الفصل العاشر

أفضاله على القطر الشقيق

نصير السودان

الأمير عمر طوسون يُعتبر من أحبِّ الشخصيات العظيمة إلى قلوب أهل القطر الشقيق (السودان)؛ فقد خصَّهَم سموه بالكثيرِ من عطفه، وقربهم إليه، واختصَّ السودان بالجانب الأكبر من جهاده إِنصافًا لقضيته، فهو والحقُّ يُقالُ: «نصير السودان»!

ولا يمكن أن يُذكر اسمه الكريم في أيِّ بُقعَةٍ من بقاع السودان إلَّا ويعرفه خاصَّتها وعامَّتها. فهو صاحب الفضل العظيم في توثيق الروابط الأخوية بينهم وبين إخوانهم أهل مصر. والمأثور عنه عندهم حبه لخيرهم، ورعايته السَّامية لهم، وتيسيره سُبُل التعليم لأبنائهم، بإدخالهم معاهد التعليم في مصر، إلى جانب نهوضه بنفقات معيشتهم، فضلًا عن إيفاد نوابغهم إلى الخارج لاستكمالِ دراساتهم العالية؛ رغبةً منه في أن يعودوا إلى بلادهم، فينفعوها بما اكتسبوه من معرفةٍ وخبرةٍ!

وكان الأمير عمر صاحب الفضل الأول في «بعثة مصر إلى السودان»؛ إذ كان أشد الوطنيين حماسة للعلاقات القائمة بين مصر والسودان، كما أنه في كلِّ مُؤلَّفَاته التي اختُصَّ فيها السودان بنصيبٍ كبيرٍ منها، إعلاءً لشأن الروابط الأخوية التي تجمعه بمصر؛ كان حريصًا على أن يُعلِن للعالم جميعًا قداسة هذه الروابط الطبيعية، التي لا يمكن ليدِ السياسة أو غيرها من الأيادي أن تفصمها؛ إيمانًا منه بأن الحوادث مهما تفاقمت أو تتابعت، فلن يكون لها إلَّا الأثر المُنتظر في تعزيزِ هذه الروابط وتنميتها، على عكس ما يظنُّ الآخرون!

مبراته لأهل السودان

وكان الأمير عمر كريم اليد مع كلِّ من يقصده من أهلِ السودان، يبذل في سبيل خيرهم ومُعاونة فقرائهم الكثير الجم من ماله، غير مُبتغٍ شكرًا أو ثناءً. ولقد عمل على تعمير الكثير من المساجد وبيوت الله في السودان، كما شيَّدَ على نفقته الخاصَّة مسجدين في «واو» و«الجوبا»، واشترَى لهما أرضًا للإنفاق على تعميرهما من ريعها، ولم يدَّخِر وسعًا في سبيل تشجيع المصنوعات أو المشروعات الوطنية، والمؤسَّسَات الخيرية التي تنشأُ في ربوعه؛ فاكتسب سموه بذلك محبَّة السودانيين قاطبة!

وأمَّا فضله في تعليمِ أبنائهم، فيكفي أن نذكر أن بعضهم لا يزال يتلقَّى العلم في أوروبا على نفقته الخاصَّة، كما كانت أبحاثه ومؤلفاته التاريخية عنه من الأسباب التي لفتت الأنظار إلى نهضته المنتظرة ومستقبله المرتجى، فضلًا عمَّا تنطوي عليه من التعريف به والدفاع عنه. وهكذا استطاعَ سموه أن يُحكِمَ الروابط بين أبناء القطرين الشقيقين، اللذين يجمعهما النيل بالروابط المقدسة!

وهكذا يستطيع المرء أن يذكر ما هو مأثور عن سموِّهِ من حبِّهِ لخيرهم، بمساعداته لهم في تنفيذِ كلِّ المشروعات التي يعودُ منها الخير عليهم حتَّى أصبحَ للأمير عمر طوسون في قلوبهم منزلة رفيعة لقاء أفضاله عليهم.

للذكرى والتاريخ

وللدلالة على مدى اهتمام سموِّهِ بقضية السودان، نُورِد ما ذكره سعادة الأستاذ إبراهيم بك جلال المحامي ورئيس نيابة الاستئناف سابقًا في هذا الشأن؛ إذ يقول:

«وفي نفسي حادثٌ عظيمُ الدلالة أسوقه إلى جَدَثِه الطاهر وجنَّةِ مأواه، عن أحداث السودان ألممت بها، ولمست منها للمغفور له أشرف المواقف.

فقد كنتُ في صيف سنة ١٩٣٠ مُديرًا للمطبوعات حين تحرَّجت مسألة السودان بين الدولة الحليفة والمصريين. فمرَّ بي مُستشرقٌ كبيرٌ من دولة الدَّانمارك وعاونته على شهود الآثار الإسلامية بالقاهرة، وكان الرجل يُكاتب أمهات صحف أوروبا وأمريكا، فأرادَ أن يُسدِي إلى مصر يدًا بالنشر عن السودان من النَّاحية المصرية، وفاتحني في ذلك فشكرت له سعيه، وسارعت إلى المغفور له الأمير عمر طوسون، فحمل إليَّ رسائله الفيَّاضة بالحجج الدَّامغة ونشرها صاحبنا المستشرق.»

وهذا هو كتاب مولانا الأمير أثابه الله بواسع رحمته:

حضرة صاحب العزَّة الأستاذ المفضال إبراهيم بك جلال، مدير إدارة المطبوعات

إنَّ طلبكم ما كتبناه عن السودان للغاية الشريفة التي بسطتموها في كتابكم ألا وهي شرح وجهة مصر في تمسُّكِهَا به ليقف عليها صاحبكم المستشرق الدكتور بوجهولم، ليكتب عنها ضمن ما يكتبه في أمهات الجرائد العالمية، قد صادف مزيدَ الارتياح، وتلقَّينَاهُ بحُسنِ القبول. وقد دلَّنا ذلك على ما تتوخونه في إدارة قلم المطبوعات من الوُجُوهِ النَّافعة لمصر وما تتذرَّعون به من الوسائل المختلفة لنشر الدعاية عن قضيتها الكبرى، وهذا ما يستوجب جزيل الشكر ومستطاب الثناء.

وتلبيةً لهذا الطلب الحميد نُرسل إليكم ما كتبناه في هذا الموضوع باللغة الأجنبية، وهو:
  • (١)

    خاتمة كتابنا عن المالية المصرية.

  • (٢)

    مذكرة عن مسألة السودان بين مصر وإنجلترا أرسلناها إلى الصحف الإنجليزية وأعضاء البرلمان البريطاني.

وتفضلوا مزيد سلامنا.

عمر طوسون
٤ / ٥ / ١٩٣٠

هذا أثر خالد أتلوه نفحًا طيِّبًا لجار الله الكريم!

السودان في الجامعة المصرية!

وآخر ما كان من أفضال سموه على السودان، واهتمامه بتوثيق أواصر المودة بينه وبين مصر؛ عنايته باقتراح إنشاء كرسي للسودان بجامعة فؤاد الأول بمصر. وفي ذلك بدت غيرة سموه في التحمس للفكرة، ودعوة المسئولين في وزارة المعارف العمومية ورجال الجامعة المصرية بالعمل على تحقيق هذا الاقتراح النافع. وقد كتب في ذلك إلى صاحب المعالي وزير المعارف أحمد نجيب الهلالي باشا، كما كَتب إلى صَاحِب العِزَّة الدكتور طه حسين بك، يستحثهما العمل على تنفيذِهِ «خدمة للنهضة العلمية في القطرين الشقيقين وتعزيزًا للروابط الثقافية»؛ إذ ليس أنتج للبلدين معًا وأَعوَدَ عليهما بالنفع العميم والخير العظيم من أن تكون هذه الروابط معزَّزَة محكمة، كما قال سموه.

ولقد ردَّ الوزير العامل الهلالي باشا على كتاب سموِّه بقوله: «تلك سنَّة الأمير الجليل في الاهتمام بكلِّ ما يتَّصِلُ بالنهضة العلمية في وادي النيل، بما يعودُ على القطرين الشقيقين بالمصلحة المشتركة والخير العميم.»

وقد ذكر معاليه أنه أبلغ موضوع هذا الاقتراح إلى جامعة فؤاد الأول لدراسته من كل نواحيه، وبما هو جدير به من عظيم الرعاية والتقدير.

كما ردَّ الأستاذ المفكِّر الدكتور طه حسين بك على سموِّهِ بقوله: «ليس في وادي النيل كله إلَّا من يعرف فضل الأمير الجليل في الاهتمام الحفي بالعلائق بين مصر والسودان. وإنَّ سموكم صاحب السبق في كلِّ ما يتصل بتوثيق الروابط الثقافية بين القطرين الشقيقين، وإنه ليس لأحدٍ مثل ما لكم في ذلك من الآثار العلمية النفيسة، فضلًا عن الدعوات والتوجيهات الموفقة في كلِّ مناسبة.»

•••

تلك لمحات من أَفضَالِ هذا الأمير الوطني الصادق على السودان، وكلها تنطِقُ بالغيرة، وحبِّ الخير، والتضحية بالجهدِ والمالِ في سبيل النفع العام. رحمه الله أوسع الرحمات، وأسكنه فسيح الجنات؛ لقاءَ ما أدَّاه للشرقِ كلِّهِ من جليل الخدمات!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤