما مهاجاة. انظر عيون الأخبار، ج٣، ص٣٦٥.
٢٣  راجع مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٣.
٢٤  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٤.
٢٥  الأغاني، ج١٨، ص٢٩، طبع الساسي.
٢٦  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٢.
٢٧  مهذب الأغاني، ج٥، ص٢١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤