تمهيد

كلمة المؤلف

إنَّ تاريخ العظماء في كلِّ أمَّةٍ هو عنوان مجدها، ورمز حضارتها.

ولقد اهتمَّ المفكرون وذوو الرأي السديد في كلِّ أقطار العالم بتدوين سِيَر العظماء والأعلام الذين أفادت منهم الإنسانية، بما أدَّوه لها من جلائل الأعمال، مصوِّرين حياتهم، واصفين محاسن شمائلهم، ساردين مآثرهم؛ لتكون كالشهاب الثاقب، يستضيءُ بنورِهِ أبناء الأجيال الحاضرة والمُقبلة؛ لاكتسابِ المفاخر والمناقب التي تجعلُ منهم أبناءً بررة ورجالًا عاملين!

figure
المغفور له فقيد الشرق الأمير الجليل عمر طوسون.

والأمم برجالها، والرجال بأعمالها، وأصحابُ الهمم العالية والعزائم القويَّة هم أرباب الأعمالِ المجيدةِ، والآثار المفيدة! وهم بدورهم أبطالُ التَّاريخ، وجبابرة الشعوب!

وعُظَمَاءُ النَّاس في كلِّ جيلٍ وقبيلٍ، وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ، هم أولئك الذين تُفاخِرُ بهم الإنسانية على توالي الأعوام. فهم كالكواكِبِ السَّاطعة يُنيرون ظُلمة العالم، أو هم «كالملح» — كما يقول «نابليون بونابرت» — يُصلِحُون طعام الوجود!

فالنَّاظر في تاريخ العظماء — وما فيه من عظاتٍ وعبرٍ — يُدرِكُ أن عظمتهم، وما تركوه وراءهم من تراثٍ لا يفنى، إنَّما هو ميراثٌ للبشرية جمعاء، وأن الناس كلما استعادوا ذكراها، أو استفادوا بها، إنَّما هم يستنزلون وحي ما لهم من بطولة على الصدور، كأن الأحياء الدارجين على رُقعة الأرض يُقاسمونهم خلودهم، وهم بين الرمس وفي طيَّات الثرى!

وفي حياة كلِّ العظماء مادَّة لا تنفدُ ولا ينضبُ لها مَعين لكلِّ من يريد أن يتناولها بالعرض والتحليل، فالأعلام في الأمم هم الذين يتضاءَلُ الموت حيال أسمائهم، بل يظلون خالدين مذكورين على كلِّ لسانٍ! وتظلُّ أعمالهم منقوشة على صفحاتِ الصدور على الدوام، تستروح منها الدنيا أرجًا جميلًا يُلهم الأفكار السامية، ويحضُّ على عظائم الأمور والأعمال الحسان!

•••

ونودُّ الآن أن نطبق على فقيدِ مصر والسودان، والأقطار الشرقية على العموم؛ الأمير الجليل المغفور له ساكن الجنان «عمر طوسون» — طيب الله ثراه — هذه الآراء، فنذكُرُ أن حياته تكادُ تكون في مجموعها — جُملةً وتفصيلًا — صفحة حافلة رائعة، من خيرة الصفحات التي يزهو بها تاريخ مصر الحديث، مُزدانة بأنصع وأنفع السطور التي هي من مجد البطولة، ومن وحي الذكاء والفطنة، ناطقة كلها بالفضلِ العميم، والإيثار في سبيل المجموعة، والبذل والتضحية للخير العام!

وحسب تاريخ هذا الأمير الكريم فخرًا أن يجدَ فيه شباب الشرق وأبناءُ الأجيالِ النَّاشئة هداية يَسترشدُون بها إلى سبيلِ هذه الفضائل التي كانت تتجسَّمُ في شخصه العظيم. وحسب أعماله تخليدًا أن ينبعثَ منها النُّورُ الوهَّاجُ الذي يسطَعُ في عقولِ العاملين ليلهمهم معنى الجهاد في سبيلِ استكمال رقي البلاد، والكفاح للوصول إلى المثلِ الأعلى في تحقيقِ وسائل النجاح، بما يطبعون به حياتهم من حميدِ صفاته، وسامي تضحياته، وباهِرِ أعماله، وفاخر فعاله.

•••

وبعدُ، فهذا هو كتابه المجيد.

وهو تحيَّة العرفان لفضلِهِ العتيد الذي لا تُحيطُ به الأقلام!

تحيَّة التقديرِ الذي ينطقُ به وادِي النيل من منبعه إلى مصبه ومن مصر إلى شقيقها السودان!

وهو رمزُ البرِّ بذكراه العطرة، ودلالة الاعتراف بجميلِ صنيعه، الذي سوف يبقى مذكورًا مشكورًا، ما بقيت في الصدور مشاعر الإخلاص والوفاء، وفي النفوس أحاسيس المحبَّة وشعائِر الولاء!

وإنِّي إذ أنهضُ بأداءِ هذا الواجِبِ نحو الفقيدِ العظيمِ إنَّما أُؤدِّي له بعض ما طوَّقَ به عُنُقِي من حبٍّ خالصٍ مُتبادَلٍ، وودٍّ عالٍ مُشتركٍ، ورعايةٍ دائِمَةٍ، مُبتهلًا إلى الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، أن يتغمَّده بواسِعِ رحمته، ويعوِّض البلاد والشرق كله في فقده خيرًا، ويُلهم أنجاله الكرام أصحاب السمو الأمراء النبلاء، جميل الصبر وحسن العزاء.

قلِّيني فهمي باشا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤