الفصل الرابع

هاشميات الكميت

إلحاح الشاعر في وصف بني هاشم بكرم الأخلاق – تعلق المنهزمين في السياسة بأهداب المثل الأعلى – صور من أخلاق الهاشميين – الهاشميات من القصائد الطوال – مظاهر التجديد عند الكميت – مدح أهل البيت فرع من المدائح النبوية – مقارعة الأمويين في البائية واللامية – ملامح من هاتين القصيدتين – مظهر التصوف في البائية.

***

  • (١)

    أول خَصيصة لهذه القصائد هي الروح العقلية، فالشاعر لا يشغلنا بنفسه ولا بفنه، وإنما يشغلنا بالتفكير في مصير الأمة الإسلامية، وهو يسوق ذلك بتصوف عجيب، فالخلافة ليست عنده ولاية للحكم تعود على الخلفاء وأشياعهم بالجاه وبالأموال، وإنما هي ميزان للعدل لا يقوم به إلا المصطفَوْن الأخيار.

    ومن أجل ذلك نراه يلح في وصف بني هاشم بكرم الأخلاق. ويظهر مما اطلعنا عليه أن الهاشميين كانوا في ذلك العهد أقرب الناس إلى لطف الشمائل، وكرم الخصال. وقليل من الاستقصاء يرينا أن الحرص على الأخلاق الشريفة يكون غالبًا من خواص من ينهزمون في الميادين السياسية، ولنا على ذلك شواهد في الشرق والغرب: فالحزب الملكي في فرنسا يظهر غيرة شديدة على الأخلاق، والحزب الوطني في مصر يميل أنصاره إلى مؤازرة الجمعيات الإسلامية، وتعليل ذلك سهل؛ فإن المرء يحب أن يتسلح بالقوة، فإن أعوزته القوة تسلح بالخلق الجميل.

    وليس معنى هذا أن المنهزمين في ميادين السياسة يتجرون بالأخلاق، لا ولكن معناه أن قوى المنهزمين في السياسة تتحول إلى معانٍ روحية ووجدانية وعلى أكتاف هؤلاء المنهزمين تقوم المبادئ الصوفية، التي لا تترعرع إلا في صدور من خلصوا من هموم السلطان، وأقبلوا على عالم الروح.

    ومن هنا نفهم أن الكميت كان يدافع عن المثل الأعلى، كان يريد أن تقوم الدولة على أساس الدين؛ أي على أساس النزاهة المطلقة التي لا يشوبها جور ولا رياء ولا خداع، وهذا المثل الأعلى هو الذي هزم الهاشميين ونصر الأمويين؛ ذلك بأنه لا يكفي أن تقوم النزاهة من جانب واحد هو جانب الحكام، وإنما يجب لنصرة المثل الأعلى أن تغمر النزاهة أيضًا صدور المحكومين، والدنيا كما عرفناها وعرفها الناس فيها الرشد والغيُّ، والقناعة والطمع، والبر والعقوق. وقيام الملك لا يغني فيه زهد عليٍّ، كما يغني دهاء معاوية؛ ولهذا رأينا الحكماء يتمثلون حكومة العدل المطلق حكومة وهمية، فيصورونها في كُتبهم على أنها أمانيُّ وأحلام، ويا بُعد ما بين الحقيقة والخيال!

    فمن جوانب الضعف عند الكميت ألَّا يفهم أن الأخلاق دولة أعز من دولة السلطان، وأنه لا يليق بصاحب الخلق المتين أن يبكي ما ضاع منه كلما رأى أهل الدنيا يمرحون في ظلال الترف والنعيم.

    ولكن هذا الضعف هو عين القوة، فالرجل يرى المثل الأعلى في الجمع بين السيطرة والزهد، ولو صح لنا أن نلومه على ذلك لجاز أن نتصور أن صيحات المصلحين لغو وفضول.

    وأهل الدنيا في الأغلب يرون كلمات الحكماء نوعًا من الثرثرة، ولكن العواقب تحكم دائمًا بأن الحق كان من نصيب أولئك المستضعفين، على أن أمثال بني أمية لم يستتبَّ لهم الملك لأنهم عرفوا كيف يبثون الرجاء والخوف، وإنما تماسك الناس بفضل ما عرفوا واصطنعوا من الخلق والدين، ولو تُرك المسيطرون وجهًا لوجه أمام الجماهير التي لا يميلها غير الرجاء، ولا يرهبها غير الخوف، لانهزموا أقبح انهزام، فإن الشعب الذي لا يتماسك بفضل ما ورث من الأخلاق لا يمسكه خوف ولا رجاء.

    وخلاصة هذه الفكرة أن الكميت لم يفهم كيف يقوم الملك، ولو قد فهم لنصح الهاشميين باصطناع ما اصطنع الأمويون من التخلق بخلق المعاش، وللمعاش أخلاق يحسنها من يعرفون كيف تُجمع الثروة، وكيف يُخلق الأنصار والأعوان، كما فعل معاوية الذي لم يقضِ سِنِيه عبثًا يوم ولاه عمر بن الخطاب على الأقطار الشامية، بل بذل ما يملك من جهد ودهاء في خلق الأنصار والأعوان، لتكون الشام ذخيرة حربية حين يبدو في أفق السياسة ما يدعو إلى الزحف للأخذ بناصية الملك.

    ولكن هذه الغفلة من جانب الكميت هي أساس القوة الروحية، فلو أنه شك لحظة في صحة ما عليه الهاشميون من الأخلاق لما نافح عنهم بتلك القصائد الطوال، ولو تطرق إلى ذهنه أن الملك يحتاج إلى المداهنة في معاملة الناس لما وصل إلى تلك العظمة النفسية التي تطالعنا بوادرها كلما نظرنا في الهاشميات.

    والهاشميون أنفسهم لو حاولوا التخلُّق بأخلاق الأمويين لانهزموا في ميدان الدنيا وميدان الدين، وقوة الرجل أن يقف حيث وقفته الفطرة، فيقسو ويرقُّ وفقًا لما في فطرته من عناصر العنف واللين.

  • (٢)

    أقول هذا لأبين أثر السذاجة في أحكام هذا الشاعر من الوجهة النفسية، فهو حين يمدح الهاشميين بكرم الأخلاق يقف عند الشمائل الصريحة التي يتحلى بها أهل الشهامة والنبل، فيقول:

    بَلْ هَوَايَ الَّذِي أُجِنُّ وَأُبْدِي
    لِبَنِي هَاشِمٍ فُرُوعِ الْأَنَامِ
    لِلْقَرِيبِينَ مِنْ نَدًى وَالْبَعِيدِيـ
    ـنَ مِنَ الْجَوْرِ فِي عُرَى الْأَحْكَامِ
    وَالْمُصِيبِينَ بَابَ مَا أَخْطَأَ النَّا
    سُ وَمُرْسِي قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ
    وَالْحُمَاةِ الْكُفَاةِ فِي الْحَرْبِ إِنْ لَفَّ
    ضِرَامٌ وَقُودَهُ بِضِرَامِ
    وَالْغُيُوثِ الَّذِينَ إِنْ أَمْحَلَ النَّا
    سُ فَمَأْوَى حَوَاضِنِ الْأَيْتَامِ
    وَالْوُلَاةِ الْكُفَاةِ لِلْأَمْرِ إِنْ طَرَّ
    قَ يَتْنًا بِمُجْهَضٍ أَوْ تَمَامِ
    وَالْأُسَاةِ الشُّفَاةِ لِلدَّاءِ ذِي الرِّيـ
    ـبَةِ وَالْمُدْرِكِينَ بِالْأَوْغَامِ
    لِكَثِيرِينَ طَيِّبِينَ مِنَ النَّا
    سِ وَبَرِّينَ صَادِقِينَ كِرَامِ
    وَاضِحِي أَوْجُهٍ كِرَامِ جُدُودٍ
    وَاسِطِي نِسْبَةٍ لِهَامٍ فَهَامِ
    لِلذُّرَى فَالذُّرَى مِنَ الْحَسَبِ الثَّا
    قِبِ بَيْنَ الْقَمْقَامِ فَالْقَمْقَامِ١
    رَاجِحِي الْوَزْنِ كَامِلِي الْعَدْلِ فِي السِّيـ
    ـرَةِ طَبِّبنَ بِالْأُمُورِ الْعِظَامِ
    مُسْتَفِيدِينَ مُتْلِفِينَ مَوَاهِيـ
    ـبَ مَطَاعِيمَ غَيْرَ مَا أَبْرَامِ٢
    وَمَدَارِيكَ لِلذُّحُولِ مَتَارِيـ
    ـكَ وَإِنْ أُحْفِظُوا لِعُورِ الْكَلَامِ٣
    لَا حُبَاهُمْ تُحَلُّ لِلْمَنْطِقِ الشَّغـْ
    ـبِ وَلَا لِلِّطَامِ يَوْمَ اللِّطَامِ
    وَإِذَا الْحَرْبُ أَوْمَضَتْ بِسَنَا الْحَرْ
    بِ وَسَارَ الْهُمَامُ نَحْوَ الْهُمَامِ
    فَهُمُ الْأُسْدُ فِي الْوَغَى لَا اللَّوَاتِي
    بَيْنَ خِيسِ الْعَرِينِ وَالْآجَامِ
    أُسْدُ حَرْبٍ غُيُوثُ جَدْبٍ بَهَالِيـ
    ـلُ مَقَاوِيلُ غَيْرُ مَا أَفْدَامِ٤
    لَا مَهَاذِيرُ فِي النَّدِيِّ مَكَاثِيـ
    ـرُ وَلَا مُصْمَتُونَ بِالْإِفْحَامِ
    وَهُمُ الْآخِذُونَ مِنْ ثِقَةِ الْأَمْـ
    ـرِ بِتَقْوَاهُمْ عُرًى لَا انْفِصَامِ
    وَمُحِلُّونَ مُحْرِمُونَ مُقِرُّو
    نَ لِحِلٍّ قَرَارهُ وَحَرَامِ

    وتلك أخلاق صريحة كلها شرف ونبل، وهي تمثل فهم الكميت لخلائق الأشراف، وأهل البيت في شعره رجال بررة، كرام، شجعان، فصحاء لا يكثرون في هذر، ولا يصمتون مفحمين، وهم فوق ذلك كله يعتصمون بالتقوى فلا يُحِلُّون ولا يحرِّمون إلا بوحي الدين الحنيف.

    وهم مع هذه الأخلاق الصريحة ساسة، ولكنهم ليسوا كالساسة الذين يرعون الناس كما يرعون الأنعام:

    لَا كَعَبْدِ الْمَلِيكِ أَوْ كَوَلِيدٍ
    أَوْ كَسُلَيْمَانَ بَعْدُ أَوْ كَهِشَامِ
    رَأْيُهُ فِيهِمُ كَرَأْيِ ذَوِي الثَّلـَّ
    ـةِ فِي الثَّائِجَاتِ جُنْحَ الظَّلَامِ٥
    جَزُّ ذِي الصُّوفِ وَانْتِقَاءٌ لِذِي الْمُخـَّ
    ـةِ نَعْقًا وَدَعْدَعًا بِالْبِهَامِ
    مَنْ يَمُتْ لَا يَمُتْ فَقِيدًا وَإِنْ يَحْـ
    ـيَ فَلَا ذُو إِلٍّ وَلَا ذُو ذِمَامِ

    وهذه الأبيات تمثل رأيه في بني أمية، كل همهم أن يعاملوا الرعية معاملة الضأن: يجزون ذوات الصوف، ويأكلون السمينات.

    وهجاء بني أمية عنصر أصيل من عناصر الهاشميات، وهو على كثرة ألوانه يرجع إلى أصلين؛ الأول: أن بني أمية انتهبوا الخلافة من غير حق، والثاني: أنهم ساروا في الناس سيرة الجور والاعتساف.

  • (٣)

    ندع هذا، وننتقل إلى التعريف بالهاشميات فنقول:

    أهم هذه القصائد أربع: بائيتان، مطلع الأولى:

    طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ
    وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّوْقِ يَلْعَبُ

    وعدة أبياتها ١٣٨، ومطلع الثانية:

    أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ آبَكَ الطَّرَبُ
    مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَةٌ وَلَا رِيَبُ

    وعدة أبياتها ٦٧، والثالثة لامية، ومطلعها:

    أَلَا هَلْ عَمٍ فِي رَأْيِهِ مُتَأَمِّلُ
    وَهَلْ مُدْبِرٌ بَعْدَ الْإِسَاءَةِ مُقْبِلُ

    وعدة أبياتها ٨٩، والرابعة ميمية، ومطلعها:

    مَنْ لِقَلْبٍ مُتَيَّمٍ مُسْتَهَامِ
    غَيْرَ مَا صَبْوَةٍ وَلَا أَحْلَامِ

    وعدة أبياتها ١٠٢.

    فهي إذن قصائد طوال، والذي عالج الشعر في اللغة العربية يعرف أن القصيدة لا تجاوز المائة بيت إلا حين تستبدُّ بعقل الشاعر وخياله وهواه، فإن وحدة الوزن والقافية في الشعر العربي تفرض طبع الذهن على غرار موحَّد، وتدور بالشاعر حول أنغام موسيقية متماثلة الأوضاع. والشاعر الأوروبي الذي ينظم قصيدة من مائة بيت لا تحوم نفسه في جو واحد على نحو ما يفعل الشاعر العربي؛ لأن اختلاف الوزن والقافية في الأشعار اللاتينية والسكسونية يعطي فرصًا من راحة النفس لا يظفر بها الشاعر العربي الذي يلتزم وحدة الوزن والقافية، ونخرج من هذا بنتيجة محتومة: هي أن الكميت احتفل بهاشمياته كل الاحتفال، وأساس التجويد في جميع الفنون هو التهيؤ والاستعداد لإنضاج الصور الشعرية والملامح الفنية.

    والكميت نفسه يشعر بخطر هذه القصائد، فيقول في ختام اللامية:

    فَدُونَكُمُوهَا يَالَ أَحْمَدَ إِنَّهَا
    مُقَلَّلَةٌ لَمْ يَأْلُ فِيهَا الْمُقَلِّلُ٦
    مُهَذَّبَةٌ غَرَّاءُ فِي غِبِّ قَوْلِهَا
    غَدَاةَ غَدٍ تَفْسِيرُ مَا قَالَ مُجْمِلُ
    أَتَتْكُمْ عَلَى هَوْلِ الْجَنَانِ وَلَمْ تُطِعْ
    لَنَا نَاهِيًا مِمَّنْ يَئِنُّ وَيَرْحَلُ
    وَمَا ضَرَّهَا أَنْ كَانَ فِي التُّرْبِ ثَاوِيًا
    زُهَيْرٌ وَأَوْدَى ذُو الْقُرُوحِ وَجَرْوَلُ

    وهذا الزهو يحدثنا بأفصح بيان عن اطمئنان الكميت إلى قوة هذه القصائد الطوال، وهو يضع نفسه في منزلة زهير وامرئ القيس والحطيئة، في أيامٍ كان فيها أولئك الشعراء من السباقين الذين لا يُشقُّ لهم غبار.

  • (٤)

    ولا مندوحة لنا من الإشارة إلى ما في تلك القصائد من بعض السمات الجاهلية، فوصف الناقة له في تلك المطولات مكان، وكان وصف الناقة من البدع الشعرية التي أذاعها الجاهليون وتابعهم فيها فريق من الشعراء الإسلاميين، وهي بدعة كان يوحيها ظرف الزمان والمعاش، ولكنها تحولت إلى موضوع فني يتسابق إلى التجويد فيه كبار الشعراء بسبب ما في النوق من الجمال.

  • (٥)

    ومن مظاهر التجديد في الفن الشعري عند الكميت هو زهده في بكاء الأطلال والرسوم، وقَصرُ هواه على الحنين إلى أهل البيت، وسينتهب أبو نواس هذه اللفتة، وسيقول الناس — وقد قالوا — إن أبا نواس هو أول من زهد في بكاء الرسوم والأطلال، فلنعلم الآن أن الكميت هو صاحب هذه البدعة الشعرية، والفرق بين الرجلين: أن الكميت ينصرف عن بكاء الدِّمن الدوارس ليمدح أهل البيت، رهط الرسول، أما أبو نواس فينصرف عن وصف الديار الخالية ليقف همَّه على وصف الخمر ومجالس الشراب.

  • (٦)

    والكميت لا يمدح أهل البيت لذواتهم، وإنما يعلل مدحه إياهم بقرابتهم من الرسول، كقوله في البائية الكبرى:

    إِلَى النَّفَرِ الْبِيضِ الَّذِينَ بِحُبِّهِمْ
    إِلَى اللهِ فِيمَا نَالَنِي أَتَقَرَّبُ
    بَنِي هَاشِمٍ رَهْطِ النَّبِيِّ فَإِنَّنِي
    بِهِمْ وَلَهُمْ أَرْضَى مِرَارًا وَأَغْضَبُ

    وقوله في الميمية:

    أُسْرَةُ الصَّادِقِ الْحَدِيثِ أَبِي الْقَا
    سِمِ فَرْعِ الْقُدَامِسِ الْقُدَّامِ٧
    خَيْرِ حَيٍّ وَمَيِّتٍ مِنْ بَنِي آ
    دَمَ طُرًّا مَأْمُومُهُمْ وَالْإِمَامِ
    كَانَ مَيْتًا جَنَازَةً خَيْرَ مَيْتٍ
    غَيَّبَتْهُ مَقَابِرُ الْأَقْوَامِ
    وَجَنِينًا وَمُرْضَعًا سَاكِنَ الْمَهـْ
    ـدِ وَبَعْدَ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْفِطَامِ
    خَيْرَ مُسْتَرْضَعٍ وَخَيْرَ فَطِيمٍ
    وَجَنِينٍ أُقِرَّ فِي الْأَرْحَامِ
    وَغُلَامًا وَنَاشِئًا ثُمَّ كَهْلًا
    خَيْرَ كَهْلٍ وَنَاشِئٍ وَغُلَامِ
    أَنْقَذَ اللهُ شِلْوَنَا مِنْ شَفَا النَّا
    رِ بِهِ نِعْمَةً مِنَ الْمنْعَامِ
    لَوْ فَدَى الْحَيُّ مَيِّتًا قُلْتُ نَفْسِي
    وَبَنِيَّ الْفِدَا لِتِلْكَ الْعِظَامِ

    وقوله أيضًا في تلك البائية وهو يقارع الأمويين:

    وَقَالُوا وَرِثْنَاهَا أَبَانَا وَأُمَّنَا
    وَمَا وَرَّثَتْهُمْ ذَاكَ أُمٌّ وَلَا أَبُ
    يَرَوْنَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى النَّاسِ وَاجِبًا
    سَفَاهًا وَحَقُّ الْهَاشِمِيِّينَ أَوْجَبُ
    وَلَكِنْ مَوَارِيثُ ابْنِ آمِنَةَ الَّذِي
    بِهِ دَانَ شَرْقِيٌّ لَكُمْ وَمُغَرِّبُ
    فِدًى لَكَ مَوْرُوثًا أَبِي وَأَبُو أَبِي
    وَنَفْسِي وَنَفْسِي بَعْدُ بِالنَّاسِ أَطْيَبُ
    بِكَ اجْتَمَعَتْ أَنْسَابُنَا بَعْدَ فُرْقَةٍ
    فَنَحْنُ بَنُو الْإِسْلَامِ نُدْعَى وَنُنْسَبُ
    حَيَاتُكَ كَانَتْ مَجْدَنَا وَسَنَاءَنَا
    وَمَوْتُكَ جَدْعٌ لِلْعَرَانِينِ مُوعِبُ
    وَأَنْتَ أَمِينُ اللهِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ
    عَلَيْهَا وَفِيهَا اخْتَارَ شَرْقٌ وَمَغْرِبُ
    فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا
    وَبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشْيَبُ
    وَبُورِكَ قَبْرٌ أَنْتَ فِيهِ وَبُورِكَتْ
    بِهِ وَلَهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ يَثْرِبُ
    لَقَدْ غَيَّبُوا بِرًّا وَصِدْقًا وَنَائِلًا
    عَشِيَّةَ وَارَاكَ الصَّفِيحُ الْمُنَصَّبُ

    وهذه الشواهد تكفي للدلالة على أن مدح أهل البيت عند هذا الشاعر فرع من المدائح النبوية، فأهل البيت يكرمون عليه لأنهم أسباط الرسول، ولولا هذه الآصرة لما انعطف إليهم كل هذا الانعطاف.

  • (٧)

    ولكن ما هي كبرى هذه القصائد وأحقها بالخلود؟

    إن القدماء مجمعون على أن البائية الأولى هي خير تلك القصائد، والكميت نفسه يرى هذا الرأي، أما أنا فأرى اللامية أضخم وأفحل، ولا عجب في أن يختلف رأي الشاعر والناقد؛ فإن الناقد يتفق له أحيانًا أن يرى ما لا يرى الشاعر في الحكم على قصائده، ولكلٍّ منهما وجهة، فالشاعر يقدم إحساسه الخاص، والناقد ينظر إلى نواحٍ فنية قد لا يتنبه إليها الشاعر في بعض الأحيان، ألا يقع في كل يوم أن يتعصب الأب لأحد أبنائه على حين يرى الناس ذلك الابن أقل إخوته علمًا، وأضعفهم رأيًا، وأسقمهم بيانًا؟

    وقد اتفق للمرحوم شوقي أن أعلن أن خير قصائده هي النونية التي قالها في توت عنخ آمون، فلما لقيته قلت له: أنت يا شوقي بك لا تعرف شعرك، إن خير قصائدك هي قصيدة «الأندلس الجديدة». فابتسم وأخذ يجهد نفسه في تعرُّف خصائص تلك القصيدة التي لم يرها خير ما قال!

    فلنأخذ الآن في موازنة قصيرة جدًّا بين موضوعات هاتين القصيدتين: البائية واللامية؛ لنرى أيهما أرجح في الميزان.

  • (٨)

    تقع البائية في ١٣٨ بيتٍ، وتقع اللامية في ٨٩ بيتًا، فالأولى أطول من الثانية، وعند الدرس نجد البائية افتتحت بأربعة أبيات جرت مجرى التمهيد، ونجد الشاعر وصف الناقة بأبيات بلغت عدتها ٢٧، وعلى ذلك يكون ما وقع من القصيدتين في صميم الموضوع متقاربًا في الطول.

    ولنسارع فنقرر أن الذي حبب البائية إلى الناس هو عناية الشاعر ببكاء القتلى من أهل البيت، وأن الذي حبب اللامية إلينا هو إلحاح الشاعر في تقبيح الظلم والظالمين، فمعاصرو الكميت ينظرون إلى البائية بعين، ونحن ننظر إلى اللامية بعين، وقد يكون مما يقدِّم قصيدة على قصيدة أن يُنظَر إلى ما في الشعر من المعاني الباقية، فالرثاء ضرورة وقتية، أما حرب الظلم فيبقى ما بقي الإنسان الذي سماه أرسطو: «الحيوان الناطق» ونسميه نحن: «الحيوان اللئيم».

    وقد عرض الكميت في البائية لمقتل الحسين فوصفه بمنعفر الخدين مترب الجبين، ومن أجل ذلك كانت بائية الكميت أثيرة لديه ولدى النقاد لما تعرضت له من شرح الفواجع التي حلت بأهل البيت، وقد رأينا من قبل أن المناحة كانت تقام لإنشاد تلك البائية، ولننظر قوله في التوجع لمصاب الحسين:

    وَمِنْ أَكْبَرِ الْأَحْدَاثِ كَانَتْ مُصِيبَةٌ
    عَلَيْنَا قَتِيلُ الْأَدْعِيَاءِ الْمُلَحَّبُ٨
    قَتِيلٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
    فَيَا لَكَ لَحْمًا لَيْسَ عَنْهُ مُذَبِّبُ
    وَمُنْعَفرُ الْخَدَّيْنِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
    أَلَا حَبَّذَا ذَاكَ الْجَبِينُ الْمُتَرَّبُ
    قَتِيلٌ كَأَنَّ الْوُلَّهَ الْعُفْرَ حَوْلَهُ
    يَطُفْنَ بِهِ شُمَّ الْعَرَانِينِ رَبْرَبُ٩

    وقد سُبِقت هذه الأبيات بشعر فيه ذكرى من مضوا قبل الحسين، وعقبت بأبيات عمن حصدهم بعده الموت، ثم قال:

    مَضَوْا سَلَفًا لَا بُدَّ أَنَّ مَصِيرنَا
    إِلَيْهِمْ فَغَادٍ نَحْوَهُمْ مُتَأَوِّبُ
    كَذَاكَ الْمَنَايَا لَا رَضِيعًا رَأَيْتُهَا
    تَخَطَّى وَلَا ذَا هَيْبَةٍ تَتَهَيَّبُ
    وَقَدْ غَادَرُوا فِينَا مَصَابِيحَ أَنْجُمًا
    لَنَا ثِقَةٌ أَيَّانَ نَخْشَى وَنَرْهَبُ
    أُولَئِكَ إِنْ شَطَّتْ بِهِمْ غَرْبَةُ النَّوَى
    أَمَانِيُّ نَفْسِي وَالْهَوَى حَيْثُ يُسْقَبُ١٠
  • (٩)

    ونذكر بعد ذلك أن البائية واللامية تلتقيان في بعض الموضوعات، فإن الشاعر عرض لهجاء بني أمية ورميهم بالظلم والاستبداد غير حَذِر ولا هَيَّاب، فرماهم في البائية بإيثار الفتنة، ومجانبة الحق، والتحزب للضلال، فقال:

    فَيَا لَكَ أَمْرًا قَدْ أَشَتَّتْ أُمُورُهُ
    وَدُنْيَا أَرَى أَسْبَابَهَا تَتَقَضَّبُ
    يَرُوضُونَ دِينَ الْحَقِّ صَعْبًا مُخَرَّمًا
    بِأَفْوَاهِهِمْ وَالرَّائِضُ الدِّينَ أَصْعَبُ
    إِذَا شَرَعُوا يَوْمًا عَلَى الْغَيِّ فِتْنَةً
    طَرِيقُهُمُ فِيهَا عَنِ الْحَقِّ أَنْكَبُ
    رَضُوا بِخِلَافِ الْمُهْتَدِينَ وَفِيهِمُ
    مُخَبَّأَةٌ أُخْرَى تُصَانُ وَتُحْجَبُ
    وَإِنْ زَوَّجُوا أَمْرَيْنِ جَوْرًا وَبِدْعَةً
    أَنَاخُوا لِأُخْرَى ذَاتِ وَدْقَيْنِ تُخْطَبُ
    أَلَحُّوا وَلَجُّوا فِي بِعَادٍ وَبِغْضَةٍ
    فَقَدْ نَشِبُوا فِي حَبْلِ غَيٍّ وَأَنْشَبُوا
    تَفَرَّقَتِ الدُّنْيَا بِهِمْ وَتَعَرَّضَتْ
    لَهُمْ بِالنِّطَافِ الْآجِنَاتِ فَأُشْرِبُوا
    إِذَا قِيلَ هَذَا الْحَقُّ لَا مَيْلَ دُونَهُ
    فَأَنْقَاضُهُمْ فِي الْحَقِّ حَسْرَى وَلُغَّبُ
    وَإِنْ عَرَضَتْ دُونَ الضَّلَالَةِ حَوْمَةٌ
    أَخَاضُوا إِلَيْهَا طَائِعِينَ وَأَوْثَبُوا
    وَقَدْ دَرَسُوا الْقُرْآنَ وَافْتَلَجُوا بِهِ
    فَكُلُّهُمُ رَاضٍ بِهِ مُتَحَزِّبُ
    فَمِنْ أَيْنَ أَوْ أَنَّى وَكَيْفَ ضَلَالُهُمْ
    هُدًى وَالْهَوَى شَتَّى بِهِمْ مُتَشَعِّبُ
  • (١٠)

    أما اللامية فهي صرخة من سوء الحكم لعهد بني أمية، استهلها الشاعر بهذا التقريع الذي يبعث الحمية، ويثير ما غفا من نوازي الضغائن والحفائظ والحقود:

    أَلَا هَلْ عَمٍ فِي رَأْيِهِ مُتَأَمِّلُ
    وَهَلْ مُدْبِرٌ بَعْدَ الْإِسَاءَةِ مُقْبِلُ
    وَهَلْ أُمَّةٌ مُسْتَيْقِظُونَ لِرُشْدِهِمْ
    فَيَكْشِفُ عَنْهُ النَّعْسَةَ الْمُتَزَمِّلُ
    فَقَدْ طَالَ هَذَا النَّوْمُ وَاسْتَخْرَجَ الْكَرَى
    مَسَاوِيَهُمْ لَوْ كَانَ ذَا الْمَيْلُ يُعْدَلُ
    وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ حَتَّى كَأَنَّنَا
    عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الَّتِي نَتَنَحَّلُ
    كَلَامُ النَّبِيِّينَ الْهُدَاةِ كَلَامُنَا
    وَأَفْعَالُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ نَفْعَلُ
    رَضِينَا بِدُنْيَا لَا نُرِيدُ فِرَاقَهَا
    عَلَى أَنَّنَا فِيهَا نَمُوتُ وَنُقْتَلُ
    وَنَحْنُ بِهَا مُسْتَمْسِكُونَ كَأَنَّهَا
    لَنَا جُنَّةٌ مِمَّا نَخَافُ وَمَعْقِلُ
    أَرَانَا عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا
    يُجَدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَنَهْزِلُ
    نُعَالِجُ مُرْمَقًّا مِنَ الْعَيْشِ فَانِيًا
    لَهُ حَارِكٌ لَا يَحْمِلُ الْعِبْءَ أَجْزَلُ١١
    فَتِلْكَ أُمُورُ النَّاسِ أَضْحَتْ كَأَنَّهَا
    أُمُورُ مُضِيعٍ آثَرَ النَّوْمَ بُهَّلُ١٢

    ثم يمضي في عنف الجدل، فيقول:

    فَيَا سَاسَةً هَاتُوا لَنَا مِنْ حَدِيثِكُمْ
    فَفِيكُمْ لَعَمْرِي ذُو أَفَانِينَ مِقْوَلُ
    أَأَهْلُ كِتَابٍ نَحْنُ فِيهِ وَأَنْتُمُ
    عَلَى الْحَقِّ نَقْضِي بِالْكِتَابِ وَنَعْدِلُ
    فَكَيْفَ وَمِنْ أَنَّى وَإِذْ نَحْنُ خِلْفَةٌ
    فَرِيقَانِ شَتَّى تَسْمَنُونَ وَنُهْزَلُ١٣
    أَنُصْلِحُ دُنْيَانَا جَمِيعًا وَدِينُنَا
    عَلَى مَا بِهِ ضَاعَ السَّوَامُ الْمُؤَبَّلُ١٤
    بُرِينَا كَبَرْيِ الْقِدْحِ أَوْهَنَ مَتْنَهُ
    مِنَ الْقَوْمِ لَا شَارٍ وَلَا مُتَنَبِّلُ١٥
    وِلَايَةُ سِلَّغْدٍ أَلَفَّ كَأَنَّهُ
    مِنَ الرَّهَقِ الْمَخْلُوطِ بِالنُّوكِ أَثْوَلُ١٦
    كَأَنَّ كِتَابَ اللهِ يُعْنَى بِأَمْرِهِ
    وَبِالنَّهْيِ فِيهِ الْكَوْدنِيُّ الْمُركَّلُ١٧
    أَلَمْ يَتَدَبَّرْ آيَةً فَتَدُلَّهُ
    عَلَى تَرْكِ مَا يَأْتِي أَمِ الْقَلْبُ مُقْفَلُ
    فَتِلْكَ مُلُوكُ السُّوءِ قَدْ طَالَ مُلْكُهُمْ
    فَحَتَّامَ حَتَّامَ الْعَنَاءُ الْمُطَوَّلُ
    رَضُوا بِفِعَالِ السُّوءِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ
    فَقَدْ أَيْتَمُوا طَوْرًا عِدَاءً وَأَثْكَلُوا
    كَمَا رَضِيَتْ بُخْلًا وَسُوءَ وِلَايَةٍ
    لِكَلْبَتِهَا فِي أَوَّلِ الدَّهْرِ حَوْمَلُ١٨
    نُبَاحًا إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ دُونَهَا
    وَضَرْبًا وَتَجْوِيعًا خَبَالٌ مُخَبَّلُ
    وَمَا ضَرَبَ الْأَمْثَالَ فِي الْجَوْرِ قَبْلَنَا
    بِأَجْوَرَ مِنْ حُكَّامِنَا الْمُتَمَثِّلُ
    هُمُو خَوَّفُونَا بِالْعَمَى هُوَّةَ الرَّدَى
    كَمَا شَبَّ نَارَ الْحَالِفِينَ الْمُهَوِّلُ١٩
    لَهُمْ كُلَّ عَامٍ بِدْعَةٌ يُحْدِثُونَهَا
    أَزَلُّوا بِهَا أَتْبَاعَهُمْ ثُمَّ أَوْجَلُوا٢٠
    كَمَا ابْتَدَعَ الرُّهْبَانُ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ
    كِتَابٌ وَلَا وَحْيٌ مِنَ اللهِ مُنْزَلُ
    تَحِلُّ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَدَيْهِمُ
    وَيَحْرُمُ طَلْعُ النَّخْلَةِ الْمُتَهَدِّلُ
    وَلَيْسَ لَنَا فِي الْفَيْءِ حَظٌّ لَدَيْهِمُ
    وَلَيْسَ لَنَا فِي رِحْلَةِ النَّاسِ أَرْحُلُ
    فَيَا رَبِّ هَلْ إِلَّا بِكَ النَّصْرُ يُرْتَجَى
    عَلَيْهِمْ؟ وَهَلْ إِلَّا عَلَيْكَ الْمُعَوِّلُ؟

    وهذه القطعة أقوى من نظيرتها في البائية، والافتنان فيها أظهر، والشاعر فيها يصول بمنكب أضخم، وساعد أفتك، وفيها بيت نادر، هو قوله:

    تَحِلُّ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَدَيْهِمُ
    وَيَحْرُمُ طَلْعُ النَّخْلَةِ الْمُتَهَدِّلُ

    وهو معنًى انتهبه أحد المحدثين؛ إذ قال:

    قَتْلُ امْرِئٍ فِي غَابَةٍ
    جَرِيمَةٌ لَا تُغْتَفَرْ
    وَقَتْلُ شَعْبٍ آمِنٍ
    مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَظَرْ

    وبيت الكميت لا تفنى عجائبه عند التأمل، فالظالمون في جميع العصور يرفقون بالأشياء ويقسون على الأشخاص؛ فطلع النخلة حرام، وقتل الأبرياء حلال.

    والكميت يحرص على إبراز آصار الظلم، وهي عنده تتمثل في سمنة الظالمين وهزال المظلومين.

    أَأَهْلُ كِتَابٍ نَحْنُ فِيهِ وَأَنْتُمُ
    عَلَى الْحَقِّ نَقْضِي بِالْكِتَابِ وَنَعْدِلُ
    فَكَيْفَ وَمِنْ أَنَّى وَإِذْ نَحْنُ خِلْفَةٌ
    فَرِيقَانِ شَتَّى تَسْمَنُونَ وَنُهْزَلُ

    وسيأخذ دعبل معنى هذا البيت، فيقول:

    فَآلُ رَسُولِ اللهِ نُحْفٌ جُسُومُهُمْ
    وَآلُ زِيَادٍ حُفَّلُ الْقَصَرَاتِ٢١

    والكميت يلح في تصوير الهزال، فيذكر أن قد أصابهم ما أصاب القدح من عنف البري، ويمثل ولاية بني أمية بولاية الذئب، وكان عندهم مضرب المثل في الطغيان، ثم يجأر بهذا البيت:

    وَمَا ضَرَبَ الْأَمْثَالَ فِي الْجَوْرِ قَبْلَنَا
    بِأَجْوَرَ مِنْ حُكَّامِنَا الْمُتَمَثِّلُ

    ويشبِّه بني أمية بالرُّهبان يبتدعون ما لم يجِئْ به وحي ولا كتاب، وكان هذا التشبيه لعهده غاية في القوة بفضل ما في القرآن من الإشارة إلى أعمال الأحبار والرهبان.

  • (١١)

    ولم ينسَ الكميت أن يتحدث في اللامية عن فواجع أهل البيت، وإن كان لم يستقصِ أخبارهم كما صنع في البائية، فقد وقف عند مصرع الحسين، ولكن أسلوبه في اللامية أقوى وأرشق.

    وَمِنْ عَجَبٍ لَمْ أَقْضِهِ أَنَّ خَيْلَهُمْ
    لِأَجْوَافِهَا تَحْتَ الْعَجَاجَةِ أَزْمَلُ٢٢
    هَمَاهِمُ بِالْمُسْتَلْئِمِينَ عَوَابِسٌ
    كَحِدْآنِ يَوْمِ الدَّجْنِ تَعْلُو وَتَسْفُلُ٢٣
    يُحَلِّئْنَ عَنْ مَاءِ الْفُرَاتِ وَظِلِّهِ
    حُسَيْنًا وَلَمْ يُشْهَرْ عَلَيْهِنَّ مُنْصُلُ٢٤
    كَأَنَّ حُسَيْنًا وَالْبَهَالِيلَ حَوْلَهُ
    لِأَسْيَافِهِمْ مَا يَخْتَلِي الْمُتَبَقِّلُ٢٥
    يَخُضْنَ بِهِ مِنْ آلِ أَحْمَدَ فِي الْوَغَى
    دَمًا ظَلَّ مِنْهُمْ كَالْبَهِيمِ الْمُحَجَّلُ
    وَغَابَ نَبِيُّ اللهِ عَنْهُمْ وَفَقْدُهُ
    عَلَى النَّاسِ رُزْءٌ مَا هُنَاكَ مُجَلَّلُ
    فَلَمْ أَرَ مَخْذُولًا أَجَلَّ مُصِيبَةً
    وَأَوْجَبَ مِنْهُ نُصْرَةً حِينَ يُخْذَلُ
    يُصِيبُ بِهِ الرَّامُونَ عَنْ قَوْسِ غَيْرِهِمْ
    فَيَا آخِرًا أَسْدَى لَهُ الْغَيَّ أَوَّلُ
    تَهَافَتَ ذِبَّانُ الْمَطَامِعِ حَوْلَهُ
    فَرِيقَانِ شَتَّى ذُو سِلَاحٍ وَأَعْزَلُ٢٦
    إِذَا شَرَعَتْ فِيهِ الْأَسِنَّةُ كَبَّرَتْ
    غُوَاتُهُمُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَهَلَّلُوا
    فَمَا ظَفِرَ الْمُجْرَى إِلَيْهِمْ بِرَأْسِهِ
    وَلَا عُذِلَ الْبَاكِي عَلَيْهِ الْمُوَلْوِلُ
    فَلَمْ أَرَ مَوْتُورِينَ أَهْلَ بَصِيرَةٍ
    وَحَقٍّ لَهُمْ أَيْدٍ صِحَاحٌ وَأَرْجُلُ
    كَشِيعَتِهِ وَالْحَرْبُ قَدْ ثُفِّيَتْ لَهُمْ
    أَمَامَهُمُ قِدْرٌ تَجِيشُ وَمِرْجَلُ٢٧
    فَرِيقَانِ هَذَا رَاكِبٌ فِي عَدَاوَةٍ
    وَبَاكٍ عَلَى خِذْلَانِهِ الْحَقَّ مُعْوِلُ
    فَمَا نَفَعَ الْمُسْتَأْخِرِينَ نَكِيصُهُمْ
    وَلَا ضَرَّ أَهْلَ السَّابِقَاتِ التَّعَجُّلُ
  • (١٢)

    وفي القصيدتين وصف لأخلاق بني هاشم، فهم في البائية:

    أُنَاسٌ بِهِمْ عَزَّتْ قُرَيْشٌ فَأَصْبَحُوا
    وَفِيهِمْ خِبَاءُ الْمَكْرُمَاتِ الْمُطَنَّبُ
    خِضَمُّونَ أَشْرَافٌ لَهَامِيمُ سَادَةٌ
    مَطَاعِيمُ أَيْسَارٌ إِذَا النَّاسُ أَجْدَبُوا

    وهم سادة الجود والعلم والرأي:

    إِذَا نَشَأَتْ مِنْهُمْ بِأَرْضٍ سَحَابَةٌ
    فَلَا النَّبْتُ مَحْظُورٌ وَلَا الْبَرْقُ خُلَّبُ
    وَإِنْ هَاجَ نَبْتُ الْعِلْمِ فِي النَّاسِ لَمْ تَزَلْ
    لَهُمْ تَلْعَةٌ خَضْرَاءُ مِنْهُ وَمِذْنَبُ٢٨
    إِذَا ادْلَمَّسَتْ ظَلْمَاءُ أَمْرَيْنِ حِنْدَسٌ
    فَبَدْرٌ لَهُمْ فِيهَا مُضِيءٌ وَكَوْكَبُ

    وهم في اللامية نجوم يهتدي بها السارون، وغيوث يشتفي بها المُمحِلون:

    وَإِنْ نَزَلَتْ بِالنَّاسِ عَمْيَاءُ لَمْ يَكُنْ
    لَهُمْ بَصَرٌ إِلَّا بِهِمْ حِينَ تُشْكِلُ
    وَإِنَّهُمُ لِلنَّاسِ فِيمَا يَنُوبُهُمْ
    أَكُفُّ نَدًى تُجْدِي عَلَيْهِمْ وَتُفْضِلُ
    لِأَهْلِ الْعَمَى فِيهِمْ شِفَاءٌ مِنَ الْعَمَى
    مَعَ النُّصْحِ لَوْ أَنَّ النَّصِيحَةَ تُقْبَلُ
  • (١٣)

    هذا، ولا مفر من الاعتراف برقة الحنين في البائية، فقد بلغ الشاعر بحبه أقصى غايات التصوف، إذ يقول:

    فَقُلْ لِلَّذِي فِي ظِلِّ عَمْيَاءَ جَوْنَةٍ
    تَرَى الْجَوْرَ عَدْلًا أَيْنَ لَا أَيْنَ تَذْهَبُ٢٩
    بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ
    تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسِبُ
    فَمَا لِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ
    وَمَا لِيَ إِلَّا مَشْعَبَ الْحَقِّ مَشْعَبُ
    وَمَنْ غَيْرَهُمْ أَرْضَى لِنَفْسِيَ شِيعَةً
    وَمَنْ بَعْدَهُمْ؟ لَا مَنْ أُجِلُّ وَأَرْجَبُ٣٠
    أَرِيبُ رِجَالًا مِنْهُمُ وَتَرِيبُنِي
    خَلَائِقُ مِمَّا أَحْدَثُوهُنَّ أَرْيَبُ
    إِلَيْكُمْ ذَوِي آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ
    نَوَازِعُ مِنْ قَلْبِي ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ
    فَإِنِّي عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي تَكْرَهُونَهُ
    بِقَوْلِي وَفِعْلِي مَا اسْتَطَعْتُ لَأَجْنُبُ
    يُشِيرُونَ بِالْأَيْدِي إِلَيَّ وَقَوْلُهُمْ
    أَلَا خَابَ هَذَا وَالْمُشِيرُونَ أَخْيَبُ
    فَطَائِفَةٌ قَدْ كَفَّرَتْنِي بِحُبِّكُمْ
    وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ
    فَمَا سَاءَنِي تَكْفِيرُ هَاتِيكَ مِنْهُمُ
    وَلَا عَيْبُ هَاتِيكَ الَّتِي هِيَ أَعْيَبُ
    يُعِيبُونَنِي مِنْ خِبِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ
    عَلَى حُبِّكُمْ بَلْ يَسْخَرُونَ وَأَعْجَبُ
    وَقَالُوا تُرَابِيٌّ هَوَاهُ وَرَأْيُهُ
    بِذَلِكَ أُدْعَى فِيهِمُ وَأُلَقَّبُ٣١
    وَأَحْمِلُ أَحْقَادَ الْأَقَارِبِ فِيكُمُ
    وَيُنْصَبُ لِي فِي الْأَبْعَدَيْنِ فَأَنْصَبُ
    فَيَا مُوقِدًا نَارًا لِغَيْرِكَ ضَوْءُهَا
    وَيَا حَاطِبًا فِي غَيْرِ حَبْلِكَ تَحْطِبُ
    أَلَمْ تَرَنِي مِنْ حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ
    أَرُوحُ وَأَغْدُو خَائِفًا أَتَرَقَّبُ
    عَلَى أَيِّ جُرْمٍ أَمْ بِأَيَّةِ سِيرَةٍ
    أُعَنَّفُ فِي تَقْرِيظِهِمْ وَأُؤَنَّبُ

    وفي اللامية أمثال لهذا الولاء، ولكنه في البائية أقوى وأصدق، رحم الله الكميت، وأكرم مثواه!

١  القمقام، بالفتح ويُضم: هو السيد.
٢  أبرام: جمع برم بالتحريك، وهو مَن لا يدخل مع القوم في الميسر، وذلك علامة البخل.
٣  الذحول: جمع ذحل بالفتح، وهو الثأر. والعور: جمع عوراء، وهي كلمة الفحش.
٤  أفدام: جمع فدم بالفتح، وهو العيي عن الكلام في ثقل ورخاوة.
٥  الثائجات: جمع ثائجة من الثؤاج بالضم، وهو صياح الغنم. والثلة بالفتح: جماعة الغنم أو الكثير منها.
٦  مقللة: موجزة. والمقلل: الموجز. والغرض أنها أقل ما ينبغي، ولكن الشاعر بلغ الجهد.
٧  القدامس بالضم، ومثله القدموس: هو الشريف. والقدام بضم القاف: المقدم.
٨  من لحبه بالسيف: ضربه.
٩  العفر: جمع عفراء، وهي الظبية. والعرانين: الأنوف.
١٠  حيث يسقب: حيث يولد.
١١  المرمق، على وزن محمر ومعظم: الضيق. والحارك: أعلى الكاهل. وأجزل: من الجزل بالتحريك، وهو أن يقطع القَتَب غارب البعير.
١٢  البهل: على وزن رُكَّع، يشبه الأمور بالنوق البُهَّل، وهي الضائعة التي يحلبها من يشاء.
١٣  خلفة بالكسر: مختلفون.
١٤  المؤبل: المقتنى، وإذا ضاع المقتنى فكيف يكون حال المهمل؟
١٥  الشاري: المصلح. والمتنبل: صاحب النبل. يريد أنه وقع في يد من لا يحسن البري.
١٦  السلغد: الرخو من الرجال. والألف: الممتلئ الفخذين. والرهق: السفه. والنوك: الحمق. والأثول: المجنون والأحمق. وإنما فسرنا الألف في هذا البيت بالممتلئ الفخذين ليتناسب مع السلغد، ومن معاني اللفف أيضًا العي وبطء الكلام، والسلغد في الأصل: الذئب.
١٧  الكودني: الفرس الهجين والفيل والبغل والبرذون. والمركل: الذي يضرب بالرجل ليعدو.
١٨  حومل: امرأة كانت تُجيع كلبتها، حتى أكلت الكلبة ذَنَبها من الجوع.
١٩  المهول: المحلف. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا أن يستحلفوا الرجل أوقدوا نارًا، وألقوا فيها ملحًا فيتفقع فيهوِّلون بها، قال أوس بن حجر يصف حمارًا وحشيًّا:
إذا استقبلته الشمس صد بوجهه
كما صد عن نار المهول حالف
٢٠  أزلوا: من الزلل. وأوجلوا: هربوا. كأنه يشير إلى آية كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
٢١  القصرات: جمع قصرة بالتحريك، وهي أصل العنق.
٢٢  الأزمل: الصوت.
٢٣  هماهم: من الهمهمة، وهي تردُّد الزئير في الصدر. والمستلئمون: لابسو الدروع.
٢٤  يحلئن: يمنعن.
٢٥  اختلى الخلى: نزعه، والخلى (مقصورة): الرطب من النبات.
٢٦  الذبان بالكسر: جمع الذباب.
٢٧  ثفيت الحرب: أقيمت.
٢٨  المذنب (كمنبر): مسيل الماء إلى الأرض، والجدول يسير عن الروضة بمائها إلى غيرها.
٢٩  جونة: سوداء.
٣٠  أرجب: أعظم وأهاب.
٣١  ترابي: نسبة إلى أبي تراب، وهو علي بن أبي طالب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤