مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟

تشتهر الفلسفة الألمانية عن جدارة أحيانًا بأنها مبهمة ونظرية إلى حدٍّ بعيد، وكثير منها غاب فعليًّا عن عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية في الفترة ما بين ثلاثينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، ويرجع هذا الغياب في جزءٍ منه إلى الارتياب في أن هناك تواطؤًا بصورة أو بأخرى بين النازية والفلسفة الألمانية. ومؤخرًا فحسب تجدَّد الاهتمام الحقيقي بشخصيات مثل جورج فيلهيلم وفريدريش هيجل ومارتن هايدجر في عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية. وترجع زيادة الاهتمام بالفلسفة الألمانية — على نحوٍ لم يقتصر فقط على الفلسفة الأكاديمية — إلى شعور عامٍّ بالأزمة فيما يتعلَّق بتوجُّه العالم المعاصِر. وترتبط هذه الأزمة بالعوامل الأساسية فيما يُسمَّى غالبًا «الحداثة». وتظهر الحداثة في مجتمعات مختلفة في أوقات مختلفة، لكنها بوجه عام تنطوي على ملامح معينة تميِّزها. وتميل المجتمعات السابقة على الحداثة إلى الاعتماد على صورة تقليدية للعالم ترتكز على علم اللاهوت. وعلى الرغم من أن تلك الصورة تنطوي على صراعات تؤدِّي أحيانًا إلى العنف والتمزُّق المجتمعي، فهي لا تزال تشكِّل خلفيةً مستقرةً إلى حدٍّ كبير لكيفية تجاوُب الناس مع العالم. أما الحداثة، في المقابل، فتجبر الثقافات على مواجهة نتائج نشأة العلوم الطبيعية الحديثة وأشكال الإنتاج والتبادل الجديدة. وفي الغالب، فإن التهديد ليقينيَّات النظام القديم له تأثيرات صادمة تجعل الكثيرَ من الناس يتمسكون بمفاهيم هذا النظام الجامدة، فهم يعارضون التغيُّرات التي ينطوي عليها النظام الجديد حتى وهُمْ يستعملون كثيرًا مما تأتي به تلك التغيُّرات. ولا تتأكد إمكانية الانتقال إلى نظام جديد أكثر استقرارًا إلا بعد وقوع أحداث كارثية تجعل من هذا الانتقال ضرورةً لا مفرَّ منها.

قد تنطبق بعض جوانب هذه القصة على بعض أوجه ازدواجية مشاعر العالم الإسلامي المعاصر تجاه الثقافة الغربية الحديثة. إلا أن المنحى المأساوي غالبًا للتاريخ الألماني بَدءًا من القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وأخيرًا سقوط جدار برلين عام ١٩٨٩ ربما يكون النموذجَ الأكثر وضوحًا لكيفية حدوث التحول إلى الحداثة. وفيما يتعلَّق بهذا التحول، فإن الفلسفة الألمانية تُفهَم على وجهين؛ فهي مؤشر مُشْكِل للتاريخ الألماني، وهي أيضًا مصدر حيوي لمحاولة معرفة الكيفية التي يمكن للمرء بها أن يتقبَّل عالمًا فيه — على حدِّ تعبير كارل ماركس في كتابه «بيان الحزب الشيوعي» عام ١٨٤٨ — «كلُّ راسخ وصلب يتبخر في الهواء، وكل مقدَّس يُستباح، وفي النهاية يُجبَر البشر على مواجهة ظروفهم في الحياة وعلاقاتهم بعضهم ببعض في تجرد وحيادية.» ومن ثَمَّ، يمكن أن تكون لطبيعة الفلسفة الألمانية المزدوجة قيمتها في معالجة الأزمات في العالم المعاصر. ويتضح من الأحداث الأخيرة أن الحاجة إلى الدِّين لم تختفِ في كثير من الأوساط، على الرغم من أن العلم قد قوَّضَ كثيرًا من الأفكار التي حافظت على الدِّين على نحو تقليدي، كما قوَّضت النزعة الاستهلاكية على نحو متزايد العديدَ من القيم الدينية للمجتمعات التقليدية. وعليه، فإن الصراع بين الاحتياجات التي لبَّاها الدِّين سابقًا والآثار الاجتماعية للعلم الحديث والرأسمالية الحديثة هو مفتاح كثيرٍ من مبادئ الفلسفة الألمانية.

ربما يظن أولئك الذين اعتادوا على اختصاصات «الفلسفة التحليلية» الأنجلو-أمريكية أن تلك المزاعم غير ذات صلة باهتماماتهم. لكنَّ الفلسفة التحليلية — كما يوحي اسمها — تجسيدٌ للحداثة. وأحد مصادر نجاح العلوم الطبيعية الحديثة هو التركيز على تحليل الموضوعات إلى عناصرها المكوِّنة، وصياغة القوانين التي تحكم تلك العناصر. وعلى هذا النحو نفسه، بدأ نهج تحليلي في الفلسفة يسعى إلى عزل عناصر اللغة عن طريق تجريدها من علاقاتها بالظواهر الأخرى ومحاولة إرساء قواعد عامة تحكمها. وكان الهدف هو وضعَ نظرية للحقيقة والمعنى تقوم على بيان كيفية اتصال الكلمات والجمل بأجزاء الواقع التي تشير إليها. ومن ثَمَّ، تعيَّن اشتقاق وصف عامٍّ لآلية عمل اللغة من تحليل عناصرها الخاصة. وكان الهدف هو حلَّ كثير من المشكلات التقليدية للفلسفة عن طريق توضيح كيف أن هذه المشكلات كانت نتيجةَ انعدام الكفاية المنطقية لأشكال اللغة اليومية.

يُعتقَد الآن على نطاق واسع أن هذا النهج لن يتمكن من تحقيق غايته؛ فلا يمكن افتراضُ أن المعنى قابلٌ للتحليل تمامًا على نحوٍ تجزيئيٍّ، وفكرة اللغة المنقَّاة منطقيًّا تعتمد دومًا على فهم سابق للغاتٍ طبيعية «غير منقَّاة». فالطُّرُق التي تتصل بها عناصر اللغة بعضها مع بعضها والممارسات غير اللغوية والمعرفة العامة غير المتأصلة في عناصر اللغة عوامل أساسية في تفسير المعنى. ومن ثَمَّ، يتحوَّل تركيز الفلسفة من تركيز على كيف «تمثِّل» اللغةُ الأشياءَ إلى تركيز على كل الطرق التي «تعبِّر» أو «تبيِّن» اللغةُ بها كيفيةَ اتصالنا بالعالم. ويمكن أن يتراوح هذا التركيز الأخير بين عبارات موضوعية عمَّا نعرفه وتعبيرات عن وجودنا في أشكال لفظية وغير لفظية، مثل الموسيقى أو الرسم. وقد شكَّلَ هذا المفهوم «الشمولي» جزءًا من الفلسفة الألمانية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ووفقًا للموروث الألماني، فإنه يمكن التماسُ كثيرٍ من البدائل الرئيسية للمنهج التحليلي للفلسفة. فالتضاد بين المفهومين التحليلي والشمولي يتعلَّق أيضًا بمواقف ثقافية متضادة؛ فبينما يميل توجُّه الموروث التحليلي في الغالب نحو العلوم الطبيعية، يعلِّق الموروث الألماني أهميةً كبيرة على الفن والقضايا الجمالية.

ويوحي هذا التضاد بصراعٍ حامٍ داخل الفلسفة الحديثة، ويمكن تمييز الصراع بطرق متعددة؛ كالصراع بين «التفسير» و«الفهم»، أو «الوضعية» و«الرومانسية»، أو «ثقافتَي» العلوم والإنسانيات. فكيف نتعامل — كما يتوجَّب علينا في كثير من المواقف — مع الصِّدَامات التي تظهر بين الطريقة التي يخبرنا بها العلم عن كينونة العالَم، والطرق الأخرى التي يفسِّر الناس بها عالمهم ويشعرون به؟ تبدأ الفلسفة الألمانية فعليًّا عندما يخالج الشكُّ فكرةَ أن البشر «على معرفة» في عالَمٍ إمكانية فهمه مكفولة من قِبَل الإله. ومن توابع هذا التغيُّر أن الطرق المتنافسة لتفسير العالَم تصبح على ما يبدو غير قابلة للتوفيق فيما بينها؛ مما يؤدي إلى ظهور الصراعات المميِّزة تحديدًا للحداثة.

ولم يختفِ هذا الخلاف، كما سيتضح مما يلي. ففي الثلاثين عامًا الأخيرة، أو نحو ذلك، شهدت دراسة الإنسانيات ظهورَ عدد متنامٍ من المناهج النظرية التي هي محل نزاع كبير، وقد تضمنت هذه المناهج على وجه التحديد استنطاقًا للأفكار المتعارف عليها حول المعنى والحقيقة. وشاع هذا الاستنطاق جزئيًّا بسبب أن الافتراضات محدودة النطاق ذات النزعة العِرقية التي اعتُمِد عليها كثيرًا في الحكم على الثقافة في العالم الغربي قد تزعزعت نتيجة تأثيرات العولمة وانحسار الاستعمار. والوعي بأن الثقافة ترتبط دومًا بآليات عمل القوة، وبأن ما يُعتقَد أنه حقيقيٌّ يتأثَّر إلى حدٍّ بعيد بالظرف التاريخي، يعني أن فهم الثقافة يتطلَّب تأمُّلًا مستنيرًا من الناحية النظرية. ومع ذلك، لم تنزع المناهجُ النظرية التي غيَّرت الإنسانيات بطرق مثيرة للجدل — وأشهرها: البنيوية، وما بعد البنيوية، ونظرية النوع الاجتماعي، والنظرية النقدية، والهرمنيوطيقا، والتحليل النفسي — إلى تضمين الفلسفة التحليلية. وما يُنسَى أو يُغَضُّ الطَّرْف عنه أحيانًا أن أكثر هذه المناهج النظرية — المرتبطة غالبًا بالمنظِّرين الفرنسيين أمثال: جاك دريدا وميشيل فوكو وآخَرين — تعتمد على أعلام الفلسفة الألمانية وأشهرهم: هيجل ونيتشه وهايدجر. والآن، فإن أفكار أعلام الفلسفة الألمانية هؤلاء على وجه الخصوص هي التي يُستعَان بها أيضًا للرد على بعض فرضيات الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية؛ ومن ثَمَّ يوفِّر الاهتمام بالفلسفة الألمانية فرصًا لحدوث تفاعلات جديدة بين المناهج المتعارضة سابقًا.

ومع ذلك، فإن الغاية الأساسية هنا هي استكشاف ما تخبرنا به الفلسفة الألمانية عن بعض المشكلات الكبرى للحداثة. وينبغي أن يسهِّل هذا النهج على القراء الالتفات إلى النصوص الكبرى المعترَف بصعوبتها للفلسفة الألمانية، التي لا تزال مهمةً للغاية لوضع المصطلحات التي يمكن بها فهمُ العالم الحديث. للمزيد من الوصف التفصيلي للحجج الفلسفية، يمكنك الرجوع إلى كتابي «مقدمة إلى الفلسفة الألمانية من كانط إلى هابرماس» (كامبريدج: بوليتي، ٢٠٠٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤