الفصل الثامن

هباته الإنسانية ومَبَرَّاته

أمير البر والإحسان

عسيرٌ على الكاتِبِ أن يحاول الإحاطة بمكارم المغفور له عمر طوسون، ومبرَّاته التي لا تدخل تحت حصر. فهذه المبرات وتلك المكارم يرى النَّاس آثارها في كلِّ ناحيةٍ من مُجتمعنا، دون أن يستطيع قلمٌ إحصاءها. فهي تملأ بمعالمها العيون بهجة، وتُفعِم بشذاها الصدور جمالًا وارتياحًا، حتَّى سُمِّي «بأمير البرِّ والإحسان»!

كان سمو الأمير لا يغفل لحظة عن طائفة من الأعمال الخيرية النافعة إلَّا ويواليها بالعطف والتشجيع. كما كان لا يدَّخِرُ وُسعًا في سبيل تأييد المؤسسات الإنسانية بمنحه العديدة، حتَّى يعمَّ الخير منها طبقات الأمَّة الشعبية الفقيرة.

figure
صاحب السمو الأمير حسن طوسون، النجل الثاني لسمو الأمير عمر طوسون.

ويحدثك النَّاس كيف كان سموه مقصد ذوي الحاجات، وكانت محبته لكلِّ طبقات الشعب تتجلَّى في هباته الكثيرة التي يُضرَبُ بها الأمثال للمشروعات العامة. فما من شدَّة نزلت بفريق من الناس، وما من مصيبة من مصائب الدهر الخئون حلَّت بساحتهم، إلَّا وكانت كفُّ الأمير عمر أندى من الغمام!

وليس يستطيع إنسان أن يذكر عدد العائلات التي يجري عليها سموُّه مُرتَّبات شهرية؛ مُعاونةً منه لها على تكاليف الحياة، وفي مُختلف أنحاء الإسكندرية وفي عدَّةِ مُدُنٍ من القطر أسرٌ كثيرة من فقراء الشعب، وسعها فضله، وعمَّهَا بره؛ ابتغاء مرضاة الله. بل هناك ما هو أمجد في هذه الناحية التي لا يعلم بها إلَّا الأقلون؛ فإنَّ سموَّه يعينهم في مسرَّاتهم كما هو مفرج كربتهم؛ فإنَّ زواج بناتهم يتمُّ من مساعداته المادية لهم، كما أنه عند مرضهم يرتب لهم الأطباء للعلاج، ويعمل على مُعاونتهم في تعليمِ أولادهم بالمدارس، حتَّى صدق فيه قول الشاعر إذ يقول:

أكُلَّمَا نابَ «خطبٌ» قيل «يا عمر»
كأنما «عمر» من جنده القدر
وكل خطب دجا يبدو له «عمر»!
كأنما الشمس للآفاق والقمر!
البدو يسأله والمدن تأمله
كأنما من ذويه البدو والحضر!
أو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته، أنزلت في مدحه السور!
فلا عدمنا هبات منه واكفة
لم يسْقنا مثلها من كفِّهِ المطر!
حنا على العلم واستسقت معاهدنا
منه فظلَّ عليها الخيرُ ينهمر!

هذه آثارنا تدلُّ علينا!

أمَّا هباته للمعاهد العلمية، والجمعيات الخيرية، ومُعاونته لها، فنذكر منها هبته للجمعية الخيرية الإسلامية، ولجمعية العروة الوثقى، ولجمعية المواساة؛ ممَّا جعل الثناء عطرًا على سموه. كما نذكر مع الفخر أنه ما قامَ في البلاد مشروعٌ نافعٌ إلَّا ولقي من عناية سموه ما يجعل الفائدة منه عميمة. ولم ينسَ أحد من أهل مصر اكتتاباته العديدة في «لجنة الأمراء»، التي تكوَّنت برئاسته؛ لتخفيفِ الويلات عن الأسر التي وقع بعض أفرادها ضحايا وشهداء في ساحة الجهاد، إبَّان الحركة الوطنية، وتوزيعه الحبوب والدَّقيق على فقراء الإسكندرية، عندما اشتدَّت الضَّائقة في السنوات الأخيرة، ومُعاونته للدَّاعين إلى إقامة تمثال «نهضة مصر» بخمسمائة جنيه من ثمنه، وكثير غير ذلك ممَّا هو معروفٌ معلومٌ.

فضله في بناء المستشفى القبطي

وإذا كان المصريُّون يذكرون كيف تبرَّع الأمير عمر طوسون بخمسة آلاف من الجنيهات للنهوضِ بأعباء رسالتها الإنسانية، حين علم حاجتها إلى المال، فإنهم كذلك يذكرون فضله العميم على الأقباط عامَّة، حين أولى الجمعية الخيرية القبطية لفتة كريمة من لفتاته السامية؛ إذ تبرَّع لها بألفٍ من الجنيهات تعضيدًا منه لها، ولم يكتفِ بذلك، بل أذاع نداءً عامًّا نشره بالصحف بتوقيعه الكريم، حثَّ فيه المصريين كلهم، على اختلافهم، بتعضيدها، جاءَ فيه ما نصه:

إنَّ الغرض الأقصى لي من ذلك هو أن أشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين «المسلم والقبطي» اللذين يكونان عنصرَي الأمَّة المصرية، تتسابق فيه العزائم، وتتبارى الهمم؛ لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان، وأيهما يحرز قصبَ السَّبْق في هذه الحلبة الخيرية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون!

وقد صدق فيه قول القائل:

إن تلك سجية فيه عرفتها له مصر، فهي ما هزت مواضع الأريحية من كرمائها إلَّا ورأت ذلك الأمير الجليل يرتجل الندى ارتجالًا، ويرسل مكارمه أمثالًا!

جهوده لتوثيق الوحدة القومية

وقد كان الأمير عمر — طيَّبَ اللهُ ثراهُ — يعملُ دائمًا على توثيقِ أواصر الوحدة القومية بين عنصرَي الأمَّة الشقيقين؛ فكان لا يخص جمعية خيرية إسلامية بمنحة إلَّا ويقرنها بمنحة أُخرى لجمعية خيرية قبطية، بل إنَّ نفحاته لتعدو غيرها إلى عديد الطوائف الموجودة بالبلاد.

وآخر ما يحضرنا من الأمثلة في هذا الشأن تبرعاته للمشغل البطرسي، ومنحته لمدرسة الأقباط الكبرى للبنين، ولزميلتها للبنات ببعضِ سندات من الدين الموحد، تُعطى أرباحها للفائزين والفائزات. وهكذا تكون المكرمات تتلو بعضها بعضًا، وصدق القائل عنها:

ولا تعجبوا لسخاء الأميـ
ـر فما يقذف البحر إلا الدررْ!

حقًّا لقد كان الأمير عمر — رحمه الله — الرمز الصادق للمصري الكريم، كما كان المثال الحميد للوطني الصميم، في حبِّهِ لبلاده عامَّة، وفي تفانيه في عدم تمييز أحد من أبنائها على أحدٍ إلَّا بعمله النَّافع للبلاد، وبمدى مُساهمته في تدعيم بُنيان مجدها التليد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤