الفصل الخامس عشر

مسألة الوقف الأهلي

رأي الأمير عمر طوسون

كثر البحث في هذه الأيَّام في مسألة الأوقاف الأهلية؛ لمناسبة مُطالبة الكثيرين من ذراري الواقفين القدماء بحلِّها وإعادتها أَملَاكًا حرَّةً بحُجَّةِ أن نظامَ الوقف باتَ ينطوي على خللٍ ولا يتَّفِقُ مع تطور الزمن، وأن الكثيرين من «المستحقِّين» لم يعد يُصيبهم من إيرادِ الأملاك الموقوفة عليهم ما يسدُّ الحاجة بسبب ما يرونه من ضروبِ العِلَلِ في الوقف وطرق إدارته وصيانته واستغلاله.

وكان حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون قد أَبدَى رأيه في هذا الموضوع الخطير، ونحنُ نُوردُ بيان سموه فيما يلي:

الوقف نظام اجتماعي قديم جاءَ الدِّين الإسلامي فأقرَّه واعترف به وجرى العملُ عليه فيه منذ الصدر الأوَّل من الإسلام إلى الآن. وهو نوعان: وقف خيري يَقِفُهُ صاحبه على وُجُوه الخير مُباشرة؛ كأن يقفه للفقراء أو للمساجد أو المدارس والمستشفيات ونحوها. وهذا النوع لا خلاف في صحَّتِهِ بين المسلمين.

والنوع الثاني: الوقف على الذرية ثمَّ من بعدهم على وجهٍ من وجوهِ الخير المذكورة. وهذا هو موضع الخلاف.

فالكثيرون من فقهاء المسلمين يقولون بصحَّته، ناظرين في ذلك لمآلِهِ إلى الخير. والأقلُّون لا يَرَون ذلك، ولكن العمل في بلادِ الإسلامِ جرى على قولِ القائلين بصحَّته، فأصبح الوقف على الذرية من تقاليدنا الإسلامية التي مرَّت عليها القرون العديدة، فتأصَّلَت جذورها، وثبتت دعائمها وأصولها في عامَّة بلادِ الإسلام شرقًا وغربًا، وأقرَّهَا فقهاء المسلمين وقضاتهم ومحاكمهم وخلفاؤهم وملوكهم وأُمراؤهم، وجرى العمل بها على أيديهم وتحتَ أنظارهم حتَّى قلَّما تجد بلدًا إسلاميًّا صغيرًا أو كبيرًا خاليًا من الوقف على الذراري.

فالواقع أن هذا النوع من الوقف إِن لم يكن شرعيًّا في أصله على زعمِ بعض الزَّاعمين فهو على الأقل عملٌ جرى به العرف، وكلُّ ما جرى به العُرفُ من المسائِلِ وأقرَّه أولياء الأمور، فقد أصبح مُلتحقًا بالأمور الشرعية التي يصحُّ بقاؤها على ممرِّ الأيَّامِ، خصوصًا إذا كانت الفوائد التي تُجنَى منه من الأمورِ المُسلَّمِ بها. ولا شكَّ أن هذه الفوائد مُحقَّقَة، ولولا ذلك ما صدر الوقفُ على الذراري من أكابر المسلمين جيلًا بعد جيلٍ حتَّى وصل إلينا.

فجمهرة الواقفين وهم من أكابر الأُمَّة الإسلامية ما حملهم على صدور هذا النوع من الوقف منهم إلَّا ما تحقَّقُوهُ من عائدته على ذراريهم وعلى البلاد بالفوائد والمنافع من وُجُوهٍ شتَّى.

وإليكَ ما حضر ببالنا منها:
  • (١)

    حفظ ثروة البلاد، وبقاء أعيان هذه الثروة دُون أن يلحقها بيع ولا رهن. وعندي أنه ينبغي أن يحرم أيضًا على الموقوف عليهم رهن ريعه، أو بمعنى أصح التنازل للغيرِ عن هذا الريع، وكذلك الحجز على ريع المُستحقِّين بالأوقاف، وللحكومة سابقة في ذلك في المرسوم الذي صدر منها عندما استبدلت بمُخَصَّصَاتِ الخديوي إسماعيل باشا وعائلته أطيانًا من أملاكها، واشترطت وقفها لهم ولذريتهم. فلو جعل ذلك بمرسوم قانون لامتنع ما هو حاصلٌ الآن وشكت منه وزارة الأوقاف على صفحات الجرائد. فقد ذكرت «الأهرام» أن الأوقاف الأهلية التي تُديرُها الوزارة مدينة بنحوِ المليونين من الجنيهات بينما ريعها لا يُجاوز ثمانين ألفًا. فيجدرُ بالذين قاموا بالضجَّةِ حول الأوقاف الأهلية أن يُطالبوا بمنع هذا الضرر لتسلم أعيان الوقف وريعها لمستحقيها كاملة غير منقوصة.

  • (٢)

    صون البيوتات العريقة من الاندثار، وحفظ أفراد الأسر الكريمة من الضياعِ والفاقَةِ، وهذا مُشاهدٌ محسوسٌ. فلولا الأوقافُ لما وجد كثيرٌ من أبناء هذه البيوتات ما يعيشون منه.

  • (٣)

    ما يكتسبه أهل الثراء عادة من محاسن الخلال. فالحاجة تدعو إلى الملق والذِّلَّةِ، والثروة تربِّي في النفس الشجاعة والشهامة والصراحة والحرية، وغير ذلك من الفضائل التي يُبنَى عليها تقدُّم البلاد ورُقيُّهَا.

  • (٤)

    بقاء الأعيان الموقوفة سليمة متجدِّدَة على ممرِّ الدهور والأعوام. وفي ذلك ما فيه من عمارة البلاد واستبحار العمران فيها.

  • (٥)

    قد يخرج من أبناء الواقف وذراريهم من يكونُ مُبَذِّرًا سفيهًا. فإذا وجد أمامه هذا السدَّ المنيع — أعني هذا الوقف — لطَّفَ ذلك من طباعه، وخفَّفَ من تبذيره، وضيَّقَ من سوءِ تصرفه.

  • (٦)

    إطلاق الحرية الشخصية لكلِّ فردٍ في تصرُّفِهِ ما دام لا يجرُّ ضررًا؛ فمن الناس من يشتغلُ في الحياة ويكدُّ فيها ويجمع منها ثروة طائلة يكفيه منها جزءٌ قليلٌ، ويريد أن تكون هذه الثروة محفوظة لذراريه وحفدته طبقة بعد طبقة؛ لينتفعوا منها من بعده، وليبقى اسمه مذكورًا بينهم معروفًا بين الناس. فالوقف هو الذي يضمن له ذلك، وهو الذي يؤدِّي إلى هذا الغرضِ النَّبِيلِ الذي قصد إليه، وبدونِ الوَقفِ لا يتمُّ له هذا الغرض. فلماذا نفوِّتُ عليه غرضه هذا ونمنعه ونحولُ بينه وبين إرادته؟! إنَّ الأشخاص الذين يُريدُون حلَّ الأوقافِ التي يستحقُّون ريعها لا يحملهم على ذلك إلَّا الفائدة العاجلة التي تنالهم من هذا الحلِّ، وهُم في الواقع لا يستحقُّونها؛ لأن من كان يستحق قبلهم لو صنع بالوقف مثل ما يريدون أن يصنعوا به لما وجدوا شيئًا يحلونه ويتصرفون فيه، وهم لو فكَّروا قليلًا لعرفوا أن الذريَّات التي سيُرزقون بها ستنطلق ألسنتهم بالسخط على تصرُّفِهِم هذا بدلًا من الترحُّمِ عليهم والدُّعاءِ لهم.

  • (٧)

    رجوع الوقف على الذراري مآله إلى الخير، وبهذا كثر الوقف الخيري، وضخمت موارده في البلاد الإسلامية؛ لأن الذين يقفون أملاكهم للخير مباشرة عددهم قليلٌ جِدًّا، فلولا الأوقاف الأهلية التي مآلها إلى الخير لما كانت موارد الأوقاف الخيرية بهذه الضخامة.

  • (٨)

    سلامة رأس العين وبقاؤها رغم كلِّ سُوءِ تصرُّفٍ، وهذا ما ينفرِدُ الوقف به عن سائر المؤسَّسَات الأُخرى التي قُصد إلى بقائها كأملاك الجمعيات والشركات؛ فإنَّ سوء التصرُّف يأتي عليها ويذهب بها عينًا وأثرًا دون الوقف؛ ومع ذلك فلم تفكِّر الحكومات ولا أحد في منع تأسيس هذه الجمعيَّات أو الشركات بعِلَّةِ أنها عُرضة لسوءِ التصرُّفِ وإلحاقِ الضرر بالمساهمين فيها.

وبعد، فالوقف على الذرية جمُّ الفوائِدِ كثيرُ المنافِعِ، وليس فيه في نظرنا من عيبٍ اللهمَّ إلَّا حريَّة المستحقين لريعه في التداين على هذا الريع؛ فإذا مُنعوا من ذلك سلم الوقف من كلِّ عيب. هذا عدا مسألة النِّظَارة، وللحكومة أن تتصرَّفَ فيها كما تشاء، بما يضمن وصول الحقوق إلى ذويها من المستحقِّينَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤