الفصل السادس

نخوة الأمير عمر طوسون

مُساعداته للأتراك في حربَي طرابلس والبلقان وفضله العميم على الحبشة.

الأمير عمر والحزب الوطني

أُعلن الدستور العثماني عام ١٩٠٨ في تركيا. وقُوبِلَ إعلانه في مصر بمظاهِرِ الفرح العام والسرور العظيم.

وكانت مصر في ذلك الزَّمَن ولاية تابعة للدولة العثمانية، تتمتَّع باستقلالها الذَّاتي؛ أي توليها شئونها الدَّاخلية. وكان الحزب الوطني قبل ذلك الوقت بزعامة مؤسِّسه المغفور له «مصطفى كامل باشا» في أَوْجِ قوَّته، وكان الوطنيُّونَ يُطالِبُون بإعادة الدستور (دستور ١٨٨٣)، ويَنشرون دعوتهم — في الداخل والخارج — بكلِّ الوسائل؛ فكانوا يعقدون المؤتمرات في مصر وأوروبا على السَّواءِ، لتنظيمِ حركتهم، وتوكيدِ حقِّهم في حكم أنفسهم بأنفسهم. وكانت حماستهم تحملهم على الدَّوام على مُناهضة أساليب السياسة الإنجليزية في مصر، في ذلك الأوان!

والسبب في ذلك كُلِّه يعودُ إلى تصريحٍ أفضى به وزير الخارجية في البرلمان البريطاني ذكر فيه استعداد إنجلترا لأن تعيد الدستور المصري، إذا التمسه المصريُّون منها — أي من بريطانيا — فأغضب هذا التصريح الشعب المصري؛ لأنه كان يعطي في معناه سلطةً غير مشروعة لها على مصر؛ هي سُلطة الوصاية! وحفزهم هذا وضاعف جهودهم بطلبِ الدستور من الخديوي دُون سواه، وهو وليُّ الأمرِ في ذاك العهد «سمو الخديوي عباس حلمي».

figure
آخر صورة لفقيد الشرق المغفور له الأمير عمر طوسون.

وفي المدَّة التي تقعُ بين عامي ١٩٠٤–١٩٠٨، كان للأمير عمر — رحمه الله — أيادٍ بيض على هذه الحركة؛ فقد كان من المؤيِّدين لكلِّ دعوةٍ وطنيَّةٍ، وكان يرى بفطرته السَّليمة، أن كلَّ حركةٍ وطنيَّةٍ خليقةٌ بتشجيعه وعطفه الأدبي والمادي، ما دامت غايتها استقلال وادي النيل. وكان هذا على الدوام هو اعتقاده الرَّاسخ في كلِّ الحركات التي ترمي إلى التحرير؛ لأنه كان غير ضنينٍ على كلِّ نهضةٍ وطنيَّةٍ بالتشجيع بالمال والجاه، وفي السرِّ والعلانية!

مُعاونته في الحربِ الطرابلسيَّة

ولمَّا نشبت الحرب الطرابلسية، وخاضت غمارها تركيا مع سُكَّانِ برقة وطرابلس الغرب ضد إيطاليا المعتدية، سارع الأمير عمر طوسون إلى الإهابة بالمصريين لمد يد المساعدة إلى إخوانهم العرب في القطر الذي يُجاورهم، ورأس سموه اللجنة التي أُلِّفَت لهذا الغرض، واشترك معه فيها «صاحب السمو الملكي الأمير الجليل محمد علي»؛ لجمع التبرُّعات وإرسال البعوث الطبيَّة إلى المُجاهدين. وكانت مشاعر المصريين على بَكرة أبيهم مُتأثِّرَة بفظاعة ما تقترفه الدولة المعتدية من صنوف القسوة؛ فتجلَّت أريحيتها، وكانت نخوة الأمير عمر تهديها السبيل نحو ما يجبُ عمله. وحين تبرَّعَ سموه من جيبه الخاص بعشرة آلاف جنيه «كدُفعَةٍ أُولى» زادها إلى الضعف فيما أعقب ذلك من الوقت. كانت هذه اليد الكريمة القدوة الصالحة للخيِّرين من أهلِ البرِّ والمروءة. وهكذا كانت مُساعدته في الحرب الطرابلسية سنة ١٩١٠ خير مِعوانٍ للمنافحين ضد العدوان، ولولا إسعافه لهم لما أمكنهم الاستمرار في الجهاد شهرًا من الزمان!

جمعية الهلال الأحمر

وكان من نتائج هذه الحركة المُباركة التي يعودُ فضلها على سموه، وبوضعه جاهه العظيم واسمه الكريم متوجًا لها، أن تألَّفت في مصر لأول مرَّةٍ في التاريخ جمعية الهلال الأحمر المصري التي أتشرَّفُ بتقلُّدي منصب وكالتها منذ عهدٍ طويل. وقد أسَّسَها أُمَرَاءُ البيت المالك الكرام وعلى رأسهم صاحبُ السموِّ الأمير محمد علي وصاحب السمو الأمير يُوسف كمال — أَطالَ الله حياتهما — والمغفور له الأمير عمر طوسون. وكان نشاط سموِّهِ في هذا الصدد ملحوظًا على الدوام، وموضع الثناءِ والاستحسان، حتَّى تألَّفَت للعمل البار النافع، ذي الصبغة الإنسانية الرحيمة، الذي تضطلع به اللجان تعاونها في الأقاليم والمدن، وفي مديريات القطر جميعه، فتردد اسم الأمير عمر على كلِّ لسان في جميع أنحاء الشرق والعالم الإسلامي قاطبة.

ويكفي أن نذكر أنه بِهمَّة الأميرين جُمعت مبالغ كبيرة لم تكن في الحسبان، وأمكن إرسال أربع بعثات طبيَّة إلى ميادين القتال في طرابلس الغرب. ولا يزال بعض أعضائها أحياء، ومن هؤلاء صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا، والدكتور نصر بك فريد، والدكتور المرحوم محمد كمال بك — حكيمباشي مُستشفى كفر الشيخ سابقًا — الذي توفي في أثناء طبع هذا الكتاب. كما كان للأمير عمر أدوار أُخرى في تأجيج المشاعر، وتغذية هذا النضال الوطني، منه إيفاد الضبَّاط المدرَّبين، وإمدادهم بالإرشادات الثمينة، وغير ذلك ممَّا نكتفي منه بهذه الإشارة العابرة.

خدماته للإنسانية في حرب البلقان

ولمَّا نشبت الحرب البلقانية ضد الدولة العثمانية، ضاعف الأمير عمر جهوده العظيمة في جمع التبرعات، فكان في كلِّ خطوةٍ أسخى من السحاب. وتجلَّت مآثره ومكارمه، بما تبرَّعَ به من حُرِّ ماله، وما جمعَهُ من أبناءِ الوطن، حتَّى اجتمع من التبرُّعات زهاء ٣٠٠ ألف جنيه. ونظم البعوث الطبية لجمعية الهلال الأحمر — وكنت مندوبها في استانبول ونائبًا عنها لدى السلطان رشاد — وكان لهذه البعوث فضلٌ عميمٌ في مواساة الجرحى والمصابين.

figure
المغفور له السلطان رشاد.

وأذكر من أطبَّائِهَا في ذلك الوقت الدكتور محجوب بك ثابت. ولا تحضر الكاتب مهما كانت ذاكرته قويَّة، صورة الخدمات الحافلة التي أدَّاها الأمير عمر في هذه الفترة، بالتفصيلِ. وليسَ بين العبارات التي يجري بها القلم وصفٌ لها أكثر من أنها كانت من مُعجزات الإرادة العالية التي يتَّصِفُ بها هذا الأمير المبرور.

مُعاونته للحبشة في محنتها الأخيرة

ولمَّا اعتدت الدولة الإيطالية، «الفاشستيَّة» على حُرمة الأراضي الحبشية، وهاجمت إيطاليا المدجَّجَة بالسلاح بلاد الحبشة العزلاء المُسالِمة؛ أهاب الأمير عمر طوسون بالمصريين، فلبَّوه مسرعين لمُعاونة إخوانهم أهل الحبشة الذين نهضوا للدفاعِ عن وطنهم كرامًا مُستشهدين في ساحة الشرف.

figure
حضرة صاحب الجلالة الإمبراطور هيلاسلاسي.

وقد تألَّفت اللجنة الخاصة بالدَّار البطريركية بمساعدة الحبشة، وكان لسموه شرف رئاستها، واختير لسكرتيرتها حضرة الأستاذ الفاضل «حامد المليجي». وقد كان غبطة البطريرك الرَّاحل المتنيح الأنبا يوأنس يُشارك سموه في كلِّ جهدٍ يبذله لنجاح أعمال هذه اللجنة؛ ممَّا يدُلُّ على أنه كان رسول رحمة للجميع، وليس يَخفَى على أحدٍ ما كان يُضحِّيه سموه من ماله ومن وقته الثمين في هذا المضمار الإنساني. وقد كان للجنة مساعدة الحبشة الفضل في إِسداء الخير إلى أهلِ القطر الشقيقِ الذي تربطُنا بهم أواصر وثيقة. وقد أرسلت اللجنة أربع بعثات طبيَّة إلى ميادين القتال، كان على رأس إحداها صاحب السمو الأمير الجليل والضابط الباسل «إسماعيل داود» — أمدَّ اللهُ في عمره — وقد جمعت اللجنة أموالًا عظيمة للحبشة فرَّجَت كُربتهم، ونفَّسَت عنهم الضيق الذي كان يشد على أعناقهم، وهم في وقت حرب حياة أو موت، مع عدوٍّ شديدٍ، ومُعتدٍ أثيمٍ لا يرحم أو يَلِين!

•••

وما دام الشيء بالشيء يذكر! فليس هناك من يجهلُ فضل الأمير في مُساعدة الدولة العثمانية حين اندلعت النيران، فحرقت ثلث مباني الآستانة؛ وما كان لدعوته البارَّة من الأثر الفعَّال في نفوسِ الوطنيين لمساعدة المنكوبين.

figure
المتنيح الأنبا يوأنس بطريرك الأقباط الراحل.

كذلك فضله على المجاهدين في الحرب الريفية المراكشية، فضلًا عمَّا أسداه من ضروبِ المعاونات للأتراكِ الأبطال في أعقاب الحرب الماضية المنقضية، حين انتصر الحلفاء واقتطعوا كثيرًا من الأراضي والولايات التركية، فقام المجاهدون الأحرار بقيادة «الغازي كمال أتاتورك» — رحمه الله — مُؤَسِّس تركيا الحديثة وأنصاره للنِّضَالِ في سبيلِ بلادهم؛ على الرَّغمِ من قلَّةِ عددهم وضآلَةِ عتادهم؛ فقد كان للأميرِ عمر فضل مُعاونتهم بالمال، ومُعاضدة حركتهم الوطنية؛ ممَّا سجل له بالفخر التليد والشرف المجيد. وإليه وحده يعودُ الفضلُ في فوزهم على اليونان.

الأمير عمر مفخرة أهل الشرق

والواقع أن كل هذه المآثر التي تجلَّت في أعمال الأمير العظيم عمر طوسون وفي أريحيته الباهرة التي تدفعه دائمًا للبذل والعطاء، قد أقامت لأهلِ الشَّرقِ أنصع الأدلَّة على أن يتضامنوا في الشدائد، وأن يجعلوا التعاون فيما بينهم مذهبًا سياسيًّا يعتنقونه في إيمان لخيرهم؛ حتَّى يكونوا قوَّة لا يُستهانُ بها أمام العالم الغربي.

وليس في الوجود من يُنكِرُ فضل هذا المبدأ القويم الذي أوجده ساكن الجنان الأمير عمر الكريم، في الذَّودِ عن حقوقِ الشرقيين، وفي حملِ أمم العالم الأوروبي — ولا سيما ذات الأطماع الاستعمارية — على أن تحسب ألف حساب لغضب الشرقيين عامَّة؛ إذ لولا هذا المبدأ التعاوني الذي أحيا شعائره أميرنا وأجَّج عاطفة التحمس له في النفوس، وقوَّى روابطه في الصدور، لتخطَّفت ذئاب المستعمرين بلدان الشرق بلدًا بعد أُخرى لُقمةً سائغة، ولما استطاعت أن تهبَّ للدِّفَاعِ عن حياضها أمَّة منها بدونِ تلكَ المعاونة البارَّة التي كان يُواليها بها أميرنا ويدعو أبناء الشرق وأهل العالم الإسلامي على أن يسخوا في مُعاضدة المُجاهدين فيها، والعطف على المنكوبين منها.

وهذه النخوة التي ظلَّت شعار الأمير عمر، قد جعلت منه إِمامًا يقتدي به الجميع، ومفخرة يُفاخر بها المصريون في مضمار جلائل الأعمال.

ولا أزالُ أذكر كيف كان سموه يطوف بالمدن والأقاليم وعواصم المديريات؛ لنشر مذهبه السياسي الرحيم، حاثًّا على أن يعتَصِمَ به كل إنسانٍ ويستمسك بعروته الوثقى، مُناديًا بأعلى صوته بتلك العبارة الذهبية الحكيمة: «إن من يعيش لنفسه فقط لا يستحقُّ أن يُولد!»

وكانت كل أمة — في الشرق أو الغرب على السواء — تجد في نخوة الأمير عمر يدًا مواسية تأسو جراحها، إذا حلَّت بها نكبة، أو ألمَّت بها ملمَّة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤