الفصل العشرون

منافسة المرأة للرجل في ميدان العمل

رأي سموه في هذه المسألة

بتقدم الإنسانية في سبيل الحضارة تنشأُ مسائل اجتماعية هامَّة يحتاجُ حلها إلى مزيدِ كفاح وانتباه وتفكير. ولا يخفى أن هذه المسائل لا تُحَلُّ بإجابةٍ واحدةٍ قاطعةٍ، وأنها مُركَّبَة، وأنها تختلف في كلِّ بلد؛ لأن العادات والآداب تختلفانِ بالنسبة إلى الزمان والمكان. ومن أهمِّ تلك المسائل الاجتماعية الحديثة مسألة مُزاحمة المرأة للرجل في ميدان العمل؛ لأنها تتعلَّقُ بنظامٍ عاشت عليه الإنسانية منذ وجودها. وهذا النظام هو أن يعمل الرَّجل لسعادة أسرته في خارج البيت، كما تعمل المرأة لهذه السعادة في داخله. فإذا خرجت المرأة من بيتها وأرادت أن تُنافس الرجل في العمل، فقد قُلِبَ هذا النظام، وكان الرجل والمرأة في العمل سواءً.

والآن نريدُ أن نعرف النتائج المترتبة على مُزاحمة المرأة للرجل في ميدان العمل. ولأجلِ ذلك ينبغِي لنا أن نعرض آراء القائلين بهذه الفكرة — وهم أنصار التعصر — ثم آراء المستنكرين لها — وهم الثابتون على المبادئ القديمة — ونستخرج أخيرًا رأينا في تلك المسألة التي ضَاعَ فيها أنهر من المدادِ وجبال من الورق.

فأصحاب الرَّأي الأوَّل — وهم جمهرة من النساء وعددٌ قليلٌ من الرجال — يرون الدفاع عن حرية المرأة، ويستنكرون بقاءها تعمل للبيت. والأسباب التي يستندُون إليها في ذلك هي أن المرأة كانت طول الماضي عبدًا للرجل ولا حقَّ لها في الحياة خارج البيت؛ حيث كانت تحل فيه مكانًا وضيعَ المقام جدًّا، وهي وإن لم تَكُن أرفع من الرَّجُلِ إلَّا أنها تُعادله في القوَّة العقلية، وليس لديها عيب يمنعها من أن تنالَ درجة عالية في الحياة الاجتماعية، ولم يكن هناك سببٌ في خفضها إلى هذه الحال طول الماضي سوى الظلم والجور، وأن الظُّلمَ لا بدَّ أن يُعوَّض؛ فتُعطى المرأة المكان الذي تستحقُّهُ في الحياةِ، ويُعترف بقدرتها على العمل، ويُجرب جدها ونشاطها.

ويرى أصحاب الرأي الثاني أن فطرة المرأة وتكوينها هما اللذان أشارا إليها أن مكانها في البيت؛ لأنه إذا كان الرجل الذي خَلْقُه قويٌّ يرتدُّ تحت تَعَبِ العمل، فما بال المرأة؟! وأن المرأة ليست عبدًا للرجل، ومن قال ذلك فقد عبث بالحق؛ لأن كل مخلوق لا مفرَّ من أنه يعمل العمل الذي خُصَّ به وخُلِقَ له؛ فالمرأة خلقت لمساعدة الرجل في أمورِ الحياة؛ ولذلك لها ميدان خاص يقيد فيه عملها وهو البيت. فهناكَ بنظامها ومهارتها في تربية الأولاد تفيدهم وتفيدُ نفسها خير الفائدة، وتُدرِكُ غرض حياتها أتمَّ الإدراك، وتفيدُ أمَّتها والهيئة الاجتماعية. وبالعكس إذا عملت خارج البيت نشأ عن ذلك أضرار جمَّة؛ إذ من يتولَّى عنها نظامَ البيتِ وتدبيره؟ ومن يُعنَى بتربية الأولاد؟ وإذا كانت تربية الأولاد متروكة في أيدٍ أجنبية، فماذا يكون مستقبلهم بين الأمة؟

وإذا خرجت المرأة للعمل وكانت بنتًا، نَشَأَ من هذا ضرر خطير للجماعة، وهو تركُ نظام الزواج؛ لأن المرأة إذا كسبت معيشتها، وشعرت بأنها حرَّة جرت إلى اللهو والتسلية في أماكن غير مُناسبة لها، وشعرت من نفسها بعدَمِ ميلها للزواج الذي يحجزها. وليس في إِمكانِ أُمَّةٍ أن تعيشَ عيشة راضية بدونِ نظامِ الزَّواج الذي هو أقوى عماد للدولة في تركيب الحياة الاجتماعية الحاضرة. فإذا ترك هذا النظام فسدت الأخلاق والآداب، واضطربت الحياة الاجتماعية أكبر الاضطراب كما هو كان حاصلًا في أوروبا؛ حيثُ أبطلت بعض عقود الزواج وأصبحت ملاة كما يقولون. وإذا أضفنا إلى ذلك أن منافسة المرأة للرجل في العمل تُضيِّقُ عليه سُبُل الارتزاق وتجعله عاطلًا، فهمنا أن خروج المرأة من بيتها للعملِ يكونُ فيه أكبر ضررٍ لعواقبه الضارَّة الوخيمة؛ لأنه يوجِّهُ الإنسانية إلى سُبُلٍ ملتويةٍ تكونُ العقبات فيها جمَّة.

ولا ريب عندنا أن هذه الآراء سديدة صائبة، وأن أصحابها صائبون فيها كلَّ الإِصابة، وذلك للنتائج الآتية:
  • (١)

    لمَّا كان عددُ الإناثِ اللاتي يدخلن ميدان العمل لا يتجاوزُ في الوقت الحاضر عدد المحال التي يُمكنهنَّ أن يدخلنها، فلا يُوجد بينهن عاطلات، إلَّا أنه مع مرورِ الزمن وتوالي الأيَّام يزدادُ عددهن، فتظهرُ في صفوفهن هذه الفِئَة العاطلة. وعوضًا عن أن يُوجَد كما هو الحالُ اليومَ عُنصرٌ واحدٌ من العاطلين يصبح لدينا عنصران، وينشأُ عن ذلك ارتباك أدهى وأمرُّ من الارتباك الذي نراه في صفوف الرجال.

  • (٢)

    إنَّ حلول الجنس النسوي في تلك الوظائف يُمهِّدُ لهنَّ سُبُلَ المعيشة، فيدعوهنَّ هذا إلى عدم البحث عن الزواج، وهو إحدى الضروريات من الوجهتين الاجتماعية والاقتصادية؛ لأنه الوسيلة في التناسل وازدياد عدد الأهالي الذي هو أكبر أسباب العمران.

  • (٣)

    وعلى فرضِ أن أولئك الفتيات اللواتي يُباشرن الوظائف يُقبلن على الزواج، فيُخشى من أن الرجال الذين يتزوجون منهن يبغون من وراء ذلك القعود عن العمل والمعيشة من كسبِ زوجاتهم، وهذا أمر، فضلًا عن أنه لا يُشرِّفُ، ولا يتَّفِقُ مع نواميس الطبيعة المسيطرة على وظائف الهيئة الاجتماعية وواجباتها.

  • (٤)

    وفي مثل هذا الزواج كما في غيره ستتوافر الأعمال المنزليَّة؛ من شئون المنزل، وتربية الأولاد إذا كان هناك أولاد، وغير ذلك. فمن ذا الذي سيشرف على تلك الأعمال؟ وهل يُترك للزوج أو الخدم ذلك الواجب الذي هو من شئون ربَّة البيت ومن خصائص أُمِّ هؤلاء الأولاد؟ وكيف نوفق بين هذه الحالة والواجب الطبيعي المفروض على الجنس النسوي؟

  • (٥)

    ولقد نُسائل النَّفسَ: هل يُساعد على ترقية مستوى الآداب أن يترك أهل هؤلاء الفتيات لهنَّ الحبلَ على الغاربِ بدونِ حسيبٍ ولا رقيبٍ في غضون معظم اليوم بحجَّة العمل، فيترددن وهن طليقات على أوساط لا تلتئِمُ مع جنسهن.

  • (٦)

    قد ينشأُ من شغلهن الوظائف فتورٌ وتقصيرٌ في أداءِ العمل كما يجب بسبب ضعفهن وسرعة تأثرهن وعطف الرجال عليهن.

  • (٧)

    كثرة الطلاق بين النساء العاملات المتزوجات، واضطراب الحياة الاجتماعية لذلك.

ويُرى إذن ممَّا سبق إيضاحه أن هذا اتجاه ضار وخطر من كلِّ الوجوه على الهيئة الاجتماعية، تجبُ علينا مُكافحته بكلِّ ما أُوتينا من قوَّةٍ لكي نُقصيه عنَّا.

وليسَ من السَّهل إيجاد علاجٍ شافٍ لاجتثاث هذا الدَّاء من جذوره، وغاية ما يمكن عمله هو الالتجاء إلى الملطِّفَات، وهي في نظرنا تنحصرُ فيما يأتي:
  • (١)

    أن يكفَّ الجنس النسوي قطعيًّا عن المزاحمة في الوظائف أو المهن التي تختصُّ بالرجال، وأن يُلازم كل جنسٍ الحدود التي خصَّته بها الطبيعة.

  • (٢)

    غلق أبواب التعليم العالي والفني في وجوه الفتيات، اللهم إلَّا ما لا بُدَّ منه من تخريج فئة منهنَّ على قدر الحاجة من المعلِّمات والمحاميات والطبيبات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤