الفصل التاسع

النظرية النقدية

الكلية

يوضِّح الانهيار الاقتصادي ٢٠٠٨-٢٠٠٩ على نحو بارز قضية أساسية في النظرية الماركسية في القرن العشرين، وهي قضية محورية فيما يُعرَف باسم «النظرية النقدية»؛ فقد أوضح الانهيار أنه كان بإمكان الأفراد أو الجماعات أن تعتبر أفعالها مبرَّرة وعقلانية تمامًا، في حين أن النتائج الجَمْعية الفعلية لأفعالها كانت كارثيةً. ولم يستغرق الأمر كثيرًا للشك في أن فكرة شراء المزيد والمزيد من الدَّين ربما تصطدم في نقطةٍ ما بالحاجة إلى أن يكون للائتمان (وبالطبع «للاعتقاد» بصحته) أساس من الأصول الملموسة، فلماذا أدرَكَ القليل جدًّا من الناس ما كان يحدث؟ وكانت الحرب العالمية الأولى وما أعقبها هي الحدث المماثل الذي كان حاسمًا في نشوء النظرية النقدية؛ فقد لاقت الحرب في البداية ترحيبًا من بعض المفكرين، أمثال عالم الاجتماع والفيلسوف صاحب الموهبة الفذة جورج سيمل (١٨٥٨–١٩١٨)، وغيره كثير، باعتبارها مخرجًا مستحسَنًا من المجتمع المتفسخ حسب ما يُسمَّى، لكنها أنتجت أهوال الخنادق والانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المصاحب.

وقد رأينا في الفصل الثامن كيف كان هايدجر متأثرًا في «الوجود والزمن» بالطريقة التي جعل بها الواقع التاريخي كثيرًا من المقاربات الأكاديمية للفلسفة تبدو إسهابًا لا طائل منه. ومن المرجح أن هايدجر كان على معرفة بكتاب «التاريخ والوعي الطبقي» (١٩٢٣) للفيلسوف المجري جورج لوكاتش (١٨٨٥–١٩٧١)؛ ففي هذا الكتاب، عالَجَ لوكاتش الفجوة بين الكيفية التي يفكِّر بها الناس في الواقع وما كان يحدث حقًّا للأزمات الإبستمولوجية للعلاقة بين الذات والموضوع، وسعى لوكاتش إلى فهم الكيفية التي تؤدِّي بها الرأسمالية الحديثة نفسها إلى انفصام الذات/الموضوع، وذلك من خلال دمجه بين جوانب التساؤل لدى هيجل عن ثنائية الذات والموضوع ونظرية السلعة لدى ماركس.

ويفترض أنه من الواضح بالفعل — كما هو الأمر بالنسبة لهايدجر — أن نوع المشكلة التشكُّكية المتعلِّقة بواقع «العالم الخارجي»، المألوفة من ديكارت والتي لا تزال تُدرَّس في فصول الفلسفة اليوم، ليس بالأساس موضع النقاش هنا؛ فلماذا إذن يربط لوكاتش ما يقوم به بالموروث الإبستمولوجي بالأساس؟ (يَعتبر الكتَّاب كلًّا من كانط والمثالية الألمانية أساسًا لاهتماماته.) وبألفاظ لوكاتش، فالسؤال المهم هو: لماذا يظهر الاهتمام الحديث بالشكوكية مع الرأسمالية الناشئة؟ ويتمثَّل الاعتراض الأساسي هنا في أن المرء يخاطر باختزال القضية الفلسفية في العوامل التاريخية في نشأتها، لكن التغيُّر في العلاقات الاجتماعية المرتبطة بظهور التفردية الحديثة والأفكار الجديدة عن الاستقلال البشري يجعل علاقة الناس بالعالم والآخَرين أكثر تعقيدًا والتواءً على نحوٍ واضحٍ؛ لأنها تعتمد بدرجة أقل على السلطة المتلقاة كإطار مستقر للحكم. فمثلًا، تهتم مسرحيات شكسبير في الغالب بشبهات المتشكِّكين التي تقود الناس إلى كارثة، حيث تتلاشى ثقتهم في العالم والآخَرين. وفي ضوء حقيقة أن المشكلات المتعلقة بموثوقية المعرفة لم تصبح مرتبطةً على نطاق واسع بالأسئلة الناشئة فيما يتعلَّق بالوعي الذاتي إلا في القرن السابع عشر، فإنه يتضح — كما سيذكر المنظِّرون النقديون — عدم إمكانية الفصل بين التاريخ والفلسفة بدقة.

إنَّ المصطلحات الرئيسية الفاصلة في هذا السياق في نشأة النظرية النقدية هي «التشيُّؤ»؛ أي تحويل العلاقات بين البشر إلى علاقات بين الأشياء، وفكرة «الكلية». وبالنسبة للوكاتش، فإن الحلَّ لكيفية تجنُّب حدث مثل الحرب في المستقبل هو تجاوز الموقف الذي تُنتِج فيه أفعالُ الناس الفردية شيئًا لا سبيل لهم إلى فهمه. وتتمثل فكرته — على غرار ما ذهب إليه ماركس — في أن الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية مهَّدَ السبيل إلى اندماج ما كان سابقًا جوانب غير متصلة من الحياة الاجتماعية والسياسية في كلية واحدة، ويحدث هذا الأمر من خلال هيكل السلعة الذي من المحتمل أن يحيل — كما رأينا في الفصل السادس — جميع الأشياء إلى قِيَم تبادلية متطابقة. وتؤدي الكلية محلَّ النقاش هنا إلى التشيُّؤ، الأمر الذي يجعل الناس لا يستوعبون أثر ما يفعلون على مَنْ سواهم من البشر. ويرى لوكاتش أن مفتاح فهم الكلية هو البروليتاريا (الطبقة العاملة)، وهي الطبقة التي لديها أقل سبب للانخداع بالنظام الذي تعيش فيه نظرًا لما تعانيه من حرمان. وعن طريق الانخراط في الممارسة الثورية، يكون لدى البروليتاريا القدرة على التغلُّب على الظروف التي تضرُّ بالجوانب النوعية لعلاقاتها بالعالم، ومن ثَمَّ إيجاد ظروف أكثر إنسانيةً، ولكن في ضوء ما أعقب ذلك من أحداث تاريخية لاحقة، يتضح أنه ربما لا يوجد حلٌّ سهل للمعضلات التي يسعى لوكاتش إلى حلِّها، على الرغم من حقيقة ما قاله بأن البروليتاريا تحتاج إلى مساعدة الحزب الشيوعي كي تصل إلى قرارها في حل انفصام الذات/الموضوع.

إنقاذ الفكر الراديكالي

تطورت النظرية النقدية إزاء إخفاق نوع الاستجابة الثورية لكوارث الرأسمالية الحديثة الذي اقترحه لوكاتش، وقد سعى «معهد البحوث الاجتماعية» الذي أسَّسه رجل الأعمال الماركسي فيلكس فايل في فرانكفورت عام ١٩٢٣ في ذروة الأزمة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب، والذي غالبًا ما يُسمَّى «مدرسة فرانكفورت»؛ إلى تشجيع البحث الاجتماعي الراديكالي. ومع ما أحدثته التطورات في الاتحاد السوفيتي وظهور النازية من هدمٍ للآمال في تغيير ثوري، أصبحت الحاجة أكثر إلحاحًا للإبقاء على جذوة الأفكار التقدُّمية مشتعلةً، وإن كانت أكثر صعوبةً. وتبنَّى تيودور أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩) وماكس هوكايمر (١٨٩٥–١٩٧٣) — وهما أهم ممثلي هذه المدرسة الفلسفية — كثيرًا من التحليل المأخوذ من وصف لوكاتش للسلعة والتشيُّؤ حول الكيفية التي تؤثِّر بها الرأسمالية على طبيعة الفكر الإنساني، ولكنهما اضطُرَّا — على الرغم من ذلك — إلى إيجاد طرق لتفسير السبب في احتمال أن تزيد المحاولاتُ الراديكالية للتحول السياسي الأشياءَ سوءًا. ولفعل هذا، فقد تبنَّيَا أفكارًا من فرويد لتفسير قابلية الناس للتأثُّر بالشمولية، ومن ماكس فيبر لفهم الآلية التي يعمل بها العالم الحديث من منظور عقلنة الممارسات التقليدية في أشكال بيروقراطية وتكنولوجية معيارية، ومن نيتشه لنقد قصور الفلسفة التقليدية. ويتمثَّل الأثر الرئيسي الآخَر على أدورنو — حيث كان هوكايمر أقرب إلى التشكُّكية — في عمل صديقه فالتر بنيامين (١٨٩٢–١٩٤٠).

يُعَدُّ عمل بنيامين من الأعمال التي يستعصي تلخيصها مقارنةً بعمل أية شخصية أخرى قابلناها حتى الآن، فعمله يعتمد — من بين مصادر كثيرة أخرى — على أفكار من هامان والفلسفة الرومانسية المبكرة والصوفية اليهودية والماركسية، وهو غزير العلم على نحوٍ مُبْهِرٍ. وقد شكَّل عملَه موضوعان رئيسيان متصلان: طبيعة اللغة في الحداثة ومشكلة الوقتية الحديثة؛ فلديه شعور راديكالي بكلٍّ من اعتباطية اللغة في العالم الحديث وعَرضية الوجود الحديث، ولكنه في الوقت نفسه كان يبحث عمَّا يمكنه تخليصُ كلٍّ من اللغة والزمن. وفي مستهلِّ عمله وحتى تبنِّيه لعناصر ماركسية لوكاتش وبريشت وغيرهما في نهاية عشرينيات القرن العشرين، تمثَّل أمله في إيجاد طريقة للتوافق مع «التحرر من الأوهام» الذي يراه ماكس فيبر جوهر الحداثة. وسيحدث هذا من خلال مقاربة للغة تستعيد قدرتها على الاتصال بالحقيقة الجزئية للأشياء (والتي يفكِّر فيها بنيامين بلغة لاهوتية متروكة). ويتردد صدى أفكاره في جوانب من كُتَّاب مثل هوفمانستال وريلكه، وفي رؤية هايدجر في أخرياته للغة الشعر على أنها تسمح لأشياء جزئية أن توجد في حقيقتها، بدلًا من تصنيفها كأمثلة لتصوُّرات عامة.

fig9
شكل ٩-١: تيودور أدورنو، عام ١٩٦٠.1

أدى الربط الذي أقامه بنيامين بين نظام السلعة وما فسَّره هو — في «أصل مسرحية الحداد الألمانية» (١٩٢٨) — على أنه «سقوط» اللغة في الحداثة إلى إمكانية انتقاله من رؤيته السابقة للغة إلى رؤية تغذِّيها الماركسية. فاللغة في العالم الحديث ليست لها أية علاقة جوهرية بالأشياء التي تدل عليها، تمامًا كما تجرد القيمة التبادلية من الخصوصية الفريدة للأشياء. وفي عمله في ثلاثينيات القرن العشرين عن شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي شارل بودلير، يقول بنيامين: إن «الخفض المميِّز لقيمة عالم الأشياء الموجود في السلعة هو أساس القَصْد المجازي لدى بودلير.» فالمجاز هو التجسيد الحديث لانسحاب اللغة بعيدًا عن العالم، وهو ينعكس في الطريقة التي يخلق بها عالم السلع «سلسلة الأوهام» — يرى بنيامين هذا متمثلًا في الأروقة التجارية المبنية في باريس في القرن التاسع عشر — التي تخفي الواقع الوحشي المؤسِّس لذلك العالم. وربما يكون حكمه متطرفًا، لكن التطور اللاحق لعالم السلع، الذي يعتمد على إيجاد طلبٍ دائمِ التجدُّد عن طريق ربط صور خيالية بأبسط الموضوعات المُنتَجة في ظروف غير إنسانية غالبًا، لم يفعل سوى القليل لدمغ ما ذهب إليه بنيامين في انتقاداته.

fig10
شكل ٩-٢: قرَّاء يختارون الكتب التي لا تزال سليمة بين الأخشاب المحترقة لمكتبة هولاند هاوس بلندن عام ١٩٤٠.2

ينطوي اهتمام بنيامين بالزمن والتاريخ على استبيان الكيفية التي ربما لا يكون بها الماضي مجرد سلة مهملات يُفقَد فيها كل شيء ويصبح بلا معنًى. وتظهر أفكاره عن هذا الصدد على نحوٍ مركَّزٍ في كتابه الأخير عن مفهوم التاريخ (١٩٣٩)، والكتاب متأثِّر بمحاولات فرويد العلاجية لتمكين ضحايا الأحداث الصادمة من تخليص الماضي الذي يدمِّر قدراتهم على العيش في الحاضر. لكن بنيامين يرغب في نقل نموذجه من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة المضطهدة؛ فالتأريخ التقليدي بالنسبة لبنيامين هو تاريخ المنتصرين، الأمر الذي يمكنه فقط تعزيز عبثية الماضي للضحايا. ولا يستطيع المرء أن يلمح كيف يمكن لجوانب الماضي تخليص الحاضر إلا عن طريق مقارَبة مختلفة للزمن التاريخي تتبنَّى أشكالًا جديدة لعرض التاريخ، كالمونتاج الذي يتم لمادة تاريخية تبدو متفاوتة وتافهة، من النوع الذي جمعه بنيامين في مشروعه عن أروقة باريس. إن التاريخ — كما يؤكِّد بنيامين — هو كارثة متراكمة، نوع من الكابوس لا يفيق منه الجنس البشري إلا بتغيُّر علاقته بالظلم والاضطهاد الماضيين، وبتغيير طبيعة المجتمع على نحو جذري. ويقوده هذا الموقف إلى نبذ أي شعور خطي بالتطور التاريخي باعتباره يضيف إلى الكارثة، الأمر الذي لا يمكن تأويله إلا عن طريق فهم بدائل مكبوتة من الماضي وربطها بصراعات ثورية في الحاضر. ويُعَدُّ هذا البحث اليائس عن مصادر أمل جديدة مفهومًا تمامًا في ضوء الأوقات الكئيبة التي يُكتب فيها، لكن الاعتماد على فكرة التحول الثوري الشامل للتاريخ يميل في ظروف أخرى إلى حجب طرق أكثر اعتدالًا، يمكن بها تحقيق التقدُّم الاجتماعي رغم كل شيء. وأوضح الموت التراجيدي لبنيامين، أثناء هروبه من النازيين، أنه لم يستطع قطُّ أن يصل إلى نقطة تطوير استراتيجية سياسية قابلة للتنفيذ استنادًا إلى أفكاره.

جدلية التنوير والجدلية السلبية

مات بنيامين قبل أن تنتهي الكارثة التاريخية الأسوأ في أوروبا، وحمل أدورنو وهوكايمر عبء محاولة إنتاج ردود فلسفية للشمولية والحرب العالمية الثانية والهولوكوست. فقبيل انتهاء الحرب، في المنفى بالولايات المتحدة، كتَبَ الاثنان «جدلية التنوير» المنشور عام ١٩٤٧، وكانت المهمة التي نصَّبَا أنفسهما لها هي «مجرد اكتشاف السبب في انغماس الجنس البشري في نوع جديد من البربرية بدلًا من الدخول في حالة إنسانية حقيقية». وأيًّا ما كانت أخطاؤه، فالموروث الفلسفي — من كانط وهيجل إلى نيتشه — الذي أدَّى إلى النظرية النقدية قد جعل تلك الأسئلة هي المهمة الجوهرية للفلسفة الحديثة، بدلًا من الأسئلة الفنية المحدودة لكثير من الموروث التحليلي.

من أفكار بنيامين الرئيسية أن الثقافة والبربرية تسيران معًا، وأن أحدث التطورات التكنولوجية يمكن بالفعل أن تكون مظهرًا من مظاهر «التاريخ البدائي»، فالسؤال هو: كيف تُستخدَم تلك الأفكار فيما يتعلق بالأحداث الحقيقية؟ وإحدى المعضلات في التعامل مع أسوأ كوارث التاريخ الحديث هي أن الأساليب المعروفة للتفسير الأخلاقي أو الاجتماعي تبدو ببساطة غير ملائمة. وعلى الرغم من مخاطر التقليل من مدى ما كان عليه الإنسان من سوءٍ، تشير عبارة حنا آرنت المثيرة للجدل عن «تفاهة الشر» فيما يتعلَّق بأودولف آيشمان، إلى أن الإدانة الأخلاقية المبرَّرة للإنسان لا تستقصي الأحداث التي وقعت من خلال أفعاله؛ فالظروف التي مكَّنت من الإبادة الجماعية النازية تتضمن كثيرًا من العناصر، كالقواعد البيروقراطية أو الأمور التكنولوجية كأنظمة النقل، التي يمكن أن تبدو محايِدة أخلاقيًّا للمنخرطين فيها. ويحاول كتاب «جدلية التنوير» أن يبيِّن أن «التنوير» — الذي هو مصدر القوة التكنولوجية والتنظيمية التي مكَّنت الجنس البشري من السيطرة على جانب كبير جدًّا من العالم الاجتماعي والطبيعي — يتحول بطبيعة الحال إلى ضده؛ أي الميثولوجيا. فالتنوير — الذي لا يمثِّل من ثَمَّ مجرد الظاهرة التاريخية الخاصة التي بدأت من القرن السابع عشر أو الثامن عشر؛ بل عنصرًا ضروريًّا للثقافة البشرية كلها — هو محاولة الجنس البشري للتغلُّب على التهديد الذي تفرضه الطبيعة للحفاظ على نفسها؛ ومن ثَمَّ فهو ضرورة لا محيد عنها، وهو أيضًا مصدر تهديدات أعظم لهدف الحفاظ على النفس. وتمثِّل هذه الحالةُ الجدلية للتنوير التناقضَ الفلسفي الذي يتصدى له الكتاب؛ إذ يكشف كيفية استخدام المرء العقل لتقييم حقيقة أن العقل يمكن أن يكون مصدر الاضطهادات التي يحاول المرء التغلب عليها. وفي نواحٍ معينة، يردِّد الكتاب وصف هايدجر للحداثة على أنها إضفاء طابع الذاتية على الوجود، عندما يتكلم عن «إخضاع كل شيء طبيعي للذات المتغطرسة». ولكن لا يبدو هذا الحكم الفلسفي ملائمًا للتعقيد الذي عليه القضايا التاريخية.

fig11
شكل ٩-٣: ألبرت شبير ونموذج مجسَّم لمدينة برلين.3

ينظر كتاب «جدلية التنوير» وعمل أدورنو اللاحق إلى العالم الحديث، في ضوء إخفاق زيادة المعرفة وسيطرة التكنولوجيا في تقليل تهديد البربرية، على أنه «سياق عالمي من الخداع». وهذا يطرح السؤال: كيف لهذا الوصف نفسه — إذا كان الخداع عالميًّا — ألَّا يكون هو نفسه مضللًا؟ ولا يسعى أدورنو إلى تجنُّب هذا التناقض: على الأرجح يمكن لليقينِ بأنَّ تحليلَ المرءِ الفلسفي ليس مضللًا أن يؤدي إلى الخداع. وتتمثل الفكرة الرئيسية في وجوب التشكيك في التحليل الفلسفي نفسه؛ لأنه يمكن ربط التصوير المجرد بآثار تجريد هيكل السلعة من الواقع المحدد للأشياء، ويعني هذا أن كل ما يستطيع المرء فعلَه هو الانخراط في تحليل نقدي خاص لنطاقات مهمة من المجتمع والثقافة.

إن المهم بالنسبة إلى أدورنو هو إبراز مدى تناقض الخبرة الحديثة، وتأملاتُه عن كيفية فهم الحرية في محاضراته في الفترة ١٩٦٤-١٩٦٥ عن التاريخ والحرية تمثِّل بأفضل حال هذا النهجَ. والهدف ليس الخروج بحكم فلسفي بين الإرادة الحرة والحتمية؛ بل بيان السبب في أن قضية الحرية لا يمكن اختزالها في إجابة لسؤال فلسفي بنعم/لا. لكن هذا الموقف النقدي الذاتي، الذي أسماه أدورنو «الجدلية السلبية» (ونشر عنه كتابًا عام ١٩٦٦) — لأنه على النقيض من جدلية هيجل لا يقدِّم حكمًا نهائيًّا — لا يمكن إقراره دومًا على نحوٍ ثابتٍ. فعلى سبيل المثال، يبحث كتاب «جدلية التنوير» في تحليله المميز لكتاب «صناعة الثقافة»، الذي يحمل العنوان الفرعي «التنوير كخداع للجماهير»، في الكيفية التي يمكن بها أن يكون الإبداع في الفنون مخنوقًا بضغوط السوق. وفيما يخص القدر الكبير من الثقافة الحديثة التي أُنتِجت من أجل أن تُروَّج بكميات كبيرة قدر الإمكان، فإن التحليل على الأرجح أكثر صلاحيةً الآن عمَّا كان عليه عندما كُتِبَ، لكنَّ دعوى أن تلك «الثقافة الجماهيرية» خدَّاعة بطبيعتها تحتاج إلى أن يدعمها بحث تجريبي مفصَّل. وعندما تُطبَّق الفكرة على موسيقى الجاز، مثلًا، فإنها تكون مخطئةً بوضوحٍ، فلا جدال في أن موسيقى الجاز — مثلها مثل أشكال الفن الحديث الأخرى — دمَّرَتْها في الغالب الاعتباراتُ التجارية، لكن قدرتها على مناهضة العادات الثقافية السائدة لا تزال غير منقوصة حتى اليوم.

يبدو أن أدورنو نفسه قد وقع في جوانب معينة فريسةً لفكرة الكلية التي يراها مصدرًا لكثير من أمراض الحداثة. وتتضح بذلك أهمية الهدف من فهم الكيفية التي تكون بها الهياكلُ الأساسية للحياة الحديثة — التي تقلِّل من خصوصية الأشياء والأشخاص من أجل إحكام السيطرة عليهما — مصدرَ كلٍّ من الخدمات العامة المقدَّمة بسلاسة وإمكانية القتل الجماعي الفعَّال في معسكرات الإبادة. ولكن يمكن فقدان الكثير جدًّا عندما يُختزَل هذا النهج في فكرة أن العالم يهيمن عليه «تفكير الهوية» الذي له جذوره في تعادلاتٍ أوجدها هيكل السلعة. ويُعَدُّ موقفه المتطرف فيما يتعلَّق بأسئلة الهوية هو ما قاد أدورنو إلى تضخيمه اللامعقول للأهمية الفلسفية لأنواع معينة من الفن الحديث. وتوضِّح أفضلُ تأملات أدورنو في «نظرية علم الجمال» (١٩٧٠) مدى الأهمية التي تمثِّلها مقاومة الفن للاختزال في شيءٍ يمكن أن يكون معروفًا بطريقةٍ قاطعةٍ بالنسبة للفلسفة الحديثة. وفي الوقت نفسه، فإن إصراره على أن الحداثة الراديكالية وحدها التي أوجزها له شونبرج وبيكيت وكافكا تتجنَّب شراك صناعة الثقافة وتخبر الحقيقة عن الحداثة؛ يمكن أن يكون مختزلًا تمامًا كالذي يعارِضه.

اللغة والعقلانية

أتاحت «المعجزة الاقتصادية» التي أدركت أن ألمانيا الغربية تتعافى من الدمار الأخلاقي والسياسي والاقتصادي أثناء خمسينيات القرن العشرين قدرًا كبيرًا من كَبْت الماضي، وحتى الانتقادات التي وجَّهتها الحركة الطلابية قُبَيْل نهاية ستينيات القرن العشرين لأوجه الترابط بين فترة النازية والجمهورية الفيدرالية، لم يَكُنْ الإصرار العنيد لأدورنو على الحاجة للمصالَحَة مع الماضي النازي هو القاعدة بأية حال. ومع ذلك، بدا أن الموقف الفلسفي المتصلب لأدورنو لم يفرد مساحة كافية لكيفية التفكير بطريقة ملموسة في الإصلاحات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عالم غير مهدَّد بكارثة وشيكة؛ ولذلك سعى تلميذه يورجن هابرماس (المولود عام ١٩٢٩)، وهو الفيلسوف الألماني والمنظِّر الاجتماعي الأعظم أثرًا بعد الحرب، إلى وضع تصوُّر أكثر إيجابيةً عن العقلانية مما تتيحه فيما يبدو افتراضات «جدلية التنوير». وكانت دعواه أن كتاب «جدلية التنوير» يتناول تصوُّرًا تُرَى فيه العقلانية على أنها شيء ذرائعي بحت، الأمر الذي يستبعد أساسها التواصُلي. وفي حقيقة الأمر، يريد هابرماس أن يبيِّن أن تصوُّر نيتشه للعقلانية — بناءً على دافع الذات للهيمنة على الموضوع — لا مجال فيه لحقيقة أن التواصُل بين الأشخاص يمكن أن ينطوي على نكران القوة، عندما تصطدم ذات ﺑ «قوة الحجة الفضلى التي تفرض نفسها من دون إكراه»، والتي يسوقها المحاور.

fig12
شكل ٩-٤: يورجن هابرماس وجوزيف راتزينجر، يناير ٢٠٠٤.4

يحاول هابرماس أن يستعين بفهم جديد ﻟ «الفعل التواصلي» لإعطاء الفلسفة دورًا في محركات المجتمعات الديمقراطية. وللقيام بهذا، فإنه يتبنَّى — على الرغم من انشغاله بالفلسفة التحليلية — جوانب من البراجماتية الأمريكية، التي لا تستهدف وصف طبيعة تمثيل الفكر للواقع، بل وصف الفعل البشري كطريقةٍ أساسية للاتصال بالعالم، ويستعرض ما يسميه «براجماتية متعالية» سيرًا على منوال زميله كارل أوتو أبل (المولود عام ١٩٢٢)؛ ﻓ «شروط الإمكان» البراجماتية ليسَتْ أشكالًا للفكر، بل هي «هياكل للخبرة والفعل». وتُطرَح الحجج بشأن صحة جميع أنواع الخبرة والفعل، المعرفية والأخلاقية والجمالية، في الحياة الاجتماعية من خلال هذه الهياكل، ودونها لا تتضح الكيفية التي قد تنشأ بها نزاعات بشأن صحة تلك الأنواع إطلاقًا. فالهياكل لا تعطي أولوية للعلوم الطبيعية؛ لأنه فيما عدا التواصُل بشأن الموضوعات لا يوجد شكل مميَّز من أشكال الوصول إلى موضوعات المعرفة العلمية التي يمكن إثبات صحتها؛ ومن ثَمَّ فإن عملية النقاش المجتمعية هي العامل الفاصل في جميع دعاوى الصحة.

وكان من بين مَنْ أثَّروا بصورة أساسية على هابرماس هانز جورج جادامر، تلميذ هايدجر الذي استهدف في كتابه «الحقيقة والمنهج» (١٩٦٠) «البحث عن خبرة الحقيقة التي تتجاوز عالم سيطرة المنهج العلمي … واستجوابها فيما يتعلق بشرعنتها.» وانطوى هذا الرأي على توسيعٍ لرؤية هايدجر للهيرمونيطيقا، التي يكون فيها طريقنا الرئيسي للوجود تفسيريًّا، لا معرفيًّا. ويعتقد جادامر أن على المرء إحياءَ فكرة «الحكم المسبق»؛ لأنه دون «الأحكام المسبقة» — التي تمثِّلها كلٌّ من اللغة وجميع الطرق التي نتأثَّر فيها دومًا دون وعي بالعالم ونتعامل معه — ما كنَّا لنتمكَّن من الوصول إلى مستوى التأمل المموضع في العلوم. وعلى نهج الموروث الرومانسي وآراء هايدجر الأخيرة، يعطي جادامر للفن دورًا رئيسيًّا للتشكيك في هيمنة مناهج العلوم الطبيعية. فالعمل الفني ليس شيئًا تحدِّده التصورات، بل شيء «يحدث» من خلال استقباله في سياقات اجتماعية واقعية؛ «فالفهم ليس أبدًا علاقة ذاتية تجاه «موضوع» مُعطًى، بل ينتمي إلى التاريخ الفعلي، وهذا يعني: إلى وجود ما هو مفهوم.» ولأننا لا يمكننا أبدًا في النهاية الخروج عن «الموروثات» بالمعنى المتناقَل عبر الزمن — الذي نوجد فيه — يرى جادامر الهدف الميتافيزيقي لفكرة «الرؤية من لا مكان» على أنه وهم مشكوك فيه ويمكن أن تكون له توابع مدمِّرة على الثقافة. فالفكرة ليست أن المناهج العلمية خاطئة — فهو يرى أن العلوم تنطوي على ديناميكية لا تقبل التوقف ولا يمكن أن تُوقِفها الاعتراضات الفلسفية أو غيرها — لكن:

هذا لا يعني أن الناس ستتمكن من حل المشكلات التي تواجهنا — التعايش السلمي للشعوب والحفاظ على توازن الطبيعة — باستخدام العلم في حد ذاته؛ فمن الواضح أن أساس الحضارة الإنسانية هو الطبيعة اللغوية للناس وليست الرياضيات.

fig13
شكل ٩-٥: هانز جورج جادامر.5

يرفض جادامر الدعاوى الميتافيزيقية الوضعية باسم حتمية الحوار في التعامل مع قضايا الحقيقة والصحة، وفي ضوء مزاعم جادامر يتخلَّى هابرماس عن آماله المبدئية في نظريةٍ تبيِّن بصورة قاطعة كيف يمكن للقوة أن تشوِّهَ التواصُل وتؤدِّي إلى «وعي زائف»، فلا يمكننا أبدًا أن نتوصَّلَ إلى وجهة نظر موضوعية تمامًا عن الممارسات الثقافية وأشكال التواصل؛ لأننا دومًا واقعون داخل أحكام مسبقة لثقافةٍ ما، وهذا لا يعني أن ينكر المرء فكرةَ وضع نظرية نقدية لنسبية ضعيفة التمييز، لكن يجب أن تُوضَع النظرية الآن في صورة حوار «بعد ميتافيزيقي» بين الثقافات.

إن المشكلة الأساسية التي قادت هابرماس في عملٍ أحدثَ إلى الاهتمام بالقانون الدولي هي الكيفية التي نصل بها — في عالم عالمي الطابع — إلى معايير قانونية عالمية وغيرها، بينما نوفي المعايير الثقافية الموضوعة محليًّا حقَّها. فهو يبحث مبدئيًّا عن كليات في أشكال التواصُل، كما أوحت فكرته عن «موقف الخطاب المثالي». وتنطوي حقيقة الجدل القائم حول الصحة على «غائية الاتفاق»، وإلا فستكون مجرد ممارسة للقوة على المحاور. وعلى الرغم من أن التواصُل الحقيقي دائمًا ما ينطوي على بعض الممارسة الاستراتيجية للقوة، توحي فكرة سماح المرء لنفسه بالاقتناع بالحجة الفضلى بأنه يمكننا تخيُّل شروط مثالية للتواصُل. ولكن هابرماس ينأى بنفسه عن هذه الفكرة لأنها في جوهرها مجردة، فلا يمكن للمرء أبدًا معرفة إن كان منخرطًا في الشروط المثالية للتواصل أم لا؛ لأن هذه المعرفة تتطلب — كما تضمَّنت حجج جادامر — موضعًا خارج الممارسة الواقعية للتواصُل. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يعزف عن محاولة الإبقاء على تصوُّرٍ قوي للعقلانية قائم على أشكال الصحة المتأصلة في التواصل اليومي في عالم الحياة.

والسؤال هو: ما الدور الذي ينبغي للفلسفة أن تلعبه، بالنظر إلى ما افترضه هابرماس من ضرورة التخلِّي عن الأهداف الميتافيزيقية الأكثر تأكيدًا للفلسفة الحديثة في ضوء الإخفاقات الماضية؟ فهو يقترح — متبنِّيًا تقسيم كانط لمجالات العلم الحديثة والقانون والأخلاق والفن — أن الفلسفة الآن ربما «تساعد على الأقل في إطلاق العِنان مرةً أخرى للتفاعل المجمد بين المعرفي-الذرائعي والأخلاقي-العملي والجمالي-التعبيري، الأمر الذي يشبه الهاتف المحمول الذي أصبح معقدًا بدرجة مستعصية.» وقد أُخضِع كل جانب من تصور هابرماس لنقد فلسفي مبرَّر غالبًا، لكن صمود رؤيته يكمن في ملاءمة ردِّها الديمقراطي على كوابيس الماضي الألماني. وعلى الرغم من كل الأخطاء التي وقعت فيها ألمانيا، فهي الآن إحدى الديمقراطيات الأكثر انفتاحًا في العالم، وكان لهابرماس الإسهام الأساسي في إمكانية حدوث ذلك.

التنازع بشأن التراث الفلسفي

انطوى المشهد الفلسفي الألماني بعد الحرب على نماذج لجميع الاتجاهات في الفلسفة التي تناولناها في الفصول السابقة. ويستند التأكيد هنا على النظرية النقدية وهيرمونيطيقا جادامر إلى حقيقة أن النقاشات التي أثارتاها كانت مهمة للغاية بالنسبة لقضايا اجتماعية وسياسية أوسع في العالم الحديث. وقد كان على الفلاسفة الألمان عمومًا أن يواجهوا صراعًا بين توسيع الموروث وتقييمه نقديًّا من كانط فصاعدًا، ومعرفة الكيفية التي يمكن بها استخدام الفلسفة لمعالجة أمور اجتماعية وسياسية مُلِحَّة. فالأولى لديها نزعة لأن تؤدي إلى اهتمام سكولاستي بتفاصيل النصوص التاريخية، والثانية تُواجَه دومًا بأحداث عارضة متضمَّنة في التعامل مع وقائع اجتماعية وتاريخية معقَّدَة. وعلى نحوٍ غريبٍ إلى حدٍّ ما، لم تشهد الفترة السابقة على التغيرات الكبرى عام ١٩٨٩ واللاحقة لها ردودًا كثيرة من جانب الفلاسفة الألمان.

وباستثناء الشخصيات الأكبر سنًّا المعروفة، أمثال هابرماس وديتر هنريش (المولود عام ١٩٢٧) — الذي يتميَّز بمزجه بين المعرفة المرموقة واهتمام الفلسفة بمعالجة القضايا المعاصرة الحيوية — مال الفلاسفة الألمان إلى الانسحاب من «الاندماج» السياسي. وعلاوة على ذلك، ففي اللحظة نفسها التي كان فيها كثير من الفلاسفة الروَّاد في الولايات المتحدة أمثال: ريتشارد رورتي وجون ماكدول وروبرت براندوم، يقترحون أن الموروث التحليلي كان في حاجةٍ إلى موارد من كانط وهيجل وهايدجر، إذا كان عليه أن يأتي بردود جديدة على القضايا الفلسفية الرئيسية ويلعب دورًا أوسع في السياسات الثقافية؛ كان بعض الفلاسفة الألمان الأصغر سنًّا ينبذون الموروث الألماني بدعوى أنه نماذج ضيقة ومتخصِّصة غالبًا من الفلسفة التحليلية.

وكما أوضح الموروث الألماني مرارًا وتكرارًا، فإن فهم الحركات الفلسفية ليس بالضرورة أمرًا داخليًّا محضًا في الفلسفة؛ فالحالة التي حدثت من فقدان التوجُّه السياسي والاجتماعي في ألمانيا في أعقاب عام ١٩٨٩، وإدراك أن الرفاهية المتزايدة التي ارتبطت بنشأة التفكير الراديكالي من أواخر ستينيات القرن العشرين فصاعدًا ربما تكون أمرًا عَفَا عليه الزمنُ، كان له علاقة بانزواء كثيرٍ من الفلاسفة الألمان الأصغر سنًّا في التخصُّص، إلا أن ماهية هذه العلاقة لم تتضح بدقة بعدُ. وفي الوقت نفسه، يقدِّم الموروث الذي ينظرون إليه الآن بعين الريبة احتمالاتٍ قابلناها لدى شيلينج وهايدجر وأدورنو وهابرماس وآخَرين للرد على كثيرٍ من تحديات المستقبل العالمية. ولا يزال من الممكن الاستعانةُ بموارد الفلسفة الألمانية لتوضيح علاقة الجنس البشري بالبيئة الطبيعية، التي أصبح من الواضح جدًّا الآن أنها متناهية ومحدودة، وعلاقته أيضًا بالعالم الاجتماعي الذي يتواصَل بسرعة متزايدة بينما يولِّد مزيدًا من الصراعات فيما يخصُّ مضمونَ ذلك التواصُل.

هوامش

(1) © ullsteinbild/TopFoto.
(2) © Hulton Archive/Getty Images.
(3) © S. M./Süddeutsche Zeitung Photo.
(4) © 2009 KNA-Bild, all rights reserved.
(5) © Regina Schmeken/Süddeutsche Zeitung.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤