الفصل الخامس

تائية دعبل في أهل البيت

رأي دعبل في لؤم الناس – ميله إلى الصعاليك – رأي البحتري والمأمون في شعره – نفسية دعبل – بغضه للخلفاء وحبه لأهل البيت – سيرورة التائية في الأقطار الإسلامية وأخبارها في عالم الجن – الإمام المنتظر.

***

  • (١)
    نحن الآن أمام «شاعر متقدم مطبوع هَجَّاء خبيث اللسان لم يَسْلَمْ عليه أحد من الخلفاء، ولا من وزرائهم، ولا أولادهم، ولا ذو نباهة أحسن إليه، أو لم يُحسن».١

    والعجب أن تسري الروحانية إلى صدر رجل مثل دعبل، فقد كان ذلك الرجل يعتقد اعتقادًا سيئًا في الناس، ويؤمن بأنهم لا يصلحون بغير الهجاء، يدلنا على ذلك ما حدَّث به أبو خالد الخزاعي إذ قال: قلت لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقوَّاد، ووترت الناس جميعًا، فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف، فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك!

    فقال دعبل: ويحك! إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا يُنتَفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيدًا إذا لم يخَفْ شرَّه، ولَمَن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرَّفته شَرُف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت غيره وفضحته اتقاك على نفسه، وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المُقْذع آخذ بضَبُع الشاعر من المديح المُضْرِع.٢

    وهو بهذا التصريح يفصح عن رأيه في الناس؛ فهم عنده لئام جبناء يتقون الشتم أكثر مما يرغبون في التشريف، وكان بالفعل لا ينفك ينظم قصائد الهجاء، وكان يُسأل أحيانًا عن موضوع أهاجيه فيجيب: ما استحقه أحد بعينه بعد، وليس له صاحب.

    فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشر فيه، وذكر اسمه،٣ فقصائد الهجاء عنده كأمثال الثياب عند تجار الملابس، تُعَدُّ إعدادًا، ثم تُقدَّم حين تلوح الفرصة!

    وكان يتفق له أن يسيء إلى أصدقائه من حيث لا يريد، فقد هجا أحمد بن أبي دُوَاد، وكان تزوج امرأتين من بني عجل في سنة واحدة، فقال:

    غَصَبْتَ عِجْلًا عَلَى فَرْجَيْنِ فِي سَنَةٍ
    أَفْسَدْتَهُمْ ثُمَّ مَا أَصْلَحْتَ مِن نَسَبِكْ
    وَلَوْ خَطَبْتَ إِلَى طَوْقٍ وَأُسْرَتِهِ
    فَزَوَّجُوكَ لَمَا زَادُوكَ فِي حَسَبِكْ
    إِنْ كَانَ قَوْمٌ أَرَادَ اللهُ خِزْيَهُمُ
    فَزَوَّجُوكَ ارْتِغَابًا مِنْكَ فِي ذَهَبِكْ
    فَذَاكَ يُوجِبُ أَنَّ النَّبْعَ يَجْمَعُهُ
    إِلَى خِلَافِكَ فِي الْعِيدَانِ أَوْ غَرَبِكْ
    وَلَوْ سَكَتَّ وَلَمْ تَخْطُبْ إِلَى عَرَبٍ
    لَمَا نَبَشْتَ الَّذِي تَطْوِيهِ مِنْ سَبَبِكْ
    عُدَّ الْبُيُوتَ الَّتِي تَرْضَى بِخِطْبَتِهَا
    تَجِدْ فَزَارَةً الْعُكْلِيَّ مِنْ عَرَبِكْ

    فلقيه فزارة العكلي فقال له: يا أبا علي، ما حملك على ذكري حتى فضحتني، وأنا صديقك؟ فقال: يا أخي، والله ما اعتمدتك بمكروه، ولكن كذا جاءني الشعر لبلاء صبَّه الله عز وجل عليك!

    وأُثِرَ عنه أنه كان يقول: ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته!٤

    وبمثل هذا القول يُفسَّر الحديث المأثور: «اتقِ شرَّ من أحسنت إليه.»

  • (٢)
    وكان دعبل في بداية أمره من قُطَّاع الطريق، وكان يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها، ويرجع وقد أفاد وأثرى، وكان الصعاليك يلقونه فلا يؤذونه، ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه، ودعاهم إليه، ودعا بغلاميه، فأقعدهما يغنيان، وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم، وكان الصعاليك يواصلونه ويصلونه،٥ وهذا يفسر جانبًا من حياته الخُلقية، فهو رجل يجمع بين حب الصعلكة وحب الفتك. وكان أكثر الصعاليك من أهل الشهامة والنبل، ولكنهم كانوا معروفين بحب القسوة والبطش، وقد بقي في نفسه شيء من الحياء، وذلك أيضًا بقيةٌ من آداب الصعاليك، ومن شواهد ذلك أنه دخل الرَّيَّ في أيام الربيع فجاءهم ثلج لم يروا مثله في الشتاء، فأنشد شاعر من أهل الري هذه الأبيات:
    جَاءَنَا دِعْبِلٌ بِثَلْجٍ مِنَ الشِّعـْ
    ـرِ فَجَادَتْ سَمَاؤُنَا بِالثُّلُوجِ
    نَزَلَ الرَّيَّ بَعْدَمَا سَكَنَ الْبَرْ
    دُ وَقَدْ أَيْنَعَتْ رِيَاضُ الْمُرُوجِ
    فَكَسَانَا بِبَرْدِهِ لَا كَسَاهُ الله
    ثَوْبًا مِنْ كُرْسُفٍ مَحْلُوجِ
    وكتبها في رقعة، وألقاها في دهليز دعبل، فلما قرأها ارتحل عن الري.٦
  • (٣)
    وكان على ما فيه من اللؤم والوقاحة والعنف من أشعر الناس، وكان البحتري يراه أشعر من مسلم بن الوليد، وقد سئل عن ذلك فقال: كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم.٧
    ومن شواهد اطلاعه أن بعضهم أنكر عليه كلامًا جرى فيه قوله: «لَيْسَكَ» فقال: دخل زيد الخيل على النبي ، فقال له: «يا زيد ما وُصِف لي رجل إلا رأيته دون وصفه ليْسَكَ» يريد غيرك.٨

    وكان المأمون يعجب بشعره ولا سيما هذه الأبيات:

    أَلَمْ يَأْنِ لِلسَّفْرِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا
    إِلَى وَطَنٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ رُجُوعُ
    فَقُلْتُ وَلَمْ أَمْلِكْ سَوَابِقَ عَبْرَةٍ
    نَطَقْنَ بِمَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ ضُلُوعُ
    تَبَيَّنْ فَكَمْ دَارٍ تَفَرَّقَ شَمْلُهَا
    وَشَمْلٍ شَتِيتٍ عَادَ وَهْوَ جَمِيعُ
    كَذَاكَ اللَّيَالِي صَرْفُهُنَّ كَمَا تَرَى
    لِكُلِّ أُنَاسٍ جَدْبَةٌ وَرَبِيعُ

    وكان يقول: ما سافرت قط إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري ومسلِّيتي حتى أعود.

  • (٤)

    نعود إلى المشكلة الحقيقية في نفسية دعبل: كان ذلك الرجل شريرًا وكان كَلِفًا بإيذاء الناس فكيف يتفق له التصوف في حب أهل البيت؟ وكيف يغرم بالنيل من أعراض الخلفاء والأمراء والوزراء وبأيديهم أسباب الأرزاق، ثم يعطف على ناس ألحت عليهم النوائب وَأْتَمَرَتْ بهم أحداث الزمان؟ تلك مشكلة نفسية، فأين الحل؟

    يغلب على الظن أن الرجل تلقى في طفولته حب أهل البيت، فصار حبهم كاللحن القديم الذي يسمعه الإنسان وهو طفل فيظل يلاحقه بأنغامه وهو كهل، وهناك نفوس لا تعرف غير هوًى واحد في عالم السياسة، ويتأصل فيها ذلك الهوى حين تنهزم، ولا تزال تحرص عليه حتى يتحول إلى تصوُّف، وإذا انقلب الهوى إلى تصوف فلا نجاة منه ولا خلاص.

    ولو أن أهل البيت لعهد دعبل استطاعوا أن ينتصروا وأن يزحزحوا السياسيين لاستطاعت الدنيا أن تغير من نفسه قواعد ذلك الهوى، ولكنهم ظلوا مدحورين فبقي الإشفاق عليهم حيًّا في نفسه حياة قوية، وظل حبهم يعذبه ويُعنِّيه فينطقه في البكاء عليهم بأرقِّ ما عرف شعراء الوجدان.

    ومَن الذي يتصور أن ذلك الرجل الذي يَلؤُم أشنع اللؤم في معاملة الخلفاء يمضي فيستوهب ثوبًا من علي بن موسى؟ ولِمَ يستوهب ذلك الثوب؟ ليجعله في أكفانه يوم يموت!

    إن قصة ذلك الثوب عجيبة: فقد خلع علي بن موسى جُبَّة كانت عليه وأعطاها دعبلًا، وبلغ أهلَ قُمَّ خبرُها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل، فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصبًا، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، وإلا فأنت أعلم! فقال لهم: إني والله لا أعطيكم إياها طوعًا، ولا تنفعكم غصبًا، فإنها إنما تراد لله عز وجل، وهي محرمة عليكم. فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألَّا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فَرْدَ كُمٍّ ليكون في أكفانه. وتلك حادثة غريبة المعنى والمدلول، لكن غرابتها لا تظهر إلا لمن يجهلون أسرار النفوس، وإلا فأيُّ غرابة في أن تجتمع الرقة والقسوة والعنف واللين في قلب الشاعر الموهوب؟

    إن الشاعرية لا تقوم إلا على أساس التطرف في الحب والبغض، وقد جمع دعبل بين العاطفتين، فكان يوجه قسوته إلى الخلفاء، وكان يوجه رقته إلى أهل البيت.

    ونحن نشهد في دنيانا رجالًا على جانب عظيم من العنف يخضعون أتم الخضوع لبعض النوازع الوجدانية، ونرى ناسًا يقضون أيامهم في اللهو والقصف، فإذا جاءت فرصة للهدى رأيناهم أول المنيبين.

    والحق أن النفس الإنسانية معقدة أصعب التَّعَقُّد ومشتبكة أخطر الاشتباك، والبساطة في الأهواء من شيم الأطفال، أما اقتتال الحق والباطل، واصطراع الهدى والضلال، فلا يكون إلا في النفوس القوية التي تدرك كيف يكون اصطدام العقول وتصاول الآراء.

    والذين وقفوا عند الجانب السخيف من أخبار دعبل لم يفهموه حق الفهم، ولو قد فهموه لتمثلوا تلك الروح الصوفية، التي أوحت إليه أن يكتب تائيته على ثوب ويُحرِم فيه ثم يأمر بأن يكون ذلك الثوب في أكفانه يوم يموت.

    فإن هذه اللمحة الشعرية لا تقع إلا من رجل خاشع القلب رقيق الوجدان، ومن الظلم أن ننسى هذه المعالم الروحية حين نتحدث عن ذلك الشاعر الذي أضيف إلى زمرة الخونة والصعاليك.

    وما الذي يمنع أن نفهم أن سوء ظنه بالناس لم يقع إلا لنكبته بسيادة الظلم والظالمين؟

    أروني رجلًا واحدًا لم يفسد حكمه على الأشياء والأشخاص والمعاني بسبب ما يُبتَلى به من انهدام صرح العدالة حين يرى الظلم يطارده أو يطارد من يحب!

    وهذا التصعلك الذي ابتدأ به دعبل وانتهى إليه هو مصير كل رجل تخذله المقادير السياسية، والمنهزمون في السياسة لا ينظرون إلى الأمور إلا من جانب واحد؛ لأن الهزيمة تذهب بأصول التفكير المعقول، وتقف الرجل على أهوائه وآماله، وتحوِّل فلسفته في الحياة إلى أمشاج من الضغن والتَّلوُّم والقنوط.

    والوزراء الذين كان يكلف بهجائهم دعبل، من هم؟ لا نريد أن نسأل عن ذاتيتهم في حقيقة الأمر، فقد يكون فيهم ناس نبلاء، ولكن من هم في نفس دعبل؟ هم ظلمةٌ عاونوا الظالمين، وخونةٌ عاونوا الخائنين، ويكفي أن تثور معاني الظلم والعدل في نفس شاعر ليصبح وهو ثائرٌ مخبول.

    وما أريد بهذا أن أدافع عن دعبل، ولكني أريد أن أفهم كيف اتفق أن يكون قلبه مسرحًا لحوادث العنف واللين، وكيف صح له أن يجمع بين سَفَهِ اللئيم ورفق الحليم، وكيف جاز أن يكون أحط الناس وأشرف الناس؟ وأظنني وصلت من ذلك إلى بعض ما أريد.

    ولو كان الرواة فطنوا إلى ما كان في نفس دعبل من التعقد والاشتباك لما عدُّوا عليه خيانته للرشيد، فقد ذكروا أن الرشيد طرب حين غُنِّيَ بين يديه:

    لَا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ
    ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى

    وسأل عن صاحب الشعر فقيل له: دعبل بن علي، وهو غلام نشأ من خزاعة، فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه، فأُحضِر ذلك فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته، وقال له: اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن علي، فإذا دُلِلت عليه فأعطه هذا، وقل له ليحضر إن شاء، وإن لم يحبَّ ذلك فدعه … فسار الغلام إلى دعبل وأعطاه الجائزة وأشار عليه بالمسير إليه، وحضر دعبل إلى الرشيد فأمره بملازمته وأجرى عليه رزقًا سنيًّا.

    ولكنه ما كاد يسمع بموت الرشيد حتى كافأه على ما صنع به من الغنى بعد الفقر والنباهة بعد الخمول أقبح مكافأة، وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد:

    وَلَيْسَ حَيٌّ مِنَ الْأَحْيَاءِ نَعْلَمُهُ
    مِنْ ذِي يَمَانٍ وَمِنْ بِكْرٍ وَمِنْ مُضَرِ
    إِلَّا وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي دِمَائِهِمُ
    كَمَا تَشَارَكَ أَيْسَارٌ عَلَى جُزُرِ
    قَتْلٌ وَأَسْرٌ وَتَحْرِيقٌ وَمَنْهَبَةٌ
    فِعْلَ الْغُزَاةِ بِأَرْضِ الرُّومِ وَالْخَزَرِ
    أَرَى أُمَيَّةَ مَعْذُورِينَ إِنْ قَتَلُوا
    وَلَا أَرَى لِبَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ عُذُرِ
    ارْبَعْ بِطُوسٍ عَلَى الْقَبْرِ الزَّكِيِّ إِذَا
    مَا كُنْتَ تَرْبَعُ مِنْ دِينٍ عَلَى وَطَرِ
    قَبْرَانِ فِي طُوسٍ خَيْرُ النَّاسِ كُلِّهِمُ
    وَقَبْرُ شَرِّهِمُ هَذَا مِنَ الْعِبَرِ
    مَا يَنْفَعُ الرِّجْسَ مِنْ قُرْبِ الزَّكِيِّ وَلَا
    عَلَى الزَّكِيِّ بِقُرْبِ الرِّجْسِ مِنْ ضَرَرِ
    هَيْهَاتَ كُلُّ امْرِئٍ رَهْنٌ بِمَا كَسَبَتْ
    لَهُ يَدَاهُ فَخُذْ مَا شِئْتَ أَوْ فَذَرِ
    وهو يعني قبر الرشيد، وقبر علي الرضا، وكان يعرف ما سيلقى من أبناء الرشيد.٩

    فهذه الجرأة هي سمة التصوف في الحب، وأَخْذُ هذا الشاعر لعطايا الرشيد وذمُّه بعد ذلك لونٌ من الانحراف، ولكنه دليل على أن هوى الشاعر كان كله موجهًا إلى أهل البيت، ولولا ذلك الهوى لاستطاع أن ينعم بدنيا المأمون. والتصوف في ذاته خبال في المقاصد الدنيوية، ولكن جماله يرجع إلى الشجاعة في احتقار ما في الدنيا من لذة ومتاع، وهل هناك شجاعة أقوى من أن يخرج المرء على الغالبين ليناصر المغلوبين؟ وهل هناك زهد أبلغ من ترك دعبل طيبات الحياة في قصور الخلفاء ليدور في الدنيا كما يدور الصعاليك؟

  • (٥)

    لقد كان لدعبل مدائح كثيرة في أهل البيت، ولكنها ضاعت ولم يبقَ إلا القليل، ومن جيِّد ما بقي قوله في رثاء الحسين:

    رَأْسُ ابْنِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ وَوَصِيِّهِ
    يَا لَلرِّجَالِ عَلَى قَنَاةٍ تُرْفَعُ
    وَالْمُسْلِمُونَ بِمَنْظَرٍ وَبِمَسْمَعٍ
    لَا جَازِعٌ مِنْ ذَا وَلَا مُتَخَشِّعُ
    أَيْقَظْتَ أَجْفَانًا وَكُنْتَ لَهَا كَرًى
    وَأَنَمْتَ عَيْنًا لَمْ تَكُنْ بِكَ تَهْجَعُ
    كُحِلَتْ بِمَنْظَرِكَ الْعُيُونُ عَمَايَةً
    وَأَصَمَّ نَعْيُكَ كُلَّ أُذْنٍ تَسْمَعُ
    مَا رَوْضَةٌ إِلَّا تَمَنَّتْ أَنَّهَا
    لَكَ مَضْجَعٌ وَلِخَطِّ قَبْرِكَ مَوْضِعُ
  • (٦)

    وأشهر قصائده وأبقاها على الزمان وأجدرها بالخلود هي التائية ذات المطلع المُفجِّع:

    مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ
    وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ

    وقد كان لهذه القصيدة صدًى في أكثر العصور الأدبية عند العرب، ويكفي أن نعرف أن ياقوتًا حين ترجم لابن لنكك البصري ذكر من أخباره أنه كان يروي قصيدة دعبل التي مطلعها:

    مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ
    … … … …

    كأن رواية تلك القصيدة من مناقب الرجال.

    وكان المأمون لإعجابه ببراعة دعبل في تلك التائية يتمنى أن يسمعها من الشاعر نفسه، فتلطف لإحضار دعبل، فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه، ثم قال أنشدني:

    مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ
    وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ

    فجزع دعبل، فقال له المأمون: لك الأمان فلا تخف! وقد رويتها ولكني أحب سماعها من فيك، فأنشده إياها إلى آخرها، والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه.

    وكان أهل البيت يطربون لتلك القصيدة ويرون فيها العزاء عما أصابهم من الفواجع، وقد حدَّث دعبل قال: دخلت على علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال لي: أنشدني شيئًا مما أحدثت، فأنشدته:

    مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ
    وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ

    حتى انتهيت إلى قولي:

    إِذَا وُتِرُوا مَدُّوا إِلَى وَاتِرِيهِمُ
    أَكُفًّا عَنِ الْأَوْتَارِ مُنْقَبِضَاتِ
    فبكى حتى أغمي عليه، وأومأ إليَّ خادم كان على رأسه أن اسكت، فسكتُّ ساعة ثم قال لي: أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضًا، فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى، وأومأ الخادم إليَّ أن اسكت … فمكث ساعة أخرى، ثم قال لي أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت ثلاث مرات، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضُرِبَ باسمه، ولم تكن وقعت إلى أحد بعد، فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة آلاف درهم اشتراها مني الشيعة، فحصل لي مائة ألف درهم.١٠

    وقد فُتنَ دعبل نفسه بهذه التائية فتنة شديدة، ومضى يحدِّث الناس بأن أخبارها طارت إلى الجن، وأن أحدهم هبط إليه ليسمعها منه، فلنسمع كلام دعبل في هذا الخيال الطريف، قال: لما هربت من الخليفة بِتُّ ليلة بنيسابور وحدي، وعزمت على أن أعمل قصيدة في عبد الله بن طاهر في تلك الليلة، فإني لفي ذلك إذ سمعت والباب مردود عليَّ: «السلام عليكم ورحمة الله! انجُ يرحمك الله.»

    فاقشعر بدني من ذلك ونالني أمر عظيم، فقال لي: لا تُرَعْ عافاك الله! فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن، طرأ إلينا طارئٌ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك:

    مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ
    وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ

    فأحببت أن أسمعها منك.

    قال دعبل: فأنشدته إياها، فبكى حتى خرَّ، ثم قال: رحمك الله! ألا أحدثك بحديث يزيد في نيتك، ويعينك على التمسك بمذهبك؟ قلت: بلى! قال: مكثت حينًا أسمع بذكر جعفر بن محمد عليه السلام، فصرت إلى المدينة فسمعته يقول: حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: «عليٌّ وشيعته هم الفائزون.»

    قال دعبل: ثم ودعني لينصرف، فقلت له: يرحمك الله! إن رأيت أن تخبرني باسمك فافعل. فقال: أنا ظبيان بن عامر.١١

    والحكاية في ذاتها طريفة، وهي تمثل سذاجة الناس من أنصار أهل البيت لذلك العهد.

    والجن من أهل اليمن كانوا بعيدين عن مقر الدعوات الإسلامية، فتفضل الرواة ونقلوهم تارة إلى المدينة، وتارة إلى العراق، ولهم في كتب الأدب أخبار لا تخلو من طرافة وظُرف.

  • (٧)
    ننتقل بعد ذلك إلى مواجهة تلك التائية، ولنذكر أن ياقوتًا أثبت منها ٤٥ بيتًا، وأنه أخبرنا أن نُسَخها مختلفة، وأن في بعضها زيادات يُظَنُّ أنها مصنوعة ألحقها بها أناس من الشيعة، وتلك الخمسة والأربعون بيتًا هي ما صحَّ من القصيدة في نظر ياقوت.١٢

    وأهمية هذه القصيدة ترجع إلى ما فيها من التحزن والتفجع، وهي لذلك من خير ما قيل في الانتصار لأهل البيت، وفيها فوق ذلك تصريح عن عقيدة الشيعة في الإمام المنتظر الذي يؤمن دعبل بأنه خارج لا محالة، وأنه يقوم على اسم الله والبركات. ولنترك الشاعر يحدثنا عما كان يضطرب في صدره من آلام وآمال:

    مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ
    وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ
    لِآلِ رَسُولِ اللهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى
    وَبِالرُّكْنِ وَالتَّعْرِيفِ وَالْجَمَرَاتِ
    دِيَارُ عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ وَجَعْفَرٍ
    وَحَمْزَةَ وَالسَّجَّادِ ذِي الثَّفِنَاتِ
    دِيَارٌ عَفَاهَا كُلُّ جَوْنٍ مُبَادِرٍ
    وَلَمْ تَعْفُ لِلْأَيَّامِ وَالسَّنَوَاتِ
    قِفَا نَسْأَلِ الدَّارَ الَّتِي خَفَّ أَهْلُهَا
    مَتَى عَهْدُهَا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَوَاتِ
    وَأَيْنَ الْأُلَى شَطَّتْ بِهِمْ غَرْبَةُ النَّوَى
    أَفَانِينَ فِي الْآفَاقِ مُفْتَرِقَاتِ
    هُمُ أَهْلُ مِيرَاثِ النَّبِيِّ إِذَا اعْتَزَوْا
    وَهُمْ خَيْرُ قَادَاتٍ وَخَيْرُ حُمَاةِ
    وَمَا النَّاسُ إِلَّا حَاسِدٌ وَمُكَذِّبٌ
    وَمُضْطَغِنٌ ذُو إِحْنَةٍ وَتِرَاتِ
    إِذَا ذَكَرُوا قَتْلَى بِبَدْرٍ وَخَيْبَرٍ
    وَيَوْمِ حُنَيْنٍ أَسْبَلُوا الْعَبَرَاتِ
    قُبُورٌ بِكُوفَانٍ وَأُخْرَى بِطَيْبَةٍ
    وَأُخْرَى بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي
    وَقَبْرٌ بِبَغْدَادٍ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ
    تَضَمَّنَهَا الرَّحْمَنُ فِي الْغُرُفَاتِ
    فَأَمَّا الْمُصِمَّاتُ الَّتِي لَسْتَ بَالِغًا
    مَبَالِغَهَا مِنِّي بِكُنْهِ صِفَاتِ
    إِلَى الْحَشْرِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ قَائِمًا
    يُفَرِّجُ مِنْهَا الْهَمَّ وَالْكُرُبَاتِ
    نُفُوسٌ لَدَى النَّهْرَيْنِ مِنْ أَرْضِ كَرْبَلَا
    مُعَرَّسُهُمْ فِيهَا بِشَطِّ فُرَاتِ
    تَقَسَّمَهُمْ رَيْبُ الزَّمَانِ كَمَا تَرَى
    لَهُمْ عَفْرَةٌ مَغْشِيَّةُ الْحُجُرَاتِ
    سِوَى أَنَّ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ عُصْبَةً
    مَدَى الدَّهْرِ أَنْضَاءً مِنَ الْأَزَمَاتِ
    قَلِيلَةَ زُوَّارٍ سِوَى أَنَّ زُوَّرًا
    مِنَ الضَّبْعِ وَالْعِقْبَانِ وَالرَّخَمَاتِ
    لَهُمْ كُلَّ حِينٍ نَوْمَةٌ بِمَضَاجِعٍ
    لَهُمْ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفَاتِ
    وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْحِجَازِ وَأَهْلِهَا
    مَغَاوِيرُ يَخْتَارُونَ فِي السَّرَوَاتِ
    تَنَكَّبُ لَأْوَاءُ السِّنِينَ جِوَارَهُمْ
    فَلَا تَصْطَلِيهِمْ جَمْرَةُ الْجَمَرَاتِ
    إِذَا وَرَدُوا خَيْلًا تُشَمَّسُ بِالْقَنَا
    مَسَاعِرُ جَمْرِ الْمَوْتِ وَالْغَمَرَاتِ
    وَإِنْ فَخَرُوا يَوْمًا أَتَوْا بِمُحَمَّدٍ
    وَجِبْرِيلَ وَالْفُرْقَانِ ذِي السُّوَرَاتِ

    •••

    مَلَامَكَ فِي أَهْلِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ
    أَحِبَّايَ مَا عَاشُوا وَأَهْلُ ثِقَاتِي
    تَخَيَّرْتُهُمْ رُشْدًا لِأَمْرِي فَإِنَّهُمْ
    عَلَى كُلِّ حَالٍ خِيرَةُ الْخِيَرَاتِ
    فَيَا رَبِّ زِدْنِي مِنْ يَقِينِي بَصِيرَةً
    وَزِدْ حُبَّهُمْ يَا رَبِّ فِي حَسَنَاتِي
    بِنَفْسِيَ أَنْتُمْ مِنْ كُهُولٍ وَفِتْيَةٍ
    لِفَكِّ عُنَاةٍ أَوْ لِحَمْلِ دِيَاتِ
    أُحِبُّ قَصِيَّ الرَّحْمِ مِنْ أَجْلِ حُبِّكُمْ
    وَأَهْجُرُ فِيكُمْ أُسْرَتِي وَبَنَاتِي
    وَأَكْتُمُ حُبِّيكُمْ مَخَافَةَ كَاشِحٍ
    عَنِيدٍ لِأَهْلِ الْخَيْرِ غَيْرِ مُوَاتِ
    لَقَدْ حَفَّتِ الْأَيَّامُ حَوْلِي بِشَرِّهَا
    وَإِنِّي لَأَرْجُو الْأَمْنَ بَعْدَ وَفَاتِي
    أَلَمْ تَرَ أَنِّي مِنْ ثَلَاثِينَ حِجَّةً
    أَرُوحُ وَأَغْدُو دَائِمَ الْحَسَرَاتِ
    أَرَى فَيْئَهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مُتَقَسَّمًا
    وَأَيْدِيَهُمُ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِرَاتِ
    فَآلُ رَسُولِ اللهِ نُحْفٌ جُسُومُهُمْ
    وَآلُ زِيَادٍ حُفَّلُ الْقَصَرَاتِ
    بَنَاتُ زِيَادٍ فِي الْقُصُورِ مَصُونَةٌ
    وَآلُ رَسُولِ اللهِ فِي الْفَلَوَاتِ
    إِذَا وُتِرُوا مَدُّوا إِلَى وَاتِرِيهِمُ
    أَكُفًّا عَنِ الْأَوْتَارِ مُنْقَبِضَاتِ

    •••

    فَلَوْلَا الَّذِي أَرْجُوهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ
    لَقَطَّعَ قَلْبِي إِثْرَهُمْ حَسَرَاتِي
    خُرُوجُ إِمَامٍ لَا مَحَالَةَ خَارِجٌ
    يَقُومُ عَلَى اسْمِ اللهِ وَالْبَرَكَاتِ
    يُمَيِّزُ فِينَا كُلَّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ
    وَيَجْزِي عَلَى النَّعْمَاءِ وَالنِّقَمَاتِ
    سَأَقْصُرُ نَفْسِي جَاهِدًا عَنْ جِدَالِهِمْ
    كَفَانِيَ مَا أَلْقَى مِنَ الْعَبَرَاتِ
    فَيَا نَفْسُ طِيبِي ثُمَّ يَا نَفْسُ أَبْشِرِي
    فَغَيْرُ بَعِيدٍ كُلُّ مَا هُوَ آتِ
    فَإِنْ قَرَّبَ الرَّحْمَنُ مِنْ تِلْكَ مُدَّتِي
    وَأَخَّرَ مِنْ عُمْرِي لِطُولِ حَيَاتِي
    شُفِيتُ وَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِي رَزِيَّةً
    وَرَوَّيْتُ مِنْهُمْ مُنْصُلِي وَقَنَاتِي
    أُحَاوِلُ نَقْلَ الشَّمْسِ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا
    وَأُسْمِعُ أَحْجَارًا مِنَ الصَّلَدَاتِ
    فَمِنْ عَارِفٍ لَمْ يَنْتَفِعْ وَمُعَانِدٍ
    يَمِيلُ مَعَ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبُهَاتِ
    قُصَارَايَ مِنْهُمْ أَنْ أَمُوتَ بِغُصَّةٍ
    تُرَدَّدُ بَيْنَ الصَّدْرِ وَاللَّهَوَاتِ
    كَأَنَّكَ بِالْأَضْلَاعِ قَدْ ضَاقَ رَحْبُهَا
    لِمَا ضَمِنَتْ مِنْ شِدَّةِ الزَّفَرَاتِ
  • (٨)

    هذا، ولدعبل أخبار كثيرة يجدها القارئ في الجزء الثامن عشر من الأغاني، وجاءه الحتف بسبب أهاجيه لمالك بن طوق، وكانت وفاته سنة ٢٤٦ﻫ رحمه الله وعفا عنه!

١  الأغاني، ج١٨، ص٢٩، طبع الساسي.
٢  الأغاني، ج١٨، ص٣١.
٣  الأغاني، ج١٨، ص٣٣.
٤  الأغاني، ج١٨، ص٣٦.
٥  ص٣٧ من نفس المصدر.
٦  الأغاني، ج١٨، ص٣٦.
٧  ص٣٧.
٨  ص٤٣.
٩  انظر الأغاني، ج١٨، ص٥٧.
١٠  الأغاني، ج١٨، ص٤٢.
١١  الأغاني، ص٣٩.
١٢  انظر معجم الأدباء، ج٤، ص١٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤