الفصل الثاني

المنحى اللُّغوي

البُعْد المفقود

يقدِّم كانط رؤية فلسفية غاية في الجِدَّة والعمق، حتى إنه من المذهل إدراك أنه يتجاهل إلى حدٍّ كبير أحد الهموم الكبرى للفلسفة الحديثة. ففي عام ١٨١٢، لاحَظَ كارل ليونارد راينهولد (١٧٥٧–١٨٢٣) الذي كان مسئولًا عن تزايد الاهتمام في البداية بفلسفة كانط الذي أدَّى إلى المثالية الألمانية (انظر الفصل الثالث)؛ أن «علاقة التفكير بالكلام، وأسلوب التوظيف اللغوي في التفلسف لم يخضَعَا مطلقًا للتدقيق والصياغة» لدى كانط والمثالية الألمانية. لكن حتى قبل أن يكتب كانط أهمَّ نصوصه وُجِدَ فلاسفة في ألمانيا كانت اللغةُ بالنسبة لهم أمرًا فاصلًا. فما الذي جعل هؤلاء المفكِّرين يركِّزون على اللغة بينما يبدو أن آخَرين لم يعتبروا اللغة أمرًا حاسمًا على الإطلاق؟

رأى كانط أن نظام العالم الذي يمكن معرفته يعتمد على النشاط المعرفي للذات، والتفسيرات المتضاربة لذلك النشاط تزداد تعقيدًا حالما تُؤخَذ في الاعتبار علاقة اللغة بالذات. فعلى الرغم من أن الذوات تستخدم اللغة فهي لا تخترعها، وبمعنًى لا يزال محلَّ نزاعٍ فإنها تحتاج إلى اللغة؛ لكي تصبح ذواتًا على أية حال. فما هو أصل اللغة؟ لقد افتُرِض بوجه عام أن أصل اللغة — مثل نظام العالم — إلهي، وهذا الافتراض ربط فكرة اللغة كجزء من خلق الإله بإمكانية فهم العالم؛ إذ تشير اللفظة اليونانية logos إلى كلٍّ من «الكلمة» بمعنى الكلام، وإلى النظام العقلاني للأشياء. وأما بداية الحداثة في الفلسفة، فيمكن تمييزها من خلال التزامن القريب للأسئلة الفلسفية الجديدة لدى هيوم وكانط مع التشكيك بالأصل الإلهي للغة. فالأول يقود إلى فكرة الذات كمركز للفلسفة، والآخَر يكشف في المقابل عن اعتماد الذات على شيء لم تُنشِئه، وتصبح اللغة هي «الآخَر» الذي يستمر أصله حتى اليوم في طرح مشكلات مهمة. (فَكِّرْ في الخلافات المتعلقة بمدى إمكانية تفسير اللغة بطريقة ملائمة من حيث الجينات.) تتسم الفلسفة الألمانية بصراعاتٍ بين مناهج وضعَتِ الذات في مركز الفلسفة، ومناهج تشير إلى أن الذات تعتمد على شيء مغايِر لذاتها، وتشير فكرة هذا الاعتماد إلى سبب تطوُّر فكرة «اللاوعي» في هذا الوقت، والقضايا النظرية هنا هي مجدَّدًا إشارات لتغيُّرات تاريخية. ومزجت فكرة «الأيديولوجيا» بين قضايا اللغة وقضايا اللاوعي؛ فقد ظهرت أثناء الثورة الفرنسية، وكانت في البداية تعني فقط منظومةً من الأفكار، ولكن سرعان ما تطوَّرَتِ «الأيديولوجيا»، من خلال ماركس على وجه التحديد، إلى مصطلحٍ يُستخدَم لتمييز اعتقاد الناس في أن أفعالهم تحدِّدها الإرادة الحرة، عندما يعتمدون في الحقيقة دون وعيٍّ على الطرق السائدة للتحدُّث والعمل في طبقتهم الاجتماعية.

يُعَدُّ ظهور فرع «الأنثروبولوجيا» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر إشارةً أخرى لما هو موضع نقاش هنا؛ فجزء مما أدَّى إلى نشأة الأنثروبولوجيا هو الوعي بأن اللغة الطبيعية لشعبٍ ليست مجرد وسيلةٍ لقولِ الأشياء نفسها التي يمكن قولها بلغة أخرى، فلغة الشعب هي أيضًا نتاج مواجهاته الخاصة مع العالم. ويؤدِّي فَهْم هذه المواجهات إلى وعي جديد بحجم الاختلاف الذي ربما يكون عليه العالم بالنسبة لثقافات أخرى. ويُستدَل على أهمية هذا الأمر بالحالات التي يمكن فيها أن تصبح لغةُ أقليةٍ عِرقيةٍ أمرًا فاصلًا بالنسبة لهويتها، ولكنَّ هذا النوع من الهوية يمكن أن يكون في الغالب ذا حدَّين؛ فما يربط بعضُ الناس ببعض يمكن أن يكون هو نفسه ما يفصلهم عن آخَرين عندما يصبح مَنْ ليسوا أعضاءً في مجتمعٍ لغويٍّ «الآخَرَ» الغريبَ. وتتعلق أسئلة الهوية اللغوية أيضًا بظهور القومية، التي هي مصدرٌ لكثيرٍ من إراقة الدماء في التاريخ الحديث، ولعله لهذا السبب يُنظَر إلى يوهان جوتفريد هيردر (١٧٤٤–١٨٠٣) أحيانًا بارتياب — غير مبرَّر — إلى حدٍّ كبير؛ بسبب تركيزه على دور اللغة في تشكيل الهوية.

التمثيل والتعبير

يكشف هيردر — الذي كان تلميذًا مفضَّلًا لكانط حتى تنازَعَا في ثمانينيات القرن الثامن عشر — ومعاصِرُه وصديقه يوهان جورج هامان (١٧٣٠–١٧٨٨)، عن مفارَقةٍ في المفاهيم الحديثة للُّغَة. كما رأينا، فإن النجاح الجديد للعلوم الطبيعية مصحوبٌ بشكوك حول أساس ذلك النجاح. وبرؤية عقلانية، يمكن تجاوز الفوارق بين اللغات؛ لأن حقائق العلم يمكن صياغتها بأية لغة طبيعية. ومن ثَمَّ، قد تبدو الرؤية العقلانية متوافِقةً مع تصوُّرات نظام الكون الممنوح من الإله. إلا أن احتكام عقلانية القرن الثامن عشر إلى فكرة «لغة عالمية» تُوضَع تمامًا على غرار العلم المؤسَّس على الرياضيات الذي يساعد في الوصول إلى هذه الفكرة، يقوِّض بالفعل كثيرًا من الأُسُس السابقة لعلم اللاهوت. ومن جانب آخَر، تشكِّك المناهجُ الجديدةُ في اللغةِ، موضِع النقاشِ هنا، في فكرة أن جميع اللغات يمكن — أو ينبغي — أن تكون قابلةً لقياسٍ واحدٍ.

تنزع الرؤى العقلانية إلى النظر إلى اللغة بالأساس من حيث الكيفية التي «تمثِّل» بها الأشياء في العالم، فهدف العلم هو في النهاية الوصولُ إلى الكلمات التي تعطي إعادة عرض حقيقية للعالم — بمعنى تلك التي «تعرض مجدَّدًا ما هو موجود بالفعل كما هو». ويرى هامان وهايدجر، في أعقاب جان جاك روسو وآخَرين، أن هذا النهج أخفق في تقدير كيفية أن اللغة تعبير جوهري عن ماهية أن تكون إنسانًا، فاللغة لها دور أبعد من مجرد تمثيل العالم؛ إذ يمكنها أن تُظهِر جوانب جديدة من أنفسنا ومن العالم لم تكن لتظهر دونها، ومن ثَمَّ يمكن فهم جميع الأشكال الرمزية البشرية بما فيها الموسيقى والفن المرئي على أنها «لغة».

اللغة والعقل

في كتابه «عن الأدب الألماني الحديث: مقتطفات» عام ١٧٦٦–١٧٦٨، يعلن هيردر بالفعل ما سوف يكون المقدمةَ المنطقيةَ الأساسية للفلسفة التحليلية للقرن العشرين: «فلو صحَّ أننا لا يمكننا التفكير دون أفكار، وأننا نتعلم التفكير من خلال الكلمات، فإن اللغة تعطي للمعرفة الإنسانية كلها حدودَها وإطارَها»، وهي «أداة الأفكار البشرية ومضمونها وشكلها». والسؤال هو: كيف بالضبط نفهم اللغة؟ فالفوارق حتى اليوم بين الفلسفة التحليلية و«القارية/الأوروبية» قائمة في الغالب على تأويلات مختلفة لماهية اللغة. وفي نقلة نبوئية، يقترح هامان أن اللغة يمكن أن تؤثِّر على تقييم الفلسفة المتعالية لكانط، فهو يتساءل كيف ترتبط مقولات كانط باللغة مقترحًا أن «الكلمات هي «أحداس» محضة وتجريبية وأيضًا «تصوُّرات» محضة وتجريبية»، وتشكيكه في فصل كانط للأحداس القابلة والتصورات التلقائية هو جزء مما يُمهِّد لنشأة المثالية الألمانية.

من الأهداف المحورية للمثالية الألمانية التغلُّبُ على مقابلات كانط بين المظاهر والأشياء في حدِّ ذاتها، وبين القابلية والتلقائية. وتتمثل فكرة هامان في أننا نكتسب الكلمات بطريقة استقبالية كضوضاء أو علامات في العالم الموضوعي، لكنها ليست مجرد موضوعات؛ فالكلمات لا يمكن أن تكون إلا كلمات، لا مجرد علامات أو ضوضاء، إذا كان لها معنًى يؤثِّر على كيفية فهمنا للعالم، وقد يبدو واضحًا أن الشيء التالي الذي ينبغي فعله هو فصل اللغة إلى تلك الأجزاء التي لها مغزًى موضوعيٌّ بحت، وتلك الأجزاء التي هي «ذاتية». إلا أنه قد ثبت حتى الآن في الفلسفة الحديثة استحالة رسم هذا الخط الفاصل بطريقة متفق عليها؛ لأسباب أهمها: أن اللغة نفسها لازمة لرسم الخط. وإذا كانت اللغة تقاوم الفصل الحاسم بين الذاتي والموضوعي، فيمكن التشكيك في نوع الفلسفة التي تحاول بيان الكيفية التي يعكس أو يمثِّل بها العقل الذاتي بنجاح — يكثر أو يقل — طبيعةَ العالم الموضوعي؛ فالدعاوى المتعلقة بالموضوعية تعتمد على استخدام اللغة، واللغة نفسها لا يمكن القول بأنها موضوعية محضة أو ذاتية محضة.

وعلى الرغم من الدعاوى المتكررة بعكس ذلك، فإن الشعور اليومي بالحقيقة يجب ألَّا يتأثَّر إلى حدٍّ بعيد بتلك الأفكار؛ فالمتشككون لا يمكنهم الاحتجاجُ على عجزِ اللغة عن التعبير عن الحقيقة دون التسليم مقدَّمًا بأن حقيقة مزاعمهم يمكن نقلها عن طريق اللغة. وبدلًا من ذلك، تطرح الأفكار الجديدة المتعلقة باللغة أسئلةً عمَّا يعنيه التعبيرُ عن الحقيقة، فالقول بأن شيئًا ما موضوعيٌّ محض سوف يتطلب منظورًا فوقيًّا، خارج اللغة — «رؤية من لا مكان» — والفكرة هي أن الحاجة إلى وصف ذلك المنظور باللغة نفسها يضع هذا الأمر موضع تساؤل. ومن ثَمَّ، فالحقيقة ربما تكون هدفًا تصوريًّا يحفز على البحث، لا شيء نعرف دومًا على نحوٍ قاطعٍ أننا قد فهمناه. وسوف تنطوي فلسفة القرن العشرين على نزاعات سكولاستية بين مناهج تسعى إلى قصر نطاق الحقيقة في عبارات يمكن التحقُّق منها كوسيلة لمحاولة ضمان الموضوعية الكاملة، ومناهج توسِّع نطاقَ الحقيقة ليشمل أيَّ تعبيرٍ يجسِّد جانبًا من العالم. وفي المنهج الأخير، يمكن للفن أن يكون أداةً لنقل الحقيقة عندما يكشف أو يعطي معنًى جديدًا لمنظورٍ عن العالم. وتحمل المناهج الأخيرة كثيرًا مما ابتدأه هامان وهيردر.

وبينما يمكن للمرء تجاهُل الكثير من القضايا التاريخية والأسلوبية في نصوص كانط ويظل يستخدمها في الفلسفة المعاصرة، فإنه لا يمكن فَصْل الأسلوب المعقَّد والإيمائي لنصوص هامان عن مضمونها؛ إذ تخلق نصوصه شبكة من الترابطات التي تربط جوانب العالم بطرق غير متوقَّعة غالبًا. فبالنسبة لهامان، النظر إلى اللغة باعتبارها تحدد معاني الكلمات، ليست هي الطريقة المثلى للنظر إليها؛ فاللغة هي احتفال بتنوُّع الخلق الإلهي، الأمر الذي يفتح الباب لوجهات نظر جديدة. وهناك عملية ترجمة لا نهائية «من لغة الملائكة إلى لغة البشر؛ أي من الأفكار إلى الكلمات — من الأشياء إلى الأسماء — من الصور إلى العلامات». وعليه، فإن الجانب «الأدبي» للَّغة ليس إضافةً عارضة إلى اللغة، بل هو لُبُّها؛ فمثلًا عندما ينتقد هامان كانط، فإنه يفعل ذلك بطريقة بلاغية جدًّا. وقبل أن نصل إلى السؤال الكانطي عن كيف تكون المعرفة الموضوعية ممكنةً، يؤكِّد هامان:

يبقى سؤال رئيسي آخَر: كيف تكون القدرة على التفكير ممكنةً؛ أي القدرة على التفكير «يمين التجربة وشمالها، قبلها ودونها، معها وبعدها»؟ إن المرء لا يحتاج إلى استدلال لإثبات الأولوية النَّسَبِية للغة قبل الوظائف المقدسة «السبعة» للافتراضات والاستنتاجات المنطقية وشعاراتها.

إن ما تعنيه هذه الفقرة غريبة الأسلوب يتضح من خلال علاقته باهتمام هامان بأخطار التجريد.

لا يزال قدر كبير من الفلسفة الحديثة منذ ديكارت مهتمًّا بنموذج معين من مذهب الشك؛ إذ يفصل ديكارت العقل عن الجسد بدعواه أن اليقين المعرفي الوحيد هو وعي العقل بنفسه. ومعرفة عالم الموضوعات، بما في ذلك جسد المرء نفسه، مشكوك فيه بطبيعته. ولا يقبل هامان الصورة الديكارتية؛ لأنها تفترض أن معرفة العالم القائمة على تبرير عقلي هي الأساس الجوهري للفلسفة، لكنه يظن بدلًا من ذلك أن «الاعتقاد قليلًا ما يقع بلغة الأسباب كالتذوُّق والشمِّ»، واتصالنا الجوهري مع العالم «حِسِّيٌّ». وينبغي ألَّا يُفهَم هذا الاتصال باصطلاحات «المذهب التجريبي» لِلُوك وآخَرين (ممَّنْ أثَّروا عليه رغم ذلك)؛ حيث إن «معطيات الحس» هي المصدر الوحيد للمعرفة. واهتم هامان عوضًا عن ذلك بالكيفية التي نصل بها إلى عالم مفهوم. والبدء بوصف نقدي ﻟﻠ «عقل» — على غرار فلسفة كانط — لا يفسِّر كيف يوجد عقل من الأساس، وهو أمر يتعلَّق بالسؤال عن أصل اللغة.

يسعى كلٌّ من هامان وهيردر إلى الإجابة عن سؤال: لماذا نحتاج العقل لفهم اللغة، بل ونحتاج أيضًا اللغة لنعقل؟ بَيْدَ أن أحدًا منهما لم يُوفَّق في الحقيقة للإجابة عن السؤال بطريقة مُقنعة. ويحاول هامان استخدام علم اللاهوت كمَخْرَج من المشكلة الفلسفية، عن طريق رؤية الخلق نفسه كلغةٍ تَخلق فيها كلمةُ الإله الشيءَ الذي تُعيِّنه، وهو بذلك يسير وفق موروث القبالا اليهودية. ويُستمَد شَكُّه في التجريد من فكرته التي مفادها أن اللغة تنشأ من اتصالنا العملي والحسي بالعالم؛ وهو من ثَمَّ يرفض قبول الرياضيات كأساس للعقل، ويرى بدلًا من ذلك أن «الأساس والمعيار الأول والأخير الوحيد للعقل» هو اللغة التي لا تستند لشيء سوى العُرف والاستخدام، ولا يمكن النظر إليها من حيث «الموثوقية العامة والضرورية».

وسيكون هذا الموقف حيويًّا في ظهور المفهوم الحديث ﻟﻠ «هرمنيوطيقا»؛ أي فن أو علم التأويل. فالهرمنيوطيقا مهمة بالنسبة لتساؤل الفلسفة الألمانية عن الاعتبارات العلمية للغة، ولنقدها لمذهب «العلموية»؛ أي الاعتقاد بأن الحقائق السائغة الوحيدة هي الحقائق العلمية. وبالنسبة للهرمنيوطيقا، لا يمكن أن تنشأ الأسئلة العلمية على الإطلاق ما لم نفهم بالفعل العالَم من خلال استخدامنا العملي للُّغات الطبيعية. ولا يمكن تفسير المدركات القَبْلية السابقة المتضمنة في هذا الرأي بوصفٍ علمي؛ لأن قابلية فهم هذا الوصف ستعتمد في حدِّ ذاتها عليها. وثمة فكرة حاسمة لو صحَّت سيكون لها توابع مدمِّرة للمفاهيم العلمية، وهي أن الفهم لا يمكن اختزاله في التفسير؛ لأن التفسير دومًا يفترض شكلًا ما من الفهم المسبق.

غالبًا ما لا يشارك هيردر الاهتمامات اللاهوتية لهامان، لكنه مهتم بالدرجة نفسها بتنوُّع اللغات البشرية. وعدم تأييده لفكرة أن اللغة ما هي إلا تمثيل للأشياء واضح تمامًا، «ليس السؤال كيف يمكن اشتقاق تعبيرٍ أتيمولوجيًّا وتحديده تحليليًّا، بل كيف يُستخدَم؟ فالأصل والاستخدام في الغالب مختلفان جدًّا.» وفي مقاله المهم «مقال في أصل اللغة» عام ١٧٧٢، لم يستطع هيردر أن يعطي إجابةً مقنِعة عن كيفية وصولنا إلى لغةٍ دون عقلٍ وإلى عقل دون لغةٍ، لكنه اقترح جانبًا رئيسيًّا للطريقة التي يمكننا بها تمييز اللغوي عن اللالغوي. وفكرة هيردر أننا لدينا القدرة على صفاء الذهن Besonnenheit، الأمر الذي يمكِّن المرء من انتقاء خصائص الأشياء في العالم، مثل ثُغاء الشاة، ويستطيع المرء استخدام عدد غير محدَّد من الألفاظ الأخرى لتمييز الشاة؛ ومن ثَمَّ تظل الخاصية الرئيسية للُّغة هي على وجه الدقة قدرتها الأبدية على تمكين تلك التمييزات. فاللغة تجعلنا قادرين على فهم أن الشاة من الثدييات، وأنها غذاء، وأنها رمز للمسيح، وأنها ما ينتج أصواتًا معينة بالريف … وهكذا. إن رؤيتَيْ هيردر وهامان «كُليَّتَان»: فالعالم بالنسبة لهما لا يتألف من مجموعة موضوعات معينة يمكن تسميتها، وإنما تتحدَّد ماهية الأشياء من خلال الطرق التي تجسِّد بها اللغة وغيرها من أوجه النشاط البشري الأشياءَ الأخرى. فما تُرَى عليه الشاة يعتمد على مكانها في عالمٍ من الدلالات التي تظهر من خلال ممارسات ثقافة معينة؛ ومن ثَمَّ يصبح العالم شبكةً من الدلالات التي تتغيَّر خصائصُها بتغيُّر علاقات الإنسان بالعالم.

شلايرماخر

إن التأملات الرائدة لهيردر عن اللغة مبعثَرَة في كُتُبه، وغير متَّسِقة على نحوٍ ملحوظ، وفريدريش دانيال أرنست شلايرماخر (١٧٦٨–١٨٣٤) هو مَنْ سيطوِّر الأفكار التي تمَّ استعراضها هنا إلى مفهوم أكثر تنظيمًا وتماسكًا. فكثير من آراء شلايرماخر قد بدأت تعاوِد الظهورَ في ضوء إخفاقِ بعض المناهج التحليلية في إيلاء ما يكفي من الاهتمام للطبيعة الكلية للُّغة. وعادةً ما يُقدَّم شلايرماخر على أنه مُنظِّر التفسير «التقمُّصي»، الذي «يتحسَّس المرءُ فيه طريقَه» إلى عقل المؤلف. وهذه النظرة خاطئة تمامًا؛ فبدلًا من ذلك، تَعرض هرمنيوطيقيته ونصوص أخرى وصفًا متطورًا للُّغة يعتمد على شكلٍ من الأفكار الفلسفية من النوع الذي سنقابله في الفصل الثالث (وهو لا يستخدم الكلمة الألمانية ﻟﻠ «تقمُّص»). ويتصدَّى شلايرماخر للصراع بين نظرة أن المعنى واللغة تتحكم فيهما نوايا الذات، ونظرة أن اللغة موجودة قبل الذات في شكل تراكيب وقواعد مشتركة.

يشتهر شلايرماخر بأنه اللاهوتي الذي لعب دورًا حاسمًا في تطوُّر البروتستانتية الحديثة، وأوضحَ لاهوتُه السببَ في أن اللغة أصبحَتْ محورية جدًّا لتفكيره. وما أوضحه كانط عن كون البراهين الرئيسية لوجود الإله غير صحيحة، كان يعني أنه على علم اللاهوت أن يُعِيد بناءَ نفسه على نحوٍ لا يعتمد على البرهان الفلسفي. أما شلايرماخر، فيؤسِّس لاهوته على ما يسمِّيه «شعورًا بالافتقار المطلق» للذات؛ فهو يرى الذات — على نهج كانط — قابلةً وتلقائيةً، لكن بالنسبة له لا يوجد فارق أساسي بين القابلية والتلقائية، فكلتاهما تشمل الذات والعالم بدرجات مختلفة. وبالنسبة لشلايرماخر، فإن الحقيقة المحضة في كوننا نفهم العالم ونفسِّره بطريقةٍ فاعلة على أية حال يتعذَّر تفسيرها بمصطلحات فلسفية. ورغم أننا يمكننا توجيه فاعليتنا العقلية والفلسفية، فإننا لسنا مصدرَ كوننا فاعلين، فهذا ممنوح كجزء من طبيعتنا، وعلينا أن نستجيب لهذا الافتقار بطرق غير معرفية؛ لأن معرفتنا تعتمد على هذه الفاعلية أيضًا، والشعور بأن فاعليتنا ترتبط بفاعلية سائر الكون الحي هي ما يقود إلى الدين. فالشعور بالإله إذن قائم على هذا الشعور بالارتباط بكُلٍ أكبر ليس في نطاق قدرتنا.

تنطوي اللغة أيضًا على القابلية والتلقائية، وهي تستلزم نوعًا آخَر من اعتماد الذات على شيء لا تُنشِئه. وتنطوي الطبيعة الاجتماعية المتأصلة للُّغة على شعور باعتماد الذات على «الآخَر»، بل أيضًا شعور بالترابط البشري الذي يأخذ الذات إلى ما وراء نفسها. إن تركيز شلايرماخر على اللغة يقوده في نصوصه عن الهرمينوطيقا من عام ١٨٠٥ فصاعدًا إلى تأمُّلات مؤثِّرة في مشكلات التأويل. وهو يؤسِّس هذه التأملات على الصراع بين اللغة كشيء سابق الوجود في المجتمع، وكشيء يمكن للذوات الفردية استخدامه للتعبير عن فرديتها؛ والهدف هو فهم العلاقة بين هذين الجانبين في النص أو القول المراد تأويله. ولا يمكن أبدًا تحقيق هذه المهمة بطريقة حاسمة؛ لأن المرء لا يمكنه أبدًا الوصول إلى جميع سياقات القول، ولا كل الدوافع له. ومن ثَمَّ، يوضِّح شلايرماخر أن التأويل محدود بالضرورة، وهو ممارسة لا يمكن أن تكون لها قواعد حاسمة.

ويقوده هذا الموقف إلى أفكار مُتبصِّرة تشير إلى السبب في أن مناهج اللغة التي كانت الأساس المبدئي للفلسفة التحليلية كانت مخطئةً (انظر الفصل السابع). فقد فرَّقَ كانط بين الأحكام «التحليلية» التي هي صحيحة بفضل معاني الكلمات فيها، مثل: «الأعزب هو رجل غير متزوج»، والأحكام «التركيبية» التي تتطلب معرفةً بالعالم مثل: «فريد سميث أعزب.» وعلى أساس هذه التفرقة، حاوَلَ فلاسفة مثل جوتلوب فريجه وبرتراند راسل في مطلع القرن العشرين وَضْعَ أُسُس منطقية لفهم اللغة تكون مستقِلَّةً عن الحقائق الممكنة عن العالم المستمَدَّة من التجربة. وكُرِّس كثيرٌ من الجهد الذي تلا ذلك لمحاولة إنجاح هذا المشروع؛ ففي خمسينيات القرن العشرين، رأى الفيلسوف الأمريكي «دبليو في أوه كواين» أن هذه التفرقة لا يمكن الدفاع عنها؛ لأن فهمنا لأية عبارة يمكن تعديله في ضوء عبارات صحيحة أخرى، حيث لا توجد كلمات يمكن أن يقال إنها مترادفة تمامًا. وهذه الرؤية تعكس الشمولية التي رأيناها لدى هيردر وهامان، وفي حال قبولها فإنها تؤذن بنهاية مشروع الفلسفة القائمة على تحليل التصورات التأسيسية. والحقيقة المثيرة للاهتمام أن شلايرماخر قد أوضح هذه الفكرة جيدًا حتى قبل أن توجد «الفلسفة التحليلية»؛ ففي كتابه «الجدل» الذي نُشِرَ بعد وفاته يقول:

إن الفارق بين الأحكام التحليلية والتركيبية مائع لا نتحصَّل منه على قيمة … وهذا الفارق … يعبِّر فقط عن حالة مختلفة من صياغة المفاهيم.

وما يُعَدُّ تحليليًّا لن يُعَدَّ كذلك في سياقاتٍ أخرى؛ حيث لا توجد مفاهيم تأسيسية راسخة خارج الشبكة المتغيرة للُّغة. وبالنظر إلى تاريخ مقاربات الفلسفة الألمانية في اللغة بعد كانط، يمكن الاستدلال على مقدار ما تمَّ تجاهُلُه في تناول اللغة في الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ويتعلق السبب في تجاهل المقاربات الألمانية بالرغبة التحليلية للفلسفة في منافسة العلوم الطبيعية بشدة، وسيكون موضوع الفصول التالية هو بيان إن كان هذا هو المسار الأفضل للفلسفة أم لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤